الأحد، 25 مارس 2012

موسوعة العقيدة - أسماء الله الحسنى : الحفيظ

الحفيظ

 مع الاسم الخامس والثلاثين من أسماء الله الحسنى، والاسم هو الحفيظ، قبل أن نمضي في الحديث عن معناه اللغوي وعن آثاره في الآفاق وعن علاقته بالمؤمن لابُدَّ من مقدمة.
 الإنسان كما تعلمون مفطور على حُب وجوده، وعلى سلامة وجوده، فكم من التدابير التي يتخذها للحِفاظ على ماله، أو للحِفاظ على صحته، أو للحِفاظ على أولاده ؟ يعني جزءٌ كبيرٌ جداً من نشاط الإنسان في الدنيا في سبيل الحِفاظ على وجوده أو على سلامة وجوده أو على دخله أو على صحته أو على مُكتساباته أو على ما بيده، فالحِفاظ على الشيء لا يَقِلُّ عن تحصيله، فأنت في الأصل تُحصّل شيئاً وتُحافظ عليه، فنشاط الحِفاظ على ما أنت فيه لا يقل عن نشاط تحصيل هذا الذي بين يديك، فالإنسان حينما يحاول أن يُحافظ على حياته أو على سلامته أو على صحته أو على أولاده في حياته أو بعد مماته، حينما يُحاول الحِفاظ على دخله وإنتاجه وعلى بيعه ومكانته وسمعته، فهو يعمل وفق غرائزه ودوافعه.
 أكرِّر أن نشاط الحِفاظ على المكتبات لا يقلُّ عن النشاط الذي يُحصّل به ما تحت يديه، تُحصّل هذا الدخل وتُحافظ عليه، تُحصل هذه اللياقة البدنية وتُحافظ عليها، تُحصل هذه السُمعة وتُحافظ عليها، بل إنَّ نشاط المُحافظة على الشيء ربما كان أكثر من نشاط تحصيله، فالإنسان أحياناً يصل إلى مرتبةٍ ومنصبٍ ويبذل أربعة أخماس وقته في الحِفاظ على هذا المنصب وكأن هذا الحِفاظ شُغلُه الشاغل، لذلك فالإنسان حينما ينسى دور الله عزّ وجل أو حينما ينسى اسم الله الحفيظ أو حينما ينسى أن الله هو الحافظ أولاً و آخرًا، حينما يتجاهل أن الحِفظَ وحده بيد الله وأنه مهما كُنت ذكياً، ومهما كنت أريباً، ومهما كنت ذا خبرة عريقة، مهما أخذت من الاحتياطات، مهما اتخذت من الأسباب، مهما أقمت من السدود، مهما حصّنت نفسك، إذا أراد الله بك شيئاً فلابُدَّ من أن يصل إليك، فالحِفاظ الحقيقي لا يكون بأخذ الأسباب وحدها، بل بأخذ الأسباب والاعتماد على الله عزّ وجل فكم من إنسان دُمرت حياته من خطأٍ بسيط في صحته.
 اليوم سمعت حادثة: إنسان مرِض وكان مرضه معقولاً وليس خطيراً، ليس مرضا عضالاً، مرضٌ علاجه ممكن وهناك أدويةٌ فعالةٌ في شفائه، ذهب إلى صيدلي، الصيدلي غائب ومكانه موظف فأعطى الموظف لهذا المريض آخر، و الدواء الموصوف يعالج أشد، وذاك الدواء لأشد حالات اهتياج الأمعاء مغلف كي لا يؤدي إلى تخريش الجهاز الهضمي، فأُعطِي دواءً مكان دواء وقيل له ضع الحبة تحت لسانك، تفاقم هذا الأمر لدرجة أنه كاد أن يودي بحياته. فأنت مهما كنت ذكياً وذهبت إلى صيدلي وأعطاك دواءً استعملته، فقد يخطئ الصيدلي في تعيين الدواء فيُسبب الدواءُ المغلوط مضاعفات للمرض.
 فالإنسان فيه شيء فطري للحِفاظ، بدأت البحث بأن أكدت أن الإنسان مفطور على حُب وجوده، وهذا كلام واقعي وهناك كلام يُقال للاستهلاك كلام يُقال لغير ما أراد الله عزّ وجل، أما في الحقيقة أيّ إنسان على وجه الأرض مفطور على حُب وجوده وعلى حُب سلامة وجوده وعلى كمال وجوده وعلى استمرار وجوده. جزء كبيرٌ كبير من نشاطه يبذله في الحِفاظ على هذا المستوى إما على دخله أو على لياقته أو على صحته أو على مكانته أو على منصبه أو على سُمعته أو على ما بيده.
 وحينما يتجاهل اسم الله الحفيظ، وحينما يتجاهل اسم الله الحافظ فقد يقع في سوء فعله:
﴿قَالَ هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)﴾
(سورة يوسف)
﴿ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا ﴾
 حينما يأخذ الإنسان بأسباب الحِفظ المادية وينسى أن مُسبب الأسباب هو الله عزّ وجل، حينما يأخذ بالأسباب المادية للحِفظ ويأتيه بأس الله من حيث لا يحتسب مما يجعل حياته كلها جحيماً لعِلّة تُصيب جسده، فمثلاً شخص حصّلَ دكتوراه وتزوج امرأةً غربية تروق له وعاد بها إلى بلده ووصل إلى أرفع المناصب ثم فَقَدَ بصره فزاره صديق له، فقال له: والله يا فلان أتمنى ألاّ أحمل هذه الشهادة وألاّ أكون في هذا المنصب وألاّ أكون متزوجاً وأن أقوم على قارعة الطريق أتكفف الناس وأن يردَّ الله إليّ بصري !
﴿ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا ﴾
 الإنسان عُرضةٌ لأخطار لا تنتهي في الدنيا والوقائع بين أيديكم، تجد إنسانا بأعلى درجات الذكاء، لكن غلطة بسيطة مثل أن يكون السائق نائمًا وأنت ماشٍ على اليمين فصدمته السيارة وأُصيب في عموده الفقري أدى إلى شللٍ كامل طول حياته فمن يحميه ويحفظه من الغوائل ؟ الله خير حافظا، فلا بد من التوكل حقا.
 أردت أن يكون الاسم في بحثي اليوم اسم الحفيظ لأُبيِّن أنه مهما أخذ الإنسان بأسباب الحِفظ فقد يُؤتى الحذر من مأمنه، مثلاً كيف يُحصّن المال ؟ يجب أن يُحصَّن المال لا بِوضع أقفال والأقفال ذات الأرقام...لا.
(( حصنوا أموالكم بالزكاة ))
 يجب أن تحفظ المال كما أرسل لك الله و بيَّن الطريق لِحِفظه، وليس كما يصل إلى علمك من أساليب، يعني أساليب مُعقدة جداً مبنية على التكنالوجيا وكذا.
 أنا سمعت عن رجلٍ يعمل في الصياغة استورد صندوقَ حديدٍ من إحدى قارات الأرض، و له مواصفات تحتاج إلى كُتيِّب لوصفها، إلكترون على تصفيح على...، واستطاع أُناس أن ينزلوا إلى دكانه بالليل وأن يثقبوا الصندوق من سقفه وأن يأخذوا كل ما فيه فقد اعتمد هو على هذا الصندوق في حِفظ ماله ونسي الله تعالى، طبعاً حِفظ المال بند من بنود هذا البحث، وهناك حِفاظ على الصحة...إلخ، حينما ينسى اللهَ عزّ وجل ويأخذ بكل أسباب حِفظ الصحة ويعتمد عليها يأتي عَطَب غير متوقع، أساساً هناك عشرات الأمراض بل مئات الأمراض حتى الآن لا تُعرف أسبابها، يُقال لك فقر دم غير مُصنّع، يعني معامل كريات الدم التي في نِقي العظام توقفت فجأةً بلا سبب عن صنع كريات الدم، الإنسان يحتاج كل أسبوع إلى ست مئة سنتمتر دم ما دان حيًّا أو يموت، إنّ كل الذكاء والاحتياطات لا تُجدي مع هذا المرض، وهذا المرض ليس له أسباب، فلو أخذ الإنسان بِكُلِّ أسباب الصحة إلاّ أنّ هناك أمراضًا ليس لها أسباب مادية .
 رأيت شخصاً دنياه في درجة خيالية، ومع ذلك أصابه نمو زائد في دماغه، وانتهى إلى موت عاجل، فأنا أتمنى أن نستوعب جميعاً معنى اسم الحفيظ، فما لم يتولَّ اللهُ جلَّ في عُلاه حِفظَ صحتك وحِفظ سمعتك وحِفظ أهلك وحِفظ مالك فالخطر ماثل، أحيانا إبريق شاي يُحركه طفل فيُسكَبه على وجهه، فيصبح هذا الطفل مصدر شقاء لأمه وأبيه لمدة خمسين سنة، أليس كذلك ؟ إبريق شاي غلطة بسيطة جداً تُدمّر أُسرة، فمهْما حافظت على ما تملك ؛ من الأشياء المادية والمعنوية، وتجاهلت اسم الله الحفيظ، فاعتمادك على أسباب مادية اعتماد عجز و ضياع.
 رويتُ قصةً مرات عديدة وها أنا ذا أعيدها ؛ شخص في أعلى درجات نجاحه الدنيوي، عدة مشاريع متنوّعة في البلدة وأرباحها مذهلة في أعلى مستوى، وصحته في غاية السلامة، وهو ذو مكانة اجتماعية وعلاقات رفيعة كما يقولون باللغة الدارجة: إِيدْ طايْبَة وأعوان وأتباع وجيش من المنتفعين حوله، مكانة و تعظيم وجاه وأرباح وكل ستة أشهر بأوربا بأجمل فنادقها، حدث شيء قد لا يخطر على البال وهو أنه أراد أن يُصلح قطعة كهربائية، فعامل الكهرباء قال له: سأضعها لك في مكان مرتفع فهي أجمل فأجازه في رفعها، في اليوم التالي اضّطُر أن يتعامل معها فصعد على الكرسي لعُلُوِّها فانكسر الكرسي فوقع على مقعدته فنقل إلى المستشفى حوالي ثمانية عشر كان في عِداد الموتى وترك عشرين مليونًا بالعملة الصعبة، فهذا دُمِّرت حياته بأتفه الأسباب إذًا.
(( حصِّنوا أموالكم بالزكاة ))
 حصِّن نفسك من المصائب بالاستقامة. هناك نقطة دقيقة الدلالة جداً وهي: يُؤتى الحذِر من مأمنه، ومن آيات الله العظيمة، أن طبيبًا مختصًا بالهضم والأم ومدروسة عنده بعمق وفهم، فيها فليكون آيةً للناس أُصيب بقَرْحَة وما نجا منها، بل أودت به، هناك طبيب بأمريكا ذكرته من قبل مؤمن بالجري يوميًا، والجري نافع ورياضة ممتازة وجيدة، وأنا معه بهذا، يجري كل يوم ساعتين، كتب مقالات وأجْرَوا معه مقالات وكان يظن نفسه أنه آخر إنسان يموت بالقلب، فإذا مات كل من حوله فسيكون آخرهم، لأنه يجري كل يوم، وجعل اعتماده على الجري دون الله تعالى فأُصيب بنَوْبَة قاسية جداً وهو يجري، فكان فيها حتفه، لقد أخطأ إذ وكَل أمره للجري و الرياضة وجعله بديل حِفظ الله عزّ وجل وهذا لا يغني من الله شيئًا، هُنا دِقّة العِلم مُمكن أن تجري وتلعب الرياضة وتنظم طعامك وتجتنب المواد الكيماوية، يُمكن أن تعتني بصحتك إلى أعلى درجة وهذا كله صحيح، لكن لا يعني أن تنسى الله عزّ وجل، أن تنسى أن الله هو الحافظ. وملخص الملخص: اعقل و توكل.
 و الحديث الشريف التالي فيه عبرة ناطقة:
(( أن يوم القيامة يقف رجلان أمام رب العزة يقول لأحدهما:عبدي أعطيتك مالاً فماذا صنعت فيه يقول يا ربي لم أُنفق منه شيئا على أحدٍ مخافة الفقر على أولادي فيقول الله له ألم تعلم أني أنا الرزاق ذو القوة المتين ))
 إن الذي خشيته على أولادك من بعدك قد أنزلته بهم فقد جعل ثقته بالمال دون الله تعالى، فأردى أولاده، والله الذي لا إله إلا هو، حدثني رجل أثق به من إخواننا الكرام أنَّ إنساناً كثيرة أملاكه أنواع أملاكه وعديدة من معامل إلى محلات تجارية إلى مزارع إلى بيوت بالمصايف إلى بيوت على شاطىء البحر، تُوفيَ وكان هدفه الأكبر تأمين المال لأولاده من بعده، ترك أموالاً لا تأكلها النيران، والقصة طويلة جداً، فخلال سنتين تكفف أولاده من بعده، إذ عقدوا صفقةً كبيرة جداً مع شخص خارج القطر وشحنوا البضاعة واختفى الشخص واضطروا إلى الاقتراض من جهات أخرى ثم عجزوا، والقصة كما قلت طويلة لكن المُهِم كما أن الله عزّ وجل قادر وأنه إذا أعطى أدهش كذلك فهو إذا سلب أدهش، من كل شيء انقلب حالهم إلى لا شيء.
 فالحِفظ كيف يكون ؟ أوجز للقراء الكرام: لن تَستَحِقَّ حِفظ الله عزّ وجل إلا إذا طبقّت منهجه فهناك مظلة فإذا طبقت منهج الله عزّ وجل فأنت تحت مظلة رعاية الله عزّ وجل.
((عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ الإِمَامُ الْعَادِلُ وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ فأَخْفَى حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ))
 أنا أخشى ما أخشاه أن أخرج عن ظِلّ الله عزّ وجل كيف تخرج ؟ بالمعاصي، إذا كنت مستقيماً فأنت في ظِلّ الله، أنت في حِفظه، أنت في رعايته، ولا ينسى أحد قول الله تعالى:
﴿إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ(19)﴾
(سورة الأنفال)
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)﴾
(سورة التوبة)
 هذه معيّة خاصّة، وليست معيّةً عامة، معك بالحِفظ، معك بالتأييد معك بالتوفيق، معك بالرعاية، معك بالإكرام تُحِس بشكلٍ صارخ أنَّ الله يُحبك، وأن الله يحفظُك، وأن الله يُلهِمُك، وأنه يُوفِّقُك، وأنه يُسدد خُطاك، وأنه مُنطِقكَ بالحق، وأنه يرفع لك شأنك، ويرفع لك ذِكرك هذه تلمسها لمس اليد، بل إني أقول: إن ارتباط المؤمن بالإيمان ارتباطه الشديد بالإيمان ليس لأن أفكاره في الإيمان مُقنعة لا. أجل هي مُقنعة والعقيدة صحيحة والأفكار سليمة والأمور واضحة، لكنَّ الذي يَشُدُكَ إلى الله عزَّ وجل ليس وضوح الأفكار ولا دقة البراهين، بل هذه المعاملة التي عاملك الله بها بعد أن اصطلحت معه، فأراك من فضله ومن لُطفه ومن عنايته ومن حِفظه ومن توفيقه.
 فلذلك شعورك بالحِفاظ على ما في يديك هو شعور طبيعي وهذه فطرتك، لكن السلوك للحِفاظ على ما في يديلن يجعلك تنحو منحىً ماديًّا، كأن ترى أنه لابُدَّ من وضع الأقفال، ولابُدَّ من تَمَلَّق فلان، فبقائي بهذا المكان مرهون برضائه عني، فما الذي يُرضيه ؟ معصية الله، إذاً سأعصي الله من أجل أن يرضى حتى أبقى في مكانتي وهذا هو الجهل وهو الذي يقع فيه معظم الناس، هو يُريد أن يُحافظ على ما بيده عن طريق إرضاء الناس، يرضيه ويعصي الله فتجدّ ظروف لم تكن في الحُسبان وتقلِب الموازين ويغضب ذاك عليه من غير سبب ويخسر الدنيا والآخرة.
 لذلك أكرر على سمع القارئ الكريم هاتين الكلمتين: من آثر دنياه على آخرته خسرهُما معاً، ومن آثر آخرته على دنياه ربحهُما معاً، لكن حتى أكون واقعيًا ربنا عز وجل، وهذا يعرف من طريق تعامل رب العزة مع العباد أحياناً يُغلِق لك كلَّ الأبواب إلا طريقاً واحداً مسموحاً وهو غير مشروع، هُنا الامتحان إذْ كُلُ الأبواب التي تُرضيه مغلقة وبابٌ واحد لا يٌرضيه مفتوح على مِصرَاعيه، فماذا تفعل ؟ هُنا الامتحان. فإن قلت لن أعصي الله ولو قُطعت إرْباً إرْباً فأنت هكذا يا عبدي ؟ وأنا لن أتخلّى عنك وسأقلب لك كُلَّ الموازين بحيث سيغدو عدوك صديقك، وسأُيَسّر لك أعمالك وستأتيك الدنيا وهي راغمة لأنك آثرت طاعتي على الدنيا، عندئذ تأتيك الدنيا وهي راغمة.
 أي من آثر آخرته على دنياه ربحهما معاً، أتمنى على الله عزّ وجل أن يُمكنني من توضيح هذه الحقيقة، فبالأسواق بين التجار قوانين إذْ هناك طريقة في البيع شائعة مُتعارف عليها وتحفظ بها مالك و تربح، لكن ربما هذه الطريقة فيها شُبْهَة في الدين فأنت إذا أردت تطبيق قواعد الدين في التعامل بهذه الطريقة تخسر، فاحذر أن تضحي بعلاقتك بربك و تأخذ بأساليب الناس الملتوية. فتخسر كل شيء.
 هناك أخ من إخواننا قال لي: كنت أسكن ببيتٍ سيئ سيىء وكان هناك بيت عرض بخمس وعشرين ألف ليرة سورية طبعاً هذه القصة منذ زمن وهي طويلة جداً، وهذا البيت بأوصافة الجيدة ومساحته مئتا مترٍ مربع، طابق سادس، وهو في أمس الحاجة إليه، وكان معه خمسة عشر ألف ليرة سورية ولديه بعض السندات المصرفية فذهب للبنك ليقوم بحسمها،علمًا بأن حسم السند مُحرّم وهو ربًا معكوس، فقال له مدير المصرف: يا فُلان أنت مُسلم ودينك لا يسمح لك أن تتعامل بالرِبا ولا أتمنى أن تفعل هذا - الله جعله ينطق بالحق - ابق نظيفاً، فأقسم بالله أنه صار يبكي، يعني هذا ينصحني في ديني، فخرج من المصرف وقال لي عاهدت الله أن أدع هذه الصفقة مع أنها مُغرية جداً وأن أبقى في بيتي القديم المتداعي، فتحرّك من المصرف إلى دكانه فوجد صديقاً له ينتظره منذ نصف ساعة فأخبره بأنه على عجلة من أمره إذ سيسافر بعد وقت قريب، و يود أن يودعه مبلغاً من المال قدره ستون ألف ليرة وقال له: وأُنشدك الله إنْ أردت أن تستعمله فلا بأس عليك وهو عندك أمانة لمدة سنتين، فانظر كيف جوزيَ هذا الشخص ؟ لما آثر مرضاة الله على منفعته صادقا مخلصا جاءه من الله فرج قريب.
 شخص أُعطي أرضاً فسأل شيخاً له فقال: يا بُنيّ هذه ليست لك، هذه لفلان من الناس وهي غير مشروعةً لك، اذهب لصاحبها واشتر الأرض منه، فذهب إليه وطلب شراءها منه، وقال لي شيخي: يَحرُم عليّ أخْذُها، وليس معي ثمنها الآن إلا أنّ معي أساور زوجتي أبيعها وأتديَّن، واطلب أنت ما تُريد ثمنًا لهذه الأرض، فنظر فيه وقال له، يا بُنيّ ذهب من أرضي أربعمئة دونم أرض ما جاءني أحد كما جئت أنت فاذهب وهذه هدية مني لك حلال زلال، موقفه الورع جعلها حلالاً له.
 وليُصغِ عزيزي القارئ سمعه لهذه الكلمة: زوال الكون أهون على الله من أن تدع شيئاً مخافةً فيه ثم يُضيِّعك الله عزّ وجل، واللهِ زوال الكون أهون على الله من أن تقف موقفاً فيه مرضاة الله عزّ وجل ويتخلى عن نصرتك. يا رب أنا لا أعصيك ومهما بلغ الثمن لن أعصيَك. أتفعل هذا عن طيبِ خاطر وتضيع ؟ لا والله، لذلك توجد قوانين مُستنبطة من التعامُل اليومي، فهذا الذي توهّم أن بقاءه في هذا المكان مَنوط بإرضاء فُلان وفُلان، وجعلت إرضاءه عن طريق معصية الله عزّ وجل، فهذا الذي أرضيتَه وأسخطتَ الله عز وجل فلابُدَّ من أن يَسخَط الله عليك ويُسخِط ذاك الإنسان عليك، وإذا أغضبت إنساناً من أجل طاعة الله فلابُدَّ من أن يرضى الله عنك وأن يُرضِي عنك هذا الإنسان، ومن آثر دنياه على آخرته خسرهما معاً، ومن آثر آخرته على دنياه ربحهما معاً، فموضوع الحِفظ يلخصه قول الله عزّ وجل إذ يقول في مُحكم كتابه:
﴿ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾
 قد يسافر الإنسان فهل يضمن أثناء سفره ألا يصاب ابنه بحادث سيارة مثلاً ؟ هل يضمن ألا يقع خلل في بيته ؟ هل يضمن عدم دخول شخص معتدٍ لبيته في غيابه ؟ ؟وهل وهل وهل...، أمّا المؤمن إذا أزمع السفر دعا بهذا الدعاء: " اللهم أنت الرفيق في السفر والخليفة في الأهل والمال والولد " تشعر أن أعصابك تخدَّرت، لأنَّ الله يملك البيت، يحفظ مالك وأولادك وأهلك وكل شيء ترى كيف حَفظَ الله لك ولدك من حادث خطير، لا تقل: نجا ب أعجوبة، فهذا كلام البله، هذا حِفظُ الله عزّ وجل، قال:
﴿ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾
 لتعلم أن ما عند الله لن تناله إلاّ إذا اتبعت منهجه، حِفظ المال بتأدية الزكاة، حِفظ الجوارح بطاعة الله، عَين تغض عن محارم الله عَين تبكي من خشية الله هل ترثها ؟ لا بل ترثك، فهُناك فرقٌ بين أن ترثها وبين أن ترثك.
((عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ قَلَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُومُ مِنْ مَجْلِسٍ حَتَّى يَدْعُوَ بِهَؤُلاءِ الدَّعَوَاتِ لأَصْحَابِهِ اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصِيبَاتِ الدُّنْيَا وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا وَلا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا وَلا تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا وَلا مَبْلَغَ عِلْمِنَا وَلا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لا يَرْحَمُنَا ))
 فالمؤمن مادام لسانه ينطق بالحق، وبصره ينظر إلى آيات الله لا إلى عورات المسلمين، وسمعه يستمع به الحق، مادام المسلم هكذا فأغلب الظن أن الله سبحانه وتعالى يحفظ له هذه الجوارح فهناك حالة تُسمى حالة الأمن، المؤمن يشعُر بأنَّ الله عزّ وجل لن يُضيِّعه. هذا معنى قوله تعالى:
﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(81)﴾
(سورة الأنعام)
 إذاً:
﴿ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا ﴾
 الأب دائما حريص على أولاده حرصًا لا حدود له لكن لو حصل خلل بالخلايا الداخلية و نمت هذه الخلايا نمواً عشوائياً، فالأب ماذا بيده أن يفعل ؟ بيده أن يتألم فقط، أما الإله كل شيء بيده
﴿ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا ﴾
 فالذي يحفظ هو الله عزّ وجل.
 أقسم لي رجل بالله يقود سيارته في طريق طويل ونام وهو بسرعة عالية ورأى مناماً، واستيقظ في الوقت المناسب قبل أن يواجه حادثًا مُروِّعًا مُدمِّرًا، إذا أنقذه الله من التردي في الهاوية.
﴿قَالَ هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)﴾
(سورة يوسف)
 فإذا كان الله معك فمن عليك، وإذا كان الله عليك فمن معك ؟ تُلاحظ أنَّ من حِكمة ربنا عزّ وجل أنه من اعتمد على ذاته واتكل على نفسه، من اعتمد على ذكائه، على ماله، على معارفه، على أصدقائه، على اتصالاته. مثل هذا الإنسان فبأتفه الأسباب يُدمَّر، وربنا عزّ وجل حينما يُدمّره على أتفه الأسباب ويفشوا أمره بين الناس.
(( ما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته إلا جعلت الأرض هَويّاً تحت قدميه وقطّعت أسباب السماء بين يديه))
 لذلك أقوى شيء يشدك إلى الدين معاملة الله لك بعد أن تصطلح معه إذ تشعُر أنك ضمن عناية وتوفيق وإلهام وتسديد وحِفظ وتأييد ونصرة، فالله يُلهمك مثلا ألاّ تسافر لوجود هلاك بذاك السفر، تجد إنساناً قبل يوم من الاجتياح سحب كل ماله وجاء إلى منطقته، بينما غيره خسر كل ماله بفارق يوم واحد فقط، من ألهمك ؟ الله عزّ وجل مِنْ قَبْلُ.
﴿ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا ﴾
﴿ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾
 كفار قريش أليست معارضتهم لرسول الله كان هدفها الحِفاظ على ما هم فيه ؟ هذا أمر واقعي،وليس من باب القيل والقال، فزعماء قريش حينما عارضوا النبي وكفروا به وكادوا له وأخرجوه وحاربوه، واضطهدوا أصحابه أليس من أجل أن يحافظوا على مكانتهم في مكة وعلى زعامتهم وعلى أموالهم وعلى شأنهم في الجزيرة ؟ ما الذي حصل ؟ أنهم دُمروا وأنهم قُتِّلوا وأنهم مُزِّقوا وأنهم شُرِّدوا من الذي انتصر عليهم ؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين اتّبعوه، وهذا شيء مُتكرر دائما يؤكده قوله تعالى:
﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)﴾
(سورة الأعراف)
 الأمور تدور وتدور ولا تستقر إلا على تكريم المؤمن وحِفظه.
﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾
 بعد كل هذا الإيضاح لا بد من الوقوف عند معاني الحفيظ. إن هذا الاسم له معنيان:
 - المعنى الأول: حفيظ بمعنى عليم:
 فالله لا ينسى، حفيظ لا ينسى، كُلُ أعمالك وكل أقوالك وكل مواقفك وكل عطاءاتك وكل منعك وكل الصِراعات التي في ذهنك كل ما أنت فيه محفوظ عند الله عزّ وجل، الآن تجد من يقول لك الإضبارة سحبناها ونجونا من المخالفة بعد أن سحبنا الضبط، وانتهت المشكلة، أو أن الإضبارة اختفت وضاعت، فمثلا الآن هناك كمبيوتر وعن طريقه تصدر النتائج الجامعية فممكن لشخص أن يمحو كل النتائج لخمس آلاف طالب طبعاً، فلو فرضنا أن شخصاً محا كل ذاكرة الكمبيوتر فأين الطلاب ودراساتهم ونجاحاتهم لقد ضاع كل شيء، فمُمكن أن يكون إنسان أذكى من إنسان آخر يسحب الوثيقة أو يسحب الإضبارة أو يسحب التقرير يسحب الضبط، أمّا الله عزّ وجل حفيظ لا توجد قوة لإلغاء ما عنده، فكلٌّ محفوظ و مسجل. فهُنا شعورك أن أعمالك كلها مُسجلّة، قال تعالى:
﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ(181)﴾
(سورة آل عمران)
 وما قولك إنَّ الله عزّ وجل يوم القيامة يعرِض أعمالَك كُلَّها عليك بصورها بوقائعها هذا معنى قوله تعالى:
﴿كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9)﴾
(سورة المطففين)
﴿ كِتَابٌ مَرْقُومٌ ﴾
 قال: مرقوم من الرَّقْمِ وهو الوَشْم، ومرقوم من الرَّقَم، فكُلُّ مخالفة وصورتَها. فأبلغ طريقة بالمخالفات تأتي بالتنبيه فيقال لك: عليك مخالفة، ثم تُراجع ليعطوك الصورة، ألم تكن في هذا الطريق ؟؛ هذه سيارتك وهذه صورتها وهذا الضبط، فأرقى أنواع المخالفات أن تأتي المخالفة مع الصورة.
﴿ كِتَابٌ مَرْقُومٌ ﴾
 أو مُرَقَّم يستحيل أن تُنزع منه صفحة، مثل المالية هذا الدفتر صفحاته كذا، توقيعه كذا، بعت بيعاً ثم تقول سأنزع هذه الصفحة هذا لا يُمكن إذْ إنك ستجد صفحةً عند موظف المالية، فما قولك إن الله عز وجل يوم القيامة يَعرِض عليك كل أعمالك، لماذا وقفت هذا الموقف ؟ " وقفوهم إنهم مسؤولون ".
 قد تكون أعمال لها مظهر مقبول، لكنْ مخبؤُها غير مقبول، فربنا عزّ وجل يُطلعك على مخبئك، على نواياك، على حقيقتك، هذا معنى حفيظ، أول معنى حفيظ عليم، كل أعمالك مُسجلّة، فالسجلاّت العقارية بمدينة ما موضوعة بمكان، والمكان أصابه قصف فضاعت كُلُّ الأملاك، لا، لأنه كله مصور بميكرو فيلم موضوع بأماكن حصينة، لو دُمر هذا البناء هذه السجلات كلها مصورة صورًا دقيقة جداً، مخبَّأة بمكان حصين، هذه كلها بعض معاني الحفيظ، الله حفيظ يعني كل شيء مُسجّل، يعلم كل شيء وربنا عزّ وجل يقول عن نفسه:
﴿لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)﴾
(سورة طه)
 فالله سبحانه لا ينسى أبداً، فالحِفظ الأول ضد السهو والنسيان، وهو يعود إلى معنى العِلم فهو تعالى حفيظ للأشياء بمعنى أنه يعلمها جُملةً وتفصيلاً علماً لا يتبدّل ولا يتغيّر لا بالزوال ولا بالسهو ولا بالنسيان، هذا المعنى الأول فأنت تعامُلُكَ مع الله عزّ وجل على أنه حفيظ، مُسجّلكما لو أدّيت مبلغًا لجهة و سجل لك في قيودها، هذا الموقف مُسجَّل، فمثلا الابتسامة مُسجلَّة، فإن ابتسمت ابتسامة في وجه إنسان خائف وطمْأنْتَه فهذه مُسجلّة، إنسان اعتذر لك وأنت قوي فقلت له: لا عليك أنا أودُّك ولك مكانة عندي طمْأنْته وارتاح، نام المسكين مطمئنا فهذه مُسجلَّة، ابتسامتك عطاؤك منعك كرمك تضحيتك هذه كلها عبادات مُسجلَّة. وهذا هو المعنى الأول.
 -المعنى الثاني: الحفيظ أيْ ضِدُّ التضييع:
 الأول ضد النسيان والثاني ضد التضييع، فمعنى حفيظ أيّ الله عزّ وجل لا يُضيّع المؤمن بل يَحفَظ له عملَه ويكافئه عليه في الدنيا والآخرة فالمُستقيم موفّق ومن يغض بصره عن محارم الله كذلك،فالمكافأة سعادة زوجية، من يضبط لسانه سُمعتُه عالية، من يضبط جوارحه يحفظها الله له، اطَّلع على استقامتك وعلى عملك وسجله لك هذا هو المعنى الأول، وكافأك عليه؛ إذًا عِلْم ومكافأة، أما المعنى الثاني: حفظِ لك نتائج هذا العمل فلذلك الله عزّ وجل في القرآن يبشر المؤمنين:
 إنّ هذه المعاني تنقسم إلى قسمين: الحِفاظ في الدُنيا والحِفاظ في الآخرة أن يحفظ لك دينك، تجد شخصاً له بداية رائعة ثم انتكس وترك الصلاة وانغمس في المعاصي والموبقات، لذلك إبراهيم عليه السلام قال:
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35)﴾
(سورة إبراهيم)
 فإذا لم ينتكس الإنسان، وإذا لم تزل قدمه وإذا لم يعتقد عقيدةً زائغة، ولا تعلّق بأهل الكفر فهذا مِن فضل الله عليه، فالإنسان إذا قطع مرحلةً بعيدة في مسيرة حياته وهو مُحافظ على إيمانه وعلى استقامته وعلى صِلته بالله عز وجل وعلى نقائه وعلى طُهرِه وعلى إخلاصه فهذه نعمة كبيرة جداً، كم من شخص بدأ بدايةً مُشرقة ثم انتكس، يؤكد هذا قوله تعالى:
﴿وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً (80)﴾
(سورة الإسراء)
 أُناس كثيرون يدخلون مداخل شتى وهم صادقون، فإذا دخلوا هذه المداخل وتألقت أمامهم الدنيا أغرتْهم وأجبرتْهم وساقتهم إلى الضلالات وخرج كاذباً لقد دخل صادقاً وخرج كاذباً، دخل مخلصاً وخرج خائناً دخل مُطيعاً وخرج عاصياً دخل مُتعبداُ وخرج متكبراً فلذلك الدعاء:
﴿وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً (80)﴾
(سورة الإسراء)
 البطولة لا أن تدخل بل أن تخرج، فممكن أن يُدَل شخص على مسجد فيرجِع إلى الله شيء جميل، تجده انسجم وتأثّر وتفاعل، عارِض طفيف واجهه كأن يتزوج فترك الدين كله ؛ زوجته لم تنسجم مع هذا الدين السميك بزعمها فترك دينه من أجل زوجته هذا خرج مخرجاً كاذباً، دخل صادقاً فخرج كاذباً.
 فإذاً أحد معاني الحفيظ أن يحفظ الله لكَ دينك، أن تَسلَم عقيدتك من الشُبُهات ومن الشِرك الخفيّ ومن عقيدةٍ زائغة، وأن تسلم لك جوارحك من المعاصي و الآثام، أن يسلم لك دخْلك من الشبهات، لهذا سيدنا يوسف قال:
﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)﴾
(سورة يوسف)
 إذاً يجب أن ينشأ عندك طلب من الله دائم يا رب احفظ لي ديني واستقامتي وإخلاصي لك ونقائي وحبي لك ولأنبيائك وللمؤمنين، وباعد بيني و بين أن أحب أهل الدنيا والكَفَرة والمُفسدين هذا المعنى الأول، والمؤمن متواضع، يقول لك نسأل الله أن يُتمم لنا بخير، يُقال إن الإمام أحمد حينما جاءه ملَك الموت كان يقول: لا. بعدُ، لا. بعدُ، لا. بعدُ، فمن حوله ما فهموا ما كان يقول، وظنوا أنه مات على غير الإيمان إمام كبير جليل، فرُئِي في المنام وسأله أحد تلاميذه: يا سيدي لمَكنت تقول هذا الكلام: لا. بعدُ فقال يا ُبني جاءني الشيطان وقال لي: نجوت مني يا أحمد، فقلت له: لا. بعدُ، حتى أُغادر الدنيا وأنا مؤمن.
 فالإنسان معرَّض لخطر الفساد تحت خطر إغراء الدنيا، أما إذا قال: أنا لا أغلط، ولن أدع هذا الطريق، فلعل فيه كِبر مما قد تَزلّ القدم معه، إذاً معنى الحفيظ أن يحفظ الله لك إيمانك وعقيدتك واستقامتك ورغبتك في الحق، لهذا سيدنا عمر كانت إذا أصابته مصيبة قال الحمد لله ثلاثا ؛ الحمد لله إذ لم تكن في ديني هذا هو الكلام الدقيق، الحمد لله ما شربت خمراً، وما ارتكبت معصية، وما كفرت وما نافقت، المال ليس له قيمة عندئذ.
 هناك نقطة دقيقة الحساسية جداً وهي أن الإنسان إذا كان دينه غاليًا على قلبه و نفسه وأراد الله عزّ وجل أن يمتحنه بمصيبة فحينها ليس من مانع إذْا قال: إنّ ديني سليم والحمد لله إذ لم تكن المصيبة في ديني وهذه أكبر نعمة، قد تجد شخصا ليس عنده مشكلة، ولكنه يشرب الخمر، ليس لديه مشكلة في دخله، ومعمله، وفي حياته اليومية وفي صحته وأولاده لكنه لا يصلي، هناك من ليس لديه أية مشكلة في الدنيا لكنه يعتقد أن الدين كله خرافة. هذه مصيبة، بل هي كبرى المصائب.
 تُوفي قبل أيام شخص قال من يعرفه: إنّه خلال اثنين وخمسين سنة ما دخل إلى المسجد إلا مرة واحدة، دخل ليُصلَى عليه. هذه مصيبة قَدِمَ على مجهول، فالحمد لله إذ لم تكن في ديني، فهذا شيء مهم جداً مادامت القضية في الدنيا، فالدنيا زائلة أما بالدين فمشكلة فاقرة، والحمد لله إذ لم تكن أكبر منها، هناك مصيبة بالحديد يُجَلَّسُ الحديدُ فهذه ليست بابنه فهي نعمة هناك مُصاب بالحديد يُجَلَّسُ ثم يُبَخّ وتنحل المشكلة، احترقت غرفة نرمّمها ونَدهَنها، وهذه أهون مما لو كانت المشكلة بابنه أو بزوجته أو بصحته، والحمد لله إذ أُلْهِمتُ الصبر عليها، فالصبر نعمة، فالصابر يعني أنه عالِم يعلم أنُّ الله عزّ وجل صاحب الأمر كله، أفعاله كلها حكيمة فيها عدل وفيها رحمة وفيها لُطف وفيها تكريم ورأفة يا رب لك الحمد هكذا شئت وأنا راضٍ بقضائك هذا المؤمن، هذا إذًا معنى أول للحفيظ، ووردت آيات كثيرة فيما يخص حفظ الدين:
﴿وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74)﴾
(سورة الإسراء)
 إذاً فالله ثبتَّه، والله يعصمك من الناس، ربَّنا لا تُزغ قلوبنا بعد إذْ هديتنا، رب اشرح لي صدري ويسّر لي أمري، هذه كلها أدعيةُ القرآن أي أنت إذا كنت مؤمناً ومستقيماً وصادقاً ومُحباً للحق لك مجالِسُكَ العلمية اُطلبْ من الله عزّ وجل أن يحفظها عليك، في إحدى الحجَّات التي أكرمني الله بها وأنا في الطواف قلت يا رب أنا أضعف خلقك شرفتني بخدمتك وخدمة عبادك، إن علمت صدقي في هذا فاحفظها لي واحفظني لها، يا رب احفظ هذه الدعوة، احفظها، وإن علمت خلاف ذلك فعالجني قبل أن أموت، فالإنسان لابُدَّ أن يسأل الله عزّ وجل، يسأل الحفيظ أن يحفظ له إيمانه، دينَه وتألقه.
 واللهِ أعرف رجلاً: طيلة عشرين سنة أو خمساً وعشرين وهو ينتمي في طريق الإيمان فأغرْته امرأة وسقط سقوطاً مُريعاً وترك الصلاة وجاءته المصائب من كل جهة ما حُفظ له دينه.
 المعنى الثاني: أن يحفظ لك دُنياك، أهم شيء صحتك، وجودك، سلامتك، أهلك، أولادك، ومالك، قال تعالى:
﴿قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42)﴾
(سورة الأنبياء)
﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾
(سورة الرعد)
﴿يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)﴾
(سورة التغابن)
 كلمة من يكلؤكم ؟ من يرعاكم ؟ لا أشُك أن كُل واحد مِنّا كان على خطر أنقذه الله منه، يقال أحيانا: كان بيننا و بين الموت المحقق سنتمتر كدنا أن نهلك لولا أن لطف الله بنا، فهذا حِفظُ الله عزّ وجل.
 هناك معنى ثالث وهو أنَّ الله عزّ وجل إذا خلق الشيء، استمراره يحتاج إلى حِفظٍ من الله عزّ وجل والدليل:
﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً (41)﴾
(سورة فاطر)
 فأنت مخلوق وبقاؤك بيد الله عزّ وجل، بقاء السماوات بيد الله بقاء الشمس بيد الله، بقاء الأرض بيد الله، بقاؤها على خط سيرها بيد الله، لأنهما إن زالتا ما يمسكهما من أحد من بعده ؟ هذا معنى الحفيظ فلابُدَّ من أن تستسلم لله عزّ وجل، وأدقُّ ما في البحث أنك مفطور على حُب وجودك، وسلامة وجودك، وكمال وجودك، واستمرار وجودك، وجزءٌ كبيرٌ كبير من نشاطِك مصروف بالحِفاظ على ما أنت فيه، فإذا سلكت وسائل الحِفاظ المادية وغاب عنك اسم الله الحفيظ الذي بيده كل شيء فقد أخطأت الهدف وضللت الطريق ولن تنال حفظ الله عزّ وجل إلاّ إذا طبقّت منهجه، لذلك لا ينفع حذر من قدر ولكن ينفع الدعاء مما نزل ومما لم ينزل فادعوا الله عبادَ الله.
 بقي علينا أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:
((عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ فَلْيَنْفُضْ فِرَاشَهُ بِدَاخِلَةِ إِزَارِهِ فَإِنَّهُ لا يَدْرِي مَا خَلَفَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَقُولُ بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ ))
(رواه البخاري)
(( كان إذا أوى إلى فراشه يقول:باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه فإن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين))
 فالإنسان إذا نام بين حالتين: إمّا أن يستيقظ وإمّا ألاّ يستيقظ، فإن لم يستيقظ فيسأل الله أن يرحمه كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وإن استيقظ يسأله بأن يحفظه ؛ أن يحفظ له دينه وأن يحفظ له دنياه،
((عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ))
(رواه مسلم)