المضل
قبل أن نشرع في الحديث عن هذا الاسم لابدَّ من مقدِّمة، هذه المقدمة لغويَّة.. الكلمة تحتمل من المعاني بقدر ما يملك الإنسان من خبرات، كأنَّ الكلمة مشجبٌ يعلِّق عليه كلُّ إنسانٍ ما يملكه من خبرات حول هذه الكلمة، لذلك هناك خطرٌ كبير أن نملك مفهوماً خاطئاً عن كلمة، فكلّما ذكرنا هذه الكلمة حمَّلناها ذلك المفهوم.
مثلاً.. كلمة جرثومة في استعمالاتنا اليوميَّة هي كلمةٌ تشير إلى المرض، أمّا أن يقف شاعر يقول وهو يخاطب خليفةً كبيراً:
أنت جرثومة الدين والإسلام والحسب..
معنى ذلك أنَّ كلمة جرثومةُ وقت ما مدح الشاعرُ الخليفةَ بها كانت تعني شيئاً كبيراً، كانت تعني أصل الشيء، فلمَّا سميّنا تلك الكائنات المجهريّة التي هي سبب الأمراض جراثيم فلم يعد من المناسب أن تمدح إنساناً وتصفه بأنَّه جرثومة، إذاً هذه الكلمة حملت معنىً في حقبةٍ ما غير المعنى الذي تحمله الآن.
فكلمة استعمار، ليست هذه الكلمة محببة، لأنَّ أقوياء منحرفين معتدين احتلوا بلاداً ونهبوا ثرواتها وقهروا أهلها واستعبدوهم فسمَّوا أنفسهم مستعمرين بمعنى أنَّهم أرادوا أن يُعَمِّروا الأرض الممارسة المؤلمة الخاطئة والتي أُلصقت بهذه الكلمة أعطتها معنىً لا يقبل الآن ككلمة يمكن أن يمدح بها إنسان.
أردت من هذه المقدِّمة أن نحرر مفاهيم الكلمات مما لصق بها من خبرات. ربَّما كانت الكلمة لها معنىً في اللُغة غير هذه المعنى.
العلماء قالوا: " لا ينبغي أن نذكر اسم المُضل إلا مع اسم الهادي، ولا ينبغي أن نذكر اسم الضار إلا مع اسم النافع، ولا اسم المُذِل إلا مع اسم المُعز، ولا اسم الخافض إلا مع اسم الرافع، ولا اسم القابض إلا مع اسم الباسط.. فهو يقبض ليبسط، ويخفض ليرفع، ويُذل ليُعز، ويأخذ ليعطي، ويضلُّ ليهدي "، ما دامت أسماء الله حُسنى وصفاته فُضلى.. إذاً لا بدَّ من تفسيرٍ يليقُ بكمال الله لهذه الأسماء الحُسنى، ويليق بعظمته، ويليق بقدرته، ويليق بعدالته، ويليق برحمته.
الاسم المضل ربَّما من خلال الممارسات وجدنا أنَّ إنساناً يُضلُّ إنساناً آخر، فهذا العمل ليس محبوباً عندنا، ليس عملاً مستحسناً أن يُضلَّ إنسانْ إنساناً، إنَّه عملٌ مخالفٌ للفطرة، مخالفٌ للقيم الإنسانيَّة الرفيعة، أما إذا قلنا أنَّ الله هو المضل فلا بدَّ لهذا الاسم من معنىً يليق بكمال الله.
كما هي العادة نقف وقفةً متأنِّية عند اللُغة.. فالمُضِلُّ اسمٌ من أسماء الله الحُسنى التي تضاف إلى التسعة والتسعين اسماً التي وردت في الأحاديث الصحيحة.
الضلالُ النسيان والضياع.. فقد قال تعالى:
﴿قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) ﴾
(سورة طه)
وضلَّ الكافر.. إذا غاب عن الهدف الذي خلق من أجله.
إنسان ذهب إلى بلد غربي لينال الدكتوراه، فتنته هذه البلاد بمسارحها ومقاصفها ونواديها وحدائقها وشهواتها فانغمس في هذه الشهوات وضلَّ عن هدفه الذي أُرسل من أجله، فيقال: هذا الطالب ضالّ: أي غاب عن الهدف الذي جاء من أجله، وقد يكون الضلال هو الانحراف عن الطريق المستقيم.. الطريق المستقيم إذا خرج الإنسان عنه فقد ضلَّ ضلالاً مبيناً.
أضلَّه.. جعله ضالاً.. إذا قلنا فلانٌ أضلَّ فلاناً أي جعله ضالاً، أما إذا قلنا الله جلَّ جلاله أضلَّ فلاناً أي وجده ضالاً وعلِمَه ضالاً.. هذا معنى آخر.
يقال: " الضلالُ كلُّ عدولٍ عن المنهج عمداً أو سهواً، يسيراً أو كثيراً".
في الحقيقة: وردت كلمة الضلال في القرآن الكريم كثيراً، وورد أنَّ الله يضلُّ الكافرين، فكيف نفسِّر هذا الاسم الذي هو بالتأكيد من أسماء الله الحُسنى، وبالتأكيد لو عرفت مضمونه لذابت نفسك محبةً لله عزَّ وجلَّ ؟
قال بعض العلماء: " إنَّ إضلال الله تعالى للإنسان على أحد وجهين، أحدهما أن يكون الإنسان ضالاً ".. أي اختار الضلال فقدَّر الله عليه الضلال الجزائي المبني على ضلال اختياري.. هذا ذكرته كثيراً، إذا عُزِيَ الإضلال إلى الله فهو الإضلال الجزائي المبني على ضلال اختياري.. إذا قلنا إنَّ رئاسة الجامعة قد طردت هذا الطالب من الجامعة فليس معنى هذا الكلام إلاّ أنَّ الطالب رفض أن يدرس، ورفض أن يُداوم، ورفض أن يُقدِّم الامتحان، ورفض أن يجيب على الإنذارات، وتجاهل كلَّ دعوةٍ إلى أن يعود إلى الجامعة، عندئذٍ لم تجد رئاسة الجامعة بداً من أن تصدر قراراً يجسِّدُ سلوك الطالب، يُجسِّد اختيار الطالب، فإذا عُزِيَ الإضلال إلى الله فهو الإضلال الجزائي المبني على ضلال اختياري.
لو فتحنا معجم اللُغة وأردنا أن نستشِفَّ معنى فعل أَفْعَلَ، فعندنا فِعْلُ فَعَلَ وهو فعل لازم، وأما أَفْعَلَ قد يأتي للتعدية.. ذهب أذهب، ضلَّ تاه، أَضَلَّ.. من معنى الفعل الثلاثي المزيد بهمزةٍ في أوَّله " أَفْعَلَ " الوجدان، العلم، كأن نقول: اختبرت هذه القبيلة فما أجبنتها.. أي ما وجدّتها جبانةً، أو نقول: عاملتها فما أبخلتها.. أي ما وجدّتها بخيلةً، إذاً معنى أضلَّه.. هناك معنى آخر أي أنَّه وجده ضالاً، علمه ضالاً، أعطاه الخيار فاختار الضلال فحكم الله عليه بالضلال فأضلَّه.
الشيء الدقيق.. لو أخذنا جامعة كمثال.. فليست البطولة أن ينجح جميع الطلاَّب بعلاماتٍ تامَّة، ولكنَّ كمال هذه الجامعة أن تأتي علامات الطلاَّب مطابقةً لمستوياتهم العلميَّة، فتطابق النتائج مع المقدِّمات هو الكمال، أما أن ننتظر من جامعةٍ ما أن يكون طلاَّبها جميعاً في الدرجة الأولى الواحدة هذا يتنافى مع طبيعة الإنسان المخيَّر، إلا أنَّ النتائج إذا جاءت، ومطابقةً للمقدمات فهذا هو الكمال.
فالإنسان حينما يختار الضلال يذكِّره الله فلا يذكُر، يُنذره فلا يتأثَّر، يدلُّه فلا يسلك، يخيفه فلا يتوب، يكرمه فلا يشكر، كما تعلمون ؛ إن الله جلَّ جلاله يهدي الإنسان بياناً ثم يأتيه تأديباً ثم يهديه إكراماً.. لم يستجب في البيان، ولا في التأديب تضرَّع، ولا في الإكرام شكر، إذاً أصرَّ على الضلال فبحسب قوانين الله عزَّ وجلَّ وبحسب سننه في الكون هذا الإنسان الذي اختار الضلال بمحض مشيئته سوف يسلك الله به إلى النار ليدفع الإنسان به ثمن اختياره.
الشيء الثاني.. معنى الإضلال كما قلت قبل قليل: الحكم على هذا الإنسان بأنَّه ضال والعدول به عن طريق الجنَّة إلى النار وهذا العدول حقٌ وعدل.
وهناك معنى ثالث.. هو أنَّ الله سبحانه وتعالى جَبَلَ نفسيّة الإنسان جِبِلةً بحيث إذا اختارت طريقاً تألفه ويصعب أن تحيد عنه، فمَنْ شبَّ على شيءٍ شاب عليه، ومن شاب على شيءٍ مات عليه، ومن مات على شيءٍ حُشِر عليه، فلو أنَّ الإنسان اختار طريق الضلال، وأَلِفَ الضلال ومارسه، وانغمس بالمعاصي والآثام ألِف هذه الحياة، يصعب عليه بناءً على جبلَّته أن يغير ما ألفه، هذه الجبلَّة التي يصعب عليها أن تُغيِّر المألوف عندها، هي في الأصل لمصلحة الإنسان.
في علوم الفيزياء قانونٌ يسمى: " قانون العطالة "، فالأشياء المتحرِّكة ترفض السكون، والأشياء الساكنة ترفض الحركة، فلو كنت تركب مركبةً وأوقف السائق المركبة فجأةً أنت كراكب ترفض أن تقف فتتابع الحركة، هذا الذي يدفع صانعي السيارات لوضع أحزمة الأمان في المقاعد لتكون مرتبطاً بالمركبة ولست حراً، فالمركبة حينما تقف فجأةً يبقى الراكب مندفعاً نحو الأمام وقد يموت بهذا الاندفاع فلا بدَّ من حزام الأمان، وهذا أساس مبدأ العطالة، والأشياء الساكنة ترفض الحركة، فلو كنت جالساً في مركبة وأقلعت تشعر أنَّ شيئاً دفعك نحو الأمام، فالمقعد دفعك نحو الأمام لأنَّك ترفض الحركة والمركبة تحرَّكت.. فهذا القانون لصالح الإنسان. فلو أن الإنسان هُديَ هدايةً كبيرة جداً ولسببٍ تافهٍ يعدل عن هذه الهداية، فهذه مشكلة كبيرة تواجهه وتحدث عنده خللاً.
فأنت جبِلَّتكِ تقترب من مبدأ العطالة، فإذا ألفت الهدى تابعت الهدى، أما بالمقابل إذا ألف الإنسان الضلال تابع الضلال، فهذا القانون قانونٌ ذو حديِّن لصالح المؤمن، كذلك ليس لصالح الكافر، المؤمن يزداد به إيماناً والكافر يزداد به كفراً، والحياة أساسها الاختيار، فكل شيء حيادي، فهذا القانون يمكن أن يكون لصالح المؤمن، ويمكن أن يكون لغير صالح الكافر.
ففي جبلَّة الإنسان، أنَّ الإنسان إذا سلك طريقاً محموداً أو مذموماً ألفه واستطابه ولزمه وتعذَّر عليه صرفه أو انصرافه عنه، لذلك أهون شيءٍ أن ترشد الصغار لأنَّهم ليِّنوا العود، أما الكبار فقد ثبتوا على طريقةٍ معيَّنة فمن الصعب جداً أن تغيِّر سلوك الكبير لأنَّه ألف شيئاً يصعب عليه أن يتركه.
فالإنسان الجاهل بالله عزَّ وجلَّ والجاهل بمعاني الكلمات قد يفهم الإضلال فهماً لا يليق بكمال الله عزَّ وجلَّ، قد يفهمه أنَّ الله أضلَّه أي جعله ضالاً وخلق فيه الضلال، يا ربي إذا خلقت فيه الضلال لماذا تحاسبه ؟ هذا المعنى لا يليق بالله عزَّ وجلَّ.. فبناءً على أنَّ المقدِّمات لابدَّ لها من نتائج متوافقة معها. فمن اختار الضلال بمحض مشيئته وأصرَّ عليه خلقه الله فيه جزاءً لا ابتداءً.. هذا معنى.
والمعنى الثاني أنَّ طبيعة الإنسان ذات عطالة فإذا ألفت الخير ثبتت عليه، وإذا ألفت الشر ثبتت عليه، فهذا القانون حيادي يمكن أن يكون لصالح المؤمن، وقد لا يكون لصالح غير المؤمن.
لذلك أيُّها الإخوة... الإنسان إذا انتبه للهدى في وقتٍ مبكِّر، فهذا من نعم الله العظمى لأنَّه سيبني بيتاً إسلامياً، وسيختار عملاً إسلامياً، أما إذا تأخَّر في البداية فقد يجد نفسه ضائعاً فبيته ليس إسلامياً، وعمله ليس إسلامياً، وقد ألف حياة التفلُّت عندئذٍ يصعب عليه أن يعود إلى الله كما لو كان شاباً.
لذلك يقول الله عزَّ وجلَّ:
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115)﴾
(سورة التوبة)
فعندما يختار الإنسان الهدى واللهُ سبحانه ييسِّر له سبيل الهدى يستحيل على كمال الله عزَّ وجلَّ أن يضلَّه بعد أن اهتدى إليه.. لذلك:
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ ﴾
والمؤمنون كما قال الله عنهم فلن يضلَّ أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم قال تعالى:
﴿فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5)﴾
(سورة محمد)
ومعنى آخر.. إن الكافر أحياناً يُضلُّه الله لا عن ذاته تعالى بل عن شركائه، فلو أنَّ إنساناً أشرك جهةً مع الله أيَّةٌ جهةٍ فمِن تربية الله له ومن تأديب الله له أنَّ هذه الجهة التي أشركها مع الله يسخِّرها الله لتخييب ظنِّه، ويجب أن يحبط عملُ هذا الإنسان الذي اعتمد فيه على شريكٍ لله عزَّ وجلَّ، كأنَّ الله أضلَّه عنه ولم يبق له إلا الله.
والحقيقة: ما أكثر ما يقع هذا الشيء. فكلّما عَلَّقتَ الآمال على جهةٍ أرضيَّة على ابنٍ مثلاً، أو على زوجة، أو على أخٍ، أو على صديقٍ علَّقتَ عليه الآمال ونسيت الله عزَّ وجلَّ لا بدَّ من هذا الذي علَّقتَ عليه الآمال أن يخيِّب ظنَّك، قد يكون هو وفياً لكن يُلهمه الله أن يخيِّب ظنَّك ليضلَّك عنه، كي تتجه إلى الله وحده لا إلى شركائه في الأرض.
فلو أنَّ إنساناً له صديقٌ قوي يعمل في منصبٍ حساس وقال له أنا في خدمتك، فأيَّة قضيةٍ آلمتك تعالَ إليّ، فهذا الإنسان يتَّكىء على هذا الصديق ويشعر بالأمن والقوة، أشرك وهو لا يدري، ونسي الله وهو لا يدري، فلو أنَّه استجاره مرةً، وطرق بابه مرةً قد يجد خلاف ما يظن قد يتخلى عنه، قد يقف منه موقفاً قاسياً، هذا التخلي أو تلك القسوة بإلهام الله لهذا القوي كي يضلَّ هذا المشرك عن شريك الله عزَّ وجلَّ.
فإذاً، كلّما قلت: أنا، أو نحن، أو زيد، أو عُبيد تخلَّى الله عنك، وإذا قلت: الله.. تولاَّك، فأنت دائماً وأبداً بين التولي والتخلي، إذا وحدَّت الله تولى أمرك، وإذا أشركت معه تخلى عنك.. وهذا الدرس نحتاجه كلَّ يوم.
كل إنسان له عمل، له خبرات، عنده مال، عنده مراكز قوَّة، عند إيجابيَّات، عند ه قدرات، عنده ملكات، إذا اعتمد على ملكاته، على قدراته، على أمواله، على جماعته، على أقربائه، على إمكاناته، على شأنه، على وجاهته، على ذكائه، على قدرته، على رصيده كلَّما اعتمد على شيءٍ أرضي تخلى الله عنه.
أضلَّه عن هذا الشريك ليوحِّد، فالمؤمن لو أنَّه أخذ بالأسباب لا ينسى مسبب الأسباب، لو أنَّه وسَّط فلاناً في قضيّةٍ ما لا ينسى أنَّ الله هو الملهم وأن الخير والتوفيق بيده.. فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
الكافر.. قال تعالى:
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8)﴾
(سورة محمد)
إذاً: لماذا لم يرد في القرآن إطلاقاً أنَّ الله أضلَّ مؤمناً ؟ فهذه النقطة نقطة إيجابية دقيقة.. لأنَّ المؤمن آمن فقد قال تعالى عنه:
﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَرَدّاً (76)﴾
(سورة مريم)
وقال تعالى عن أهل الكهف:
﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)﴾
(سورة الكهف)
أي أنَّ قضاء الله وقدره مع المؤمن ومع الكافر، فالمؤمن إذا اختار الهدى يزداد هدىً، إذا آمن يلقي الله في قلبه السكينة ليزداد إيماناً مع إيمانه، إذا اتخذ قراراً يرضي الله عزَّ وجل شرح الله له صدره، أما إذا اتخذ قراراً يسخط الله عزَّ وجلَّ ضاق صدره وأصبح صدره حرجاً ضيِّقا كأنَّما يصَّعد في السماء كما قال تعالى:
﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) ﴾
(سورة الأنعام)
﴿ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ﴾
من هنا قال النبي عليه الصلاة والسلام:
(( حَدَّثَنَا حَيْوَةُ أَخْبَرَنِي أَبُو هَانِئٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيَّ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُول إَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ ))
(صحيح مسلم)
إذاً: معنى الإضلال معنى دقيق جداً، الله جلَّ جلاله هو الكامل فأيُّ فهمٍ لكلام الله عزَّ وجلَّ على غير الكمال الذي يليق بالله هذا فهمٍ خاطئ.
في معجم ألفاظ القرآن الكريم قال: أضلَّه.. وجده ضالاً.
العامي قد يتوهَّم أضلَّه أي خلق فيه الضلال.. كما قيل في بيتٍ من الشعر:
ألقاه في اليمِّ مكتوفاً وقال له ..إيَّاك إيَّاك أن تبتلَّ بالماء
***
عقيدة الجبر عقيدةٌ زائغة، عقيدةٌ مرفوضة، عقيدةٌ لا تليق بالله عزَّ وجلَّ، لا تليق بكماله، وتتناقض مع تكليف الإنسان، ومع حريَّة اختياره، ومع كسبه، ومع الثواب والعقاب، ومع الجنَّة والنار، عقيدة الجبر تنفيها آيةٌ كريمة قال تعالى:
﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)﴾
(سورة الأنعام)
قال علماء اللغة: " أضلَّه.. وجده ضالاً "، كأن تقول أحمدّته وأبخلته، أي وجدّته محموداً وبخيلاً.. أحمدته وجدته محموداً، أبخلته وجدّته بخيلاً.
عندنا قاعدة في أصول الفقه.. الآيات المتشابهات مهما كثُرت تُحمَل على الآيات المحكمات مهما قلَّت.. كيف ؟ الكلمة المتشابهة تشبه معنىً ومعنىً آخر، إذا قلنا كلمة: خطير.. القمح مادةٌ خطيرة، فما معنى خطير ؟ فالقنبلة خطيرة لأنَّها مدمِّرة ونقول عنها سلاحٌ خطير.. واللحم مادة خطيرة أي أساسيَّة في حياة الإنسان، فيا تُرى كلمة خطيرة التي وصف بها القمح أو اللحم هل تعني أنَّها مدمِّرة أو أساسيَّة ؟ فلو قلنا: القمح مادةٌ خطيرة ماذا نقصد بها ؟ لو قلنا بعد حين: القمح مادةٌ مهمةٌ في حياة الإنسان، فكلمة مهمَّة تعبير محكم واضح جلي، كلمة القمح مادةٌ خطيرة كلمة متشابهه، كيف نفهم كلمة خطيرة، إذا قرأنا جملة ثانية أنَّ القمح مادة أساسيَّة، فنحمل كلمة خطيرة على أنها أساسيَّة، لأنَّ الكلمات المتشابهة تحمل على الكلمات المحكمة.. هذه قاعدة.
فإذا نطق القرآن الكريم بأنَّ الله سبحانه وتعالى خلقنا ليرحمنا، وخلقنا ليهدينا، وإنَّ الله لا يأمر بالفحشاء فقد قال تعالى:
﴿وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) ﴾
(سورة إبراهيم)
والله.
﴿ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ﴾
قال تعالى:
﴿إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) ﴾
(سورة الزمر)
مادامت آيات كتاب الله تؤكِّد أنَّ الإنسان مخيَّر، وأنَّ الشر ليس إيجابياً بل هو شيء سلبي، وليس مقصوداً لذاته فهو موظَّف للخير المطلق، عندئذٍ يجب أن نفهم معنى الإضلال لا على أنَّ الله خلق في الإنسان الضلال بل على أنَّه أعطاه حريَّة الاختيار فاختار الضلال فوجده الله ضالاً، ولأنَّ هناك قوانين إلهيَّة فالضلال له نهاية والهدى له نهاية.
يضلُّ الله من يشاء.. عندنا آية تقوِّي هذا المعنى قال تعالى:
﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) ﴾
(سورة الصف)
﴿ فَلَمَّا زَاغُوا ﴾
زيغاً ابتدائياً مختارين به أزاغ الله قلوبهم.. زيْغاً جزائياً.
وأذكِّركم مرة ثانية بمثل الجامعة، طالب بمحض اختياره ترك الدوام، فإنه لم يداوم، ولم يؤدِّ الامتحان، ولم يشترِ الكتب، ولم يرد على الإنذارات، ولم يستجب للدعوة للعودة إلى الجامعة، أصر على هذا الموقف، الآن يصدر من إدارة الجامعة قرار بترقين قيده، هذا القرار تجسيدٌ لإرادته الحرة، نقول الجامعة طردته، الجامعة رقَّنت قيده، الجامعة جهةٌ خيرةٌ حكيمةٌ أنشأت الجامعة ليتعلَّم الطلاب، لا لتطردهم منها، ولا لتُرَقِّن قيودهم منها.
إذاً: نفهم أن ترقين القيد والطرد من الجامعة نفهمه فهماً جزائياً لا فهماً جبرياً، فهناك فرقٌ بين الفهم الجزائي والجبري.
﴿ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ ﴾
ومن يشاء الهدى يهديه الله.
﴿ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾
فقد قال تعالى:
﴿وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَاناً وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)﴾
(سورة المدثر)
هناك معنى سادس للإضلال.. إنسان يتجه إلى حمص، وقبل حمص رأى طريقين بلا لافتات، ورأى رجلاً فسأله قائلاً: مِن فضلك: من أين طريق حمص ؟ قال له الرجل: من هذا الطريق. فقال: هذا السائل لهذا المسؤول جزاك الله خيراً، بارك الله بك، فلما قبل هذه النصيحة وقبل هذا الإرشاد قال له الآخر: انتبه هناك حاجز، وهناك طريق فرعي، وهناك مقطع من الطريق شديد السوء انتبه.. عندما قبل منه هذا الإرشاد أمدَّه بكثير من التفاصيل.. لو أنَّ إنساناً آخر وصل لهذا المفترق الذي دون لافتات، وسأل هذا الرجل: من أين طريق حمص؟ قال له: من هنا. قال: أنت كاذب، هذا الذي يقف على مفترق الطرق هل بإمكانه أن يقدِّم له تعليمات تفصيليَّة ؟ رفض دعوته كلياً، رفض نصيحته كلياً، رفض دلالته.
معنى ذلك أنَّ الإنسان حينما يرفض أصل الدين، حينما يرفض أصل الشريعة، حينما يرفض منهج الله عزَّ وجلَّ فلن يستفيد من منهج الله وكأنَّ الله أضلَّه.
هناك ألف ميزة لطالب الجامعة.. مكتبة مجَّانيَّة، وإعارة كتب وتعويض، ولباس مجَّاني، وبطاقات تخفيض للمطاعم وفي السفر وفي الطائرات، إذا رفض الإنسان دخول الجامعة هل يتمتع بهذه الميزات ؟ إذاً هو حُرم منها كلياً.. هذا معنى سادس للإضلال.. أنت حين ترفض أصل الدين لن تقبل من الله توجيهاته، لن تقبل شرعه، لن تقبل أمره، لن تقبل نهيه، لن تقبل القيم التي أرادها لخير الإنسان، فأنت الذي رفضت الدين إذاً فرفضت كل ميزاته وكل ثمراته.
إذاً.
﴿ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ ﴾
من يشاء الضلالة يضلُّه الله، يشاء الضلال اختياراً يضلُّه الله جزاءً، أي يحرم من ثمرات الدين.
وقد قال تعالى في الآية الكريمة:
﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ(23) ﴾
(سورة الزمر)
﴿ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾
أي أنَّ الإنسان حينما يختار الضلال لا يستطيع أحدٌ في الكون أن يهديه.. أبو لهب مثلاً ألم يعش مع رسول الله، ألم يرَ دلائل نبوَّته، ألم يَرَ كماله !!؟ هو رفض الحقيقة كلياً، فلا تتعب نفسك فقد قال تعالى:
﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) ﴾
(سورة القصص)
﴿ إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾
مالهداية ؟ فالهداية قرار داخلي.
أقول لكم هذه الكلمة.. أنت إذا أردت الحقيقة كلُّ شيءٍ في الكون يدلُّك عليها، وإذا رفضّتها.. فقوم موسى رأوا البحر وقد أصبح طريقاً يبساً، ورأوا العصاة وقد أصبحت ثعباناً مبيناً، رأوا يد سيدنا موسى بيضاء للناظرين، فلما أتوا على قومٍ يعكفون على أصنامٍ لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة.. كما ذكر في قصة سيدنا موسى مع قومه في الآية الكريمة:
﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) ﴾
(سورة الأعراف)
فالإنسان إذا لم يتَّخذ قراراً داخلياً بالبحث عن الحقيقة، ليس في الكون كلِّه شيءٌ يمكن أن يهديه إليها، أُناس عاشوا مع رسول الله في الوقت الذي كان القرآن يَنزل عليه والمعجزات تتوالى، والآيات واضحة، والدلائل كثيرة، ومع ذلك ناصبوا النبيَّ العِداء.
إذاً.. ومن يضلل الله أي من يتَّخذ قرار الضلال، من يُرد الشهوات، من يُرد الدنيا، من يعرض عن الله عزَّ وجلَّ لن يستطيع أحدٌ في الأرض ولا الأنبياء أن يهدوه إلى الله، لأنَّ الهدى ذاتي، وهو قرار داخلي.
أضرب لكم مثلاً.. الإنسان قد يكون شديد الذكاء، وقد يكون عبقرياً، وقد يكون كإنشتاين، هذا الذكاء يشبه آلة للتصوير عالية التقنية، فهناك آلات ثمنها ألوفٌ، وآلات أُخرى ثمنها ملايين من الليرات كالآلات التي تستخدمها محطات التليفزيون وقد يصل ثمنها إلى أكثر من مليونين من الليرات، فلو كانت هذه الآلات ليس في داخلها فيلمٌ فما قيمتها ؟.
الإنسان إذا أراد الحقيقة يكون في داخل آلته فيلمٌ ينطبع عليه كل شيء، أما إذا لم يُرد الحقيقة آلته غالية الثمن جداً ولكن بدون فيلم.. فما قيمة التصوير وضبط العدسة وضبط المسافة والسرعة، لا قيمة لهذه الآلة كلِّها، إما إن أردت الحقيقة أي في داخل آلتك فيلم فكل شيء تلتقطه، وإذا لم ترد الحقيقة مهما تكن آلتك غالية الثمن ولكن بدون فيلمٌ في داخلها، هذا معنى قول الله عزَّ وجلَّ.
﴿ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾
في الآية الكريمة:
﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾
إذاً أضلّ الإنسان نفسه عن الله فأراد الدنيا وأراد الشهوات فلن تجد له في الأرض من يهديه.
أما المؤمنون قال تعالى:
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾
مستحيل ذلك فكلُّكم يعلم إنَّ هذه الصيغة من أشدِّ صيغ النفي، فهذا نفي الشأن وفرقٌ كبير بين نفي الشأن وبين نفي الحدث.. ما كان له أن يسرق.. لا يسرق، ولا يحبُّ أن يسرق، ولا يريد أن يسرق، ولا يتمنَّى أن يسرق، ولا يفكِّر أن يسرق، ولا يرضى أن يسرق، ولا يرضى لأحدٍ أن يسرق.
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ ﴾
هذا المعنى الذي يلقيه الجهلة على الناس فيه مكر. فهم يقولون: قد تَعبُدُ الله طوال حياتك وقبل أن تموت بقليل يقدِّر عليك الضلال فتزِلَّ قدمك فتستحقَّ النار، هذا قنص، هذا غدر.
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ ﴾
كن في طُمأنينة، الله جلَّ جلاله ينمّي الخير القليل فيجعله كثيراً، ينمّي الطلب القليل ليجعله طلباً كبيراً.
وفي آيةٍ أُخرى قال تعالى:
﴿ فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) ﴾
أي فأنت رأس مالك أن تبحث عن الحقيقة، فإذا اتخذت قراراً صادقاً مخلصاً في البحث عن الحقيقة وصلت إليها وربِّ الكعبة، وزوال الكون أهون على الله من أن تبحث عنها فلا تصل إليها..
فقد قال تعالى:
﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) ﴾
(سورة العنكبوت)
وقال تعالى في آيةٍ أخرى:
﴿وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) ﴾
(سورة الأعراف)
أي أنَّ الله عزَّ وجل دائماً من سننه في معاملة خلقه، أنَّه ما كان ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيِّب كما في قوله تعالى:
﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)﴾
(سورة آل عمران)
فلابدَّ من فرزٍ مستمر.. فحديث الإفك فرزٌ للمؤمنين، فمنهم من صدَّق ومنهم من كذَّب، منهم من سكت توقيراً للنبي وزوجه المصون، ومنهم من خاض في حديث الإفك.. قصَّة الإسراء والمعراج فرزٌ للمؤمنين، منهم من ازداد إيماناً برسالة النبي، ومنهم من انتكس بهذا الخبر.. فهذا الفرز دائم، فإذا كنت أمام خمسين طالباً بدون إجراء مذاكرات وامتحانات فتصبح مشكلة، فتجدهم كلُّهم يرتدون ثياباً موحَّدة، وكلُّهم يطلبون العلم، ولكن بعضهم لا يدرس أبداً، وبعضهم في راحة، وبعضهم عبء على أهله.. فلا بدَّ من مذاكرةٍ من حين لآخر، فهذه المذاكرة تفرز الطلاَّب ومن خلالها يتم إعلام الآباء بمستويات أبنائهم، فهذا كسلان في الدراسة، وهذا علاماته متدنيّة في الرياضيَّات مثلاً فبذلك يتلافى القصور، ونشجع المجتهد.. أما أن يكون كامل العام الدراسي بلا مذاكرات، وبلا فرز، وبلا تقييم فهذه مشكلة.
فلحكمةٍ أرادها الله دائماً هناك امتحانات قال:
﴿ إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ ﴾
الفتنة الامتحان.
﴿ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ ﴾
أي أنَّ الضال الذي يخفي الضلال ويظهر الهداية نفاقاً يكشفه الله، والمهتدي الذي ينطوي على هداية، وعلى استقامة وعلى إخلاص لِلَّهِ عزَّ وجلَّ يكافئه.. هذا معنى هذه الآية.
وقال تعالى:
﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) ﴾
(سورة الرعد)
هنا معنى مخالف.
﴿ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ﴾
من يضلُّ إذاً ؟ من أعرض، فالمنيب يهديه الله، أما المعرض لا يهديه الله عزَّ وجلَّ، وقال تعالى:
﴿يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (31)﴾
(سورة الإنسان)
وهذا معنى آخر.. من يشاء هكذا ؟ قال:
﴿ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾
معنى ذلك يشاء الله غير الظالمين، وهذا بالمقابل.
وقال تعالى:
﴿وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً (97) ﴾
(سورة الإسراء)
أيُّها الإخوة... آياتٌ كثيرة يُعْزَى فيها الإضلال إلى الله هو الإضلال الجزائي المبني على ضلال اختياري، أو أنَّ الله يضلُّ الإنسان المشرك عن شركائه.. بيده الخير، فهذا الإنسان متجه نحو شريك ضعيف يضلُّه عن شركائه ليهتدي إلى الله.
هناك أشياء قد تقع كثيراً وقد يكون عند الإنسان منافذ لمواجهتها.. فإذا ضاقت به الأمور يقول سألجأ إلى فلان أو فلان، وإذا كان ابنه مسافراً مثلاً يقول له: ابعث لي ويلتجئ بعضهم إلى أخيه، أو ابنه، أو صديقه، أو إلى شيء يبيعه ليفرج أزمته المالية التي ألمت به، إنه يركن إلى الدنيا، ويتمسك بأهدابها على ضعفها، وتقلب أهلها ويبقى غافلاً عن الله الذي يقدر وحده على رد لهفته وإيماتت.
وأحياناً يقع في شدَّة فيسأل ابنه فيعتذر إليه الابن، ويطرق باب فلان فيعتذر، يحاول السفر فلا يسمح له، يعرض البيت للبيع فلا يأتيه أحدٌ ليشتريه منه، يغلق الله عليه كلَّ المنافذ ليتجه إلى الله أي أضلَّ الله هذا الإنسان عن شركائه.. مشرك متَّكىء على فلان وعلى زيد وعلى عُبيد وعلى مال وعلى وساطة وعلى وجاهة ونسي الله، فإذا قلنا فلان أضلَّه الله أي أضلَّه عن هذه الجهات الأرضيَّة ليتجه إلى الله خالق البريَّة.
أيُّها الإخوة الكرام... حسن الظنِّ بالله ثمن الجنَّة.. إن أردت أن تصل إلى الجنَّة فعليك أن تحسن ظنَّك بالله، وأن تفهم أسماء الله الحُسنى على نحوٍ يليق بكماله، ويليق بجلاله، والله سبحانه وتعالى يقول:
﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)﴾
(سورة الأعراف)
ويقول أيضاً:
﴿وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً (6)﴾
(سورة الفتح)
وقال أيضاً:
﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) ﴾
(سورة آل عمران)
فكلَّما ازددت معرفةً بالله ارتاحت نفسك وانعقدت صلتك به وأقبلت عليه وسعدت بقربه، وكلَّما ابتعدت عن حسن الظن به صار حجاباً بينك وبينه، لذلك:
(( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَوَاضِعُ الْعِلْمِ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ كَمُقَلِّدِ الْخَنَازِيرِ الْجَوْهَرَ وَاللُّؤْلُؤَ وَالذَّهَبَ ))
(سنن ابن ماجة)
فليس للإنسان عذرٌ إن أساء الظنَّ بالله أن يظل ساكتاً فقد حضَّنا الله على أن نسأل.
﴿ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ﴾
﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ﴾
قال تعالى:
﴿الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً (59) ﴾
(سورة الفرقان)
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) ﴾
(سورة النحل)
محمد راتب النابلسى