عالم الغيب والشهادة
عالم الغيب والشهادة، وهذا الاسم كما تعلمون زائدٌ عن التسعة والتسعين اسماً، التي وردت في أحاديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
عالم الغيب، الغيب مصدر غاب أي استتر عن العين، غابت الشمس أي استترت وراء الأفق.. بل إن الغيب ستعمل في كلِّ غائبةٍ تغيب عن الحواس، أيةُ غائبةٍ تغيب عن الحواس فهي غيبٌ بالنسبةِ إلى الإنسان، وكلُّ شيء غاب عن علم الإنسان فهو غيب.. لكن هذه الكلمات، وتلك هي التعريفات بالنسبةِ إلى الإنسان فقط.
لو أنّ إنساناً يقف خلف حاجز، هذا حاجز يُغَيُّبُ عنه ما وراءه، أما الذي يقف أمام الحاجز فإنه يرى كل ما غيَّبه ذلك الحاجز، نقول هذا المكان غيبٌ بالنسبة لمن يقف وراء هذا الحاجز، أما الذي يرى من قبلُ ومن بعدُ فليس غيباً بالنسبة إليه، هذا كلام سوف ينفعنا كثيراً بعد قليل.
عالم الغيب، الغيب بالنسبة إلينا، لا أحد من بني البشر يعلم الغيب، وقد ذكرت في بحث سابق أن الغيب أنواع.. نوعٌ من الغيب استأثر الله به، لا يُعْلِمُه أحداً من خلقه كائناً من كان.. من هذا الغيب موعد يوم القيامة، ومن هذا الغيب قيامة الإنسان الصُغْرى: الموت ولحكمةٍ بالغةٍ جداً أنّ الإنسان لا يعلم متى يموت، وهذا لصالحه، فلو علم تباطأَ بالتوبة وخسر الآخرة.. فكلُّ شيءٍ يغيب عن علم الإنسان هو غيب، لكن ربنا عالم الغيب والشهادة.
مثلٌ بسيطٌ جداً من يقف هنا في هذه الغرفة لا يعلم ماذا يجري في الغرفة التي تليها، أما ربنا جلَّ جلاله كلّ شيء أمامه مكشوف، عالم الشهادة التي تشهده، وعالم الغيب الذي يغيب عنك.
في بلدٍ مجاور وقعت مآسٍ كثيرة، استمرت هذه الحروب أكثر من ستة عشر عاماً، أكلت الأخضر واليابس، أعرف واحداً يسكن في ذاك البلد المجاور، وله معمل، وله تجارة، وقبل أن يقع أي حادث ضاقت عليه نفسه وضاق به ذلك البلد أشدَّ الضيق وتعثرت أموره، إلى أن انتقل إلى الشام هو وتجارته ومعمله، وبعد أن انتقل، بدأت المشكلات واحترقت المعامل وأتْلِفَ المال، وانتهى كلُّ شيء إلى دمار و خراب.
مَن الذي سيعلم ما سيكون ؟ الله جلَّ جلاله، فإذا كنت معه ألهمك رشدك، ألهمك تصرفاً يحفظك به، أو ألهمك تصرفاً ترضى بنتائجه لأن الغيب معلوم لديه، فأنت لا تعلم الغيب، قد تشعر بحاجة إلى أن تغادر هذا المكان، فتغادره، وبعد أن تغادره تنشأ مشكلة أنت عاجز عن مواجهتها، كذلك قد تشعر بانقباض في أن تسافر على هذه الطائرة، فتحجم عن السفر عليها فتسقط الطائرة، من الذي يعلم الغيب ؟ الله وحده، إذا كنت مع الله فهو الذي يعلم الغيب ويحفظك بهذا العلم، يعلم الغيب ويوفِّقُكَ، يعلم الغيب ويلهمك رشدك، يعلم الغيب ويكيد لك، يعلم الغيب ويدبِّر أمراً يحفظك به.. الغيب عند الله كالشهادة، عَلِمَ ما كان وعَلِمَ ما يكون، وعَلِمَ ما سيكون، وعَلِمَ مالم يكن لو كان كيف كان يكون.
إذاً لا يَعْزُبُ عن الله جلَّ جلاله مثقال ذرةٍ في السماوات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر.. إذا كنت معه وهو الذي لا يغيب شيءٌ عن علمه يوجهك إلى الخير ويدفع عنك الشر قبل أن يقع
هناك حوادث كثيرة جداً تغني هذا الموضوع.. إنسان قبل اجتياح الكويت بأيام سحب أمواله كلها دون أن يشعر لماذا فعل ذلك، حَفِظَ الله له أمواله، يبدو أنه كان يؤدي زكاة ماله.
شيء لا يصدق أحياناً، الأحداث أحداث خطيرة تقع، أنت قبل أن تقع يحفظك الله منها، يلهمك أن تغادر، يلهمك أن تنقل مالك من مكان إلى آخر، من جهةٍ إلى جهة، من عُملةٍ إلى عُملة، وأنت لا تدري، لأن الله يعلم الغيب، فإذا كنت معه وتؤدي حقوق العباد، وتقيم منهج الله يحفظك، وعلمه للغيب يفيدك به إذ ربنا جلَّ جلاله يصرِّف الأحوال ويقبلها لصالح عباده المؤمنين.
أما الشهود والشهادة، الحضور مع المشاهدة، عالِم الغيب والشهادة، أي أنت حاضر وتشهد، عالَم الغيب أي غاب عنك، عالَم الشهادة حضرت وشهِدت، إما بالبصر أو بالبصيرة، البصر رؤية العين، والبصيرة رؤية القلب، قال الله تعالى:
﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) ﴾
(سورة الأنعام)
ذُكر اسمه هذا في آياتٍ كثيرة.. طبعاً الحضور والشهود هو الأصل، أما العلم والشهود فهو فرع، قد تحضر وتشاهد بأمِّ عينك، وقد تعلم وكأنَّك تشاهد.
لكن من اللطائف في قوله تعالى:
﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) ﴾
(سورة الفيل)
مع أن هذا الحادث لم نره نحن، فالله سبحانه وتعالى قال:
﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾
قال بعض العلماء: " يجب أن يقع إخبار الله لك موقع الرؤية لمصداقية الله عزَّ وجلَّ ".
شهَدُه كسمِعَه، شهده شهوداً أي حضره، أنا شهدت الجنازة أي حضرتها، شهدت هذا الحفل أي حضرته، شهدت هذا المأتم، شهدت هذه المشكلة أو الواقعة أي حضرتها، عالم الغيب والشهادة.
ومن ثمَّ فما معنى قوله تعالى:
﴿الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)﴾
(سورة البقرة)
أي أن الله جلَّ جلاله لا تدركه الأبصار، غابت عنا ذاته وبقيت آثاره، نحن من آثاره نتعرف إليه وهذه مهمة العقل.. أدواتٌ ثلاث للمعرفة، إما أن ترى بحواسك، وإما أن تدرك بعقلك، وإما أن تتلقى خبراً بأذنك، هذه هي أدوات المعرفة وليس هناك أداةٌ أخرى.. إن كان هناك أداةٌ أخرى كالإشراق، أو الإلهام أو الرؤيا الصالحة يجب أن تكون مقيدةٌ بالشرع ولا نقبل لا رؤيا ولا إلهاماً، يخرم الشرع قِيد أَنمُلة.. ديننا دينٌ كاملٌ تام.. قال تعالى:
﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)﴾
(سورة المائدة)
﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا ﴾
ديننا دينٌ كاملٌ تام.
لو أنَّ رجلاً رأى النبي عليه الصلاة والسلام طبعًا في المنام، هكذا قال العلماء، وأمره بما يخالف الشرع، تردُّ الرؤيا ويثبت الشرع.. بل لو أنَّ قاضياً رأى في الرؤيا أنَّ هذا الشاهد كاذب لا تقبل شهادته، وهو عنده في اليقظةِ صادق يجب ألا يأخذ بالرؤيا.
الرؤيا يستأنس بها ولا يعتمد عليها إطلاقاً، لا في حكمٍ شرعي، ولا في إثبات قضية، ولا في تصحيح حديث، ولا في تقييم إنسان.. الرؤيا والإلهام مصادر فرعية للمعرفة، إلا أنها يجب أن تنضبط بالشرع.
من معاني الغيب أيضاً، يؤمنون بالغيب، يؤمنون بشيءٍ غاب عنهم، ذات الله لا نراها لكن نرى آثار خلق الله، مصير الإنسان لا نراه، لكن الله أخبرنا عن مصير الإنسان إما في جنةٍ يدوم نعيمها، أو في نارٍ لا ينفد عذابها.
الخلاصة أن الغيب بالمعنى الثاني الدقيق، مالا يقع تحت الحواس أبداً، الشيء الذي يقع تحت الحواس عالم الشهادة، والشيء الذي لا يقع تحت الحواس عالم الغيب، لكنَّ الله عالم الغيب والشهادة.
فإذا الإنسان لم يؤمن بالغيب أصبح كافراً، من لوازم المتقين أنهم يؤمنون بالغيب، أي عقلك يعطيك دليلاً قطعياً، على أنه لا دخان بلا نار النار، لا تراها، لكنَّك رأيت الدخان، وعقلك يعطيك دليلاً قطعياً على أنَّ في المسجد كهرباء وأنت لا ترى الكهرباء ترى آثارها، ترى حركة المراوح وتسمع تكبير الصوت، وترى تألُّقَ المصابيح فقط، تحكم على سريان تيار الكهرباء من آثارها.
بعضهم قال إنَّ الغيب هو القرآن الكريم أو إنه القدر، لكن الغيب كلِّ شيء غاب عن حواسِّك، أو كلُّ شيء غاب عن علمك، وعالم الشهادة كلُّ شيء تشهده.
لقد ذكرت في بداية البحث أن الغيب أنواع، نوع من الغيب استأثر الله به، ونوعٌ أطْلَع بعض أنبيائه عليه.
قال الله تعالى:
﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27)﴾
(سورة الجن)
لذلك فإنّ النبي عليه الصلاة والسلام، في أحاديث كثيرة حدثنا عن أشراط الساعة، الكُبْرى والصُغْرى، وحدثنا عن آخر الزمان، وكيف أن الأَمَةَ تلد ربَّتها، وكيف أن الحفاة العراة، رعاء الشاة يتطاولون في البنيان، وكيف يوسَّد الأمر إلى غير أهله، وكيف يكون المطر قيظاً والولد غيظاً ويفيض اللئام فيضاً، ويغيض الكرام غيضاً، وكيف يُأْمر بالمنكر، ويُنهى عن المعروف، وكيف يُصدَّق الكاذب، ويُكذَّب الصادق، ويخَوَّنُ الأمين ويُؤتمن الخائن، وكيف تركب ذوات الفروج السروج، وكيف تكثر الأشجار وتقلُّ الثمار..
هناك أحاديث كثيرة جداً عن أشراط الساعة، من أين جاء بها النبي عليه الصلاة والسلام ؟ هو لا يعلم الغيب بذاته وأكبر دليل لمّا جاءه وفدٌ ليأخذ القُرَّاء، أعطاهم النبي سبعين قارئًا ثم غدروا بهم في الطريق وقتلوهم، لم يعلم النبي بهذه الواقعة، وهذه الواقعة لها دلالة كبيرة جداً، أي أن النبي عليه الصلاة والسلام لا يعلم الغيب بذاته إلا أن يُطلعه الله عليه.. بل إنه حينما اختار موقع بدر، جاء صحابي جليل اسمه الحُباب بن المنذر، قال يا رسول الله: أهذا الموقع وحيٌ أوحاه الله إليك، أم هو الرأي والمشورة ؟ قال: بل هو الرأي والمشورة، فقال هذا الصحابي الجليل انطلاقاً من غيرته على الإسلام و المسلمين: يا رسول الله ليس هذا بموقع، الله عزَّ وجلَّ أطلع النبي على آلاف القضايا التي هي أقل من هذا الموضوع، ولكن شاءت حكمته أن يعلِّمنا النبي أدب الإصغاء إلى النصيحة، يعلمنا النبي وهو قدوتنا وأسوتنا أدب الإصغاء إلى النصيحة فلما سأله أين الموقع الذي تختاره ؟ قال هناك يارسول الله، وأشار إليه وأعطى الرسول صلى الله عليه و سلم أمراً بالانتقال إليه.
إذاً: الغيب لا يعلمه إلا الله، والشهادة يعلمها الإنسان في حدود إمكانه.. فالغيب الذي يمكن أن يُطلع الله نبيه عليه، أنواعٌ ثلاثة: غيب الماضي، وغيب الحاضر، وغيب المستقبل.. غيب الماضي قبل الوقت الذي تعيش فيه، وغيب المستقبل بعد الوقت الذي تعيش فيه، وغيب الحاضر غير المكان الذي تجلس فيه.
مثلاً: أنا في دمشق لا أدري ماذا يجري في حلب، حلب بالنسبة إلي غيب حاضر، أما قبل مئة عام غيبُ ماضٍ، وبعد مئة عام غيبُ مستقبلٍ، والله سبحانه وتعالى، يعلم غيب الماضي، وغيب الحاضر، وغيب المستقبل.
قال الله تعالى:
﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)﴾
(سورة آل عمران)
هذا غيب الماضي.. أما غيب الحاضر.. قال الله تعالى:
﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) ﴾
(سورة الأنفال)
أما غيب المستقبل.. قال الله تعالى:
﴿غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) ﴾
(سورة الروم)
أيها الإخوة القراء أريد أن أركِّز على هذه الحقيقة وأوضِّحها ؛ فأنت إذا كنت مع الله، والله يعلم الغيب، يعلم غيب الحاضر، فالطرف الآخر وهم خصومك ؛ يعلم ماذا سيفعلون بك، كما يعلم ماذا سيخططون، يعلم ماذا يأتمرون، وهو يعلمهم، ويلْهمك شيئاً يقيك تخطيطهم، يلهمك تدبيراً يحميك من غدرهم، يلهمك خطةً تنجو بها من مكرهم وتدبيرهم، فأنت إذا كنت مع الله أنت مع عالم الغيب والشهادة الذي يفسد على الآخرين مكرهم، و ما أحداث ليلة البحرة مجهولة لديكم.. لذلك قال الله تعالى:
﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)﴾
(سورة التوبة)
لكن قد توجد مفاجآت، الحقيقة هناك آلاف الوقائع والأحداث، والإنسان المتخلِّي عن الله في بضع دقائق قد يفقد كلَّ ماله، أحياناً في دقائق قد يفقد أهله، أما الإنسان المتولي ربَّه حينما يكون مع الله فهو عالم الغيب والشهادة، يعلم ما كان، ويعلم ما سيكون، ويعلم ماهو كائن في أيِّ مكانٍ آخر.
ذكر لي أخ مشكلة كبيرة جداً وقعت في مكان، وكان هو في المكان نفسه والمشكلة مدمرة، قال لي والله قبل خمس دقائق، أُلهمت أن أخرج لكي أشتري الخبز، ما إن خرجت مئات الأمتار، حتى رأيت المشكلة قد نشبت، شيء مدمِّر، فربنا عزَّ وجلَّ.. إذا كنت مع الله كان الله معك، والله عزَّ وجلَّ إذا قال إن الله مع المؤمنين، أو مع المتقين، أو مع الصابرين.. فهذا يعني أي أنَّه معهم حفظاً، وتأييداً، ونصراً، وتوفيقاً.
لذلك فعلى الإنسان إذا همَّ بعمل شيء أن يصلِّي صلاة الإستخارة فيقول: يا ربِّ إنَّك تعلم ولا أعلم، إن كان في هذا الأمر صلاحٌ لي في ديني ودنياي وعاقبة أمري فاقدره لي ويسِّره لي.
هو يعلم أنَّ هذه المرأة لا تُسعدك فيصرفها عنك ويصرفُك عنها، هو يعلم أنَّ هذه التجارة لا تُغنيك بل تُسْقط في يدك، هو يعلم أنَّ هذا السفر ليس في صالح إيمانك.. هو يعلم الغيب وأنت لا تعلم، فإذا فوَّضت، فقد فوَّضَ الذي لا يعلم لمَنْ يعلم.. يكون في أعلى درجات الذكاء، الذي لا يعلم يفوِّض الذي يعلم.
قد تقف عند بائع تثق به وتقول له: أنت اختر لي، فقد سلَّمت أمري إليك وفوَّضت أمري إليك واختر لي ما يُعجبك.. هذا مع إنسان تثق به تفوِّضه فكيف مع الواحد الديَّان ؟!
بالمناسبة.. كلما ارتقى الإنسان في سُلَّم الإنسانيَّة يخاف بالغيب، وكلما هبط إلى مستوى البَهيميّة يخاف بالشهود.. وهذه فكرة دقيقة.. كلما ارتقى الإنسان في سُلَّم الإنسانيَّة يخاف بعقله، وكلما هبط إلى مستوى البَهيميّة يخاف بعينه، أي إلى أن يرى الخطر ماثلاً عندها تخاف، علمًا بأن الخطر يدرك بالعقل.
فمثلاً يقول الأطباء: إنَّ الدخان يسبب سرطان بالرئة، وهذا النيكوتين الموجود فيه تسرِّع القلب، ويزيد من خفقان الرئتين، ويضيِّق الأوعية، فيرفع نسب السكر في الدم، وترفع نسبة هرمون التجلُّط، فاحتمال التجلط في دم المدخِّن كبيرٌ جداً، الأمراض القلبية عند المدخنين عشرة أمثالها عند غير المدخنين، هذا كلُّه بالعقل يُدرك، أما المدخِّن الذي يخاف بعينه لا يقلع عن الدخان إلا بعد أن يصاب بمرض السرطان، فبعد أن يصاب على الفور يقلع.. فمعنى هذا أنَّه إنسان بهيمي.. كلما ارتقى مستواك الإنساني خفت بعقلك، وكلما تدنى المستوى الإنساني إلى المستوى البهيمي خاف بعينه.
قد تجد الدابة إن رأت حفرة في الأرض تقف لقد رأت بعينها..، بينما قد يجد إنسان طريقاً واسعاً وممهَّدًا ومعبَّدًا ويجد لوحة كتب عليها انتبه الطريق مغلق فالإنسان العاقل لا يكمل السير، فالطريق تراه بعينيك مفتوحاً أمامك، ولكنّ قراءتك للوحة صغيرة تفيدك أنَّ الطريق بعد قليل مغلقٌ فلا تكمل المسير، فأنت الآن لم ترَ الإغلاق ولكن رأيت فكرة الإغلاق، فكلما ارتقى الإنسان يتعامل مع الأفكار، أما إذا هبط إلى مستوى البهيميّة يتعامل مع الصور.
قد ترى دُوراً للهو ذات فخامة كبيرة، فيها أجمل أنواع الثريات والتزينات والأناقة لكنَّ المعاصي كلَّها تُرتكب فيها، فالمؤمن يكرهها بعقله، بينما ضعيف التفكير يقدِّرها ويُعظِّمها بعينيه فيمدح فخامتها.. فكلما إرتقى الإنسان تَعامل مع الأفكار بعقله، وكلما هبط مستواه تَعامل مع الصور بعينيه.
إذًا فأخطر شيء على الصغار أن تريهم قصَّة مُمَثَّلة.. فلو أريناهم إنسانًا متديِّنًا أحمق أو امرأة متديِّنة حمقاء مثلاً مهملة أولادها، فهذا الصغير يكره الدين بلا سبب فهو في كل الأحوال لا يتعامل مع الأفكار، فليس عنده إدراك أو عمق أنَّ هذه تمثيلية والذي كتب هذه التمثيلية أراد تشويه صورة الدين، فهو قد رأى أنَّ الإنسان الذي يمثِّل الدين إنسان غير جيِّد بينما الإنسان الجيِّد هو الذي أسبغ عليه الكاتب كلَّ صفات الرجولة فهو إنسان شجاع ووفي إلا أنَّه يشرب الخمر، فخطورة أجهزة اللهو مع الصغار خطيرة جداً، لأنَّ الصغير لا يتعامل مع الأفكار بل يتعامل مع الصور، فيكفي أن تريه امرأةً سيِّئةً جداً بزيٍّ إسلامي، فيكره الإسلام كلَّه، ويكفي أن تريه امرأةً تحبُّ أولادها حباً جماً لكنَّها متفلِّته من الدين فيحب الصغير التفلُّت من الدين، هنا الخطورة أن نسمح لأطفالنا أن يشاهدوا كل ما هبَّ ودبَّ، فالطفل الصغير يتعامل مع الصور، وقد نستطيع أن نفسد عقيدته بالصور، وأن نشوِّه له كلَّ شيءٍ يعرض عليه بالصور.
فلدينا غيب وكذلك شهادة.. وهناك أمثلة كثيرة جداً.. إنسان ينتظر إلى أن تأتي موجة من البرد قارصة فيهيِّء المدافيء ويشتري الوقود السائل للتدفئة، وإنسان آخر تجده وهو في أشهر الصيف يُهيِّء المدافيء ويشتري الوقود السائل اللازم ويجهِّز كل شيء لفصل الشتاء دون مشقة ودون ازدحام على الوقود، أما حينما تأتي الموجة القارصة فجأةً تجد صعوبة بالغة عند شراء الوقود السائل، فالذي يتعامل مع الأشياء بإحساساته فهو ذو إدراك ضعيف، أما الذي يتعامل معها بإدراكه فهو ذو إدراك عالٍ.
كتاب الله جلَّ جلاله أشار إلى كلمة عالم الغيب والشهادة في آياتٍ كثيرة..فقد قال تعالى:
﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)﴾
(سورة الأنعام)
ذكرت في أبحاث سابقة حكمة.
﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ﴾
لو قال الله تعالى: ومفاتح الغيب عنده، أي هي عنده وقد تكون عند غيره، أما حينما يقول الله عزَّ وجلَّ:
﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ﴾
أي مفاتح الغيب عنده حصراً.
وفي سورة الفاتحة ورد قوله تعالى:
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) ﴾
(سورة الفاتحة)
فلو قال: نعبد إيَّاك يا رب، فهذا يعني أننا قد نعبد غيرك أيضًا، أما قولنا.
﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾
أي نعبدك وحدك يا رب، هذا هو القصر، فأحياناً التقديم يفيد القصر والحصر.
﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾
إن كان لديك مجلة قديمة صدرت من قبل عشرين سنة فإقرأها فستجد أنَّ الأحداث التي وقعت بعد إصدار هذه المجلة لو عشت في تاريخ صدورها لا يمكن أن تتصوَّر أنَّ الذي وقع يمكن أن يقع، كان غيباً، حينما تُهدُّ عروش، وحينما تدكُّ معسكرات كبيرة وضخمة جداً، فاقرأ في هذه المجلة القديمة وتصوَّر أنَّ الذي وقع لو تنبَّأت به قبل أن يقع لأودعوك في مشفىً للمختلين عقلياً - للمجانين - لكنَّه وقع فعلاً.. فمن يعلم الغيب ؟ الله جلَّ جلاله هو وحده يعلم الغيب.
فقد يقول لك أكثر الناس: قد عُرض علي شراء أرض مساحتها مائتا دونمٍ وسعر الدونم يومذاك ليرتان فقط ولكنني لم أشترها والآن ثمن الدونم الواحد مليونان.. لو أنَّك تعلم الغيب لكنت الآن من أغنى أغنياء العصر.. أراضٍ شاسعة وواسعة ومئات الدونمات بثمن بخس، فقد ذكر لي شخص أنَّه قد باع خمسين دونما بدابة صغيرة - حمارة صغيرة - كان بحاجة إليها وهذه الأرض ماذا يفعل بها فهي عبء عليه، أما الآن فسعر الدونم الواحد مليونان.. هذا كان في علم الغيب.
لذلك التجَّار يقولون كلمة لطيفة: تاجر ومنجِّم لا يجتمعان.. لا أحد يعلم ما سيكون، أحياناً تجد الأمور تسير في طريق مسدود إلى أن نيأس، فقد كان في بلادنا جفاف مخيف كاد حوض دمشق يجف، وكادت دمشق تعاني من العطش ولكنَّ الله جلَّ جلاله أنزل أمطاراً غزيرةً في الأعوام التالية، وهذا كان غيباً.. فموضوع الغيب موضوعٌ دقيقٌ جداً.
فأحياناً يقال لك: إنَّهم تمكنوا من معرفة الجنين ذكراً أو أنثى، فأين قول الله عزَّ وجلَّ:
﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) ﴾
(سورة لقمان)
﴿ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ ﴾
فلم يقل الله: يعلم من في الأرحام ذكراً كان أو أنثى. قال:
﴿ وَيَعْلَمُ مَا ﴾
فالحوين المنوي يوجد على النويَّة خمسة آلاف مليون معلومة مبرمجة، فهذا الجنين هل سيكون عالماً كبيراً، أو استاذاً في الجامعة، أو مؤلِّفاً خطيراً، أو بائعاً متجوِّلاً، أو مجرما، أو سجيناً، أو مصلحاً، فاسداً مثلاً وهل ياترى سيكون صاحب ملهى أم صاحب دارٍ للنشر، مَن سيكون ؟ من سيتزوَّج ؟ من سينجب ؟ ما دوره في الحياة ؟ هل يكون دوراً هامشيًا أم دورًا قصيرًا فمن يعلم هذا ؟ إذا وجد على النويَّة خمسة آلاف مليون معلومة مبرمجة لا يعلمها إلا الله، فما نسبة معرفة ذكورته أو أنوثته إلا واحد لخمسة آلاف مليون.
أحياناً تجد أباً لديه خمسة أولاد لا يعلم من هو المتفوِّق، وبعد ثلاثين سنة تجد ولداً منهم قد تألَّق تألُقاً كبيراً جداً، وولداً آخر أصبح في الدرجة الدنيا من المجتمع مَن الذي يعلم الغيب ؟ الله وحده يعلم الغيب.. علم ما كان، وعلم ما يكون، وعلم ما سيكون، وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون، فقد قال تعالى:
﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾
هل أنت مرتاح إلى أنَّ الله الذي تعبده يعلم كلَّ شيء، وعلمه لصالحك فقد قال تعالى:
﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11) ﴾
(سورة الرعد)
﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ﴾
فأحياناً يقول لك أحد الأشخاص أثناء قيادة مركبة لو تقدمت سنتيمتراً واحداً لكان وقع لي حادث حادث أليم، فمن يعلم الغيب.
أحياناً الله عزَّ وجلَّ يصرفك عن شيء مدمِّر فيلهمك رشدك.. إنسان له تجارة معيَّنة والبضاعة موجودة والطلب عليها شديد والتصدير ميسَّر ولكنَّه قال لي بالحرف الواحد: والله شعرت بضيق وإنقباض بصورة غير معقولة وبلا سبب أو تعليل واشتدَّ الضيق علي إلى درجة أنّني أحجمت عن تصدير هذه البضاعة، ثم كان الذي كان، فُرِض على الذي قاموا بالتصدير ضرائب أكلت أخضرهم ويابسهم ونجَّاه الله من هذه الضرائب التي لم تكن في الحسبان، والسبب أنَّه أنفق مالاً وفيراً في خدمة بيوت الله عزَّ وجلَّ.. ولأنَّ الله عزَّ وجلَّ يعلم الغيب صرفه عن هذا العمل، وهناك آلاف الشواهد المشابهة فأنت حينما تعبد الذي يعلم الغيب فعلمه للغيب كلُّه لصالحك وأنت لا تدري.. من هنا قال الله عزَّ وجلَّ:
﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) ﴾
(سورة البقرة)
سألني أخ ذات مرة عن قضية فيها شبهة، فأخبرته بأن فيها شبهة، فقال لي: ليس لي دخل إلا منها. فقلت له: هذا شأنك لا شأني وقد سألتني فأجبتك. ولكن يبدو أن خوفه من الله غلب عليه فامتنع عن هذه الطريقة في التعامل وكان امتناعه لله، في حين أنها كانت رائجة جداً وتدر عليه دخلاً كبيراً جداً، وكان في بحبوحة كبيرة، فلما امتنع عن هذه الطريقة المشبوهة في البضاعة التزاما بشرع الله سبحانه، ومضى عليه أكثر من ثلاثة أشهر ودخله قليل جداً ثم مُنِعت هذه الطريقة من أصلها قصراً، فجاءني وقال: الحمد لله الذي تركتها لله، ولكن بعد حين كنت سأتركها مقهوراً ومجبوراً مع الإثم و الوزر، أما الآن وقد تركتها رجاء مرضات الله وأنا في الأوج، ثم كافأني الله بأن فتح لي باب رزقٍ وفير لم يكن بالحسبان.
موضوع أنَّك تعبد الذي يعلم الغيب موضوع دقيق، فأنت في راحة لأنَّ كل ما سيكون هو في علم الله، لذلك يوجِّهك الله توجيهاً لصالحك، فالمؤمن يُلهِمُه المَلَك، والمنافق يدفعه الشيطان، يدفعه إلى أن يبخل، يدفعه إلى أن يحقد، يدفعه إلى أن يخاصم زوجته، يدفعه إلى كلِّ المشكلات.
آيةٌ ثانية قال تعالى:
﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴾
﴿ وَهُوَ الْحَكِيمُ ﴾
الحكيم كما تعلمون يضع الشيء بالقدر المناسب، وفي المكان المناسب، وفي الوقت المناسب، وليس في الإمكان أبدع مما كان، وكل شيءٍ وقع أراده الله.
و:
﴿ الْخَبِيرُ ﴾
الخبرة هي العلم الذي يتعلَّق بالمستقبل.. فأحياناً تقوم ببناء آلة بمعرفة وعلم على علم عالٍ جداً، لكن مع الاستعمال تكشف أنّ فيها أخطاء لم تكن في الحسبان، فالعلم مع المستقبل يصبح خبرة.
وفي سورة التوبة قال تعالى:
﴿يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) ﴾
(سورة التوبة)
وفي السورة نفسها قال تعالى:
﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)﴾
(سورة التوبة)
فالآيتان متشابهتان.
وفي سورة الرعد قال تعالى:
﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)﴾
(سورة الرعد)
وفي سورة المؤمنون قال تعالى:
﴿عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)﴾
(سورة المؤمنون)
وفي سورة السجدة قال تعالى:
﴿ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)﴾
(سورة السجدة)
وفي سورة الزمر قال تعالى:
﴿قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) ﴾
(سورة الزمر)
وفي سورة الحشر قال تعالى:
﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) ﴾
(سورة الحشر)
وفي سورة الجمعة قال تعالى:
﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) ﴾
(سورة الجمعة)
وفي سورة التغابن قال تعالى:
﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) ﴾
(سورة التغابن)
ممكن أن نلخِّص المواقف العملية للمؤمن من خلال هذا الاسم أنت إذا استقمت على أمر عالم الغيب والشهادة لن تفاجأ بغيبٍ مدمِّر، أنت إذا استقمت على أمر عالم الغيب والشهادة كان علم الله للغيب لصالحك، يحميك من كل سوء، يقيك شرَّ أعدائك، يُلهمك رشدك، يُلهمك الخير وأنت في حرزٍ حريز.
أيًّها القارئ الكريم... حينما تعلم أنَّ الله يعلم.. وهذه الحقيقة وردت في قوله تعالى:
﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12) ﴾
(سورة الطلاق)
أي إنَّك إذا علمت أنَّ الله يعلم استسلمتَ وارتحتَ، لذلك يقول المؤمن أحياناً: اللهمَّ خِر لي واختر لي.. أي يا رب أنت اختر لي.
دُعيت لعقد قران ذات مرة فدعوت بهذا الدعاء: اللهمَّ ما رزقتني مما أحب، فاجعله عوناً لي فيما تُحب، وما زويت عني ما أُحب، فأجعله فراغاً لي فيما تحب..فكان إلهاما من الله فيه خير لي.
(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخَطْمِيِّ الأَنْصَارِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يَنْفَعُنِي حُبُّهُ عِنْدَكَ اللَّهُمَّ مَا رَزَقْتَنِي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ قُوَّةً لِي فِيمَا تُحِبُّ اللَّهُمَّ وَمَا زَوَيْتَ عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فَرَاغًا لِي فِيمَا تُحِبُّ ))
﴿ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ﴾
وأقول مرة أخيرة... أنت تقف هنا، لا تعلم هناك ما سيكون، فقد يكون لك عدو كبير خطير مخيف يدبِّر لك أمراً ما، لكنَّ الله يعلم ما أنت فيه وما خصمك فيه، فإذا كنت مع الله عزَّ وجلَّ ألهمك رُشدك، ألهمك الخلاص من هذا العدو، أو ألهمك تدبيراً مضاداً لتدبيره، أو ألهمك سلوكاً يُعطِّل عليه مكره لأنَّه يعلم الغيب، وهذه هي أهم فكرة في هذا البحث، أنت إذا كنت مع الله فأنت مع عالم الغيب والشهادة، الغيب لصالحك فلا توجد لديك مفاجأة، فتجد المؤمن الصالح كل شيء يسيِّره الله به لصالحه والغيب يكشف له الحقيقة.
وتجد الإنسان غير المستقيم يخطط.. فذات مرة فكَّر إنسانٌ وأكثرَ من التفكير الجاد ثم باع كلَّ ما يملك واشترى به عملة لبنانية، فمن يعلم أنَّ هذه العملة سوف تصبح متدنية وسيصل سعر كل دولارٍ واحدٍ يساوي ثلاثة آلاف وثمانمائة ليرة لبنانية ؟ باع كل أملاكه وتاجر في العملة الصعبة فكانت خسارته دمارًا ووبالاً، فمن يعلم الغيب ؟ الله عزَّ وجلَّ وحده هو الذي يعلم.
فحينما يكون الإنسان مع الشيطان ومنحرفاً عن الخط الإسلامي الصحيح فالغيب ليس في صالحه، فيفكِّر ثم يفكِّر حتى يجهد نفسه تقليبا للأمور واستكشافًا لخفاياها ثم يجعل الله تدميره في تدبيره لأنَّه لا يعلم الغيب، و تخلى عمن بيده الخير.
أحياناً تجده يضع كل أمواله في مشروع غير ناجح، لو علم الغيب لما أقدم على هذا المشروع، أما المؤمن فهو لا يعلم الغيب ولكنَّ الله يدافع عنه، لكنَّ الله يسيِّره، لكنَّ الله يحفظه، لكنَّ الله يلهمه، لكنَّ الله يصرفه عن هذا الشيء، و قد قال تعالى:
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذينَ آمَنُوا ﴾
(سورة الحج)
فأدق ما في بحثنا هذا النقطة التالية: أنت إذا كنت مع الله فهو يعلم الغيب، ويعلم ما سيكون فلذلك يلهمك رُشدك حيال ما سيكون، فاللهمَّ اجعلنا من هؤلاء الذين يستسلمون لك يا ربّ، ويفوِّضون إليك كل أموره