عقيدة الألوهية عند الفلاسفة والعلماء
معرفة الله سبحانه وتعالى مركوزة في كل طبع، واسمه الكريم معروف في كل لغة، واختلاف الأجناس والألسنة لم يصرف الأفئدة والأفكار عن هذه الحقيقة الواحدة.
بيد أن هذه المعرفة المتصلة برب العالمين لم تأخذ امتدادها الكامل وسماتها الراشدة، ولم تبرأ من الأوهام وتبعد عن الأهواء، إلا عندما تلقاها الناس مصفاة من ينابيع الوحي، وسمعوا آياتها تتلى من أفواه الأنبياء.
ولكن ذلك لم يمنع الكثير ممن لم يدخلوا في نطاق الرسالات الأولى – أو لم تبلغهم- على وجه صحيح- هدايات القرآن الكريم، أن يفكروا في الله من تلقاء أنفسهم، وان يطلقوا لعقولهم عنان البحث.
والفلسفة الإلهية حافلة بالكثير من هذه الأفكار، كما أن علماء الكون في العصر الأخير قد تكلموا عن الله في حدود ما هداهم إليه البحث المجرد في آفاق الطبيعة وأسرارها، وقوانينها. والفلاسفة القدامى اسموا الله: الصانع، والعقل الأول، وواجب الوجود، وسبب الأسباب، وغير ذلك من الأسماء التي اصطلحوا عليها. كما أن للعلماء المحدثين تصورات في الألوهية التبس فيها الحق بالباطل كما سترى.
وعلة هذا اللبس، أن هداية السماء لم تصحب العقل في سيره. ومن ثم اقر العقل بالمبدأ الواجب، واخطأ في التفاصيل المتعلقة به. المهم أن العقل الذكي، والبحث النزيه والفكرة المبرأة عن الغرض، المستقيمة على النهج، تتأدى بأصحابها –حتما- إلى الله، وتقفهم خاشعين أمام الشعور الغامر بعظمته وجلاله.
وان من الغباوة والبلادة أن يظن السفهاء من الناس أن الإيمان وليد استغلاق الذهن، أو أن استبحار العلوم واتساع المعارف الإنسانية يخدش قاعدة الإيمان ويوهي الصلة بالإله الديان.
قال "هرشل" –من فلاسفة القرن الثامن عشر- (انه كلما اتسع نطاق العلوم تحققت وكثرت الأدلة على وجود حكمة خالقة قادرة مطلقة. وعلماء الأرضيات والهيئة والطبيعيات والرياضة يهيئون بمساعيهم واكتشافاتهم كل ما يلزم لإنشاء معبد العلوم؛ إعلاء لكلمة الخالق).
وانظر إلى مادُوّن من آراء لسقراط عن تلميذه أفلاطون:
"هذا العالم يظهر لنا على هذا النحو الذي لم يترك فيه شيء للمصادفة، بل كل جزء من أجزائه متجهة نحو غاية، وتلك الغاية متجهة إلى غاية أعلى منها، وهكذا يتم الوصول إلى غاية نهائية منفردة وحيدة"
من أين نشأ هذا النظام الكامل في تفرعاته؟ المحفوف بالعظمة والجلال من نواحيه كافة؟ ليس من الممكن أن يحمل ذلك على المصادفة. فلو أمكننا أن نقول: انه نشأ من تلقاء نفسه، لصح لنا أن نقول: أن ألواح "بوليكلت" و "زونكريس" حدثت من تلقاء نفسها.
وإذا ما نظرنا إلى أن العناصر التي تحتوي عليها الكائنات كثيرة إلى درجة لا يمكن أن يحصرها العقل، كان من المحال أن نحمل وجود ذلك كله على المصادفة، فلابد إذن من وجود عقل أعلى .. وهو الصانع الوحيد. لأن الطبيعة اثر يتجلى فيه الاتحاد الدال على وحدانية الصانع، الذي ينفذ حكمه كنفوذ الفكر في الحال، بدون أي خطأ. وهو حاضر غالب –أي عالم قادر- ومع هذا، فمن المستحيل اداركه بالحواس.. فهو كالشمس التي تمس جميع الأبصار، لكنها لا تبيح لأحد أن ينظر إليها. ا.هـ. من تاريخ التصوف للأستاذ "محمد علي عيني بك".
وقد شرح "لابلاس" دليل الحركة الكونية، وأبان قوة هذا الدليل في حسم الشبهات التي يثيرها الجاحدون، فقال: "أما القدرة الفاطرة فقد عينت جسامة الأجرام الموجودة في المجموعة الشمسية وكثافتها، وثبتت أقطار مداراتها، ونظمت حركاتها بقوانين بسيطة، ولكنها حكيمة، وعينت مدة دوران السيارات حول الشمس، والتوابع حول السيارات بأدق حساب، بحيث أن هذا النظام المستمر إلى ما شاء الله لا يعروه خلل".
هذا النظام المستند إلى حساب يقصر عقل البشر عن إدراكه، والذي يضمن استمرار المجموعة إزاء ما لا يعد ولا يحصى من المخاطر المحتملة، لا يمكن أن يحمل على المصادفات في نظر "لابلاس" إلا باحتمال واحد في أربعة تريوليونات.
وما أدراك [1] ما أربعة تريوليونات؟ انه عدد من كلمتين، ولكن لا يمكن أن يحصيه المحصي إلا إذا لبث خمسين ألف عام، يعد الأرقام ليلا ونهارا على أن يعد في كل دقيقة 150 عددا".
وقال سبنسر:
" إننا مضطرون إلى الاعتراف بأن الحادثات مظاهر قدرة مطلقة متعالية عن الإدراك. وان الأديان كانت أول من قبل هذه الحقيقة العلوية ولقنها. ولكنها نشرت أول الأمر ممزوجة بالأباطيل"؟ وسبنسر غير متدين.
إن العقول السليمة تتلاقى على الحق، وكلما زادت علما كان تلاقيها على الحق أيسر واقرب. ومن اجل هذا رأينا العلماء بعد ذلك الانتكاس المادي الذي اعترى بعضهم في أواخر القرن التاسع عشر يرجعون إلى التلاقي على الحق، ويكادون يجمعون اليوم إجماعا بلسان أكابرهم على أن هذه القوانين والنواميس التي نشأت على أساسها الحياة وتطورت، تنطوي على وحدة في القصد، والإرادة، والعناية، والحكمة. يستحيل معها على العقل السليم المفكر أن يؤمن بان هذه الحياة خلقت وتطورت بالمصادفة العمياء. فهذا اللورد "كلفن" العالم الإنجليزي الكبير يعلن هذا الإيمان على الناس، ويسخر من القائلين بالمصادفة في خلق هذه الحياة، ويعجب من إغضاء بعض العلماء عما في آثار الحكمة والنظام من حجة دامغة، وبرهان قاطع على وجود الله ووحدانيته حيث يقول:" يتعذر على الإنسان أن يتصور بداية الحياة أو استمرارها دون أن تكون هنالك قوة خالقة مسيطرة. واني لاعتقد من صميم نفسي أن بعض العلماء في أبحاثهم الفلسفية عن الحيوان قد أغضوا إغضاء عظيما مفرطا عما في نظام هذا الكون من حجة دامغة، فان لدينا فيما حولنا براهين قوية قاطعة على وجود نظام هذا الكون من حجة دامغة. فان لدينا فيما حولنا براهين قوية قاطعة على وجود نظام مدبر وخير. وهي براهين تدلنا بواسطة الطبيعة على ما فيها من اثر إرادة حرة، وتعلمنا أن جميع الأشياء (الحية) تعتمد على خالق واحد احدي ابدي".
وهذا "اينشتاين" العصيم يأتي من بعد "كلفن" ليقول:
"إن جوهر الشعور الديني في صميمه هو أن نعلم بان ذلك الذي لا سبيل لمعرفة كنه ذاته موجود حقا، ويتجلى بأسمى آيات الحكمة وابهى أنوار الجمال. وإنني لا أستطيع أن أتصور عالما حقا لا يدرك أن المبادئ الصحيحة لعالم الوجود مبنية على حكمة تجعلها مفهومة عند العقل. فالعلم بلا إيمان يمشي مشية الأعرج، والإيمان بلا علم يتلمس تلمس الأعمى".
فهل تريد أحسن من هذا التلاقي بين عقول العظماء وبين القرآن الذي يقول لنا: (إنما يخشى الله من عباده العلماء). ولبعض الناس –مع إيمانهم بالألوهية- أفكار خاطئة في تصورها؛ كتب "كميل فلامريون" في كتاب "الله في الطبيعة": " إذا انتقلنا من ساحة المحسوسات إلى الروحيات فان الله يتجلى لنا كروح دائم موجود في حقيقة كل شيء. ليس هو سلطانا يحكم من فوق السموات، بل نظام مستتر مهيمن على كافة الموجودات!. ليس مقيما في جنة مكتظة بالصلحاء والملائكة!! بل إن الفضاء اللانهائي مملوء به. فهو موجود مستقر في كل نقطة من الفضاء، وفي كل لحظة من الزمان، أو بتعبير اصح: هو قيوم لا نهائي، منزه عن الزمان والمكان والتسلسل والتعاقب. ليس كلامي هذا من جملة عقائد ما وراء الطبيعة المشكوك بصحتها، بل من النتائج القاطعة التي استنبطت من القواعد الثابتة للعلم، كنسبية الحركة وقدم القوانين. إن النظام العام الحاكم في الطبيعة، وآثار الحكمة المشهودة في كل شيء، المنتشرة كنور الفجر وضياء الشفق في الهيئة العامة، لاسيما الوحدة التي تتجلى في قانون التطور الدائم، تدل على أن القدرة الإلهية المطلقة هي الحوافظ المستترة للكون، هي النظام الحقيقي، هي المصدر الأصلي لكافة القوانين الطبيعية وأشكالها ومظاهرها".
والقائل فيلسوف ينكر اليهودية والنصرانية، ولا يعرف الإسلام، ولكنه يعرف الله الواحد من إدمانه النظر في العلوم والأكوان، وأمثاله كثيرون. وفكرة هذا العالم عن الألوهية تظهر فيها فلسفة وحدة الوجود. وهي فلسفة ندّت عن الصواب، وإن تعبّق بها بعض القدامى من فلاسفة الهنود، وسرت عدواها إلى التصوف الإسلامي، فشردت به عن الحق، وعن تعاليم الإسلام.
وأفكار أولئك الباحثين لو أنها ضبطت بتعاليم الوحي، ومشت في هدي الشريعة، لاستقامت مع ما ذكر القرآن الكريم عن الله عز وجل من صفات، وما نسب إلى ذاته العظمى من نعوت الجلال والجمال..!!
وحسب أولئك – وان لم يعرفوا الحق كاملا- أن لاح منه بريق فأقروا ولم ينكروا. ولئن صدقوا ما عرفوا، إنهم أهل الإيمان الصحيح الكامل لو اتيحت لهم آياته، ويسرت لهم رسالاته، أي لو اتيحت لهم معرفة الإسلام الصحيح من خلال الكتاب والسنة.
ومع زحمة الوجود بالدلائل المؤيدة لعقيدة الألوهية، وانتصاب الشواهد المتكاثرة في الآفاق ترشد الناس إلى رب العالمين، فان العالم لم يخل من منكرين يجحدون الحق ويكفرون بالله. وقد استقصينا أقوال هؤلاء فلم نر بها إلا الانكار المجرد والعناد السمج.
يقول "يوخنز" عميد العلماء الماديين في العصر الماضي: " من الممكن إرجاع ظهور الأجرام السماوية وانتشارها وحركاتها إلى أصول بسيطة من الممكنات، فلا يبقى إذن محل للاعتقاد في قوة خالقة مشخصة". ويقول: "إن الإنسان محصول المادة وليست له خاصة فكرية على النحو الذي يصور الروحانيون". ويقول –ماضيا في إنكار الروح، ومصورا العقل الإنساني بصورة مادية- : " إن الكبد والكليتين تفرز مادة مرئية دون أن نعلم نحن بذلك. أما الحركة الدماغية فلن تكون خارج إرادتنا وإدراكنا، والدماغ يفرز قوة بدل المادة (!).."
ويقول "بروسيه" – مؤيدا هذا التفسير المادي للروح والعقل- : (إن الذكاء والحساسية عمل من أعمال الأجهزة العصبية، كما أن تحويل المأكولات إلى دم يندفع في العروق، عمل الأجهزة الهضمية والتنفسية..!)
وكتبت جريدة طبية مقالة ذكرت فيها أن (الفكر تركيب يشبه حمض فورميك! والتفكير تابع للفسفور! والفضيلة والصداقة والشجاعة ما هي إلا تيارات كهربية للأعضاء الإنسانية). يبدو أن الفيلسوف يقر مرغما – من قبيل إنطاق الحق له – (بأنا) التي ينكرها [2] "
ثم إنهم يقولون: "إن القوة لا تنفصل عن المادة – كما يقررون- فأين مادة القوة التي يفرزها الدماغ؟".
الحق أن الإلحاد الذي يشيع بين طوائف المتحذلقين والمتنطعين لا يستند البتة إلى ذرة من المعرفة أو التفكير السليم.
هذه هي الصورة التي يقدمها الملحدون للإنسانية ومعنوياتها! وهذه هي أدلتهم على إنكار ما وراء المادة، وعلى رفض الإيمان بالله العلي الكبير. وقد سميانها أدلة تجاوزا، و إلا فأي إمارة على الفهم الصحيح في هذا اللغو القبيح؟ ومتى كان التشكيك والفرض والتوهم أدلة محترمة؟ إن من المقطوع به عقلا أن العدم لا يتحول إلى وجود ولا يخلق وجودا. فإذا قيل: أن العالم مفتقر في أحداثه إلى سبب، وان الأحياء محتاجة في وجودها إلى خالق. قيل: بل يجوز أن يتم ذلك من تلقاء نفسه.
وإذا كانت حركة المرور في القاهرة –مثلا- تتطلب فرقة من الجنود لتنظيمها و إلا لسرت الفوضى في أرجائها، فهل يستغرب القول بقدرة منظمة مشرفة على الألوف المؤلفة من الكواكب السيارة في الفضاء؟ وهل يعتبر القول بأن المصادفات المخصصة هي التي تتولى هذا التنظيم.. هل يعتبر إلا لغوا ومجونا؟
ثم ما هذه السخافات الزاعمة بن الفضائل والرذائل اهتزازات كهربائية للأعضاء والأجهزة الجسمانية! . لأنه لا روح –كما يقولون! - .
يجيب "كميل فلامريون" –متهكما فيقول- : "ما معنى إفراز القوة؟ ولم لا يفرز الدماغ كيلومترات أو فراسخ؟".
ويقول المشير "احمد عزت باشا" : " من حيث انه لا روح ولا نفس ناطقة، فمن الذي يشعر بما تفرزه الحركة الدماغية؟ ومن الذي لا يشعر بها؟ وما معنى كلمة "نحن" التي يستعملها ذلك المتكلم؟ (يوختز السابق).