الجمعة، 16 مارس 2012

موسوعة الفقه : تابع الإفتاء

الإفتاء .. الصفحة الثانية


إذا اتَّبع العامي بعض المجتهدين في حكم حادثة، فهل له اتباع غيره في حكم آخر؟
اختلف العلماء فيها على قولين:
1- فمن العلماء من منع اتباع غيره في حكم آخر.
حجته: أنه اتبعه في الحكم الأول، فيلزمه أن يقلده في الحكم الآخر.
2- ومن العلماء من أجاز له أن يقلد من شاء في أي واقعة تعْرِض له.
حجته: أنه لا ارتباط بين الحكم الأول والحكم الثاني، فكل منهما مستقل عن الآخر.
الترجيح: والذي يترجح لي القول الثاني، وهو القول بجواز تقليد العامي لمن شاء من المجتهدين في كل واقعة تعرض له.
ووجه ترجيحه ما يلي:
1- إجماع الصحابة على تسويغ استفتاء العامي لكل عالم في مسألة يريد معرفة حكمها، ولم يُنقل عن أحد منهم الحجر على العامة في ذلك، ولو كان ذلك ممتنعًا لأنكروه ولم يسكتوا عنه.
2- أن كل مسألة لها حكم مستقل في نفسها، وكما لم يتعيَّن الأول للاتباع في المسألة الأولى إلا بعد سؤاله فكذلك في المسألة الأخرى
إذا قلد العامي بعض المجتهدين في حكم حادثة، فهل له الرجوع عنه في ذلك الحكم إلى غيره؟
قال الآمدي: إذا تبع العامي بعض المجتهدين في حكم حادثة من الحوادث، وعمل بقوله فيها، اتفقوا على أنه ليس له الرجوع عنه في ذلك الحكم بعد ذلك إلى غيره ا. هـ .
وحكى الشيخ زكريا الأنصاري -في "غاية الوصول شرح لب الأصول"- الخلاف في ذلك، فقال: والأصح أنه لو أفتى مجتهدٌ عاميًا في حادثة فله الرجوع عنه فيها، إن لم يعمل بقوله فيها وثمَّ مفتٍ آخر.
وقيل يلزمه العمل به بمجرد الإفتاء فليس له الرجوع إلى غيره.
وقيل يلزمه العمل به بالشروع في العمل، بخلاف ما إذا لم يشرع.
وقيل يلزمه العمل به إن التزمه.
وقيل يلزمه العمل به إن وقع في نفسه صحته .
ونري : أنه يلزمه العمل بفتوى المجتهد، ما لم يفتِه مفتٍ آخر بأن فتوى الأول تناقض نصًّا أو إجماعًا.
ووجه ذلك:
أن الله تَعَبَّد العامي بسؤال المجتهد والعمل بفتواه، ما لم يتبين له خطأ اجتهاده
 إذا سأل العامي اثنين وتناقضت الفتوى واستويا في الفضل فبأي القولين يأخذ ؟
للعلماء في هذه المسألة ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول:
أن العامي يتخيَّر في الأخذ بقول من شاء منهما.
حجة هذا المذهب:
أن إيجاب الأخذ بقول أحدهما دون الآخر تحكّم؛ إذ ليس قول أحدهما بأولى من الآخر.
المذهب الثاني:
أنه يجب على العامي الأخذ بالقول الأشدّ.
حجَّة هذا المذهب:
إن الحقَّ ثقيل ومرّ، فثقله دليل على أحقيته.
المذهب الثالث: أنه يجب على العامي الأخذ بالقول الأخفّ.
حجة هذا المذهب ما يأتي:
1- قوله -تعالى-: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ .
ووجه الدلالة: أن الله أخبر أنه يريد بنا اليسر، والقول الأخف فيه يسر، فوجب الأخذ به.
2- قوله -تعالى-: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ .
ووجه الاستدلال:
أن الله -تعالى- نفى الحرج في الدين، والقول الأخف فيه رفع للحرج فوجب
 ما إذا سأل العامي اثنين وتناقضت الفتوى واختلفا في الفضل بأي القولين يأخذ ؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أنه يلزمه الأخذ بقول الأعلم والأورع والأدْيَن، بعد الاجتهاد في أعيان المفتين، وهو مذهب أحمد بن حنبل وابن سريج والقفال من أصحاب .
الشافعي وجماعة من الفقهاء والأصوليين واحتجّوا على ما ذهبوا إليه بما يأتي:
1- أن في الأخذ بقول الأفضل احتياطًا لدينه؛ قياسًا على ما لو مرض إنسان وعنده طبيبان، واختلفا في وصف الدواء والعلاج، فإنه يأخذ بقول أحذقهما؛ حفظًا لصحته واحتياطًا لها، فالاحتياط لدينه أولى.
2- ولأن طريق معرفة الأحكام الظن، والظن في تقليد الأعلم الأدْيَن أقوى، فوجب الأخذ به.
3- ولأن إحدى الفُتياوين خطأ، وقد تعارضتا عنده فلزمه الأخذ بأرجحهما.
4- أن قول المفتيين في حق العامي بمنزلة الدليلين المتعارضين في حق المجتهد، فكما يجب على المجتهد الترجيح بين الدليلين، فكذلك يجب على العامي الترجيح بين المفتيين.
5- ولأن من اعتقد أن الصواب في أحد القولين، لا ينبغي له أن يأخذ بالتشهّي، ويختار من المذاهب أيسرها على نفسه ويأخذ بالرخص

 إذا تعدد من يصلح للإفتاء فأيَّ واحد يسأل ؟
قبل ذكر خلاف الأصوليين في هذه المسألة نحرر محل النزاع:
1- اتفقوا على أنه إذا حدثت للعامي حادثة وأراد الاستفتاء عن حكمها، ولم يكن في البلد إلا مفتٍ واحد، أنه يجب على العامي سؤاله، والرجوع إليه، والأخذ بقوله.
2- واتفقوا على أنه إذا تعدّد من يصلح للإفتاء، واستووا في الفضل والعلم، أن العامي يخير في سؤال واحد منهم.
ومحل النزاع هو:
ما إذا تعدد من يصلح للإفتاء، واستووا في الفضل والعلم، فهل يخيَّر في سؤال واحد منهم، أو يلزمه أن يجتهد في أعيان المفتين على قولين:
القول الأول:
أن العامي مخيَّر في سؤال من شاء من العلماء سواء تساووا في الفضل والعلم أو تفاضلوا.
حجة هذا القول:
إجماع الصحابة على جواز سؤال العامة للفاضل والمفضول، فكانوا يقرون العامي في سؤاله للمفضول، ويقرون المفضول في إفتائه للعامي، ولم يمنعوا العامة من سؤال غير أبي بكر وعمر أو سؤال غير الخلفاء الراشدين .
القول الثاني:
أن العامي يلزمه الاجتهاد في أعيان المفتين من الأروع والأدين والأعلم، فيسأله دون غيره.
حجة هذا القول ما يأتي:
1- أن في اجتهاده في الأعلم والأروع والأدين احتياطًا لدينه، قياسًا على ما لو مرض إنسان وعنده طبيبان، فإنه يذهب إلى أحذقهما؛ حفظًا لصحته، واحتياطًا لها، فالاحتياط للدين أولى.
2- أن طريق معرفة الأحكام إنما هو الظن، والظن في تقليد الأعلم الأدين أقوى، فوجب الرجوع إليه.
وناقش أهل المذهب الأول هذين الدليلين:
بأن الاحتياط للدين وقوة الظن لا يقاوم إجماع الصحابة على إقرارهم للعامي في سؤاله للفاضل والمفضول؛ إذ لم ينقل عن أحد منهم تكليف العوام بالاجتهاد في أعيان المفتين ولم يحجر الفاضل على المفضول الفتوى، ومحل الاحتياط للدين وإفادة قوة الظن في معرفة الحكم إذا لم يعارضه دليل شرعي، وقد عارضه هنا إجماع الصحابة فلا محل له.
الترجيـــــــــح:
بعد استعراض خلاف العلماء في هذه المسألة وأدلة كلٍّ، يظهر لنا أن الراجح هو القول بتخيير العامي في سؤال من شاء من العلماء.
وجه ترجيحه:
قوة دليل هذا القول، وهو إجماع الصحابة على ذلك، وعدم مقاومة ما استدل به الفريق الآخر، من الاحتياط وقوة الظن، للإجماع، فإنه دليل شرعي قطعي

 هل يجوز خلو العصر عن مجتهد يمكن تفويض الفتاوى إليه ؟
تحرير محل النزاع:
الاجتهاد قسمان: عام وخاص.
فالعام:
بذل الجهد في تطبيق أحكام الشريعة في حياتنا العملية، وهذا يكون من المجتهد ويكون من المقلد، وقد اتفقوا على أنه لا يخلو منه زمان.
والخاص:
بذل الجهد في استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة، وهذا وظيفة المجتهد المطلق، وهو محل النِّزاع، فاختلف فيه العلماء هل يخلو العصر منه أم لا؟ على مذهبين:
المذهب الأول:
أنه يجوز خلوُّ العصر عن مجتهد يمكن تفويض الفتاوى إليه، وإليه ذهب الغزالي والرازي والزركشي والرافعي وغيرهم.
المذهب الثاني:
أنه لا يجوز خلو الزمان عن مجتهد يمكن تفويض الفتاوى إليه، وإليه ذهب الحنابلة وغيرهم.
الأدلة والمناقشة :
استدل أهل المذهب الأول القائلون بجواز خلو العصر عن المجتهد بأدلة شرعية ودليل عقلي:
أما الأدلة الشرعية فهي:
الأول: قوله -عليه الصلاة والسلام-:  " بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ  " .
ووجه الاستدلال:
أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر أن الإسلام سيعود غريبًا، وهذا يدل على أنه يأتي زمان يخلو فيه عن مجتهد يمكن تفويض الفتاوى إليه.
وناقش أهلُ المذهب الثاني الدليلَ:
بأن الغربة لا تدل على عدم وجود من يدافع عن الحق ممن تقوم بهم الحجة، من المجتهد الذي يرجع إليه الناس في فتاويهم، بل ربما أشعرت بوجوده، بدليل قوله آخر الحديث: فطوبى للغرباء، الذين يصلحون إذا فسد الناس، أو يصلحون ما أفسد الناس .
الثاني: قوله -صلى الله عليه وسلم-: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبقَ عالم اتخذ الناس رؤساء جهالًا، فسئلوا فأفتَوْا بغير علم، فضلُّوا وأضلوا "  .
ووجه الدلالة:
أن الحديث دل على أنه يكون زمان لا عالم فيه يفتِي بعلم، ولازمُ هذا أن يكون زمان لا مجتهد فيه؛ لأن العلم أعمَّ من الاجتهاد، والاجتهاد أخصّ من العلم، فإذا انتفى الأعم انتفى الأخص ضرورة.
ونوقش هذا الدليل:
بأن الحديث محمول على أن ذلك يحصل بعد إرسال الريح اللينة التي يقبض عندها روح كل مؤمن ومؤمنة، جمعًا بين الأدلة.
الثالث: قوله -صلى الله عليه وسلم-: " تعلَّموا الفرائض وعلِّموها الناس، فإني امرؤ مقبوض، وإن العلم سيُقبض وتظهر الفتن، حتى يختلف الاثنان في الفريضة، فلا يجدان من يفصل بينهما  " .
ووجه الاستدلال:
أن الحديث دل على أنه يكون زمان لا يجد الاثنان من يفصل بينهما في الفريضة، ولازم هذا خلوُّ الزمان عن مجتهد يمكن تفويض الفتاوى إليه.
ونوقش هذا الدليل:
بأن الحديث غير صحيح، فقد رواه أحمد من حديث أبي الأحوص عنه نحوه بتمامه، والنسائي والحاكم والدارمي والدارقطني كلهم من رواية عوف عن سليمان بن جابر عن ابن مسعود وفيه انقطاع .
الرابع: قوله -عليه السلام-:"  لتركبُنَّ سنن من كان من قبلكم شبرًا بشبرًا، وذراعًا بذراع " .
ووجه الدلالة:
أن الحديث يدل على أن هذه الأمة تتبع سنن من كان قبلها، ويلزم من هذا خلوُّ العصر عن مجتهد يمكن تفويض الفتاوى إليه.
ونوقش هذا الدليل: بأن الحديث لا يفيد أن الأمة كلها تتبع سنن من كان قبلها، وإنما المراد: الأغلب، ولا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق منصورة، مستقيمة عليه حتى تقوم الساعة كما ورد في الحديث .
على أن من كان قبلنا قد بقيت منهم بقية على الدين الصحيح، حتى آمنوا بمحمد -صلى الله عليه وسلم- كعبد الله بن سلام وغيره.

الخامس: قوله -صلى الله عليه وسلم-: "  خير القرون قرني الذي أنا فيه، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه، ثم تبقى حثالة كحثالة التمر، لا يعبأ الله بهم " .
ووجه الاستدلال: أن النبي -عليه السلام- أخبر أنه يكون بعد القرون المفضلة، حثالة كحثالة التمر، ولازم هذا خلو العصر عن مجتهد يمكن تفويض الفتاوى إليه.
وأجيب عن هذا الدليل بجوابين:
أحدهما: أن قوله: ثم تبقى حثالة كحثالة التمر. لم تصحّ.
الثاني: على تقدير صحة هذه الجملة، فإنه يُحْمل على ما بعد الريح اللينة، وقبض أرواح المؤمنين جمعًا بين الأدلة.
وأما الدليل العقلي:
فهو: أنه لو امتنع خلو الزمان عن مجتهد يمكن تفويض الفتاوى إليه لامتنع إمَّا لذاته، وإمَّا لأمر خارج عنه، وامتناعه لذاته محال، فإنه لو فرض وقوعه لم يلزم عنه لذاته محال عقلًا، وأما امتناعه لأمر خارج فالأصل عدمه، وعلى مدعيه البيان.
ونوقش هذا الدليل:
بأن هذا الاستدلال غير صحيح؛ لأنه استدلال على إثبات الإمكان الخارجي بمجرد الإمكان الذهني، وهو غير كافٍ في ذلك؛ لأن الإمكان الخارجي إنما يثبت بالعلم بعدم الامتناع، والإمكان الذهني عبارة عن عدم العلم بالامتناع، وعدم العلم بالامتناع لا يستلزم العلم بعدم الامتناع .
استدل أهل المذهب الثاني، القائلون بأنه لا يجوز خلوُّ الزمان عن مجتهد، يمكن تفويض الفتاوى إليه بثلاثة أدلة شرعية ودليلين عقليين:
أما الأدلة الشرعية فهي:
الأول: قوله -صلى الله عليه وسلم-:"  لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله " .
ووجه الاستدلال:
أن ظهور طائفة على الحق في زمان ما، يلزم منه وجود الاجتهاد فيه؛ لأن القيام بالحق لا يمكن إلا به، وقد أخبر -عليه الصلاة والسلام- أنه لا يخلو عصر من قائم على الحق، فيكون هذا إخبارًا بعدم خلو عصر عن مجتهد.
الثاني: قوله -عليه الصلاة والسلام-: "  واشوقاه إلى إخواني، قالوا يا رسول الله، ألسنا إخوانك؟ فقال: أنتم أصحابي، وإخواني قوم يأتون بعدي، يهربون بدينهم من شاهق إلى شاهق، ويصلحون إذا فسد الناس " .
ووجه الدلالة:
أن النبي -عليه السلام- أخبر بأنه يوجد إخوان له يصلحون عند فساد الناس، والصلاح إنما يكون بالعلم والاجتهاد، وهذا يلزم منه عدم خلو عصر من مجتهد، وإلا لصار الناس كلهم جهَّالًا وفسدوا.
الثالث: قوله -صلى الله عليه وسلم-:"  وأن العلماء ورثة الأنبياء "  .
ووجه الدلالة:
أن أحقَّ الأمم بإرث العلم: هذه الأمة، وأحق الأنبياء بإرث العلم عنه: نبيُّ هذه الأمة، وهذا دليل على أنه لا يخلو عصر عن مجتهد.
وعندي: أن هذا الدليل لا يدل على المطلوب؛ إذ قد يورث العلم ولا يوجد الاجتهاد؛ لأن العلم أعم من الاجتهاد، ووراثة الأعم، وهو العلم، لا تستلزم وراثة الأخصّ وهو الاجتهاد.
وأما الدليلان العقليان:
فالأول: أن الاجتهاد والتفقه في الدين فرض كفاية، إذا تركه الكل أثموا، فلو جاز خلو العصر عن مجتهد يمكن تفويض الفتاوى إليه، لزم منه اجتماع الأمة على الخطأ والضلالة، وهذا باطل ممتنع؛ للأدلة التي تدل على عصمة الأمة فيما أجمعت عليه.
الثاني: أن الاجتهاد طريق لمعرفة الأحكام الشرعية، فلو جاز خلو العصر عن مجتهد يُرجع إليه في معرفة الأحكام، لزم منه تعطيل الشريعة وذهابها واندراس الأحكام، وهذا باطل ممتنع؛ للأدلة الدالة على حفظ الشريعة وبقائها إلى قيام الساعة.
وناقش أهل المذهب الأول - القائلون بأنه يجوز خلو العصر عن المجتهد- الدليلان العقليان، فقالوا:
متى يكون الاجتهاد والتفقه في الدين فرض كفاية، ويلزم من فقده تعطيل الشريعة واندراس الأحكام، هل ذلك إذا أمكن أن يعتمد العوام في عصرهم على الأحكام المنقولة إليهم في العصر الأول عمن سبقهم من المجتهدين ؟ وهذا ممنوع.
أو إذا لم يمكنهم الاعتماد على أحكام المجتهدين السابقين لعصرهم؟ وهذا مسلَّم، ولكننا لا نسلّم امتناع هذا وعدم إمكانه، بل هو ممكن وغير ممتنع.

وأجاب أهل المذهب الثاني على المناقشة:
بأن الوقائع في الوجود لا تنحصر، فلا يصح دخولها تحت الأدلة المنحصرة، فلا بد من فتح باب الاجتهاد؛ للنظر فيما يحدث من الوقائع التي لا تكون منصوصًا عليها، ولا يوجد للأولين فيها اجتهاد، فلو جاز خلو العصر عن مجتهد يمكن تفويض الفتاوى إليه للزم الوقوع - عند حدوث الوقائع المتجددة - في أحد محذورين:
أحدهما: أن يُترك الناس فيها مع أهوائهم، وهذا باطل ممتنع.
الثاني: أن ينظر فيها بغير اجتهاد شرعي، وهذا اتباع للهوى أيضًا، وهو باطل ممتنع، وحينئذ لا بد من أحد أمرين:
1- التوقف لا إلى غاية، وهذا يلزم منه تعطيل التكليف.
2- أو تكليف ما لا يطاق، وهذا باطل.
فظهر أنه لا بد من الاجتهاد في كل زمن، ولا يمكن خلوُّ العصر عن مجتهد تفوَّض إليه الفتاوى؛ لأن الوقائع تتجدد، ولا تختص بزمن دون زمن.
الترجيح:
بعد أن سقنا أدلة المذهبين، ومناقشة كلٌّ منهما للآخر، يبدو لي أن الراجح من المذهبين هو: المذهب الثاني، وهو القول بأنه لا يجوز خلو العصر عن مجتهد يمكن تفويض الفتاوى إليه.
وجه ترجيحه:
1- ما سبق من مناقشة أدلة أهل المذهب الأول، وهو القول بجواز خلو العصر عن مجتهد، والإجابة عن مناقشتهم لأدلة أهل المذهب الثاني.
2- أن الله تعالى لو أخلى زمانًا من مجتهد قائم لله بالحجة لزال التكليف؛ إذ التكليف لا يثبت إلا بالحجة الظاهرة، وإذا زال التكليف بطلت الشريعة.
3- أنه لو عدم الفقهاء المجتهدون لم تقم الفرائض كلها، ولو عطّلت الفرائض كلها لحلت النقمة كما في الحديث: لا تقوم الساعة إلا على شِرار الناس .
4- ادعاء خلو العصر عن مجتهد يمكن تفويض الفتاوى إليه في الأزمنة المتأخرة، حصر لفضل الله على بعض خلقه، وقصر فهم هذه الشريعة على من تقدم عصره، وهذا -مع أنه لا دليل عليه، بل هو دعوى- فيه جرأة على الله، ثم على شريعته الموضوعة لكل عبادة، ثم على عباده الذين تعبَّدَهم الله بالكتاب والسنَّة

 حكم فتوى المجتهد في نوع من العلم أو في مسألة منه
فيه مسألتان:
المسألة الأولى: هل للمجتهد في نوع من العلم أن يفتي به ؟
هذه المسألة مبنيَّة على مسألة أخرى، وهي: هل الاجتهاد يتجزأ؟
وبعبارة أخرى: هل الاجتهاد حالة تقبل التجزؤ والانقسام، فيكون الرجل مجتهدًا في نوع من العلم أو في باب من أبوابه مقلدًا في غيره، وهل له أن يفتي في النوع أو في الباب الذي اجتهد فيه.
ومثال ذلك:
من استفرغ وِسْعه في علم الفرائض وأدلتها، واستنباطها من الكتاب والسنة دون غيره من العلوم، أو استفرغ وِسْعه في باب الجهاد، أو في باب الحج مثلا.
اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: الجواز مطلقًا.
مستَّنَد هذا المذهب:
أنه قد عرف الحق بدليله في هذا النوع أو الباب من العلم، وقد بذل جهده في معرفة الصواب، فحكمه في ذلك حكم المجتهد المطلق في سائر الأنواع، فيكفيه أن يكون عارفًا بما يتعلق بتلك المسألة مما لا بد فيه منها، ولا يضره بعد ذلك جهله بما لا تَعَلُّق له بها مما يتعلق بباقي المسائل الفقهية، كما أن المجتهد المطلق قد يكون مجتهدًا في المسائل الخارجية عنها، فليس من شرط المفتي أن يكون عالمًا بجميع أحكام المسائل ومداركها ؛ لأنه مما لا يدخل تحت طاقة البشر.
المذهب الثاني: المنع مطلقًا:
مستند هذا المذهب:
أن أبواب الشرع وأحكامه وأدلة الأحكام الشرعية يتعلق بعضها ببعض، ويأخذ بعضها بحُجُز بعض، ويفسر بعضها بعضًا، ويقيد بعضها بعضًا، فالجهل ببعضها مظنَّة للتقصير في الباب أو النوع الذي عرفه، ولا يخفى على الناظر الارتباط بين كتاب الجهاد وما يتعلق به وكتاب الحدود والأقضية والأحكام، وكذلك سائر أبواب الفقه.
المذهب الثالث: الفرق بين الفرائض وغيرها:
فيتجزأ الاجتهاد في علم الفرائض، وله أن يفتي فيه دون غيره من العلوم.
مستند هذا المذهب:
1- أن أحكام قسمة المواريث ومعرفة مستحقيها مستقلة عن غيرها من أبواب الفقه، وليست متعلقة به، فلا صلة لها بكتاب البيوع والإجارات والرهن والنضال وسائر أبواب الفقه.
2- أن عامة أحكام المواريث قطعية، منصوص عليها في الكتاب والسنة، بخلاف غيرها.
الترجيح: بعد ذكر المذاهب في المسألة، ومستند كل مذهب يتبيَّن لي أن الراجح من ذلك هو المذهب الأول، وهو أن الاجتهاد يتجزأ مطلقًا، وأن للمجتهد أن يفتي في النوع من العلم الذي اجتهد فيه. وجه ترجيحه:
1- أن الصحابة والأئمة بعدهم، قد كانوا يتوقَّفون في مسائل كثيرة، ولم يخرجهم ذلك عن الاجتهاد، ولم يمنعهم ذلك عن الإفتاء بما علموه.
وكم توقف الشافعي في مسألة، وسُئل مالك عن أربعين مسألة فقال في ستة وثلاثين لا أدري، فلو كان العالم لا يكون مجتهدًا إلا بمعرفة حكم الله في كل جزئية لما كان مالك مجتهدًا؛ لتوقفه عن ستة وثلاثين مسألة وإجابته عن أربعة من أربعين، ولكنه مجتهد متفق عليه، فدلَّ على أنه لا يشترط التعميم.
2- أن المجتهد في نوع من العلم قد غلب على ظنه أنه قد أحاط بجميع ما يتعلق بالنوع أو الباب الذي اجتهد فيه من الأدلة، وعرف كل ما يتصل بهذه الأدلة مما له صلة في الدلالة، وقد بذل جهده في البحث، فتكليفه بأن يعلم ما وراء ذلك تكليف بغير مقدور، وهو ممتنع .
المسألة الثانية: من بذل جهده في مسألة أو مسألتين هل له أن يفتي فيهما ؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
أحدهما: المنع. حجته: حجة المذهب الأول من المسألة الأولى.
والثاني: الجواز. حجته: حجة المذهب الثاني من المسألة الأولى.
والراجح: الجواز.
وجه ترجيحه:
أن إفتاءه فيما بذل جهده فيه من التبليغ عن الله ورسوله، فيكون قد أعان على الإسلام بما يقدر عليه، فمنعه من الإفتاء لا دليل عليه، بل هو يعارض الأدلة الدالة على الأمر بالتبليغ عن الله ورسوله

حكم فتوى المنتسب إلى إمام بالقول الذي رجع عنه إمامه
" هل للمفتي أن يفتي بالقول الذي رجع عنه إمامه ؟ ".
يجوز للمفتي المنتسب إلى مذهب أن يفتي بالقول الذي صرح إمامه بالرجوع عنه إذا ترجح عنده؛ وذلك لأن القول الذي قال به الإمام أولًا ثم رجع عنه بمنزلة ما لم يقله، ولا يخرجه ذلك عن التمذهب بمذهبه، فإن أتباع الأئمة كثيرًا ما يفتون بأقوالهم القديمة التي رجعوا عنها، ومن أمثلة ذلك:
1- الأحناف يفتون بلزوم المنذورات التي مخرجها مخرج اليمين كالحج والصوم والصدقة، مع أنهم حكوا عن أبي حنيفة أنه رجع قبل موته بثلاثة أيام إلى التكفير.
2- الحنابلة يفتي كثير منهم بوقوع طلاق السكران، مع أن الإمام أحمد صرح بالرجوع عنه إلى عدم الوقوع.
3- الشافعية يفتون بالمذهب القديم بعدم استحباب قراءة السورة في الركعتين الأخيرتين.
وهذا كله يبين أن أهل العلم لا يتقيدون بالتقليد المحض، الذي يتركون من أجله قول كل من خالف من قلدوه، وهي طريقة مذمومة، مخالفة للصواب، حادثة في الإسلام، مستلزمة لأنواع من الخطأ، وهي ناشئة عن التعصب لمذهب معين وإمام معين
حكم فتوى المنتسب إلى إمام بغير قول إمامه
 " هل للمفتي أن يفتي بغير مذهب إمامه "؟ .
هل يجوز للمنتسب إلى تقليد إمام معين أن يفتي بقول غير قول إمامه، في هذه المسألة تفصيل وهو: أن السائل لا يخلو من أحد أمرين:
الأول: أن يسأله عن مذهب هذا الإمام فقط، فيقول له -مثلا-: ما هو مذهب الشافعي في هذه المسألة؟ وحينئذ على المفتي أن يخبره بمذهب ذلك الإمام، ولا يجوز له أن يخبره بغيره إلا على وجه الإضافة إليه.
الثاني: أن يسأله عن الحكم الذي أداه إليه في هذه المسألة، ولا يقصد السائل قول فقيه معين، وحينئذ يجب على المفتي أن يفتيه بما ترجح عنده أنه أقرب إلى الكتاب والسنة، سواء وافق مذهب إمامه أو خالفه.
ولا يحل له أن يفتيه بما يغلب على ظنه أنه مخالف للحق والصواب، ولو وافق مذهب إمامه، فإنه لا يسع الحاكم والمفتي الحكم والإفتاء بغير ما يعتقد أنه الصواب، فإن الله -سبحانه- سوف يسألهما عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وما جاء به، ولا يسألهما عن الإمام وما قاله.
كما قال الله -تعالى-: { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ }  فلا يسأل أحد عن إمام ولا شيخ ولا متبوع غير الرسول -عليه الصلاة والسلام- ؛ فليعدَّ كلٌّ للسؤال جوابًا وللجواب صوابًا .
المسألة الثانية: إذا ترجح عند المفتي غير مذهب إمامه فهل يفتي به؟
هل يجوز للمفتي المنتسب إلى مذهب إمام بعينه أن يفتي بمذهب غيره إذا ترجح عنده؟ في المسألة تفصيل لا بد من بيانه لتحرير محل النزاع:
وذلك أن المفتي المنتسب إلى مذهب لا يخلو من أحد أمرين:
أحدهما: أن يكون مجتهدًا متبعًا للإمام حقيقة، بأن يكون سالكًا سبيل إمامه في الاجتهاد وطلب الدليل، فهذا له أن يفتي بما ترجح عنده وإن خالف مذهب إمامه من غير خلاف.
الثاني: وهو محل النزاع: أن يكون مجتهدًا متقيدًا بأقوال إمامه، لا يتعداها إلى غيرها، فهذا مختلف فيه:
1- فقيل: ليس له أن يفتي بقول لم يقله إمامه، فإن أراد الإفتاء بغير قوله، حكاه عن قائله حكاية محضة.
حجته: أنه متقيد بأقوال إمامه، فلا يجوز له الخروج عن مذهبه.
2- وقيل: له أن يفتي بما لم يقله إمامه.
حجته: أنه عنده قدرة على الاجتهاد، فجاز له الخروج عن مذهبه.
الترجيح: والراجح أنه يجوز له الإفتاء بقولٍ ترجح عنده بالدليل المرجح، ولو خالف قول الإمام وخرج عن قواعده، وإن لم يترجَّح عنده بالدليل، فلا يجوز له الإفتاء بما يخالف قول الإمام .
قال القفال من علماء الشافعية لو أدَّى اجتهادي إلى مذهب أبي حنيفة قلت مذهب الشافعي كذا، لكني أقول بمذهب أبي حنيفة ؛ لأن السائل إنما يسألني عن مذهب - الشافعي فلا بد أن أعرِّفه أن الذي أفتيه به غير مذهبه ا. هـ .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أكثر المستفتين لا يخطر بقلبه مذهب معين عند الواقعة التي سأل عنها، وإنما سؤاله: عن حكمها، وما يعمل به فيها، فلا يسع المفتي أن يفتيه بما يعتقد الصواب في خلافه ا. هـ .
وقال في الاختيارات: من كان متبعًا لإمام فخالفه في بعض المسائل؛ لقوة الدليل، أو لكون أحدهما أعلم وأتقى، فقد أحسن ا. هـ.
وقال في موضع آخر: بل يجب عليه، وإنَّ أحمد نصَّ عليه، ولم يقدح ذلك في عدالته بلا نزاع ا. هـ .
وهذا هو الراجح في نظري، فإنه يجب على المفتي الذي يُؤَمِّل ثواب الله، ويخاف وقوفه بين يديه -سبحانه- أن يفتي من سأله بما يعتقد أنه الصواب وإن كان خلاف مذهبه، وليحذرْ كلَّ الحذر أن تَحْمله الرياسة على أن يقتحم الفتوى، فيفتيه بمذهبه الذي يقلده، وهو يغلب على ظنه أن الصواب في خلافه، فيكون خائنًا لله ولرسوله وللسائل، وقد قال الله -تعالى-: وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ .
وقد غش السائل حينئذ والغاشّ متوعَّد بوعيد شديد، فقد ورد في الحديث: أن الله حرم الجنة على من لقيه وهو غاشٌّ للإسلام وأهله .
والغش مضادٌّ للدين كمضادة الكذب للصدق، وكمضادة الباطل للحق، وفي الحديث: الدين النصيحة ومن النصيحة إفتاء السائل بما يترجح أنه الصواب عند المفتي
 حكم المستفتِي عند رجوع المفتي عما أفتاه به

المطلب الأول:
إذا أفتى المفتي بشيء ثم رجع عنه، فهل يحرم على المستفتي العمل بما أفتاه به؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: إن علم المستفتي برجوع المفتي، ولم يكن قد عمل بما افتاه به، حَرُمَ عليه العمل به.
حجَّة هذا القول: أن ما رجع عنه ليس مذهبًا له، قياسًا على ما لو تغير اجتهاد من قلَّده في جهة القبلة في أثناء الصلاة، فإنه يتحول مع إمامه.
ونوقش هذا الدليل: بأن القياس ليس نظيرًا لمسألتنا؛ إذ أنَّ تغيُّر اجتهاد من قلده في معرفة القبلة لا يبطل ما فعله المأموم بالاجتهاد؛ وأما لزوم التحوُّل معه ثانيًا فلأن المأموم مأمور بمتابعة إمامه، ونظير مسألتنا هو: إذا تغيَّر اجتهاد مقلَّده بعد الفراغ من الصلاة، فإنه لا تلزمه إعادتها، ويصلي الثانية باجتهاده الثاني.
القول الثاني: إذا كان من أفتاه يفتي على مذهب إمام معين، ورجع لكونه قد ظهر له أنه خالف في فتواه نص مذهب إمامه، فإنه يجب نقض فتواه ويحرُم على المستفتي العمل بها.
حجة هذا القول: أن نصَّ مذهب إمام مفتي المذهب في حقه كنص الشارع في حق المفتي المجتهد المستقل ( المطلق ).
ونوقش هذا الدليل: بأن دعوى أن نص مذهب إمام مفتي المذهب في حقه كنص الشارع بالنسبة للمفتي المستقل، ممنوعة؛ لأمرين:
أحدهما: أنه لو كان نص الإمام بمنزلة نص الشارع لحرُم على المفتي وعلى غيره مخالفته، ولو خالفه لكان فاسقًا، لكنه لا يحرم عليه ذلك، ولا يكون فاسقًا بمخالفته.
الثاني: أنه لم يُعْرَف عن أحد من الأئمة أنه أوجب إبطال فتوى المفتي لكونه خالف قول فلان أو مذهب فلان، وإنما الذي يجب إبطاله ونقضه هو ما خالف كتابًا أو سنة أو إجماعًا للأمة.
7 الترجيح: والذي يترجح لي في هذه المسألة التفصيل، وأنه لا يحرم على المستفتي العمل بالفتوى الأولى بمجرد رجوعه، بل إذا علم المستفتي برجوع المفتي عن فتواه، فلا يخلو الحال من أن يكون في البلد مفت غيره أو لم يكن.
فإن لم يكن في البلد مفت غيره، فإن المستفتي يسأل المفتي عن سبب رجوعه عما أفتاه به، فإن ذكر له أنه يختار الرجوع عن الأُولى، مع تسويفه للعمل بها، لم يحرم على المستفتي العمل بالأُولى، وإن ذكر له أن سبب رجوعه خطأ ظهر له، وأن فتواه الأُولى لم تكن صوابًا لمخالفتها لدليل شرعي حرم على المستفتي العمل بها، وإن ذكر له أن سبب رجوعه عن الأُولى أنه تبيَّن له أن فتواه الأولى تخالف مذهبه فقط، لم يحرم على المستفتي العمل بما أفتاه به أولًا؛ لأن مخالفة المذهب ليس مخالفة لنص أو إجماع، وإن ذكر له أن المسألة إجماعية حرُم عليه العمل بفتواه الأولى.
وإن كان في البلد مفتٍ غيره فإنه يتوقف حتى يستفتي مفتٍ آخر، وحينئذ فلا يخلو من أن يفتيه الثاني بما يوافق الفتوى الأولى من الأول، أو بما يوافق الفتوى الثانية، فإن أفتاه الثاني بما يوافق الفتوى الأولى من الأول استمر على العمل بها، وإن أفتاه بما يوافق الفتوى الثانية من الأول، ولم يفته أحد بخلا ف فتواهما، حرُم عليه العمل بالفتوى الأولى، ووجب عليه العمل بالفتوى الثانية , وإن أفتاه أحد غيرهم بخلاف فتواهما جاز له أن يستمر على العمل بالفتوى الأولى.
وجه ترجيحه:
1- التفصيل فيه وبيان وجهة كل جزء فيه.
2- ما سبق من مناقشة أدلة القولين الأول والثاني .
المطلب الثاني:
إذا تزوج المقلِّد بفتوى مجتهد، ثم تغيَّر اجتهاد المفتي ورجع عن فتواه، فهل يجب على المقلِّد تسريح زوجته، أو يجوز له إمساكها بناء على اجتهاده الأول:
في هذه المسألة مذهبان للعلماء:
المذهب الأول: أنه يجوز له إمساكها بناء على اجتهاده الأول، ولا يجب عليه تسريحها.
حجة هذا المذهب: أن عمل المستفتى بفُتْيَا المفتى الأول جرى مجرى حكم الحاكم فلا يُنْقض , كم لا ينقض حكم الحاكم. ونوقش هذا الدليل بأنه لا بد من تقييد ذلك بما إذا لم يخالف المفتى بفتواه الأولى نصًّا أو إجماعًا، فإن خالف أحدهما، وجب عليه تسريح زوجته.
المذهب الثاني: أنه يجب عليه تسريحها ومفارقتها، ولا يجوز له إمساكها بالفتوى الأولى.
حجَّة هذا المذهب: أن حكم المقلِّد حكم مقلَّده وهو تابع له، وما رجع عنه مقلده ليس مذهبًا له، كما لو تغيَّر اجتهاد مقلَّده عن القبلة في أثناء الصلاة، فإنه يتحوَّل معه إلى الجهة الأخرى.
ونوقش هذا الدليل بما نوقش به دليل القول الأول، من مسألة الطلب الأول .
الترجيح: الذي يترجَّح لي في هذا المسألة التفصيل، وهو أنه إن كان رجوع المفتي عن فتواه لمخالفتها لنص أو إجماع، فإنه يجب على المقلِّد تسريح زوجته ومفارقتها.
أما إذا كان رجوعه عن فتواه لكونها مخالفة لمذهب إمامه، فلا يجب على المقلد مفارقة زوجته وتسريحها.
وجه ترجيحه ما يلي:
1- ما سبق من مناقشة أدلة المذهبين الأول والثاني.
2- أن عمل المقلد بفُتْيا المفتي يجري مجرى حكم الحاكم، فلا ينقض إلا إذا خالف نصًّا أو إجماعًا.
3- أن المستفتي قد دخل بامرأته دخولًا صحيحًا سائغًا، ولم يفهم ما يوجب مفارقته لها من نص أو إجماع، لا سيما إذا كان قد وافق فتواه الأولى مذهبًا آخر غير مذهبه.
4- أن مفارقة المقلِّد لزوجته يترتب عليه مضارٌّ كثيرة، من تخريب بيته، وتشتيت شمله وشمل أولاده، فكيف يوجب على الزوج ارتكاب هذه المضار لمجرد كون المفتي رجع؛ لمخالفة فتواه نص إمامه دون مخالفتها لنص أو إجماع؟ لا سيما إذا كان النص مع من خالف مذهبه .
المطلب الثالث:
" إذا أفتى المفتي بشيء ثم تغير اجتهاده، فهل يلزمه إعلام المستفتي ".
اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاث أقوال:
القول الأول: أنه لا يلزمه إعلام المستفتي.
حجة هذا القول: أن المستفتي عمل أولًا بما يسوغ له العمل به، فإذا لم يعلم بطلان ما أفتاه به لم يكن آثمًا، فهو في حلٍّ وسعة من استمراره على العمل به.
ونوقش هذا الدليل: بأنه لا بد من تقييد ذلك بما إذا لم تخالف فتواه نصًّا أو إجماعًا، فإنه حينئذ ليس في حل وسعة من استمراره على العمل بما خالف نصًّا أو إجماعًا.
القول الثاني: أنه يلزمه إعلام المستفتي.
حجة هذا القول ما يأتي:
1- أن ما رجع عنه قد اعتقد بطلانه، وقد تبيَّن له أن ما أفتاه به ليس من الدين؛ فوجب عليه إعلامه بذلك.
ونوقش: بأنه لا بد من تقييد الوجوب بما إذا خالف نصًّا أو إجماعًا، فإن خالف اجتهادًا أو مذهبًا معينًا فلا يتعيَّن عليه إعلامه.
2- ما روي من الآثار في ذلك:
( أ ) فقد رُوِيَ عن عبد الله بن مسعود أنه أفتى رجلًا بحلِّ أمِّ أمرأته التي طلقها قبل الدخول بها، ثم سافر إلى المدينة وراجع بعض الصحابة في ذلك، فتبين له أن الصواب خلاف هذا القول، فرجع إلى الكوفة وبحث عن الرجل الذي أفتاه، وفرق بينه وبين أهله.
( ب ) ما روي عن الحسن بن زياد اللؤلؤي أنه استفتي في مسألة فأفتاه، فتبين له خطأ تلك الفتوى، ولم يعرف الذي استفتاه، فأستأجر مناديًا ينادي أن الحسن بن زياد اسْتُفْتِيَ في يوم كذا وكذا في مسألة فأخطأ فيها، فمن كان أفتاه الحسن بن زياد بشيء فليُرْجِهِ إليه، ثم مكث أيامًا لا يفتي حتى جاء صاحب الفتوى، فأعلمه أن الصواب خلاف ما أفتاه.
وأجيب عن هذين الأثرين بما يأتي:
1- أما الأثر المرويُّ عن ابن مسعود فإنه محمول على أن فتواه الأولى مخالِفة للنص، فإنه لما ناظَرَ الصحابة في تلك المسألة، بيَّنوا له أن صريح الكتاب يحرم أمَّ الزوجة، ولو فارق ابنتها قبل الدخول بها؛ لكون الله -تعالى- أبهمها، فقال: وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ .
وظنَّ عبد الله -رضي الله عنه- أن قوله: اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ راجع إلى الأمهات والربائب، فبيَّن له الصحابة أنه راجع إلى الربائب خاصة، فعرف أنه الحق، فرجع إليه وفرَّق بين الزوجين، لا لأنه خالف قول فلان أو علان.
2- وأما الأثر المرويُّ عن الحسن بن زياد فإنه محمول أيضًا على أن فتواه مخالفة لنص أو إجماع، بدليل قوله: "فأخطأ فيها".
القول الثالث: أنه إن كان المستفتي قد عمل بفتواه لم يلزمه إعلام المستفتي برجوعه، وإن لم يعمل بها المستفتي لزم المفتي إعلامه برجوعه.
حجة هذا القول: أن المستفتي إذا عمل بالفتوى فإن عمله يكون بمثابة حكم الحاكم، فلا ينقض، بخلاف ما إذا لم يعمل بها.
وأجيب عنه: بأن حكم الحاكم لا ينقض إلا إذا خالف نصًّا أو إجماعًا، ولا ينقض إذا خالف اجتهادًا أو مذهبًا معينًا.
الترجيح: والذي يترجح لي في هذه المسألة أن المفتي إن كان قد رجع عن فتواه لظهور نص من كتاب أو سنة يخالفها، أو لأنها تخالف إجماع الأمة، فإنه يجب عليه إعلام المستفتي، وإن كان قد رجع عنها لمخالفتها لمذهبه أو نص إمامه، أو لأن نظره واجتهاده قد تغير، فإنه لا يجب عليه إعلام المستفتي.
وجه ترجيحه:
1- ما سبق من مناقشة أدلة الأقوال الثلاثة السابقة.
2- أنه إذا خالف النص أو الإجماع بفتواه فإنه يجب إعلام المستفتي، ويحرم عليه الاستمرار عليها لوجوب العمل بالكتاب والسنة على من بَلَغَهُ ذلك، وعدم الاستمرار على ما يخالفها