الجمعة، 16 مارس 2012

موسوعة الفقه : الإفتاء

الإفتاء .. الصفحة الأولى


هل يجب العمل بفتوى المفتي ?
إذا استفتى العامي عالمًا فأفتاه، فهل يجب على المستفتي العمل بفتواه بحيث يكون عاصيًا إن لم يعمل بها، أو لا يجب عليه العمل.
في هذه المسألة أربعة أقوال، وهي أربعة أوجه لأصحاب أحمد.
القول الأول
: لا يلزمه العمل بها إلا أن يلتزمه هو، وإن لم يشرع في العمل بها.
حجة هذا القول:
أن التزامه للعمل بها دليل على اعتقاده أحقيتها.
ونوقش ذلك بما يأتي:
1- أن هذه الدعوى ممنوعة، لجواز أن يكون التزامه لمصلحة رآها أو دفع حرج عنه.
2- سلمنا اعتقاده الأحقيَّة، فهو اعتقاد لم يكن ناشئًا عن الشرع، ولا يجب الالتزام إلا على ما أوجب الشرع التزامه.
القول الثاني:
يلزمه العمل بها إذا شَرَعَ في العمل، ولا يلزمه إذا لم يَشْرع.
حجة هذا القول:
أنه إذا شرع في العمل بها فقد ألزم نفسه بها، وهذا يدل على اعتقاده أحقيتها.
ونوقش هذا الدليل بما نوقش به دليل القول الأول.
القول الثالث:
إن وقع في قلبه صحة فتواه، وأنها حق لزمه العمل بها، وإلا فلا.
حجة هذا القول:
أنه إذا وقع في قلبه صحته فقد اعتقد أحقيتها فلزمه العمل بها.
ونوقش هذا الدليل بما نوقش به دليل القول الأول والثاني.
القول الرابع:
التفصيل فيما إذا وجد مفتيًا غيره أو لم يجد.
فإذا لم يجد مفتيا آخر لزمه الأخذ بفتياه والعمل بها.
وجه ذلك:
أن فرض العامي التقليد وتقوى الله ما استطاع، وهذا هو المستطاع في حقه، وهو غاية ما يقدر عليه.
وإن وجد مفتيًا آخر فلا يلزمه العمل بقول المفتي الأول، وإنما هو بالخيار بين الأخذ بقول الأول واستفتاء الثاني، فإن استفتى الثاني فلا يخلو: إما أن يوافق بفتواه فتوى الأول أو يخالفه.
وجه ذلك:
أن موافقة الثاني للأول أبلغ في لزوم العمل، وأوجب من انفراد الأول.
وإن خالف الثاني الأول في فتواه فلا يخلو: إما أن يتبيَّن له الحق في إحدى الفُتياوين، أو لا.
فإن استبان له الصواب في إحداهما لزمه العمل بها.
وإن لم يستبن له لصواب في إحداهما فاختلف في ذلك، فقيل:
( ا ) يأخذ بالأرشد؛ لأن الحق شديد وثقيل.
( ب ) يأخذ بالأسهل؛ لأن الشريعة سهلة وميسرة.
( جـ ) يتخير في إحداهما؛ لتساوي المفتيين في التصدر للإفتاء.
( د ) يتوقف فيهما؛ لعدم تبين الصواب له منهما.
( هـ ) يأخذ بالأحوط؛ ولعل هذا هو الأرجح، لبعد المحتاط عن الخطأ.
الترجيح:
بعد ذكر الأقوال في هذه المسألة ومستند كل قول، يترجح لنا  القول الرابع منها.
ووجه ترجيحه:
1- ما سبق من التفصيل فيه ووجهة كل جزء منه.
2- ما سبق من مناقشة ما استند إليه كل قول من الأقوال الثلاثة الأولى في المسألة

 أقسام المُسْتَفْتِي
المُسْتَفْتِي لا يخلو بالقسمة العقلية من واحد من أربعة أقسام:
القسم الأول: أن يكون عالمًا قد بلغ رتبة الاجتهاد، واجتهد في المسألة، وأداه اجتهاده إلى حكم من الأحكام.
القسم الثاني: أن يكون عالمًا قد بلغ رتبة الاجتهاد، ولم يجتهد في المسألة.
القسم الثالث: أن يكون عاميًا صِرْفًا، لم يحصل على شيء من العلوم.
القسم الرابع: أن يكون قد ترقى عن رتبة العامة بتحصيل بعض العلوم المعتبرة في الاجتهاد.
حكم كل قسم من الأقسام السابقة:
القسم الأول: وهو ما إذا كان المُسْتَفْتِي عالمًا قد بلغ رتبة الاجتهاد، واجتهد في المسألة، وأداه اجتهاده إلى حكم من الأحكام، فهذا لا يجوز له تقليد غيره من المجتهدين في خلاف ما أوجبه ظنه، وتَرْك ظنه في ما أداه إليه اجتهاده بلا نزاع بين العلماء .
أما القسم الثاني: وهو ما إذا كان المُسْتَفْتِي عالمًا قد بلغ رتبة الاجتهاد، بحيث لو بحث في المسألة أدَّاه اجتهاده إلى حكم من غير حاجة إلى تعب كثير، لكنه لم يجتهد في المسألة، فهل يجوز له استفتاء غيره وتقليده، أم يجب عليه الاجتهاد؟ وقبل الدخول والخوض في خلاف العلماء في هذه المسألة لا بد من تحرير محل النزاع.
1- اتَّفق العلماء على أن المجتهد إذا اجتهد فغلب على ظنه الحكم، لا يجوز له تقليد غير واستفتاؤه، كما سبق ذكر ذلك آنفًا في القسم الأول.
2- واتفق الجمهور على أن العامي له تقليد المجتهد، كما سبق تحقيق ذلك في الباب الأول .
ومحل النزاع:
مجتهد عنده استطاعة، تكاسل ولم يجتهد، بل قلد غيره؛ اعتمادًا عليه، وهو أهل للاجتهاد - هل يجوز له ذلك أم لا؟.
في المسألة سبعة مذاهب للعلماء :
المذهب الأول: لا يجوز للمجتهد قبل البحث أن يقلد غيره مطلقًا، صحابيًا أو تابعيًا أو غيرهما، أعلم منه أو مساويًا أو أدنى، عند ضيق الوقت أو سعته، في عمله أو إفتائه، وهو مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما.
المذهب الثاني: يجوز للمجتهد قبل البحث أن يقلد غيره مطلقًا، صحابيًا أو تابعيًا أو غيرهما، أعلم منه أو مساويًا أو أدنى، عند ضيق الوقت أو سعته، في عمل أو إفتائه، ونسب هذا إلى الإمام أحمد ولكن نسبته غير صحيحة .
المذهب الثالث: يجوز للمجتهد قبل البحث تقليد الصحابي دون من بعده.
المذهب الرابع: يجوز للمجتهد قبل البحث تقليد الصحابي أو التابعي دون من بعدهما.
المذهب الخامس: يجوز للمجتهد قبل البحث تقليد الأعلم دون المساوي والأدنى، وهو قول محمد بن الحسن .
المذهب السادس: يجوز للمجتهد قبل البحث تقليد غيره عند ضيق الوقت لا في سعته.
المذهب السابع: يجوز للمجتهد قبل البحث تقليد غيره في عمله خاصة، دون إفتائه، وهو قول بعض أهل العراق.

وسوف لا نذكر إلا حجج المذهبين الأول والثاني؛ لقوتهما دون المذاهب الأخرى:
أدلة المذهب الأول: القائلين بالمنع من تقليد المجتهد قبل البحث لغيره مطلقًا، وهي أدلة نقلية ودليل عقلي، أما الأدلة النقلية:
الأول: قوله -تعالى-: { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } .
ووجه الاستدلال:
أن الله -تعالى- أمر أولي الأبصار بالاعتبار، والمجتهد -الذي لم يبحث- من أولي الأبصار فهو مأمور بالاعتبار، وتقليد العالم للعالم يلزم منه ترك الاعتبار، فيكون غير جائز.
الدليل الثاني: قوله -تعالى-: {  وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } .
ووجه الدلالة:
أن الله أخبر أنه لو رُدَّت الأمور التي تنزل بالناس إلى أولي الأمر - وهم العلماء - لعلم حكمها من يقدر على الاستنباط، والمجتهد -الذي لم يبحث- من العلماء القادرين على الاستنباط، وتقليده لعالم آخر يلزم منه تركه للاستنباط مع قدرته عليه، وردّه الأمر إلى غيره، مع أنه مردود إليه، فيكون غير جائز.
الدليل الثالث: {  قوله -تعالى-: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ }  .
ووجه الاستدلال:
أن الله -تعالى- أنكر على من لم يتدبَّر، والمجتهد الذي لم يبحث قادر على التدبر، وتقليده لعالم آخر يلزم منه ترك التدبر، فيكون غير جائز.
الدليل الرابع: قوله -تعالى-:{ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ }  .
ووجه الدلالة:
أن الله -تعالى- أمر برد المتنازع فيه إلى الكتاب والسنة، والمجتهد الذي لم يبحث قادر على الرد إليهما، وتقليده لعالم آخر يلزم منه ترك الرد إليهما، فيكون غير جائز.
الدليل الخامس: قوله -تعالى-: { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } .
ووجه الاستدلال:
أن الله -تعالى- أمر بالعمل بحكمه عند الاختلاف، وتقليد المجتهد الذي لم يبحث لعالم آخر يلزم منه ترك العمل بحكم الله، فيكون غير جائز.
الدليل السادس: قوله -تعالى-:{ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } .
ووجه الدلالة:
أن الله أمر باتباع المنزَّل، والمجتهد الذي لم يبحث قادر على الاتباع، وتفليده لعالم آخر يلزم منه ترك اتباع المنزل، فيكون غير جائز.
الدليل السابع: قوله -تعالى-: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ .
ووجه الاستدلال:
أن الله نهى المسلم عن اقتفاء ما ليس له به علم، وتقليد المجتهد الذي لم يبحث لعالم آخر اقتفاء لما ليس له به علم، فيكون منهيًا عنه.
وأما الدليل العقلي فهو: القول بجواز التقليد لمن لا تثبت عصمته، ولا تعلم إصابته حكمًا شرعيًا لا يثبت إلا بدليل من نص أو قياس، والأصل عدم ذلك الدليل، فلا نصَّ ولا قياس إلا في حق العامي مع المجتهد، ولا يلزم من جواز ذلك في حق العامي العاجز عن التوصل إلى تحصيل مطلوبه من الحكم جواز ذلك في حق القادر على الاجتهاد والاستنباط، لما بينهما من الفرق، فإن العامي عاجز عن تحصيل العلم والظن بنفسه، والمجتهد قادر، فلا يتفقان في الحكم.
أدلة المذهب الثاني: القائلين بجواز تقليد المجتهد قبل البحث لغيره مطلقًا، وهي من النقل، والعقل، والأثر.
أدلتهم النقلية:
الأول: قوله -تعالى-: {  فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } .
ووجه الدلالة:
أن الله أمر من لا يعلم بسؤال أهل الذكر، وأدنى درجات الأمر جواز اتباع المسئول، والمجتهد الذي لم يبحث لم يكن من أهل العلم في هذه المسألة فواجبه السؤال، ويلزم منه جواز التقليد.
وأجاب أهل المذهب الأول عن هذا الدليل بجوابين:
أحدهما: أن المراد بأهل الذكر أهل العلم والمخاطب بالأمر بالسؤال العوام فالآية تأمر العامة بسؤال العلماء ؛ إذ ينبغي أن يتميز السائل عن المسئول، والمجتهد الذي لم يبحث من أهل العلم فهو مسئول وليس بسائل، ولا يخرج عن العلماء بكون المسألة غير حاضرة في ذهنه، إذ المراد بالعالم المتمكن من تحصيل العلم بأهليته فيما يسأل عنه، لا من هو عالم بالمسألة المسئول عنها بالفعل، فإن أهل الشيء تطلق في اللغة على من هو متأهّل لذلك الشيء لا من حصل له ذلك الشيء، والأصل تنزيل اللفظ على ما هو حقيقة فيه، فتختص الآية بسؤال من ليس من أهل العلم كالعامي لمن هو أهل له.
الثاني: يحتمل أن يكون معنى الآية: اسألوا، أيها المجتهدون ؛ لتعلموا، أي سلوا عن الدليل ليحصل العلم، لا عن الحكم ليحصل التقليد، ونظيره قولهم: كل لتشبع واشرب لتَرْوَ، أي كل ليحصل الشبع، واشرب ليحصل الري.
الدليل الثاني: قوله -تعالى-: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } .
ووجه الاستدلال:
أن الله -تعالى- أمر بطاعة أولي الأمر - وهم العلماء - والمجتهد الذي لم يبحث في المسألة غير عالم فيها، فيكون مأمورًا بطاعة العالم فيها، وأدنى درجات الطاعة جواز اتباعه وتقليده.
وأجاب أهل المذهب الأول عن هذا الدليل بجوابين:
أحدهما بالمنع: فليس المراد بأولي الأمر العلماء بل المراد بهم الولاة والحكام ؛ لوجوب طاعتهم على الرعية، لا العلماء ؛ إذ لا يجب على المجتهد طاعة المجتهد الثاني بالتسليم: سلمنا أن المراد بأولي الأمر العلماء فالطاعة واجبة على العوام والمجتهد الذي لم يبحث من العلماء وليس من العوام فلا تجب عليه الطاعة.
وأما استدلالهم العقلي:
فقالوا: إن المجتهد قبل البحث لا يقدر باجتهاده على غير الظن، واتباعه لغيره فيما ذهب إليه مفيد للظن، وظن غيره كظنه، والظن معمول به في الشرعيات، فكان تقليده لعالم آخر جائزًا.
وناقش أهل المذهب الأول هذا الدليل: بأننا نسلّم أن المجتهد لا يقدر على غير الظن، لكن مع كونه لا يقدر على غير الظن، فإنه إذا اجتهد وحصل ظنه لم يجز له اتباع ظن غيره، وتقليده في خلاف ما أدى إليه اجتهاده إجماعًا؛ لأن ظنه أصل، وظن غيره بدل، ولو جاز له التقليد مع قدرته على البحث والاجتهاد لكان ذلك بدلًا من اجتهاده.
والأصل أنه لا يجوز العدول إلى البدل مع إمكان تحصيل المبدل، وإذا لم يجز العدول إلى البدل -وهو ظن غيره من المجتهدين - مع وجود المبدل -وهو ظنه باجتهاده- لم يجز له التقليد مع القدرة على الاجتهاد، كسائر الأبدال والمبدلات، إلا أن يَرِدَ نص بالتخيير فترتفع البدلية، أو يرد نص بأنه بدل عند العدم لا عند الوجود، كما في بنت المخاض وابن اللبون في زكاة خمس وعشرين من الإبل، فإن وجود بنت مخاض يمنع من أداء ابن لبون، ولا يمنع ذلك عند عدمها، لكن الأصل عدم ذلك النص.
وأما استدلالهم بالأثر:
فقالوا: لم ينقل عن طلحة والزبير ونظرائهما من الصحابة كسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وهم أهل الشورى، نظر في الأحكام مع ظهور الخلاف، وهذا يدل على أنهم أخذوا بقول غيرهم، فدل على جواز تقليد المجتهد الذي لم يبحث لمن بحث وعلم.
وناقش أهل المذهب الأول هذا الدليل: بأن هؤلاء الصحابة الذين ذكرتم كانوا لا يفتون اكتفاء بغيرهم من الصحابة وأما علمهم لأنفسهم فلم يكن إلا بما عرفوه من الكتاب، وبما سمعوه من النبي -صلى الله عليه وسلم- ، فإن وقعت واقعة أشكلت عليهم ولم يعرفوا دليلها، شاروا غيرهم لتعرف الدليل، لا التقليد.
الترجيح:
بعد ذكر المذاهب وسياق الأدلة من الجانبين يتبين لي أن الراجح هو المذهب الأول، وهو القول بأنه لا يجوز تقليد المجتهد قبل البحث لغيره مطلقًا.
ووجه ترجيحه: ما سبق من مناقشة أدلة القائلين بجواز تقليد المجتهد قبل البحث لغيره مطلقٌا .
وأما القسم الثالث:
وهو أن يكون المستفتِي عاميًا صرفًا لم يحصل على شيء من العلوم، فهذا لا يجوز له تقليد المجتهد بل يجب عليه، كما هو رأي جمهور العلماء .
وأما القسم الرابع:
وهو أن يكون المستفتِي قد ترقى عن رتبة العامة بتحصيل بعض العلوم المعتبرة في رتبة الاجتهاد، فهو متمكن من الاجتهاد في بعض المسائل، ولا يقدر على الاجتهاد في البعض الآخر إلا بتحصيل علم على سبيل الابتداء، كالنحو في مسألة نحوية، وعلم صفات الرجال في مسألة خبرية، فهو يشبه العامي ويشبه المجتهد، فهذا القسم الأرجح فيه أنه كالعامي فيما لم يحصل عليه فيقلد فيه، وكالمجتهد فيما وصل إليه بالاجتهاد، فلا يقلد فيه
 اختيار المستفتِي للمفتي وبما يعرف أنه أهل للفُتْيَا، وحكم استفتاء مجهول الحال
قبل الدخول في الخلاف في هذه المسألة، نحرّر محل النزاع، ونذكر العلامات التي بها يَعرف المستفتِي أهلية من يريد استفتاءه للفتوى، ثم نبين محل النزاع:
القائلون بموجب الاستفتاء على العامي - وهم الجمهور - اتفقوا على أمور:
1- اتفقوا على جواز استفتاء العامي لمن عُرف بالعلم والفضل وأهلية الاجتهاد والعدالة.
2- اتفقوا على منع استفتاء العامي وتقليده لمن عرف بالجهل أو الفسق أو بهما معًا؛ لأن سؤاله تضييع لأحكام الشريعة.
و يَعرف المستفتي أهلية من يستفتيه للفتوى بإحدى العلامات التالية:
( أ ) أن يراه منتصبًا للفتوى بمشهد من أعيان العلماء .
( ب ) أن يرى إجماع الناس على سؤاله وأخذهم عنه.
( جـ ) أن يتواتر بين الناس أو يستفيض كونه أهلًا للفتوى
العمل إذا حدثت للمفتي حادثة ليس فيها قول لأحد العلماء
اختلف العلماء هل يجوز للمفتي والحاكم الإفتاء والحكم بالاجتهاد في الحادثة التي ليس فيها قول لأحد العلماء ؟ على ثلاثة آراء: الأول: أنه يجوز له الإفتاء والحكم.
حجة هذا الرأي:
1- قوله -صلى الله عليه وسلم-: إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر .
ووجه الدلالة: أن الحديث عامٌّ يشمل ما اجتهد فيه مما عرف فيه أقوالًا لمن قبله واجتهد في الصواب منها، وما اجتهد فيه مما لم يعرف فيه قولًا لمن سبقه.
2- أن الاجتهاد في الحادثة التي لا يوجد فيها قول لمن سبق دَرَجَ عليه السلف والخلف وعليه تدل فتاوى الأئمة وأجوبتهم، فإنهم كانوا يُسألون عن حوادث لم تقع قبلهم فيجتهدون فيها، والواقع شاهد بذلك، فعند التأمل يوجد مسائل كثيرة واقعة وهي غير منقولة.
3- أن الحاجة داعية إلى الاجتهاد، لكثرة الوقائع واختلاف الحوادث، والمنقول عن السابقين -مهما اتسع- لا يفي بوقائع العالم جميعًا.
الرأي الثاني: لا يجوز له الإفتاء والحكم، بل يتوقف في المسألة حتى يظفر فيها بقول لمن سبق.
حجة هذا الرأي: ما قاله الإمام أحمد لبعض أصحابه: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام .
الرأي الثالث: التفرقة بين مسائل الأصول ومسائل الفروع، فيجوز الإفتاء والحكم في مسائل الفروع دون مسائل الأصول.
حجة هذا الرأي: أن مسائل الفروع تتعلق بالعمل وتشتدّ الحاجة إليها، والخطر فيها أسهل من غيرها، بخلاف مسائل الأصول فلا تتعلق بالعمل ولا تشتدّ الحاجة إليها، والخطر فيها أشدّ من غيرها.
الترجيح: بعد ذكر الآراء في المسألة، وحجة كل رأي، يتبيَّن لي أن الراجح في المسألة: الجواز، بشرطين:
1- أن تدعو الحاجة إلى الاجتهاد.
2- أن يكون المفتي أو الحاكم أهلًا للاجتهاد.
أما إذا لم تَدْعُ الحاجة إلى الاجتهاد، أو كان المفتي أو الحاكم ليس أهلًا للاجتهاد، فلا يجوز
المجتهد المطلق المفتى


إما أن يكون مجتهدًا مطلقًا، وإما أن يكون مجتهدًا مقيدًا، ويقال له مجتهد المذهب.
 المجتهد المطلق:
في ما يشترط فيه وما لا يشترط فيه.
فإن كان المفتي مجتهدًا مطلقًا متصديًا للحكم والفتوى في جميع مسائل الفقه، فيشترط فيه ما يأتي:
1- أن يكون عارفًا بالأدلة العقلية، كأدلة حدوث العالم، وأن له صانعًا، وأنه واحد، متصف بصفات الكمال والجلال، منزه عن صفات النقص والخَلَل، وأنه واجب الوجود لذاته، حتى يُتَصور منه التكليف.
2- وأن يكون مصدقًا بالرسول، وما جاء به من الشرع المنقول عن الله، وأن الله أيده بالمعجزات الدالة على صدقه في رسالته، وتبليغه للأحكام الشرعية؛ ليكون فيما يسنده إليه من الأقوال والأحكام محققًا.
3- أن يكون عالمًا بمدارك الأحكام الشرعية، من كتاب وسنة وإجماع واستصحاب وقياس، ووجوه دلالاتها على مدلولاتها، واختلاف مراتبها، والشروط المعتبرة فيها، ومعرفة الراجح منها عند ظهور التعارض، وتقديم ما يجب تقديمه منها، كتقديم النص على القياس، وكيفية استثمار الأحكام منها، قادرًا على تحريرها وتقريرها، والإجابة عن الاعتراضات الواردة عليها.
4- أن يكون عالمًا بالناسخ والمنسوخ، ومواضع الإجماع والاختلاف، ويكفي في ذلك أن يعلم أن ما يستدل به ليس منسوخًا، وأن المسألة التي يبحث فيها ليست من واقع الإجماع.
5- أن يكون عارفًا بما يصلح للاحتجاج به من الأحاديث من أنواع الصحيح والحسن، والتمييز بين ذلك وبين الضعيف الذي لا يحتج به، بأن يكون عارفًا بالرواة وطرق الجرح والتعديل.
6- أن يكون عارفًا بأسباب النزول، عالمًا باللغة والنحو، ويكفيه من ذلك ما تيسر به فهم خطاب العرب، بحيث يميّز بين دلالات الألفاظ، من المطابقة والتضمن والالتزام والمفرد والمركب، والكلّي والجزئي، والحقيقة والمجاز، والتواطؤ والاشتراك، والترادف، والتباين، والنص والمظاهر، والعام والخاص، والمطلق والمقيَّد، والمنطوق والمفهوم، والاقتضاء والإشارة والتنبيه والإيماء.
7- أن يكون عارفًا بكيفية إقامة الأدلة ونصبها وشروطها.
8- أن يكون عدلًا ثقة، حتى يوثق به فيما يخبر عنه من الأحكام الشرعية.
ما لا يشترط فيه:
1- لا يشترط فيه أن يكون عارفًا بدقائق علم الكلام، متبحرًا فيه كالمشاهير من المتكلمين، بل يشترط أن يكون عارفًا بما يتوقف عليه الإيمان كما سبق.
2- ولا يشترط في معرفة الكتاب معرفة كل الكتاب، بل معرفة ما يتعلق منه بالأحكام، ولا يشترط حفظ آيات الأحكام، بل يكفي علم مواضعها في المصحف، ومعرفة موقع ما يحتاج إليه في المسألة التي يبحث فيها.
3- ولا يشترط في معرفة السُّنَّة معرفة كل الأحاديث، بل معرفة أحاديث الأحكام، ولا يشترط حفظ أحاديث الأحكام، بل يكفي معرفة مواقع أحاديث الأحكام، ومعرفة موقع ما يحتاج إليه في المسألة التي يبحث فيها، ومعرفة صحة الحديث الذي يعتمد عليه في المسألة التي يبحث فيها.
4- ولا يشترط معرفة تفاريع الفقه؛ لأنها مما ولَّده المجتهدون بعد حيازة منصب الاجتهاد.
5- ولا يشترط أن يكون في اللغة كالأصمعي وفي النحو كسيبويه والخليل بأن يعرف دقائق العربية والتصريف، بل يكفي من ذلك ما يعرف به أو ضاع العرب والجاري من عاداتهم في المخاطبات.
ما يستحب له:
ويستحب للمفتي أن يكون قاصدًا للإرشاد وهداية العامة، لا بجهة الرياء والسمعة متصفا بالسكينة والوقار؛ ليرغب المستمع في قبول ما يقوله، كافًا نفسه عمَّا في أيدي الناس، حَذِرًا من التنفير عنه .
حكم فتوى المجتهد المطلق بمذهب غيره من الناس
هل يجوز للمجتهد أن يفتي مَن سأله عن مذهب رجل معين؟
إذا سُئل المجتهد المطلق عن مذهب رجل معين في مسألة فلا يخلو من أن يكون هذا المذهب صوابًا أو غير صواب، فإن كان صوابًا جاز نقله له مطلقًا، وإن كان هذا الرأي أو المذهب غير صواب جاز نقله له بشرط أن يقول بعد ذلك مقالا يصرح به أو يلوح أن الحق خلاف ذلك، لا سيما إذا كان يعرف أن السائل سيعتقد ذلك الرأي أو المذهب المخالف للصواب؛ لأمرين:
1- أن في نقل هذا العالم لذلك المذهب المخالف للصواب، وسكونه عنه، إيهام بأنه حق، وفي هذا مفسدة عظيمة.
2- ولأن الله -تعالى- أخذ على العلماء البيان للناس في قوله -تعالى-:   { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ وقال -تعالى- في وعيد الكاتمين: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ }  .
فإن كان يخشى على نفسه من بيان فساد ذلك المذهب؛ فليَدَعِ الجواب ويحيل على غيره، فإن لم يسأله عن شيء يجب عليه بيانه، فإن ألجأته الضرورة، ولم يتمكن من التصريح بالصواب، فعليه أن يصرح تصريحًا لا يبقى معه شك لمن يقف عليه أن هذا مذهب فلان أو رأي فلان، الذي سأل عنه السائل ولم يسأل عن غيره
تعريف المجتهد وشروطه
هو الذي يستنبط الأحكام من أدلتها بناء على قواعد إمام مذهبه، ويستخرج الوجوه من الروايات المنصوصة عن إمامه.
فلا بد له من شرطين:
الأول: معرفة قواعد الإمام، بحيث يكون مطلعًا على مأخذ المجتهد المطلق الذي يقلده.
الثاني: القوة على استخراج ما يشبه ما نص عليه من الأحكام، بحيث يكون قادرًا على التفريع على قواعد إمامه وأقواله، متمكنًا من الفرق والجمع والنظر والمناظرة في ذلك
فتوى مجتهد المذهب بقول إمامه
اختلف العلماء فيما إذا كان الرجل مجتهدًا في مذهب إمام، ولم يكن مستقلًا بالاجتهاد: هل له أن يفتي بقول ذلك الإمام؟
على قولين:
هما وجهان لأصحاب الشافعي وأحمد .
القول الأول:
يجوز له أن يفتي بقوله لما يأتي:
1- أن متَّبِعه مقلِّد للميت لا له، وإنما له مجرد النقل عن الإمام.
2- ولوقوع ذلك في الأعصار متكررًا شائعًا من غير إنكار.
القول الثاني:
لا يجوز له أن يفتي بقوله لما يأتي:
1- أن المسائل مقلد له لا للميت، فكأن السائل يقول: أنا أقلدك فيما تفتيني به. والحال أنه لم يجتهد له.
2- ولانتفاء وصف الاجتهاد المطلق عنه.
الترجيح:
والذي يترجح في هذه المسألة أن هذا فيه تفصيل يختلف باختلاف حال المسائل، فإنه إن كان السائل يطلب الحق ويريد حكم الله -تعالى- في المسألة فإنه يجب على المفتي أن يجتهد له، ولا يجوز له أن يفتيه بقول الإمام من غير معرفة بأنه حق أو باطل، وتكون التَّبِعة حينئذ على المفتي.
وإن كان السائل يطلب مذهب الإمام، ويقول: أريد أن أعرف قول الإمام ومذهبه في هذه الحادثة، فإنه يجوز له أن يفتيه بقول الإمام، ويكون حينئذ مخبرًا وناقلًا فقط، وتكون التبعة على السائل
 حكم فتوى المنتسب إلى إمام بالقول الذي رجع عنه إمامه
" هل للمفتي أن يفتي بالقول الذي رجع عنه إمامه ؟ ".
يجوز للمفتي المنتسب إلى مذهب أن يفتي بالقول الذي صرح إمامه بالرجوع عنه إذا ترجح عنده؛ وذلك لأن القول الذي قال به الإمام أولًا ثم رجع عنه بمنزلة ما لم يقله، ولا يخرجه ذلك عن التمذهب بمذهبه، فإن أتباع الأئمة كثيرًا ما يفتون بأقوالهم القديمة التي رجعوا عنها، ومن أمثلة ذلك:
1- الأحناف يفتون بلزوم المنذورات التي مخرجها مخرج اليمين كالحج والصوم والصدقة، مع أنهم حكوا عن أبي حنيفة أنه رجع قبل موته بثلاثة أيام إلى التكفير.
2- الحنابلة يفتي كثير منهم بوقوع طلاق السكران، مع أن الإمام أحمد صرح بالرجوع عنه إلى عدم الوقوع.
3- الشافعية يفتون بالمذهب القديم بعدم استحباب قراءة السورة في الركعتين الأخيرتين.
وهذا كله يبين أن أهل العلم لا يتقيدون بالتقليد المحض، الذي يتركون من أجله قول كل من خالف من قلدوه، وهي طريقة مذمومة، مخالفة للصواب، حادثة في الإسلام، مستلزمة لأنواع من الخطأ، وهي ناشئة عن التعصب لمذهب معين وإمام معين
في حكم فتوى مجتهد المذهب بمذهب غير إمامه من المجتهدين
هل يجوز لمجتهد المذهب الفتوى بمذهب غيره من المجتهدين ؟
اختلف العلماء هل يجوز لمجتهد المذهب، الذي لم يستقل بالاجتهاد، أن يفتي بمذهب غيره من المجتهدين على قولين:
القول الأول: أنه لا يجوز له الفتوى، وإلى هذا ذهب أبو الحسين البصري وجماعة من الأصوليين .
حجة هذا القول:
1- أنه إنما يسأل عمَّا عنده لا عما عند غيره.
2- ولأنه لو جازت الفتوى بطريق الحكاية عن مذهب الغير لجاز ذلك للعامي، وهذا مخالف للإجماع.
القول الثاني: أنه يجوز له الفتوى إذا ثبت ذلك عنده بنقل من يوثق بقوله.
حجة هذا القول: أنه إذا ثبت عنده مذهب غيره بالنقل الموثوق به تساوى عنده هذا المذهب بمذهبه؛ وبما أنه يجوز له أن يفتي بمذهبه، فكذلك يجوز له الإفتاء بمذهب غيره المساوي له.
الترجيح: والذي يترجح لي أنه إذا وجدت فيه شروط مجتهد المذهب، وهي:
1- معرفة قواعد إمام المذهب المُفْتَى به.
2- والقدرة على التفريع على قواعد هذا الإمام.
جاز الفتوى تمييزًا له عن العامي.
ووجه الترجيح: أنه بتحقق هذه الشروط أصبح أهلًا للإفتاء بمذهب الغير، كما هو أهل للإفتاء بمذهبه
 ما العمل إذا حدثت للمفتي حادثة ليس فيها قول لأحد العلماء ؟
اختلف العلماء هل يجوز للمفتي والحاكم الإفتاء والحكم بالاجتهاد في الحادثة التي ليس فيها قول لأحد العلماء ؟
على ثلاثة آراء:
الأول: أنه يجوز له الإفتاء والحكم.
حجة هذا الرأي:
1- قوله -صلى الله عليه وسلم-: إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر .
ووجه الدلالة: أن الحديث عامٌّ يشمل ما اجتهد فيه مما عرف فيه أقوالًا لمن قبله واجتهد في الصواب منها، وما اجتهد فيه مما لم يعرف فيه قولًا لمن سبقه.
2- أن الاجتهاد في الحادثة التي لا يوجد فيها قول لمن سبق دَرَجَ عليه السلف والخلف وعليه تدل فتاوى الأئمة وأجوبتهم، فإنهم كانوا يُسألون عن حوادث لم تقع قبلهم فيجتهدون فيها، والواقع شاهد بذلك، فعند التأمل يوجد مسائل كثيرة واقعة وهي غير منقولة.
3- أن الحاجة داعية إلى الاجتهاد، لكثرة الوقائع واختلاف الحوادث، والمنقول عن السابقين -مهما اتسع- لا يفي بوقائع العالم جميعًا.
الرأي الثاني: لا يجوز له الإفتاء والحكم، بل يتوقف في المسألة حتى يظفر فيها بقول لمن سبق.
حجة هذا الرأي:
ما قاله الإمام أحمد لبعض أصحابه: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام .
الرأي الثالث: التفرقة بين مسائل الأصول ومسائل الفروع، فيجوز الإفتاء والحكم في مسائل الفروع دون مسائل الأصول.
حجة هذا الرأي: أن مسائل الفروع تتعلق بالعمل وتشتدّ الحاجة إليها، والخطر فيها أسهل من غيرها، بخلاف مسائل الأصول فلا تتعلق بالعمل ولا تشتدّ الحاجة إليها، والخطر فيها أشدّ من غيرها.
الترجيح:
بعد ذكر الآراء في المسألة، وحجة كل رأي، يتبيَّن لي أن الراجح في المسألة: الجواز، بشرطين:
1- أن تدعو الحاجة إلى الاجتهاد.
2- أن يكون المفتي أو الحاكم أهلًا للاجتهاد.
أما إذا لم تَدْعُ الحاجة إلى الاجتهاد، أو كان المفتي أو الحاكم ليس أهلًا للاجتهاد، فلا يجوز
 حكم إفتاء المتفقِّه القاصر وتقليده
هل يجوز للمقلِّد تقليد المتفقِّه القاصر عن معرفة الكتاب والسنة ؟
إذا تفقَّه رجل، وقرأ بعض كتب الفقه، لكنه قاصر عن معرفة الكتاب والسنة وآثار السلف والاستنباط والترجيح، فهل يسوغ تقليده في الفتوى أم لا؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على أربعة أقوال:
القول الأول: المنع من تقليده مطلقًا، وجد مجتهد غيره أو لم يوجد، وسواء كان مطلعًا على مأخذ من يفتي بقوله أو لم يكن كذلك.
مستنَد هذا القول: أنَّ من لا يعرف الكتاب والسنة وآثار السلف والاستنباط والترجيح بمنزلة العامي، فلا يجوز تقليده، وإن قرأ بعض كتب الفقه.
القول الثاني: جواز تقليده مطلقًا، وجد مجتهد غيره أم لا، سواء كان مطلعًا على مأخذ من يفتي بقوله أو لم يكن كذلك.
مستند هذا القول: أنه قد تفقَّه، وعرف كلام الفقهاء وما استندوا إليه، وما استدلُّوا به، وهذا يخرجه عن العامية المانعة من تقليده، وإن لم يكن قادرًا على الاستنباط والترجيح.
القول الثالث: جواز تقليده إن كان مطلعًا على مأخذ من يفتي بقوله، وعدم جوازه إن لم يكن مطلعًا على مأخذه.
مستند هذا القول: أنه إن كان مطلعًا على مأخذ إمامه يكون عالمًا بما يستند إليه من حجة، فيكون بمنزلة العالم المجتهد، فيجوز تقليده، بخلاف ما إذا لم يكن مطلعًا على مأخذه فلا يكون له علم بما استند إليه إمامه، فيكون بمنزلة العامي فلا يجوز تقليده.
القول الرابع: جواز تقليده إذا لم يوجد المجتهد، وعدم جواز تقليده مع وجود المجتهد.
مستند هذا القول: أنه عند عدم المجتهد وفقده تكون هناك حاجة إلى تقليده، بخلاف ما إذا وجد المجتهد فلا حاجة إليه.
الترجيح: والذي يترجَّح لي من هذه الأقوال هو القول الرابع، وهو: أنه إن كان السائل المقلِّد يمكنه أن يصل إلى عالم غيره يفتيه بما تيَّقن به الصواب، لم يجز له استفتاؤه، ولا يحل لهذا المتفقِّه أن يتصدر للفتوى مع وجود هذا العالم، وإن لم يمكنه أن يصل إلى عالم غيره يسأله بحيث لا يوجد، جاز له استفتاؤه وتقليده في الفتوى.
وجه ترجيحه:
1- أن الله -تعالى- قال: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وتقليد المتفقِّه عند عدم وجود عالم مجتهد غيره هو الذي يستطيعه العامي من تقواه التي أمر بها، ولا يستطيع غير ذلك.
2- أن تقليد المتفقِّه عند عدم المجتهد أولى من أن يُقْدِم العامي على العمل بلا علم، أو البقاء في حيرة وتردد، على جهل وعمى
اختيار المستفتِي للمفتي وبما يعرف أنه أهل للفُتْيَا، وحكم استفتاء مجهول الحال
تحرّر محل النزاع، ونذكر العلامات التي بها يَعرف المستفتِي أهلية من يريد استفتاءه للفتوى،
محل النزاع، :
القائلون بموجب الاستفتاء على العامي - وهم الجمهور - اتفقوا على أمور:
1- اتفقوا على جواز استفتاء العامي لمن عُرف بالعلم والفضل وأهلية الاجتهاد والعدالة.
2- اتفقوا على منع استفتاء العامي وتقليده لمن عرف بالجهل أو الفسق أو بهما معًا؛ لأن سؤاله تضييع لأحكام الشريعة.
و يَعرف المستفتي أهلية من يستفتيه للفتوى بإحدى العلامات التالية:
( أ ) أن يراه منتصبًا للفتوى بمشهد من أعيان العلماء.
( ب ) أن يرى إجماع الناس على سؤاله وأخذهم عنه.
( جـ ) أن يتواتر بين الناس أو يستفيض كونه أهلًا للفتوى.
( د ) أن يبدو منه ويظهر عليه سمات الدين والخير والستر.
( هـ) أن يخبره عدل أو عدلان بأنه أهل للفتوى.
ومحل النزاع في هذه المسألة: من جهل حالَه المستفتي دينًا وعلمًا، فهل يستفتيه أم لا؟.
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: أنه لا يجوز تقليده واستفتاؤه.
حجة هذا القول ما يأتي:
1- أنه لا يؤمن أن يكون حال المسئول كحال السائل في العامية المانعة من قبول قوله، وكيف يقلد من يجوز أن يكون أجهل من السائل؟ واحتمال صفة العامية أرجح من احتمال صفة العلم والاجتهاد؛ لأن الأصل في الناس أنهم أميون إلا الآحاد، فالغالب إنما هم العوام واندراج مجهول الحال تحت الأغلب أغلب على الظن من اندراجه تحت الأقل.
2- أن كل من وجب عليه قبول قول غيره وجب عليه معرفة حاله دينًا وعلمًا، ويتضح ذلك ببيان أربعة أشياء:
( أ ) أنه يجب على الأمة معرفة حال الرسول بالنظر في معجزاته، ولا يصدّق كل مجهول يدعي أنه رسول الله.
( ب ) أنه يجب على الحاكم معرفة حال الشاهد في العدالة.
(جـ ) أنه يجب على العالم بالخبر معرفة حال رواته.
(د ) أنه يجب على الرعية معرفة حال الإمام والحاكم.
القول الثاني: أنه يجوز تقليد مجهول الحال واستفتاؤه:
حجة هذا القول ما يأتي:
1- العادة والعرف، وذلك أن العادة جرت بأن من دخل بلدة يريد أن يسأل عن مسألة لا يبحث عن عدالة من يستفتيه ولا عن علمه.
2- سلَّمنا أنه يسأل عن علمه لكنه لا يسأله عن عدالته، وإذا لم يلزمه السؤال عن عدالته فإنه لا يلزمه السؤال عن علمه لعدم الفرق بينهما.
وناقش أهل المذهب الأول المانعين من استفتاء مجهول الحال هذين الدليلين:
أما الأول: فبالمنع من جريان العادة من المستفتي عند إرادة الاستفتاء أنه لا يبحث عن عدالة من يستفتيه، بل لا بد من السؤال عن العدالة بما يغلب على الظن من قول عدل أو عدلين.
وأما الثاني: فمنع التسليم بأنه لا يحتاج إلى البحث عن عدالته، فلا نسلّم عدم الفرق بين العدالة والعلم، بل إن هنالك فرقًا بينهما، وذلك أن الغالب من حال المُسْلم العالم - المستور - العدالة، لا سيما إذا اشتهر بالفُتْيَا والاجتهاد، حتى يُثبت الجارح.
فالأصل في العلماء أنهم عدول إلا الآحاد، فلا يسأل عن عدالتهم، وهذا يكفي في إفادة الظن، وليس كذلك في العلم، فليس الأصل في الخلق نيل درجة الاجتهاد، وليس الأصل في كل إنسان أن يكون عالمًا مجتهدًا، ولا الغالب ذلك؛ لغلبة الجهل، وكون الناس عوامًا إلا الأفراد، فحصل فرق بين العلم والعدالة.
الترجيح: بعد أن ذكرنا الخلاف في هذه المسألة، وأدلة كل من الرأيين يبدو لي أن الراجح في المسألة هو الرأي الأول، وهو القول بالمنع من تقليد مجهول الحال.
ووجه ترجيحه: ما سبق من مناقشة أدلة المجيزين لاستفتاء مجهول الحال وتقليده
حكم إفتاء العامي بما علم
هل يجوز للعامي إذا علم مسألة أن يفتي فيها ؟
إذا عرف العاميّ حكم حادثة بدليلها، فهل يجوز له أن يفتي بها، وهل يسوغ لغيره أن يقلِّده فيها.
اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال، وهي ثلاثة أوجه للشافعية .
القول الأول: أنه يجوز للعامي أن يفتي فيها مطلقًا.
مستند هذا القول: أن العامي قد أدرك العلم بتلك الحادثة ودليلها، فيجوز له الإفتاء فيها قياسًا على العالم، وإن تميَّز العالم عن العامي بما يتمكَّن به من تقرير الدليل، ودفع ما يَرِدُ عليه من اعتراض ، إلا أنه قدرٌ زائد على معرفة الحق بدليله.
القول الثاني: أن العاميَّ ليس أهلًا للاستدلال والعلم بشروطه، وما يعارضه، وربما توهَّم ما ليس بدليل دليلًا.
القول الثالث: التفصيل، وهو أنه إن كان دليل تلك الحادثة كتابًا أو سنة جاز للعامي الإفتاء فيها، وإن كان دليلها غيرهما، كالقياس مثلًا لم يجز له الإفتاء.
مستند هذا القول: أن القرآن والسنة خطاب لجميع المكلفين، وهو واضح لكل أحد، فوجب على كل مكلَّف أن يعمل به متى بَلَغَه، ويجوز له أن يرشد غيره إليه، ويدلَّ عليه.
الترجيح:
الذي يظهر لنا  أن الراجح في المسألة هو القول الثالث، وهو التفريق بين ما إذا كان دليل المسألة كتابًا أو سنة، وبين ما إذا كان دليل المسألة غيرهما.
وجه ترجيحه:
أن الدليل إذا كان من الكتاب والسنة فإنه واضح لا خفاء فيه ولا لبس في معرفته، فيستطيع العامي أن يدركه ويفهمه، بخلاف ما إذا كان الدليل قياسًا - مثلا - فإنه خفي الدلالة، فلا يتسنى للعامي معرفته وإدراكه على حقيقته؛ لعدم وضوحه وسهولة فهمه بالنسبة له.
وبهذا يتبيَّن أن القول بالجواز مطلقًا، والقول بالمنع مطلقًا قولان مرجوحان
حكم إفتاء المقلِّد
هل يجوز للمقلِّد أن يفتي ؟ 
في التقليد في الفتيا ثلاثة أقوال:
الأول: أنه لا تجوز الفتوى بالتقليد مطلقًا، وهذا قول أكثر أصحاب أحمد وجمهور الشافعية .
مستند هذا القول: أن التقليد ليس بعلم بلا خلاف، والمقلِّد لا يطلق عليه اسم عالم، والفتوى بغير علم حرام.
القول الثاني: أن التقليد يجوز فيها إذا كانت الفتوى لنفسه، فيقلِّد غيره من العلماء ولا يجوز أن يقلد العالمَ فيما يفتي به لغيره، وهو قول ابن بطة وغيره.
مستَنَد هذا القول: أن دليل جواز التقليد خاص فيما يتعلق بنفسه، لا فيما يتعلق بغيره.
القول الثالث: أن التقليد في الفتوى يجوز عند الحاجة وعدم وجود العالم المجتهد.
مستنَد هذا القول: أن التقليد إنما يصار إليه عند الحاجة والضرورة، وذلك إنما يكون عند فقد العالم المجتهد.
الترجيح:
الذي يترجح لنا  من هذه الأقوال الثلاثة هو القول الثالث، وهو جواز التقليد في الفتيا عند وجود العالم المجتهد.
وجه ترجيحه:
أنه إذا حدثت حادثة وفُقِد العالم المجتهد، ولم يوجد إلا فتوى المقلد، فالعمل بها أولى من التوقف أو العمل بالتشهي وما تهواه النفس.
أما القول الثاني والأول: فيجب أن يقيد منع الفتوى بالتقليد فيهما بما إذا لم يوجد حاجة أو ضرورة إليهما، كما إذا عدم العالم المجتهد؛ لأن الحاجة تستدعي الترخُّص، والضرورة تقدر بقدرها
 حكم العامي الذي لا يجد من يفتيه
إذا نزلت بالعامي نازلة، ولم يجد من يسأله عن حكمها، فما الحكم؟ ويتصور فقده في حالتين: الأولى: فقد العلم به أصلًا، فهو كمن لم يرد عليه تكليف ألبتة.
الثانية: فقد العلم بوصفه دون أصله، كالعالم بالطهارة أو الصلاة أو الزكاة على الجملة، لكنه لا يعلم كثيرًا من تفاصيلها وتقييداتها وأحكام العوارض فيها.
في هذه المسألة مذهبان للعلماء:
المذهب الأول: أن حكمه حكم ما قبل الشرع على الخلاف في ذلك، هل حكمه الحظر، أو الإباحة، أو الوقف.
حجة هذا المذهب: أن عدم المرشد في حق العامي بمنزلة عدم المرشد بالنسبة إلى الأمة.
قال في الإنصاف: ومن عدم مفتيًا في بلده وغيره فحكمه حكم ما قبل الشرع على الصحيح من المذهب قدمه في الفروع. 
المذهب الثاني: أن حكمه حكم المجتهد عند تعارض الأدلة، على الخلاف في ذلك: هل يعمل بالأخف، أو بالأشد، أو يتخير؟
وجهة هذا المذهب: أن عدم وجود المفتي في حق العامي بمنزلة تعارض الأدلة بالنسبة للمجتهد.
الترجيح: والذي يترجح لي في هذه المسألة أنه يتحرى الحق بجهده، ويتقى الله ما استطاع، ويعمل بما يدل على الحق من بعض الأمارات المرجحة ولو بمنام أو إلهام، فإن لم يوجد شيء من ذلك سقط عنه التكليف.
وجه سقوط التكليف عنه عند فقد المفتي إذا لم يكن به علم ما يأتي:
1- أنه إذا كان المجتهد يسقط عنه التكليف عند تعارض الأدلة عليه - على الصحيح - فالمقلد عند فقد العلم بالعمل رأسًا أحق وأولى.
2- أن حقيقة هذه المسألة راجعة إلى العمل قبل تعلق الخطاب، والأصل في الأعمال قبل ورود الشرع سقوط التكليف؛ إذ شرط التكليف العلم بالمكلف به.
3- أنه لو كان مكلفًا بالعمل لكان تكليفًا بما لا يطاق؛ لأنه تكليف بما لا سبيل إلى الوصول إليه ولا يقدر على الامتثال، وهذا محال .
قال ابن القيم -رحمه الله-: والصواب أنه يجب عليه أن يتقي الله ما استطاع، ويتحرى الحق بجهده ومعرفة مثله، وقد نصب الله -تعالى- على الحق أمارات كثيرة، ولم يسوِّ الله -سبحانه وتعالى- بين ما يحبه وبين ما يسخطه من كل وجه، بحيث لا يتميز هذا من هذا، ولا بد أن تكون الفِطَر السليمة مائلة إلى الحق مؤثرة له، ولا بد أن يقوم لها عليه بعض الأمارات المرجّحة ولو بمنام أو إلهام، فإنْ قُدِّرَ إرتفاع ذلك كله، وعدمت في حقه جميع الأمارات، فهنا يسقط التكليف عنه في حكم هذه النازلة، ويصير بالنسبة إليها كمن لم تبلغه الدعوة، وإن كان مكلفًا بالنسبة إلى غيرها
  إذا عيَّن العامي مذهبًا معينًا  والتزمه، فهل له الرجوع إلى الأخذ بقول غيره في مسألة من المسائل؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:
القول الأول: أنه يجوز له الرجوع إلى الأخذ بقول غيره مطلقًا.
حجة هذا القول: أن التزامه لمذهب معين غير ملزم له، لعدم وجود دليل يوجِب ذلك.
القول الثاني: أنه لا يجوز له الرجوع إلى الأخذ بقول غيره مطلقًا.
حجة هذا القول:
أن التزامه للمذهب الأول صار ملزمًا له، كما لو التزم مذهبه في حكم حادثة معينة.
القول الثالث: أنه إن كان قد عمل بالمسألة لم يجز له الانتقال إلى غيره فيها وإلا جاز له، واختاره إمام الحرمين .
حجَّة هذا القول: أنه إذا عمل بالمسألة فقد التزم بها، فانتقاله عنها بعد العمل يدل على أن ذلك لهوى في نفسه، واتباع الهوى لا يجوز، بخلاف ما إذا لم يعمل بها.
القول الرابع: أنه إذا غلب على ظنه أن مذهب غير إمامه في تلك المسألة أقوى من مذهبه جاز له الانتقال إليه فيها، وإلا لم يجز، واختاره القدوري من علماء الحنفية .
حجة هذا القول:
أن الله -تعالى- تَعَبَّد العباد في كثير من العبادات، بما غلب على ظنونهم، وهذا قد غلب على ظنه أن مذهب غير إمامه في هذه المسألة أرجح من مذهبه؛ فجاز له الانتقال إليه.
القول الخامس: إن كان المذهب الذي أراد الانتقال إليه في هذه المسألة مما ينقض حكم هذه المسألة في مذهبه الذي عيَّنه والتزمه، لم يجز له الانتقال إليه، وإلا جاز، واختاره ابن عبد السلام .
حجة هذا القول:
أنه إذا انتقل إليه، وهو ينقض حكم المسألة في مذهبه، يدل على أنه انتقل إليه للتشهّي والهوى، فلا يجوز، بخلاف ما إذا لم ينقضه.
القول السادس: أنه يجوز له الانتقال بشروط ثلاثة، وهي:
( أ ) أن ينشرح له صدره.
( ب ) ألا يكون قاصدًا للتلاعب.
( جـ ) ألا يكون ناقضًا لما قد حكم عليه به.
حجة هذا القول:
أنه إذا وجدت هذه الشروط دلَّ ذلك على أنه يقصد الحق بانتقاله لا الهوى والتشهي، بخلاف ما إذا لم توجد.
الترجيح:
والذي يترجح لي في هذه المسألة ما اختاره الآمدي من التفصيل فيها. وهو أن كل مسألة من مذهب الأول اتصل عمل المقلد بها فليس له تقليد غيره فيها، وكل مسألة لم يتصل عمله بها فلا مانع من اتباع غيره فيها.
وجه ترجيحه: أن ما اتصل عمله بها تابعٌ لمذهبه الذي عينه والتزمه، وما لم يتصل عمله بها فهو خارج عمَّا التزمه