أحكام الحكم العقلى
أقسام الحكم العقلي، وبيان معناها والعلاقة بين العقل وبين النقل
أقسام حكم العقل لا محالة ثم الجواز ثالث الأقسام
هي الوجوب ثم الاستحالة فافهم منحت لذة الأفهام
المذكور هنا هو الأحكام العقلية الثلاثة، وقد ذكرها المصنف إشارة إلى ما يطلق عليه العلماء مبادئ علم التوحيد، وهي الأمور التي إذا جهلها الإنسان ولم يلتفت إليها -ولا يشترط في العلم القدرة على التلفظ-، فإن فهمه لعلم التوحيد يختل، فكيف إذا نفاها إنسان، وأنكرها، بل فكيف إذا حرم تعلمها ؟!
لقد وجد في هذا الزمان أناس من الذين تحجرت عقولهم، بل لم يعودوا يلتفتون إليها وهؤلاء ينتسبون انتساباً باطلاً إلى السلف الصالح رضوان الله عليهم، وقد عطلوا عقولهم ورموا بالمسلمات التي يقوم عليها الدين رمياً، واستهانوا بعلماء الأمة، ولا تجد لهم عند النظر في حالهم تحصيلاً. وهؤلاء لبسوا على عامة الناس بمظاهر من اللباس والتنطع بكلمات لا يعون معناها، وقد اغتر بهم بعض العوام، فتبعوهم، وحذر منهم أغلب العامة فلم يستطيعوا أن يردوا عليهم لتجردهم من علوم الدين، ولم يقدروا على تأديبهم لما يظهر عليهم من التمسك بما أوحوا إلى الناس أنه من الدين.
وسوف نوضح في مواضع متفرقة نبذاً من أحوالهم ونرد بالأدلة الناصعة القوية على أهم مقولاتهم فيما يتعلق بهذا العلم، وبعض ما يناسبه من علوم أخرى بعون الله وتوفيقه. وسوف أشير هنا بقليل من التفصيل لبعض أهم القواعد العقلية وكيفية استنباطها. حتى يكون ما هو مذكور هنا مقدمة نتوكأ عليها في مستقبل المباحث، وقد فصَّلتُ في ذكر هذه القواعد في مواضيع مما كتبت، ولذا أذكر هنا ما لا بد من ذكره ليعقله كل من يبحث عن الحق، ويريد التمسك بالأدلة الخارقة للباطل، وكل من يريد التبري من ربقة التقليد في أصول نظرته في الوجود، فتكون بعون الله تعالى سلاحاً يدافع به كل منتم لأهل الحق عن أصل الدين وركنه الوطيد، ويهاجم به أوكار الباطل والتعصب للهوى والرغبة. فتكون له أداة عملية لبناء الدين في الأرض ونشر وإعمال الحق.
وسأقسم الكلام إلى قسمين مجموعهما يؤلف ما أشرنا غليه من المهمات.
القسم الأول في الكلام في بدائه العقول.
والثاني نظرات في وجود العالم وصفاته. نبدأ في القسم الأول بعون الله وتوفيقه وهو بدائه العقول:
والمقصود منها أنها مجموعة من التصورات والأحكام أي التصديقات قد ثبتت ثبوتاً قطعياً في العقول، أي النفوس، وثبت صدقها أي مطابقتها للواقع الخارجي، وهي مهمة جداً في قيام التفكير الإنساني ووجوده، فبدونها لا يمكن أن يوجد تفكير، أو إذا وجد فهو خاطئ.
وسوف نذكر كلاً منها واحدة بعد أخرى ونشرحها شرحاً مختصراً كافياً لتحصيل المقصود وهو استعمالها في إثبات العقائد الإسلامية كما سيأتي.
1 - أقسام المعلوم: نبدأ بتعريف العلم، وإن كنا قد أشرنا إليه فيما مضى
العلم هو صفة ينجلي بها المذكور لمن قامت به، أي يتضح به ما يذكر ويمكن أن يعبر عنه موجوداً كان أو معدوماً. والمقصود بهذا أن المراد بالعلم هنا هو الصفة التي يتضح بها ما يمكن أن يطلبه الإنسان ويذكره في نفسه.
والإدراك: هو وصول النفس إلى معنى تام معين، وسوف نبين فيما يلي ما هي وسائل الإدراك، فهذا المعنى المدرك إما أن يكون تصوراً ساذجاً أي خالياً من إدراك وقوع نسبة أو عدم وقوعها، أو يكون تصوراً مع إدراك للنسبة وهذا يسمى حكماً. فالحاصل أن الإنسان إما أن يدرك مفهوماً معيناً إدراكاً ساذجاً خالياً من الحكم عليه وهذا الإدراك يسمى تصوراً. أو يدرك المفهوم مع حكمه عليه، وهذا هو الحكم ويسمى التصديق، فالحكم مركب من تصورين على الأقل ونسبة بينهما. أما التصور فيمكن أن يكون مفرداً.
2 - مدارك العلوم: العلوم التي نحصل عليها لها أسباب، آي آلات يتم بها الإدراك، والأصل في هذا قوله تعالى "والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة، لعلكم تشكرون" وفي هذه الآية الكريمة أحكام كثيرة نذكر منها هنا ما يلائم هدفنا، أول فائدة نستفيدها من الآية هي أن الإنسان عند ولادته يكون خالياً من العلوم، الكلية والجزئية، فلا يولد مع الإنسان شيء من العلوم.
الفائدة الثانية: أن الإنسان عند ولادته يكون قابلاً للعلوم، فاستعداده للعلوم فطري، أي جزء من خلقته.
الفائدة الثالثة: أن العلوم التي يستفيدها الإنسان تراكمية، أي تتراكم وتتجمع مع بعضها البعض.
الفائدة الرابعة: وسائل المعرفة محصورة في ثلاث: السمع وهو الخبر، والبصر وهو الحس، والفؤاد ويشمل العقل بالمعنى الأخص. وسوف نوضح بعض ما يتعلق بهذه الثلاثة فيما يلي.
وأيضاً هناك وسيلة أخرى لحصر وسائل المعرفة أن يقال: سبب العلم وآلته إما أن يكون من خارج الإنسان أو يكون فيه، فإن كان من خارج الإنسان فهو الخبر، أما إن كان من الإنسان فلا يخلو إما أن يكون نفس المدرك أو غيره، فإن كان غيره فهو الحس، وإلا فهو النظر.
ووسيلة ثالثة لحصرها وهي الاستقراء، بأن يتم استقراء كيف حصلنا على علومنا التي ندركها علماً علماً، ثم نصنف الحاصل فينتج الثلاثة.
ونشرع الآن ببيان بعض ما يتعلق بكل واحدة من هذه الثلاثة.
أولاً: الحواس: والمقصود بها الخمسة الظاهرة، وهي السمع والبصر والشم والذوق واللمس.
والحاسة هي القوة الحساسة، وكل حاسة يدرك بها ما وضعت هي له، فالسمع تدرك به الأصوات والبصر يدرك به الأضواء والألوان والأشكال والمقادير والحركات وغير ذلك، والشم يدرك به الروائح والذوق يدرك به المطعوم واللمس يدرك به الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ونحو ذلك.
هذه وسائل الإدراك، والمدرك هو النفس.
والحواس تنمو وتتكامل في الصغير حتى يصل إلى سن معينة ويمكن تنميتها بالاكتساب فوق الحد العادي. وهي لا يدرك بها إلا الصور، فلا تدرك بها النسب والأحكام، بل هذه وظيفة الفؤاد، والحواس لا تخطئ، وكل من قال: إنها تخطئ يكون قد توهم أنها حاكمة، فلذا نسب إليها الخطأ، والذي يغلط حقيقة هو العقل كما سنبين ذلك. والحاسة لا تدرك إلا صورة واحدة كل لحظة زمانية.
ولا نستطيع إدراك كل الصور أي صور الموجودات بالحواس، لأن الحواس لها مدى محدود تنتهي إليه، ولها قابلية كذلك، فما خرج عن ذلك لا يدرك.
واختلف العلماء هل الإدراك ثابت للحواس فتكون هي المدركة أو هو ثابت للنفس بواسطة الحواس فلا تكون مدركة بل مدركاً بها ؟
قال العلماء: ولا تفتقر الإدراكات بالحواس إلى بنية مخصوصة كالأذن للسمع والعين للبصر، بل هذه شروط عادية لا عقلية، فلو خلعت عين إنسان وأثرنا على العصب البصري بموجة معنية، فإنه يرى فتأمل.
ثانياً: الفؤاد: – يستطيع كل إنسان عاقل أن يتأمل في ذاته ليعلم بعض الأمور عنها، وجهات النظر تختلف، فلو نظر كل واحد في نفسه من حيث هو متصف بالعلم والحكمة وغير ذلك من الأمور التي تدل على الاتزان لوجد أموراً في نفسه، فهو يحب ويكره، ويخاف ويطمئن إلى أمور وينفر من أخرى، ويريد فعل بعض الأمور لكنه يمسك نفسه عنها لسبب نحو مضرة أو فقد مصلحة أكبر فهو يتحكم في نفسه ليسير في طريق معين مرسوم له، إما أن يكون هو قد اختاره أو اختاره له غيره.
وكل شعور من المشاعر التي تنتابه يترتب عليها فعل، فإذا أحب أمراً فهو ينجذب نحوه، وإذا أراد شيئاً فهو يحاول أن يصل إليه باكتساب الأمور التي توصله إليه وهكذا، ونعلم أيضاً أن الإنسان يبذل أحياناً جهداً، أو يفعل فعلاً معيناً ليتوصل به إلى إدراك ومعرفة بعض الموجود في الخارج أو غيره، فنراه يبذل جهداً ليعلم قانوناً رياضياً، أو طبيعياً، أو فقهياً وغيرها، وهو في كل هذه يكون في طور الفاعل لا المنفعل.
ولا يشترط في الفعل أن يكون بالجوارح كما يظن بعض الناس بل يمكن أن يؤدي الإنسان فعلاً نفسانياً، كالحب والكراهية وهكذا، فلا ينكر أحد أن هذه تكون بالنفس قائمة، وتظهر آثارها على الجوارح.
وتلخيصاً لما مضى نقول: يقوم بالإنسان نوعان من الكيفيات والأفعال: الأول ما يسمى بالوجدانيات كالحب والكراهية والخوف والرضا والإيمان، وهي مشاعر تحس بها النفس إحساساً داخلياً. والثاني هو ما نطلق عليه العلوم أي أن تدرك الشيء على ما هو به في الواقع.
ونحن ندرك فرقاً ضرورياً بين هذين النوعين، ولكنا قطعاًَ ندرك أموراً مشتركة بينهما أهمها أن الإنسان الذي لا يعلم أمراً من الأمور، بل هو سائر في حياته على الحب والكره والخوف وغيرها من المشاعر، فإذا قلت له: لماذا تفعل هذا الأمر ؟ قال: لأني أحبه أو أخاف من كذا وهكذا، أقول: لو فرضنا وجود مثل هذا الإنسان، فنحن نقطع بعدم جواز تسميته عاقلاً. وكذا العكس فلو فرضناً رجلاً يعلم الصحيح من الغلط ولكن لا يحب ولا يكره ولا يؤمن ولا يرضى ولا يحس بالخوف مطلقاً، فنحن نجزم أيضاً بعدم جواز إطلاق اسم العاقل عليه؛ لأننا ندرك أنه لم يحقق أصله، حتى يشتق له منه اسم، كصاحبه، وهذا دليل ضروري على أن العاقل يجب أن يكون له وجدان وإدراك وعلم.
فهاتان جهتان نعلم بالضرورة والبداهة وجوب وجودهما في الإنسان لكي يتحقق أنه عاقل.
وما دمنا وصلنا إلى هذه النقطة، فقد هان الأمر. وبقيت مسألة في هذا المقام وهي من هو المقدم هل هو العلم أم الوجدان، أي هل يجب أولاً أن تعلم لكي تحب وترضى وتبغض، أم العكس. الظاهر لي أن العلم هو الأصل بهذا المعنى، ولكن في المسألة تفصيل ليس هذا محله.
[تكملة في غاية الأهمية]
يدرك كل واحد أنه عند الحب والكره والإيمان والخوف، يحس بهذه الأمور في قلبه، أو يظهر أثرها في قلبه، وهو اللحمة الصنوبرية الشكل، ولذلك عند الغضب يشعر بتغير في نبضات قلبه، وكذا عند الحب يشعر بانشراح فيه، وكذا عند الإيمان والخوف انقباض.
والقاعدة التي نستخلصها أن الكيفيات النفسانية يظهر أثرها في القلب. فاحفظ هذا وافهمه، ثم انظر في نفسك عندما تفكر في أمر غير وجداني ولا يتعلق إلا بالتفكير المجرد الذي هو ترتيب المقدمات لاستخلاص النتائج، فهل الأثر الذي تشعر به محله في القلب أو هو في الدماغ ؟ لا ينكر واحد منا أنه عندما يقوم بهذا الفعل فإنه يشعر بثقل في رأسه لا في قلبه. ولهذا غالباً ما يشعر بصداع، خصوصاً عندما يمعن في التفكير. ومن هذا نقول: إن التفكير المجرد يظهر أثره في الدماغ.
ونحن ندرك بالاعتماد على ما مضى من معنى العاقل أنه لا بد من وجود علاقة بين الكيف النفساني، وبين الفكر المجرد، وهذه العلاقة تدرك عند الالتفات إلى ما يلي:
عملية التفكير المجرد لا يمكن أن تحدث في الإنسان إلا بإرادته، وهذا أمرٌ ضروري لا يمكن لأحد أن يقول بخلافه، والإدارة كما سنعلم بالنسبة للإنسان هي من الكيفيات النفسانية محلها القلب، فالإرادة محلها القلب، وهي شرط للعلم، لأن العلم عملية إرادية، فلا يعلم الإنسان إلا إذا أراد، وهذا في غير الأمور الضرورية البدهية كما هو بيِّن، ومن هنا قال الإمام الشافعي: العقلُ أصلُه في القلب، ناظراً إلى العقل من ناحية أصله الذي لا يقوم إلا بناءً عليه، وقال الإمام أبو حنيفة: العقل أصله في الدماغ ناظراً إليه من حيث محل ظهور أثر التفكير المجرد. وتفصيل المسألة كما ذكرناه.
وبناءً على هذا الفهم الدقيق القائم على أمور ضرورية قطعية، نستطيع أن نفهم قوله تعالى: (لهم قلوب لا يعقلون بها) وغيرها من الآيات.
وهذا هو الجواب على من يسأل فيقول: لماذا يخاطب الله تعالى في معظم الآيات القرآنية القلوب لا غيرها، فقد تبين لنا أن القلب هو الذي يجب أن يوجه إليه الخطاب لا من حيث هو هو، بل من حيث هو شرط في حصول التفكير المجرد لمن يريد، فلا بد من دافع يدفع الإنسان لذلك، وهو التشويق.
وهذه المسألة بما فيها لن تجدها مشروحة كما هي هنا في كتاب غيره، والقليل من العلماء من استطاع الربط كما فعلنا نحن هنا، وبناءً على هذا الفهم تنحل عقد كثيرة في علم العقائد وفي غيره من العلوم، كما سننبه عليه إن شاء الله تعالى في محله.
ثالثاً: الخبر الصادق: وكان الأنسب أن نقول المخبِر الصادق، لأن منشأ الصدق في الحقيقة هو المخبر، لا الخبر. ونحن إذا عرفنا صدق الخبر من المخبر فذاك هو المطلوب، أو من نفس الخبر فهذا مستحيل، لأن الخبر من حيث كونه خبراً لا دلالة له على الصدق أو الكذب، بل هو يحتمل الأمرين، أو من غيرهما وهو الحواس والعقل فيعود ما مضى الكلام عليه، وما دام الأصل هو المخبر، والمخبر من الناس قد يكون واحداً أو أكثر، والواحد قد يكون خبره دائماً صادقاً، إذا كان معصوماً مثل الأنبياء، وإلا فإنه كما يجوز عليه الصدق يجوز عليه الكذب، والعصمة التي هي صفة المخبر نعرفها بدلالة العقل.
ومن هذا فإذا لم يكن الواحد معصوماً، فإن خبره يجوز عليه الصدق والكذب، فليس بحجة وحده. أما إذا كان المخبر أكثر من واحد ووصلوا إلى حدٍّ يستحيل عليهم الغلط والنسيان وتعمد الكذب، فيكون خبرهم عند ذاك حجة، وهذا هو الحد الذي يدعى بالتواتر، والتواتر يكون سبباً للعلم، إذا كان الخبر عن واقع مدرك بالحواس، أما إذا كان عن اجتهاد وتفكير فليس بحجة قطعاً. وذلك كأن يخبرنا عدد كبير من الناس أنهم رأوا كوكباً ينفجر، فعند هذا، نعلم أنهم صادقون لأنهم وصلوا إلى التواتر. أما إذا أخبرنا عدد كبير من الناس أنهم اجتهدوا ونظروا مثلاً في العالم فوجدوا أنه قديم، فخبرهم هذا لا يكون حجة علينا ولا عليهم أنفسهم، لأن هذا العدد الكبير يجوز عقلاً أن يغلطوا في النظر وهذه إشارة كافية وانظر تفصيلها في محل آخر.
3 - الأحكام العقلية الثلاثة: أو جهات الوجود، وهي الوجوب والامتناع والجواز.
وتقريرها أن نقول: ما تصوره العقل يشمل التصور والتصديق، ويتحصل لنا مفهوم عقلي، فإذا نسب هذا المفهوم إلى وجوده في نفسه، أي إذا نسبنا الذات المتصورة إلى نفسها، أو نسبناها إلى وجودها لأمر آخر غيرها حصل في العقل معان هي الوجوب والامتناع والإمكان.
ثم إن تصورات هذه المعاني ضرورية حاصلة لمن لم يمارس طرق الاكتساب، إلا أنها قد تعرف لمجرد التنبيه والإخطار في البال، فيقال: الوجوب ضرورةُ الوجود أو اقتضاؤه أو استحالة العدم، والامتناع ضرورة العدم أو اقتضاؤه أو استحالة الوجود، والإمكان جواز الوجود والعدم أو عدم ضرورتهما أو عدم اقتضاء شيء منهما.
ولذا لا يُتحاشى عن أن يقال: الواجب ما يمتنع عدمه أو ما لا يمكن عدمه أو ما لا يقبل العدم، والممتنع أو المستحيل هو ما يجب عدمه أو ما لا يمكن وجوده أو ما لا يقبل الوجود، والممكن أو الجائز هو ما لا يجب وجوده ولا عدمه أو ما لا يمتنع وجوده ولا عدمه أو ما يقبل الوجود والعدم.
فالواجب لو فرض معدوماً يلزم عنه محال، والممتنع لو فرض موجوداً يلزم منه محال. ويلزم على هذا أن الواجب يستمد وجوده من ذاته، ولا يمكن أن يحتاج غيره لكي يوجد، فالواجب لا يكون محتاجاً، فالوجوب هو شدة الوجود وتأكده، وأما الممتنع فلا يمكن وجوده، وإن أمكن فرض وجوده، أما الممكن فلا يمكن أن يكون وجوده مستمداً من ذاته، بل لا يمكن أن يكون مستمداً إلا من الواجب، فإذا اتصف الممكن بالوجود، كان ذلك من سبب خارج، ويكفي في عدمه عدمُ سبب وجوده، فبالحقيقة كما قال بعض المحققين: وجود الممكن يحتاج إلى سبب، ويستدعي سبباً موجوداً يجب الممكن به ما دام موجوداً وهذا يعني أنه مهما وجد، فإنه لا يستغني عن السبب.
4 - الإمكان هو علة الاحتياج. ويمكن أن نستدل نحن على الإمكان من معرفة الحدوث، فإذا كان الشيء حادثاً، فإنه حتماً يكون ممكناً، لأن الحدوث هو الكون بعد العدم، وما قَبِل العدمَ والوجودَ، كان ممكناً والمحتاج الموجود دليل على وجود الواجب. وعلى ما مر تصبح معرفة الحدوث علة معرفة الاحتياج بوساطة الإمكان فتنبه.
5 - قلب الحقائق محالٌ. فإنَّ حقيقة الممكن يحتاج إلى موجد، فلو أمكن انقلاب الممكن لصار إما واجباً أو ممتنعاً، وهذا ما مضى من أن معرفة الفرق بين الواجب والجائز والممتنع بديهية.
ولو جاز الانقلاب لبطل التفريق بين هذه الأحكام الثلاثة، ولكن التفريق حاصل، إذن الانقلاب باطل. وهذا هو المبدأ الذي يسمى بمبدأ الهوهوية، وقد يعبر عنه في علوم أخرى بعبارة (الأصل بقاء ما كان على ما كان)، ولو جاز قلب الحقائق لجاز حدوث الواجب ووجوب الممتنع وحدوثه وبطلت العلوم، وهذا عبث محض.
6 - أحد طرفي الممكن وهما الوجود والعدم، ليس أولى به من الآخر، بل هما بالنظر إلى ذاته جوهراً كان أو عرضاً على السواء. فالممكن متساوي النسبة إلى الوجود والعدم، فكما أن وجوده يكون من الغير، فكذلك عدمه أيضاً يكون من الغير فلا يكون من ذاته.
7 - الممكن الباقي محتاج في بقائه إلى السبب. وهذا بناء على أنَّ عِلَّة الاحتياج هي الإمكان كما مضى، والممكن حال البقاء لا يزال ممكناً بالذات وإن كان واجباً بالغير، وذلك لأن الإمكان للممكن ضروري، لأن الإمكان للممكن صفة ذاتية، وما بالذات لا يزول عنها ما دامت.
8 - الترجيح من دون مرجح مستحيل، فالأمران المتساويان يستحيل ترجيح واحد منهما على الآخر من، دون مرجع، وهذه المقدمة يكفي في معرفة حقيتها مجرد تصورها. فهي مقدمة بديهية.
9 - مراتب التقابل في المذكورات أربعة، وهي أنواع المنافاة:
الأول: تنافي النقيضين، والنقيضان هما إيجاب الشيء وسلبه، نحو زيد، لا زيد، وزيد قائم، زيد ليس بقائم، النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان.
الثاني: تنافي الضدين، والضدان هما المَعْـنَيَان الوجوديان اللذان بينهما غاية الخلاف، ولا يتوقف تعقل أحدهما على تعقل الآخر، كالبياض والسواد، لا كالبياض والحركة، يجوز ارتفاع الضدين إذا كان بينهما ثالث، وكلها لا ترتفع، ولا تجتمع.
الثالث: تنافي العدم والملكة، والعدم والملكة هما وجود الشيء وعدمه عمَّا من شأنه أن يتصف به، كالبَصَر والعمى، والعلم والجهل البسيط، فالبصر وجودي وهو الملكة، والعمى عدمي إذا العمى عدم البصر عمَّا من شأنه البصر وكذا العلم والجهل، لا يجوز ارتفاعهما معاً ولا اجتماعهما كذلك.
الرابع: تنافي المتضايفين، والمتضايفان هما الأمران الوجوديان اللذان بينهما غاية الخلاف ويتوقف تعقل أحدهما على تعقل الآخر، كالأبوة والنبوة، والمراد بالوجودي هنا، ما ليس معناه (عدم كذا) لا الموجود في الخارج عن الذهن، إذ الأبوة مثلاً لا وجود لها في الخارج عن الذهن. ولا تنافي بين الخلافين كالبياض والحركة. والمثلان لا يجتمعان.
10 - الدور محالٌ: معنى الدور نوضحه بمثالٍ، فنقول: إذا قيل ما علة [أ] ؟ فقيل: [أ] فهذا محالٌ، لأنَّا علمنا أن [أ] حادثة أي كانت معدومة ثم وجدت، فيستحيل أن تكون هي قد أوجدت نفسها، لأنَّ هذا يلزم منه أن تكون قد وجدت قبل نفسها؛ فالعلة تسبق المعلول في الوجود، وهذا تناقض، لأنه يلزم منه كون [أ] موجودة ومعدومة في نفس الوقت، وهذا باطل.
وأيضاً فالشيء الواحد لا يكون قابلاً وفاعلاً من جهة واحدة في نفس الوقت، وتكون قابليتُه صفة قائمة بذاته وفعله واقع على ذاته صادراً منها.
وهذا المثال يمكن أن يكون على الدور من الدرجة الأولى وبعد ذلك تتعدد الدرجات، فقد يقال ما علة [أ] ؟ فيقال: [ب]، فيقال: وما علة [ب] ؟ فيقال: [أ]، هذا دور باطل، وفساده أظهر من سابقة، ولكما كانت الدرجة أعلى كان الفساد أكثر بياناً وظهوراً.
11 - التسلسل محال: التسلسل معناه يتضح مثال: أن قيل ما علة [أ] ؟ قيل: [ب]، وما علة [ب] ؟ قيل: [ج]، وما علة [ج] ؟ قيل: [د]، وما علة [د]، قيل [هـ]... وهكذا إلى لا نهاية، فيتكون عندنا ما يسمى بالسلسة وهي [أ] ثمَّ [ب] ثمَّ [ج] ثمَّ [د] ثمَّ [هـ] ... وهكذا، وهذا الأمر يسمى تسلسلاً، والتسلسل محالٌ. تتضح استحالته مما يلي:
- لو تسلسلت الأسباب والمسببات إلى غير نهاية، لكانت بأسرها موجودة في الحال، بناء على المقدمة القائلة: إن العلة والمعلول يوجدان معاً، وإذا كان كذلك، فنقول: مجموع تلك الأسباب والمسببات إما أن يكون واجباً لذاته أو ممكناً لذاته، والأول باطلٌ، لأنَّ كلَّ مجموع فهو مفتقر إلى كل واحد من آحاده، وكل واحد من آحاد هذا المجموع ممكنٌ لذاته، والمفتقر إلى الممكن لذاته أولى بأن يكون ممكناً لذاته، فهذا المجموع ممكن لذاته، وكل واحد من آحاده ممكن لذاته، وكل ممكن لذاته فله مؤثر مغاير له، فهذا المجموع مفتقر بحسب مجموعيته، وبحسب كل واحد من آحاد مجموعتيه إلى مؤثر مغاير له، وكل ما كان مغايراً لمجموع الممكنات ولكل واحد من آحاد مجموع الممكنات لم يكن ممكناً لذاته، وكل موجود لا يكون ممكناً لذاته كان واجباً لذاته، فثبت بهذا البرهان وجوب انتهاء جميع الممكنات إلى موجود واجب لذاته، وهو المطلوب.
- برهان آخر، لو تسلسلت الأسباب والمسببات لا إلى نهاية، فعلى هذا التقدير، الأثر الأخير موجودٌ، إلا أن الخصم يقول: المؤثر الأول غير موجود. فلنأخذ من هذا الأثر الأخير لا إلى بداية جملة واحدة، ولنأخذ أيضاً من المرتبة الخامسة من مراتب الآثار لا إلى بداية جملة أخرى، فلا بد وأن تكون الجملة الأولى أزيد من الجملة الثانية بأربع مراتب، ثم لنطبق هذا الطرف الأخير من جانب الآثار على الطرف الأخير من هاتين الجملتين، ومعنى هذا التطبيق أنَّ الأول من هذه الجملة مقابل بالأول من تلك الجملة، والثاني من هذه بالثاني من تلك الجملة، فإمَّا أن يتقابل كل واحد من آحاد الجملة الزائدة بواحد من آحاد الجملة الناقصة لا إلى بداية فيكون الكلُّ مثل البعض، وذلك محال، وإما أن تنقطع الجملة الناقصة من الطرف الأخير فتكون الجملة الناقصة متناهية من ذلك الطرف، والزائدة زادت عليها بأربع، فتكون الجملة الزائدة أيضاً متناهية من ذلك الطرف، فيكون للأسباب والمسببات في سلسلة التصاعد طرفٌ ومبدأ، وذلك يمنع من القول بأنه لا نهاية لها، ثم ذلك الطرف إن كان ممكناً لذاته افتقر إلى مؤثر آخر، فلم يكن طرفاً، هذا خلف. وإن كان واجباً لذاته فذلك هو المطلوب.
- وتوجد براهين عديدة على امتناع التسلسل، وما ذكرناه يكفي، فيتحصل لدينا من هذا أن القول بالتسلسل في الممكنات والحدواث والمفتقرات لا إلى نهاية، إنما هو قول باطل، وأن كل هذه الأفراد يجب أن تنتهي إلى واجب لذاته.
12- ما أدى إلى محال فهو محال. فكلُّ شيء نفرضه ويؤدي بنا إلى تجويز المحال فما فرضناه قطعاً باطل، فكلُّ فَرضٍ أدَّى بنا إلى الدور أو التسلسل، أو إلى تحصيل الحاصل، أو إلى نقض المقدمة المسلَّمة أو غير هذا من المحالات فهذا المفروض يكون قطعاً باطلاً.
13- إن الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية. وذلك لأن تلك الأشياء لما كانت حقائقها مساوية لحقيقة ذلك الشيء كانت حقيقتها واحدة، فلو لم تكن متساوية، لما كانت حقيقتها واحدة، فيلزم أن تكون حقيقتها واحدة وأن لا تكون حقيقتها واحدة، فيجتمع النفي والإثبات، وهو باطل كما مر.
14- إن حكم الشيء حكم مثله، وذلك لأنَّه إذا دلَّتْ الدلالة على أن التعيين الذي به الامتياز غير داخل في المناط، فحينئذ لم يبقَ إلا الماهية، فلو صارت تلك الماهية محكوماً عليها بحكم في موضع ويسلب منها ذلك الحكم في موضع آخر، لزم اجتماع النفي والإثبات وهو باطل.
15- إن المفهوم من الألف مغاير للمفهوم من الياء، فهما شيئان. وتقرير هذا يرجع إلى استحالة اجتماع النفي والإثبات، كما يلي: لما صحَّ تعقل أحدهما مع الذهول عن الآخر، فلو كانا واحداً، لكان قد صدق عليه إنه معلوم وغير معلوم، فيجتمع النفي والإثبات.
16- السبب قد يكون بسيطاً وقد يكون مركباً. فالبسيط هو الذي لا يتوقف تأثيره وإيجابه لمعلوله كما أنه فاعل. وأما السبب المركب فهو الذي يتوقف إيجاده على غيره، ومثل هذا السبب لا يكون تاماً ولا يكون فاعلاً محضاً ولا غاية له، بل له غاية خارجة عنه،
وهذا السبب قد يكون مركباً من علل أربع: فاعل وغاية ومادة وصورة، وقد يحتاج مع ذلك إلى آلة كالبخار في النحت يحتاج إلى القدوم. وقد يحتاج إلى شرط كالنار في إحراق الحطب تحتاج إلى اليبوسة، والشرط ما يتوقف عليه تأثير السبب. وقد يحتاج إلى وقت كتسخين الشمس وجه الأرض تحتاج إلى الصيف. وقد يحتاج إلى مكان ووضع كإضاءة الشمس للبيت من ثقبة الكوة تحتاج إلى أن يكون في موضع خاص من الفلك، وقد يحتاج إلى شريك كالبناء في أن يبني بيتاً يحتاج إلى الفعلة.
وإذا حصل سبب تام للشيء بسيطاً كان ذلك السبب أو مركباً، وجب وجود الشيء، وإلا فلا يكون سبباً تاماً.
ومن هذا كله يلزم أن نعلم أن علة الشيء وسببه يجب أن تكون غير ذات الشيء، وكذلك الشرط غير المشروط.
17- استحالة قادر غير مريد. لأن القادر بالتعريف هو الذي إن شاء فعل وإن شاء ترك. فكونه مريداً شرط كونه قادراً. وإلا فإن كان فاعلاً وغير مريد، فإما أن يكون علة تامة أو ناقصة، وكلاهما لا تلزمه الإرادة، وسنبين أن الفاعل العلة التامة والفاعل العلة الناقصة ويسمى هذا فاعلاً بالطبع كلاهما نقص في الوجود.
18- استحال مريد غير عالم، لأن الإرادة صفة تقتضي ترجيح أحد الطرفين على الآخر، فالمرجح لا بد أن يكون عالماً بالأطراف.
19- استحالة عالم ليس بحي.
وهذه القواعد الثلاث سوف نـزيدها وضوحاً في بحث الصفات إن شاء الله.
20- ما لازم الحادث في الوجود لا يكون إلا حادثاً. وهذه قاعدة شريفة نبينها كما يلي: إذا فرضنا أمراً لا يمكن أن يوجد إلا متصفاً ببعض الحوادث، أي ملازماً لها ومقارناً لها، فشرط صحة وجوده هو وجود الحوادث معه. هذا الأمر المفروض يجب ببداهة العقل أن يكون حادثاً، ويزداد التصديق بهذه القضية عند استحضار امتناع التسلسل والدور. ولا يجوز إذا تحقق هذا الفرض أن يقول قائل: إن هذا الأمر يجوز كونه قديماً أي لا أول له.
21- كل موجود فلا يخلو إما أن يكون قديماً أو حادثاً، والقديم هو ما لا أول لوجوده، والحادث ما له أول. فالقديم قطعاً يكون واجباً، والحادث لا يكون إلا ممكناً، ولا واسطة بين الوجود والعدم. فالحادث محتاج والقديم غني.
22- المذكور في النفس، الواقع في الوهم والخيال، إما أن يكون موجوداً أو معدوماً والموجود، إما واجب أو جائز، والمعدوم إما ممكن أو مستحيل.
وبهذا نكون قد ذكرنا ما أردنا بيانه من أسميناه بدائه العقول، وهي أهم القواعد التي يستحيل قيام تفكير صحيح إلا بمراعاتها، ونحن ندعي أن غالبها يصدق به ويدرك أنه صحيح بمجرد تصوره، وكلُّ إنسانٍ لا تخلو نفسه من العلم بها ولكن قد لا يكون شاعراً بحصولها، وقد ذكرناها نحن لفتاً للفؤاد إليها ولهذا اكتفينا في غالبها بمجرد الذكر، لأنها لا تحتاج في حجيتها إلى الأدلة، وبينا بعض أدلة ما قد يكون فيه نـزاع. وسوف نذكر القسم الثاني من القواعد الضرورية للتفكير في الموجودات عند الشروع ببيان حدوث العالم إن شاء الله تعالى.
قال الشيخ رحمه الله تعالى عن الأحكام العقلية الثلاثة: أعرف هذه الأقسام الثلاثة حتى معرفتها لأن على معرفتها مدار الإيمان بالله تعالى ويرسله عليهم الصلاة والسلام اهـ.
وهكذا أقول عن القواعد التي ذكرتها فيما سبق، ومن أدركها فإنه سيلتذ بمعرفتها لذة عظيمة، ومن أعطي لذة العلوم والمعارف فقد أعطي خيري الدنيا والآخرة.
وبعد معرفتك ما ذكرناه، لا تلتفت إلى من يتشدق ويشنع على من تكلم بهذه القواعد وادعى أن هذا من الفلسفة مشنعاً على من يتداولها بحجة أن الفلسفة حرام، فإن من يقول هذا، إنما يذم عقله، فهذه القواعد ضرورية للتفكير البشري فلا يمكن لأحد أن يفكر تفكيراً صحيحاً إلا بها.
وهذا القائل عندما يحرمها ويمنع منها إنما يقوم في قوله هذا على إدراكه لمعنى الواجب والمستحيل، فهو يعتقد عدم جواز التكلم فيها، فهو مانع من وجودها، وهذا لا يتم له إلا بتسليم الفرق بين الواجب والممتنع والجائز، التي هي إحدى القواعد التي ذكرناها، وهكذا فحتى المحرم لها يستعملها من حيث لا يدري.
وأما قوله: إنها من الفلسفة، فالفلسفة في حاصلها إنما هي إدراكات بشرية، قد تكون صحيحة أو غلطاً، وقد تكون مفيدة أو ضارة فمجرد كونها من الفلسفة هذا لا يعني الذم. وهذا هو قول العلماء المحققين مثل الرازي والغزالي والجويني وغيرهم، بل في الفلسفة نافع وضار.
ونحن نجزم أن الذي ينطق بهذا الكلام لا بد وأن يكون جاهلاً غير مدرك لما نقول وإلا ما تلفظ به، والإنسان عدو ما يجهل كما يقال.
وعلى كل حال فبعدما ثبت للفاهم فائدتها، فلا يلفت إلى المخالف. وهؤلاء الناس لا يجوز إدارة الكلام معهم على إثبات هذه العلوم أو نفيها، أي لا يجوز مناظرتهم ومناقشتهم، بل السبيل أن يفهموا معناها، أي يدور الكلام معهم على سبيل التعليم بالأسلوب المناسب لهم القريب إلى نفوسهم، فهم إذا أدركوا معناها لم يستطيعوا منعها، بل أكثر ما يمكن لهم قوله: إننا لسنا بحاجة للخوض في مثل هذه الأمور، فيطالبون بالدليل على كلامهم هذا، ولن يستطيعوا الإتيان بشيء، إلا محض توهمات وتخرصات، ثم بيان فساد كلامهم يعارضون بضرورة الاحتياج إلى الكلام فيها لأن بعض الناس ينكرون وجود الله تعالى، ولا يمكن إثبات وجود الله تعالى لهم إلا إذا أثبتنا هذه القواعد وفهمناها. وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
العقل والنقل
لما خلق الله تعالى الإنسان، وهب له وسائل للعلم، وجعله مكلفا بناءاً على وجود هذه الوسائل كما ذكر بالنص البين الذي لا يمكن تأويله (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون).
فانظر رحمك الله كيف جعل الشكر مترتباً على وجود وسائل المعرفة المذكورة، وهي السمع والأبصار والأفئدة.
وقد أمرَنا الله تعالى أن لا نتبع شيئاً إلا إذا وصَلَنا عن طريق من هذه الطرق وذلك في قوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً)، وفي هذا مدح لكل وسيلة من هذه الوسائل من حيث كونها طريقاً إلى العلم. وقد ذم الله تعالى الكفار لأنهم يتبعون مطلق الظن والعائد إلى الشهوة النفسية، وشنع عليهم بأنهم لا يملكون علماً، وفي هذا لفت للنظر إلى وجوب استخدام هذه الوسائل، لأنها طرق العلم.
فالله تعالى هو الذي نصب هذه الوسائل طرقاً للمعرفة والعلوم، وقد مدح الله أقواماً لأنهم لا يعقلون، وهذا إشارة إلى مدح مُطْلق العقل، وأنه لا يوجد شيء اسمه عقل مذموم إلا على سبيل المجاز، إذ كيف يكون عقلاً ومذموماً، فهذا يناظر أن يقال: علم غلط، وهو جمع بين الضدين أو حتى بين النقيضين.
فالعقل ممدوح مطلقاً، لأن الله تعالى مدحه مطلقاً، ومَدَحَ المتصف بالعقل، ولم يرد في نصٍّ شرعيٍ ذمٌّ للعقل، ولا يجوز شرعاً ذمه.
ولا خلاف بين العلماء أن العقل إن لم يكن هو نفسه هذه الوسائل الثلاثة أو واحداً منها، فلا بد أن يكون لازماً عنها، وما كان لازماً للحق فهو حق، ويستحيل وجود لازم للحق وهو باطل.
ولما أرشدنا الله تعالى إلى وسائل المعرفة عطفها على بعض بالواو التي تفيد مطلق الجمع، وما هذا إلا إشارة إلى أنه لا تعارض بين أي واحد من هذه الثلاثة، ولا يجوز وجود تعارض، ومع عدم وجود التعارض يستحيل وجود ترجيح، لأنه فرع التعارض.
وعلى هذا يكون من رجح أمراً على أمر منها مخالفاً لنص القرآن. وهذا الكلام لا يجوز أن يخالف فيه إلا من لا يحصِّلُ معانيه.فهذه مقدمة مهمِّة جداً في بيان الأصل الذي تقوم عليه هذه المسألة.
ومعلوم لدى كل إنسان عاقل أنه يحكم على بعض الأمور أحياناًَ على سبيل الجزم وأحياناً على سبيل الظن، فتبين التفرقة الضرورية بين منـزلة الظن والقطع.
ومعلوم لدى كل عاقل أيضا أن للألفاظ مراتبَ في دلالتها، وهذا الأمر اتفق عليه علماء الدين، فبعض الألفاظ لا تحتمل إلا معنى واحداً في دلالتها، وبعضها تحتمل أكثر من معنى مع رجحان في واحد أو بدونه، وهذا أيضاً معلوم، فلا يشترط في اللفظ أن يدل على معنى واحد فقط.
وقد مضى بيانُ أن العلم يمكن أن يأتي عن طريق السمع، ويمكن أن يأتي عن طريق الفؤاد، ولا يمكن تعارض العلوم مهما كانت وسائلها.
وحيثما وقع تعارض فلا بد من وجود غلطٍ في نسبة أحد المعنيين أو كليهما إلى وسائل المعرفة.
وحيثما وقع التعارض فيجب ترجيح العلم والقطع على غيره، بغض النظر عن مصدر أي منهما. وأما إن كان المتعارضان طنيين فينظر في القرائن والغَلَبَة.
والمرتبة التي يدور عليها الكلام في القانون الكلي الذي ذكره العلماء، هي تعارض القطعيات مع الظنيات مطلقاً، ما هو الذي يرجح عند ذاك ؟الإجماع قائم على تقديم القطع مهما كان مصدرُه.
هذه هي المسألة بوضوح واختصار، وهذا هو المعنى الذي يذكره الإمام الرازي في القانون المعلوم، فهو يفرض فرضاً عقلياً تعارض قواطع عقلية مع ظواهر نقلية شرعية أي محتملة، فالواجب حتماً ترجيح القطعي، لا لكونه عقلياً، بل لكونه قطعياً.
وحينئذ للنقلي احتمالان: إما أن يكون باطلاً من حيث السند، أو يكون المعنى المتوهم أنه ظاهر منه، ليس كذلك، بل يكون المعنى المراد به معنى آخر بدلالة قرائن أخرى، غفل عنها الناظر لأول وهلة، وهذه الدلائل بها يظهر معنى آخر.
هذا هو القانون الكلي الذي أقام المجسمة وأتباعهم الدنيا وأقعدوها أو لم يقعدوها، وهذا الفعل منهم يبين كم هي نفوسهم ضحلة، ولا يعيشون إلا في ضباب.
وقد تكلم الإمام الرازي في كتبه على احتمال واحد من الاحتمالات العديدة، فقال مثلاً في كتاب أساس التقديس ص172: "الفصل الثاني والثلاثون في أن البراهين العقلية إذا صارت معارضة بالظواهر النقلية فكيف يكون الحال فيها."اهـ.
والقانون الذي ذكره مبني على هذا الاحتمال، وهذا احتمال ممكن، وكونه ممكناً يدرك بمجرد فهم معنى الظاهر ومعنى البرهان كما أشرنا، فالظاهر لفظ محتمل مع رجحانه إذا أخذ منفرداً في معنى، وأما البرهان فهو لا يستعمل إلا في القطعي من الأدلة، فصار كما لو كانت المسألة: لو تعارض قطعي وظني فكيف يكون الحال فيها، فالذي يقول: إننا نقدم الظني على القطعي فهو مخطئ كما لا يخفى.
المسألة هكذا، بهذا البداهة، وبهذا الوضوح، إلا عند المتلاعبين من المجسمة.
وقد قلتُ في تعليقاتي على كتاب درء التعارض لابن تيمية زعيم هؤلاء المجسمة ذوي الأصول الكرامية الدارمية، كلاماً هو خلاصة هذه المسألة نذكره هنا لما فيه من فائدة:
والحاصل من كلام الرازي أن العقل القطعي والنقل القطعي لا يتعارضان قطعاً، ولا يمكن تصور ثبوت التعارض، وكل دليل عقلي إما أن يكون دليلاً برهانياً، أي قطعياً، أو غير قطعي أي ظنياً، وكذا الدليل النقلي إما أن يكون قطعياً ونقصد هنا القطعية في الدلالة والثبوت معاً، أو ظنياً في أحدهما أو كليهما، فالتعارض غير متصور بين العقلي والنقلي القطعي، ومتصور في غير هذا، فإذا وقع تعارض فالمقدم هو القطعي مطلقاً سواء كان النقلي أم العقلي، فوجه الترجيح والتقديم ليس هو كون الدليل عقلياً أو نقلياً، بل كونه قطعياً أو لا، وإذا تعارض ظنيان كان المقدم هو الأقوى.
هذا هو خلاصة معنى كلام الرازي كما هو ظاهر، وقد خصص الكلام على حالة واحدة هي إذا كان التعارض واقعاً بين قطعي عقلي وظني نقلي، فالصحيح إنه يجب تقديم القطعي العقلي أيضاً، وعدم تسليم ما ينسب إلى النص النقلي، أي عدم التسليم بأن المعنى الفلاني هو الظاهر، بل هو غير ظاهر لأنه قام الدليل على استحالة كونه مقصوداً، أو يقال بالتفويض.
من الشرح المطول للخريدة البهية للإمام الدردير
تأليف
الأستاذ سعيد فودة