الأربعاء، 21 مارس 2012

موسوعة العقيدة - الإلهيات - الصفات التنزيهية : التجسيم والتشبيه

التجسيم والتشبيه


ليس كمثله شيء

        مخالفة الذات الإلهية لغيرها من المحدثات ظاهرة، والبداهة تقضي بأن بين المخلوق والخالق أمدا بعيدا، وان الخالق لا يشبه شيئا من خلقه، لا في ذاته، ولا في صفاته.
وقد وصف الله عز وجل نفسه بصفات كثيرة، من الصعب إدراك حقيقتها على النحو الذي ندرك به أمورنا المعتادة، بل هذا مستحيل!
من أين للتافه أن يعرف كنه العظيم؟
        إن النملة لا تعرف حقيقة الإنسان، فحدود عالمها الذي تعيش فيه تقفها دون ذلك. والطفل –في المرحلة الأولى من عمره- لا يعرف ما هي الرجولة، ولا ما يصحبها من سعة عقل، واستحكام إدراك.
بل إن الإنسان عاجز عن إدراك حقيقة الوجود المادي الذي يعيش فيه، فكيف يعرف ما وراءه من غيوب؟
إذا قيل: أن الله يسمع، فليس ذاك بأذن كآذاننا. أو يرى، فليس ذلك بعين كأعيننا. وإذا قيل: انه بنى السماء، فليس على النحو المألوف من تكليف فعلة واستحضار أدوات. وإذا قيل: يده فوق أيدينا، فليس الوصف لجارحة كأعضائنا. والذي نوقن به ابتداء، أن صفات المحدثين وأحوالهم لا يجوز أن تنسب إلى الله، فهو –سبحانه وتعالى- غير مخلوقاته.
وشأن الألوهية أسمى مما تتصور الأذهان الكليلة والعقول القاصرة.
        وقد وردت في الوحي الكريم كلمات عن الوجه، واليدين، والأعين والاستواء على العرش، والنزول إلى السماء، والقرب من العباد..الخ، حاول كثير من المسلمين استكناه دلالتها واستكشاف حقيقتها، فلم يرجعوا إلا بالحيرة، حتى قال قائلهم.
نهاية إقدام العقول عقال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
وكم من جبال قد علا شرفاتها

وآخر سعي العالمين ضلال !
سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا !
رجال فبادوا والجبال جبال!


ولا غرو فان البحث عبث فيما لا يملك المرء وسائل الخوض فيه.

        إن الكيميائي قد يعرف خواص سائل أو غاز يقلبه تحت يده، ويجري عليه ما شاء من تجارب – فكيف يجوز للعباد أن يتدخلوا بالبحث النظري في شأن الألوهية لينكروا أو ليثبتوا؟ وشأن الألوهية بالنسبة إليهم عزيز المنال، والحق يقول- في كلامه عن ذاته وصفاته- : (هو الذي انزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يقولون: آمنا به كل من عند ربنا) (آل عمران:7).
        وعلى ذلك فكل ما قطعنا بثبوته في كتاب الله وسنة رسوله مما وصف الله به نفسه وأسنده إلى ذاته؛ قبلناه على العين والرأس، لا نتعسف له تأويلا ولا نقصد به تجسيما ولا تشبيها، ويحتاج الكلام في هذا الموضوع إلى زياد بيان:
إن اللغات من وضع الناس على مر الزمان. فنحن العرب وضعنا كلمة "أذن" مثلا لهذا التجويف أيمن الوجه أو أيسره الذي نسمع عن طريقه الأصوات و نتبين الكلمات..
وقد وضع غيرنا من أبناء اللغات الأخرى كلمات تدل على هذه الحاسة غير الكلمة المتداولة بيننا، والمهم أن هذه الألفاظ الموضوعة استحدثها الناس لمفاهيم مادية أو معنوية مارسوها وألفوها، ومن هنا فالمجيء بهذه الكلمات للدلالة على أمور مغيبة ليس إلا من قبيل التقريب للذهن، ولا يمكن أن تكون هذه العبارات التي صنعناها نحن بيانا للمحسوسات أو المعقولات المأنوسة لنا في عالمنا –وصفا حقيقيا لعالم ما وراء المادة.
        على ضوء هذا الملحظ نفهم حديث أي لغة عن الله جل شأنه وعن صفاته العليا، إن الأمر لا يعدو تقريب الحقائق المطلقة لوعينا المحدود. والله اكبر من أن تحيط بعظمته عقولنا. أو تستوعب كمالاته أقدارنا. ولغات البشر اجمع قوالب صالحة لما يدور في حياتهم من تفاهم، ولكتها دون ما ينبغي لذات الله من تجلية وإدراك.
        وقد اتفق المسلمون سلفهم وخلفهم على ذلك. ولكن اختلفت مناهجهم في التنزيه والتمجيد. فمنهم من وقف عند ظاهر النص. ولكنه قال: ليس هذا الظاهر على ما نألف في فهمنا المادي للأمور. ومنهم من قال: أن هذا الظاهر ليس مرادا والمقصود كذا .. والهدف واحد تقريبا. إذا جاء في القرآن الكريم مثلا: (ولتصنع على عيني) قال الأولون: إن له عينا ليست كأعيننا. وقال الآخرون: إنما هي الرعاية والحفظ..
كلا الفريقين يوافق الآخر على تنزيه الله ونفي شبهة بالحوادث، ولكن أسلوب التنزيه عند هذا غيره ذاك.
وكنت أود لو كف المسلمون الأوائل عن خوض معارك الجدل في الموضوع، أو لو استبان بعضهم وجهة نظر الآخر بدقة.
وأنا شخصيا أوثر مذهب السلف. وارفض أن يشتغل العقل الإسلامي بالبحث المضني فيما وراء المادة. وارتضى قبول الآيات والأحاديث التي تضمنت أوصافا لله جل شأنه دون تأويل.
ولئن كنا نسلك هذا المسلك في تقديس الذات ونسبة الصفات، إننا لا نحب أن نتخذ منه ذريعة لتكفير من قصدوا إلى تنزيه الله عن طريق التأويل، وصرف الآثار الواردة إلى المجاز لا إلى الحقيقة.
        فان الذين اوّلوا فعلوا ذلك خشية أن يؤول أمر الألوهية إلى مثل ما عليه اليهود والنصارى، من تجسيم زري، وأحوال مضحكة.
        إن التوراة تحكي: أن صراعا نشب بين الرب ويعقوب، لم يفلت منه الرب إلا بصعوبة، وبعدها قدم ليعقوب لقبه المعروف "إسرائيل"! وكلام الإنجيل عن الله يخيل إليك أنه رب أسرة من والد ووالدة!
فجنوح المؤولين –عندنا- إلى المجاز، قد يكون هناك ما يُعْتَذر به عنهم. بيد أننا لاحظنا أن هذا التنزيه والتأويل والانصراف الدائم عن الحقيقة إلى المجاز قد جنى على اصل الإيمان لدى جمهور العامة، وجعل فكرتهم غامضة عن إله: لا هو في السماء ولا هو في الأرض، ليست له يد، ولا عين، ولا وجه، لا يوصف بفرح ولا رحمة ولا ضحك، ولا ولا، مما وصف به نفسه.
        والخطة المثلى أن نتقبل ما ورد به الشرع، و ألا نتكلف علم ما لم نطالب بعلمه مما يدق عن الافهام. وهناك فرق بين أن يحكم العقل باستحالة شيء وبين أن يعلن عجزه عن فهم شيء. فالعقل يحكم بأن اجتماع النقيضين مستحيل.
فالضوء –مثلا- لا يكون موجودا وغير موجود في وقت واحد. ولكن العقل الذي يحكم باستحالة هذا، يعجز عن فهم حقيقة الضوء. ما هي؟ وما كنهها ؟ وما انتقالها بهذه السرعة الهائلة؟
        وهذا العجز الظاهر لا يمس حقيقة الضوء، ولا يمس وجودها. فعدم علمك بشيء، ليس علما بعدم ذلك الشيء.
وللأستاذ عبد الكريم الخطيب كلام في هذا الموضوع ننقله إتماما للفائدة.. قال: والذات الإلهية ليست ذاتا مبهمة مجهلة. كما أنها ليست محدودة مجسدة. هي "ذات" لا كالذوات التي يراها الحس أو يتخيلها الوهم، لأنها لو وقعت في دائرة الخيال –مهما امتد واتسع- كانت بهذا المعنى محددة ومقيدة..
وذات الله _ مع أنها فوق أن تدرك وفوق أن تحد _ قد وصفت في القرآن بصفات كثيرة كالإرادة ، والقدرة، وغيرها . وهى صفات كاملة الكمال المطلق.
ومع هذا فلا بد أن تضاف إلى " ذات " كما تضاف مثل هذه الصفات وغيرها إلى ذواتنا . مع الفارق البعيد بين كمالها في ذات الإله ، ونقصها في الإنسان !
جاء في القرآن الكريم كثير من هذه الآيات التي تضيف إلى الله صفات عاملة في الوجود . كقوله تعالى في أول ما نزل من الكتاب : (اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . اقرأ وربك الأكرم . الذي علم بالقلم . علم الإنسان ما لم يعلم ) "العلق : 5:1 ".
ففي الآيات تعريف بذات الله . وأنها تخلق وتعلم.
        وكقوله تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) (البقرة:185) فالله سبحانه وتعالى مريد.وبإرادته تتعلق مصاير الأمور. وكقوله جل شأنه: (الله يعلم ما تحمل كل أنثى. وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار. عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال) (الرعد: 8-9).
فالله في هذه الآيات يعلم وهو حكيم... وكل شيء عنده بمقدار، وقد وصف نفسه بأنه الكبير المتعال. وكقوله سبحانه: (الله لطيف بعباده، يرزق من يشاء وهو القوي العزيز) (الشورى:19) فالله لطيف. وقوي. وعزيز.
        وكقوله تعالى: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله. والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير) (المجادلة:1). فذات الإله تسمع كل شيء، وترى كل شيء.
ويقول جل شأنه: (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء. لا إله إلا هو العزيز الحكيم) (آل عمران:5-6)
وأكثر فواصل القرآن تنتهي بصفة من صفات الله تعالى. أو المزاوجة بين صفتين من صفاته. فمن النوع الأول قوله تعالى: (إن الله كان بكل شيء عليما) (النساء:126).
ومن النوع الثاني وهو الأعم قوله تعالى: (وكان الله غفورا رحيما) (النساء:96)، (إن الله كان عليا كبيرا) (النساء:34)، (والله واسع عليم) (البقرة:247)، (لا إله إلا هو العزيز الحكيم) (آل عمران:18) ، (انه كان بعباده خبيرا بصيرا) (الإسراء:30).
        ولا شك أن هذه الصفات –كما قلنا- كلما ذكرت ذكر معها "ذات" تعمل في الوجود بهذه الصفات. وان تلك الصفات لابد أن تضاف إلى ذات تقوم بها. وأكثر من هذا، فقد جاء في القرآن آيات تذكر "للذات" يدا، وعينا، ويدين، وأعينا كقوله تعالى: (ولتصنع على عيني) (طه:39). وقوله: (يد الله فوق أيديهم) (الفتح:1) وقوله: (وقالت اليهود يد الله مغلولة. غلت أيديهم. ولعنوا بما قالوا، بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء) (المائدة:64). وقوله: (واصنع الفلك بأعيننا) (هود:37).
        كذلك ورد في السنة المطهرة أحاديث تذهب هذا المذهب، كقول الرسول الكريم: "خلق ادم على صورة الرحمن" وقوله (صلى الله عليه وسلم): "لا تزال جهنم تقول: هل من مزيد حتى يضع رب العزة قدمه فيها. فتقول: قط، قط (كفى كفى) وعزتك. فيزوي بعضها إلى بعض" وقوله: "قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن يصرفه كيف يشاء!!".
        فهذه الآيات وأمثالها لا يمكن أن يقراها قارئ أو يستمع إليها مستمع دون أن تتحرك في ذهنه صور لهذه الصفات، وان يكون لهذه الصفات متعلق بأي "ذات" تفيض عنها..!
        قال: ويصح لنا أن نسأل: أكل ما ذكر عن ذاته وصفاته في كتاب الله، وفي حديث الرسول (صلى الله عليه وسلم) من الوضوح والجلاء بحيث لا يحتاج إلى سؤال أبدا؟
ونستطيع أن نقول في الإجابة على ذلك: نعم.
فإن مفهوم الألوهية حين يعرف الإنسان الطريق إليه، وحين يتلقاه بقلبه ويستقبله بفطرته – لواضح اشد الوضوح. إذ هو الكمال المطلق الذي يسمح للإنسان أن ينطلق إلى ما لا نهاية في السمو والارتفاع بمقام الذات .. وكلما انتهى إلى غاية مد بصره إلى غيرها وهكذا أبدا. (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) (الشورى:11).
وفي هذا "المفهوم" عاش الصحابة والتابعون –رضوان الله عليهم- لا يسألون: ما يد الله؟. وما عينه؟. وما قدرته؟. وما علمه؟.
فلقد هدوا بفطرتهم إلا جواب لهذه الأسئلة إلا ما يجده المرء في قلبه وفي كيانه كله، من تقديس الله وجلاله، ونسبة الكمال المطلق كله إليه!
ولقد هدوا بفطرتهم أيضا إلى أن العقل لا يستطيع أن يدرك كنه صفة من هذه الصفات. ولا أن يمسك بها على أية صورة. فان أية صورة لن تكون هي أبدا ما دام الكمال المطلق هو صفتها.
        و "الله" الذي جاء القرآن ليدل الناس عليه، ويعرفهم به ويدعوهم إلى إفراده بالوحدانية واختصاصه بالعبادة –هذا الإله لابد أن يكون له مفهوم في عقول الناس حتى يعرفوه، وحتى يأنسوا به، وينظروا إليه فيما يأخذون أو يدعون من أمره ونهيه.
ومن هنا كان لابد أن تقيم الشريعة الإسلامية (مفهوما) للإله في عقول الناس كي يكون (الله) حقيقة يؤمنون بها، ويتعاملون معها.
فما المفهوم الذي جاء به القرآن لذات الإله؟ اهو مادي؟ اهو معنوي؟ وهل هو محدود أو مطلق؟
لقد كان صنيع الإسلام في هذا الأمر الخطير آية الآيات ومعجزة المعجزات الدالة على صدق الرسالة المحمدية، وعلى أنها متلقاة من احكم الحاكمين رب العالمين! وننظر فنرى عجبا عجابا .. حكمة بالغة، وتدبيرا محكما.
        فأولا: لم يكن مفهوم الألوهية –في شريعة الإسلام- مفهوما ماديا. لأنه لو كان كذلك لتجسد الإله. ولو تجسد لتحدد. ولو تحدد لوقع في دائرة الحس وفي محيط النظر. ولأصبح شيئا من الأشياء.. يحوي مكان وتفرغ منه أمكنة، ويراه خلق ويغيب عن خلق. وذلك مما يذهب بجلال الذات، وينزل قدرها، ويسقط من هيبته.
إن اكبر شيء نراه، ونرى امتداد سلطانه في الوجود هو (الشمس) وقد كانت لهذا إله الآلهة في وقت من الأوقات.
ولكن العقل الرشيد لا يقبل أن يكون الإله محيزا، يحضر ويغيب. وهذا إبراهيم عليه السلام وقد نظر إلى النجم، ثم إلى القمر.. فلما أفلا قال: ( لا أحب الآفلين) . والحب هنا إجلال وتقديس. ثم نظر إلى الشمس، فلما افلت التمس الإله في وقت غير الكواكب والشموس... (فلما رأى الشمس بازغة. قال:هذا ربي.. هذا اكبر.. فلما أفلت قال: يا قوم ، إني بريء مما تشركون، إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا، وما أنا من المشركين) (الأنعام:78-79).
ثانيا: لم يرتض الإسلام أن يكون مفهوم الإله أمرا "معنويا" وفكرة مجردة مطلقة لا يدل عليها وصف، ولا يدرك لها واقع تتجلى فيه. فإنها لو كانت كذلك لما امسك بها عقل، ولا اطمأن إليها قلب، ولما وجد الإنسان لمثل هذه الفكرة المجردة أثرا يعمل في كيانه، ويؤثر في سلوكه..
ومن اجل هذا لم يكن مفهوم الإله –في شريعة الإسلام- هذا أو ذاك، لم يكن شيئا ماديا، كما لم يكن فكرة مجردة.
وإنما اختار الإسلام لمفهوم الإله –في أذهان البشر- مقاما وسطا بين هذين، بين التجسيد والتجريد. فحيث ينظر الإنسان إلى الله في القرآن الكريم يجد "الله" سميعا، بصيرا، عالما، قادرا، حكيما، مريدا، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، قائم على الملك. مستو على عرشه، والملائكة حافون من حول العرش لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. وهذا من شأنه أن يخيل للإنسان صورا ما "للذات".
ثم ينظر المسلم في كتاب الله فيرى "الله" "ليس كمثله شيء"..
        ويعمل هذا المفهوم عمله في تفكير الإنسان، فتأخذ تلك المفاهيم التي كانت قد بدأت تتشكل وتتجسد –تأخذ في "الذوبان" كما تذوب صخور الثلج في عباب المحيط.
ذلك –في إيجاز- هو الذي يقع في إدراكي للمفهوم الذي أراد القرآن أن يقيمه في عقول الناس وقلوبهم.. وذلك المفهوم ضروري –كما قلنا- لكي نستشعر "الذات" ونتجه إليها ونرفع لها صلواتنا ودعواتنا..
أما حقيقة هذه الذات العظمى فأمر وراء ما نتصور..
ولكن لما لم يكن بد من أن نتصور فقد أسعفنا القرآن الكريم بالقدر الضروري الذي يسد حاجتنا في هذا المقام فجعل للإله مفهوما غير مجسد "ذاتا" لها العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر وغير ذلك من صفات الكمال التي تليق برب العالمين..
الله ذات .. ولكن ليس كمثله شيء!!!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحاديث توهم التجسيم والتشبيه :

أحاديث الصورة:
        " عن عطاء بن يزيد الليثي أن أبا هريرة أخبره أن أناساً قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم  : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم  :" هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ؟ قالوا : لا يا رسول الله قال : هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب قالوا : لا يا رسول الله . قال : فإنكم ترونه كذلك يجمع الله الناس يوم القيامة فيقول : من كان يعبد شيئاً فليتبعه ..."الى أن قال:" فيأتيهم الله تبارك وتعالى في صورة غير صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم , فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه ... " الحديث
قال النووي في شرحه لهذا الحديث:قوله صلى الله عليه وسلم  : ( فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون ... فيتبعونه )
أعلم أن لأهل العلم في أحاديث الصفات وآيات الصفات قولين : أحدهما وهو مذهب معظم السلف أو كلهم , انه لا يتكلم في معناها بل يقولون: يجب علينا أن نؤمن بها ونعتقد لها معنى يليق بجلال الله تعالى وعظمته مع اعتقادنا الجازم أن الله تعالى ليس كمثله شيء وأنه منزه عن التجسيم والانتقال والتحيز في جهة وعن سائر صفات المخلوق وهذا القول هو مذهب جماعة من المتكلمين واختاره جماعة من محققيهم وهو أسلم والقول الثاني وهو مذهب معظم المتكلمين أنها تتأول على ما يليق بها حسب مواقعها وإنما يسوغ تأويلها لمن كان من أهله بأن يكون عارفا بلسان العرب وقواعد الأصول والفروع ذا رياضة في العلم.

        وأما قوله صلى الله عليه وسلم : ( فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون ) فالمراد بالصورة هنا الصفة ومعناه فيتجلى الله سبحانه وتعالى لهم على الصفة التي يعلمونها ويعرفونه بها وإنما عرفوه بصفته وإن لم تكن تقدمت لهم رؤية له سبحانه وتعالى لأنهم يرونه لا يشبه شيئاً من مخلوقاته وقد علموا انه لا يشبه شيئا من مخلوقاته فيعلمون أنه ربهم فيقولون أنت ربنا وإنما عبر بالصورة عن الصفة لمشابهتها إياها ولمجانسة الكلام. أ.هـ
نقل الإمام البيهقي في كتاب الأسماء والصفات عن الإمام الحافظ أبى سليمان الخطابي أنه قال: وأما ذكر الصورة في هذه القصة فإن الذي يجب علينا وعلى كل مسلم أن يعلمه أن ربنا ليس بذي صورة ولا هيئة فإن الصورة تقتضي الكيفية وهي عن الله وصفاته منفية وقد يتأول معناها على وجهين (أحدهما) أن تكون الصورة بمعنى الصفة كقول القائل صورة هذا الأمر كذا وكذا , يريد صفته فتوضع الصورة موضع الصفة ( والوجه الأخر ) أن المذكور من المعبودات في أول الحديث إنما هي صور وأجسام كالشمس والقمر والطواغيت ونحوها، ثم لما عطف عليها ذكر الله سبحانه خرج الكلام فيه على نوع من المطابقة )
        فقيل يأتيهم الله في صورة كذا إذ كانت المذكورات قبله صورا وأجساماً وقد يحمل آخر الكلام على أوله في اللفظ ويعطف بأحد الاسمين على الأخر والمعنيان متباينان وهو كثير في كلامهم كالعمرين والأسودين والعصرين , ومثله في الكلام كثير ومما يؤكد التأويل الأول وهو " أن معنى الصورة الصفة " قوله من رواية عطاء بن يسار عن أبي سعيد " فيأتيهم الله في أدنى صورة من التي رأوه فيها: وهم لم يكونوا رأوه قط قبل ذلك " فعلمت أن المعنى في ذلك الصفة التي عرفوه بها وقد تكون الرؤية بمعنى العلم ، كقوله:  وأرنا مناسكنا  أي علَمنا.
        قال أبو سليمان: ومن الواجب في هذا الباب أن نعلم أن مثل هذه الألفاظ التي تستشنعها النفوس إنما خرجت على سعة مجال كلام العرب ومصارف لغاتها وأن مذهب كثير من الصحابة وأكثر الرواة من أهل النقل الاجتهاد في أداء المعنى دون مراعاة أعيان الألفاظ وكل منهم يرويه على حسب معرفته ومقدار فهمه وعادة البيان من لغته ، وعلى أهل العلم أن يلزموا أحسن الظن بهم وأن يحسنوا التأني لمعرفة معاني ما رووه وأن ينزلوا كل شئ منه منزلة مثله ، فيما تقتضيه أحكام الدين ومعانيها وعلى أنك لا تجد بحمد الله ومنه شيئاً صحت به الرواية عن رسول الله  صلى الله عليه وسلم إلا وله تأويل يحتمله وجه الكلام ومعنى لا يستحيل في عقل أو معرفة. أ.هـ
        ثم روى الحافظ البيهقي عن علي بن أبي طالب  كرم الله وجه أنه قال: " إذا حدثتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  حديثا فظنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم  أهيأه وأهداه"
وروى أيضا عن عبد الله بن مسعود أنه قال: " إذا حدثتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  فظنوا به الذي هو أهيأ وأهدى وأتقى " أ.هـ
وقد ذكر الحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث كلام النووي عن الصورة وأقره ، وعند قوله صلى الله عليه وسلم 
" فإذا جاء ربنا عرفناه " ذكر أن القرطبي قال: " ثم يقال بعد ذلك للمؤمنين هل بينكم وبينه علامة؟" .
ويقول ابن حجر في فتح الباري: وهذه الزيادة أيضا في حديث أبي سعيد و لفظه"آية تعرفونها فيقولون الساق فيكشف عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ويبقى من كان يسجد رياء وسمعة ... " إلى أن قال وفي رواية العلاء بن عبد الرحمن: " ثم يطلع عز وجل عليهم فيعرفهم نفسه ثم يقول : أنا ربكم فاتبعوني فيتبعه المسلمون "
        وقوله في هذه الرواية: " فيعرفهم نفسه " أي يلقي في قلوبهم علما قطعيا يعرفون به أنه ربهم سبحانه وتعالى ، وقال الكلاباذي في معاني الأخبار: عرفوه بأن أحدث فيهم لطائف عرفهم بها نفسه.
ومعنى كشف الساق: زوال الخوف والهول الذي غيرهم حتى غابوا عن رؤية عوراتهم "().
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم " إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه فإن الله خلق أدم على صورته ")
        قال النووي في شرحه على صحيح مسلم لهذا الحديث:
قال المازري: هذا الحديث بهذا اللفظ ثابت ورواه بعضهم : " إلا الله خلق آدم على صورة الرحمن " ، وليس بثابت عند أهل الحديث وكأن من نقله رواه بالمعنى الذي وقع له وغلط في ذلك.
قال المازري وقد غلط أبن قتيبة في هذا الحديث فأجراه على ظاهره قال: لله تعالى صورة لا كالصور وهذا الذي قاله ظاهر الفساد لأن الصورة تفيد التركيب وكل مركب محدث والله تعالى ليس هو مركبا فليس مصورا. قال: وهذا كقول المجسمة : جسم لا كالأجسام لما رأوا أهل السنة يقولون : الباري سبحانه وتعالى شيء لا كالأشياء طردوا الاستعمال فقالوا: جسم لا كالأجسام . والفرق أن لفظ شيء لا يفيد الحدوث. قال: العجب من أبن قتيبة في قوله: صورة لا كالصور مع أن ظاهر الحديث على رأيه يقتضي خلق آدم على صورته فالصورتان على رأيه سواء فإذا قال : لا كالصور تناقض قوله ويقال له أيضاً: إن أردت بقولك : صورة لا كالصور أنه ليس بمؤلف ولا مركب فليس بصورة حقيقية وليست اللفظة على ظاهرها وحينئذ يكون موافقاً على افتقاره إلى التأويل واختلف العلماء في تأويله فقالت طائفة : الضمير في صورته عائد على الأخ المضروب وهذا ظاهر رواية مسلم وقالت طائفة يعود إلى الله تعالى ويكون المراد إضافة تشريف واختصاص كقوله تعالى : ( ناقة الله ) وكما يقال في الكعبة: بيت الله ونظائره والله أعلم. أ.هـ
        ويقول ابن حجر تعليقا على هذا الحديث وأختلف في الضمير على من يعود ؟ فالأكثر على أنه يعود على المضروب لما تقدم من الأمر بإكرام وجهه ولو لا أن المراد التعليل بذلك لم يكن لهذه الجملة ارتباط بما قبلها.
وذكر ابن حجر حديث أبي هريرة مرفوعا " لا تقولن قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته "
يقول ابن حجر: وهو ظاهر في عود الضمير على المقول له ذلك() . أ.هـ.
        وقال الإمام البيهقي في الأسماء والصفات بعد أن ساق ما ذكرناه من الأحاديث : وذهب بعض أهل النظر إلى أن الصور كلها لله تعالى على معنى الملك والفعل ثم ورد التخصيص في بعضها بالإضافة تشريفا وتكريما كما يقال ناقة الله وبيت الله ومسجد الله وعبر بعضهم بأنه سبحانه ابتدأ صورة ادم لا على مثال سابق ثم اخترع من بعده على مثاله فخص بالإضافة والله أعلم . وعلى هذا حملوا ما في هذا الحديث عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  : " لا تقبحوا الوجه فإن الله خلق أدم على صورة الرحمن " ويحتمل أن يكون لفظ الخبر في الأصل كما روينا في حديث أبي هريرة ( يشير إلى لفظ على صورته) فأداه بعض الرواة على ما وقع في قلبه من معناه . أ.هــ
أقول على إن إسناد هذا الحديث معلول فقد قال الإمام الحافظ ابن خزيمة : في هذا الحديث ثلاث علل:
1. النوري خالف الأعمش وأرسل
2. والأعمش مدلس وقد عنعن ولم يقل سمعت
3. وكذلك حبيب. أ.هــ بمعناه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحاديث اليد واليمين ونحوها :
        يقول الإمام ابن حجر العسقلاني في كتابه ( فتح الباري ) : كتاب التوحيد ، باب قول الله تعالى { لما خلقت بيدي } : اليد في اللغة تطلق لمعان كثيرة ، اجتمع لنا منها خمسة وعشرون معنى ما بين حقيقة ومجاز.
الأول: الجارحة ، الثاني : القوة نحو : { داود ذا الأيد  }(1) الآية 17 من سورة ص.
والثالث: الملك  {إن الفضل بيد الله  }((2) الآية 73 من سورة آل عمران ، ويلاحظ أنه كرر الثالث.
الرابع العهد: { يد الله فوق أيديهم } (3) الآية 10 من سورة الفتح.
) ومنه قول : هذي يدي لك بالوفاء. الخامس: الاستسلام والانقياد .قال الشاعر :
 أطاع يداً بالقول فهو ذَلولُ 
السادس: النعمة، قال:
 وكم لظلال الليل عندي من يد 
السابع: الملك { قل إن الفضل بيد الله  } الثامن : الذل  {حتى يعطوا الجزيةَ عن يد} (4) الآية 29 من سورة التوبة .
) التاسع :الاختصاص {  أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح }(6) الآية 237 من سورة البقرة.
العاشر: السلطان . الحادي عشر: الطاعة. الثاني عشر: الجماعة. الثالث عشر: الطريق، يقال أخذتهم يد الساحل. الرابع عشر: التفرق : تفرقوا أيدي سبإ.


الخامس عشر: الحفظ. السادس عشر: يد القوس: أعلاها . السابع عشر يد السيف : مقبضه. الثامن عشر: يد الرحى : عود القابض. التاسع عشر: جناح الطائر. العشرون: المدة ، يقال لا ألقاه يد الدهر. الحادي والعشرون: الابتداء، يقال لقيته أول ذات يدي، وأعطاه عن ظهر يد. الثاني والعشرون: يد الثوب: ما فضل منه. الثالث والعشرون: يد الشيء: إمامه، الرابع والعشرون: الطاقة. الخامس والعشرون: النقد نحو بعته يدا بيد((7) فتح الباري (19/447-448) أ.هــ
عن أبي هريرة  عن النبي صلى الله عليه وسلم  قال:
" يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: ( أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ ) "(8) صحيح البخاري ح 6519 كتاب الرقاق – باب يقبض الله الأرض يوم القيامة.ورواه مسلم أيضاً

        وفي رواية أخرى لمسلم عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  " يطوي الله عز وجل السموات يوم القيامة ، ثم يأخذهن بيده اليمنى ، ثم يقول: أنا الملك ، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ".
وفي رواية أخرى لمسلم أيضا
عن عبيد الله بن مقسم أنه نظر إلى عبد الله بن عمر كيف يحكي رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: " يأخذ الله عز وجل سمواته وأراضيه بيده فيقول: أنا الله – ويقبض أصابعه ويبسطها – أنا الملك " حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه ، حتى إني لأقول: أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم  ؟.

        قال النووي في شرح مسلم:قال العلماء: المراد بقوله يقبض أصابعه ويبسطها النبي  صلى الله عليه وسلم ، ولهذا قال: إن أبن مقسم نظر إلى أبن عمر كيف يحكي رسول الله صلى الله عليه وسلم  . وأما إطلاق اليدين لله تعالى فمتأول على القدرة، وكنى عن ذلك باليدين، لأن أفعالنا تقع باليدين، فخوطبنا بما نفهمه ليكون أوضح وأوكد في النفوس ، وذكر اليمين والشمال حتى يتم المثال ، لأنا نتناول باليمين ما نكرمه ، وبالشمال ما دونه ، ولأن اليمين في حقنا يقوى لما لا يقوى له الشمال. ومعلوم أن السموات أعظم من الأرض، فأضافها، إلى اليمين، والأرضيين إلى الشمال ليظهر التقريب في الاستعارة، وإن كان الله سبحانه وتعالى لا يوصف بأن شيئا أخف عليه من شيء ، ولا أثقل من شيء ، هذا مختصر كلام المازري في هذا. قال القاضي: وفي هذا الحديث ثلاثة ألفاظ : يقبض، ويطوي، ويأخذ، كله بمعنى الجمع، لأن السموات مبسوطة، والأرضيين مدحوة وممدودة ، ثم يرجع ذلك إلى معنى الرفع والإزالة وتبديل الأرض غير الأرض والسموات ، فعاد كله إلى ضم بعضها إلى بعض، ورفعها وتبديلها بغيرها . قال: وقبض النبي  صلى الله عليه وسلم أصابعه وبسطها تمثيل لقبض هذه المخلوقات، وجمعها بعد بسطها وحكاية للمبسوط والمقبوض وهو السموات والأرضون لا إشارة إلى القبض والبسط الذي هو صفة القابض والباسط سبحانه وتعالى، ولا تمثيل لصفة الله تعالى السمعية المسماة باليد التي ليست بجارحة.
        وقوله في المنبر: يتحرك من أسفل شيء منه أي من أسفله إلى أعلاه، لأن بحركة الأسفل يتحرك الأعلى، ويحتمل أن تحركه بحركة النبي  صلى الله عليه وسلم بهذه الإشارة. قال القاضي: ويحتمل أن يكون بنفسه هيبة لسمعه كما حن الجذع، ثم قال: والله أعلم بمراد نبيه  صلى الله عليه وسلم فيما ورد في هذه الأحاديث من مشكل ، ونحن نؤمن بالله تعالى وصفاته، ولا نشبه شيئا به، ولا نشبهه بشيء،{  ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } وما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم  وثبت عنه فهو حق وصدق، فما أدركنا علمه فبفضل الله تعالى ، وما خفي علينا آمنا به ووكلنا علمه إليه سبحانه وتعالى ، وحملنا لفظه على ما احتمل في لسان العرب الذي خوطبنا به ، ولم نقطع على أحد معنييه بعد تنزيهه سبحانه عن ظاهره الذي لا يليق به سبحانه وتعالى. وبالله التوفيق. "أ.هـ(1) من شرح النووي على صحيح مسلم كتاب ( صفة المنافقين وأحكامهم ) ح 2787 ، ح 2788
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في حديث الشفاعة  
      1-عن أنس  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  " يجمع المؤمنون يوم القيامة ...."إلى أن قال:" فيأتون آدم فيقولون له: أنت آدم أبو البشر، خلقك الله بيده وأسجد لك الملائكة.... " (1) صحيح البخاري ح 7516 كتاب التوحيد ونحوه في مسلم ح ( 193 ) باب شفاعة  ، كتاب الإيمان .


2        - عن أبي هريرة  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  " احتج آدم وموسى عليهما السلام عند ربهما ، فحج آدم موسى ، قال موسى أنت آدم الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة .... "(2) رواه مسلم ح 2652 كتاب القدر باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام.


3        - - عن أبي هريرة  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  " احتج آدم وموسى ، فقال له موسى: يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة ، قال آدم : يا موسى اصطفاك الله بكلامه ، وخط لك بيده ، .... " (3) رواه البخاري ح 6614 كتاب القدر باب تحاج آدم وموسى عند الله تعالى.


4        - عن المغيرة ابن شعبة يرفعه قال " سأل موسى ربه ما أدنى أهل الجنة منزلة.... " الحديث وفيه: " قال: رب فأعلاهم منزلة قال: أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها.... " (4) رواه مسلم ح 189 كتاب الإيمان باب آخر أهل النار خروجا منها وآخر أهل الجنة دخولا الجنة.


        يقول الإمام ابن حجر في ( فتح الباري ) عند شرحه للحديث رقم ( 6614 ):
" .... وإضافة الله خلق آدم إلى يده في الآية إضافة تشريف ، وكذا إضافة روحه إلى الله " أ.هــ.
ويقول النووي في شرحه لصحيح مسلم عند شرحه لحديث ( احتج آدم وموسى..) رقم ( 2652 ) قوله ( اصطفاك الله بكلامه وخط لك بيده ) في اليد هنا المذهبانالسابقان.... أحدهما: الإيمان بها ولا يتعرض لتأويلها مع أن ظاهرها غير مراد ، والثاني: تأويلها على القدرة ومعنى اصطفاك أي اختصك وآثرك بذلك.

        ويقول النووي أيضا عند شرحه لحديث ( سأل موسى ربه... ) الحديث رقم 189 من صحيح مسلم:
" .... وأما غرست كرامتهم بيدي إلى آخره فمعناه اصطفيتهم وتوليتهم فلا يتطرق إلى كرامتهم تغيير " أ. هــ. المقصود منه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حديث الأصابع 
        عن عبد الله بن مسعود قال: جاء حبر إلى النبي  صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد صلى الله عليه وسلم ، أو يا أبا القاسم ، إن الله تعالى يمسك السموات يوم القيامة على إصبع ، والأرضيين على إصبع ، والجبال والشجر على إصبع ، والماء والثرى على إصبع ، وسائر الخلق على إصبع ، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك أنا الملك فضحك رسول الله  صلى الله عليه وسلم تعجبا مما قال الحبر تصديقا له ثم قرأ: { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون  }(1) متفق عليه واللفظ لمسلم كتاب صفة الجنة والنار ح ( 2786 ) ورواه البخاري في كتاب التوحيد باب قول الله تعالى ( لما خلقت بيدي ) ح (7414 ).

        قال الإمام علي بن خلف بن بطال شارح صحيح البخاري: " لا يحمل ذكر الإصبع على الجارحة ، بل يحمل على أنه صفة من صفات الذات ، لا تكيف ولا تحدد ، وهذا ينسب للأشعري ، وعن ابن فورك: يجوز أن يكون الإصبع خلقاً يخلقه الله فيحمله الله ما يحمل الإصبع ، ويحتمل أن يراد به القدرة والسلطان كقول القائل: ما فلان إلا بين إصبعي ، إذا أراد الإخبار عن قدرته عليه "
إلى أن قال: " وحاصل الخبر أنه ذكر المخلوقات ، وأخبر عن قدرة الله على جميعها ، فضحك النبي  صلى الله عليه وسلم تصديقاً له وتعجبا من كونه يستعظم ذلك في قدرة الله تعالى ، وأن ذلك ليس في جنب ما يقدر عليه بعظيم ولذلك قرأ قوله تعالى: { وما قدروا الله حق قدره}  الآية أي ليس قدره في القدرة على ما يخلق على الحد الذي ينتهي إليه الوهم ويحيط به الحصر ، لأنه تعالى يقدر على إمساك مخلوقاته على غير شيء كما هي اليوم. قال تعالى:  {إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا  } وقال: { رفع السموات بغير عمدٍ ترونها}  نقل ذلك ابن حجر في ( فتح الباري ) ثم قال: وقال الخطابي : لم يقع ذكر الإصبع في القرآن ولا في حديث مقطوع به ، وقد تقرر أن اليد ليست بجارحة حتى يتوهم من ثبوتها ثبوت الأصابع ، بل هو توقيف أطلقه الشارع فلا يكيف ولا يشبه، ولعل ذكر الأصابع من تخليط اليهودي، فإن اليهود مشبهة وفيما يدعونه من التوراة ألفاظ تدخل في باب التشبيه ولا تدخل في مذاهب المسلمين. وأما ضحكه صلى الله عليه وسلم من قول الحبر فيحتمل الرضا والإنكار ، وأما قول الراوي: " تصديقاً له " فظن منه وحسبان وقد جاء الحديث من عدة طرق ليس فيها هذه الزيادة ، وعلى تقدير صحتها فقد يستدل بحمرة الوجه على الخجل . وبصفرته على الوجل ، ويكون الأمر بخلاف ذلك. فقد تكون الحمرة لأمر حدث في البدن كثوران الدم . والصفرة لثوران خلط مرار وغيره ، وعلى تقدير أن يكون ذلك محفوظاً فهو محمول على تأويل قوله تعالى:{  والسموات مطويات بيمينه} أي قدرته على طيها وسهولة الأمر عليه في جمعها بمنزلة من جمع شيئاً في كفه واستقل بحمله من غير أن يجمع كفه عليه ، بل يقله ببعض أصابعه. وقد جرى في أمثالهم: فلان يقل كذا بإصبعه ويعمله بخنصره انتهى ملخصا.


        قال الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم: " قوله : إن الله يمسك السموات على إصبع ، والأرضيين على إصبع ، إلى قوله : ثم يهزهن هذا من أحاديث الصفات ، وقد سبق فيها المذهبان التأويل ، والإمساك عنه مع الإيمان بها ، مع اعتقاد أن الظاهر منها غير مراد ، فعلى المتأولين يتأولون الأصابع هنا على الاقتدار أي خلقها مع عظمها بلا تعب ولا ملل ، والناس يذكرون الإصبع في مثل هذا للمبالغة والاحتقار ، فيقول أحدهم: بإصبعي أقتل زيداً أي لا كلفة عليَ في قتله . وقيل: يحتمل أن المراد أصابع بعض مخلوقاته ، وهذا غير ممتنع ، والمقصود أن يد الجارحة مستحيلة.
قوله: فضحك رسول الله  صلى الله عليه وسلم تعجبا مما قال الحبر تصديقاً له ، ثم قرأ:{  وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه  }ظاهر الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم  صدق الحبر في قوله : إن الله تعالى يقبض السموات والأرضيين والمخلوقات بالإصبع ، ثم قرأ الآية التي فيها الإشارة إلى نحو ما يقول. قال القاضي: وقال بعض المتكلمين: ليس ضحكه صلى الله عليه وسلم  وتعجبه وتلاوته للآية تصديقاً للحبر ، بل هو رد لقوله ، وإنكار وتعجب من سوء اعتقاده ، فإن مذهب اليهود التجسيم ، ففهم منه ذلك ، وقوله: تصديقاً له إنما هو من كلام الراوي على ما فهم ، والأول أظهر." (1) من كتاب صفة الجنة والنار ح ( 2786 ).

        أخرج مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله  صلى الله عليه وسلم يقول:" إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء " ثم قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم " اللهم مُصرﱢف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك " (2) في كتاب القدر باب تصريف الله تعالى القلوب كيف شاء ح ( 2654 ).

        يقول الإمام النووي في شرحه للحديث : " هذا من أحاديث الصفات وفيها القولان السابقان قريباً: أحدهما: الإيمان بها من غير تعرض لتأويل ولا لمعرفة المعنى ، بل يؤمن بأنها حق وأن ظاهرها غير مراد قال الله تعالى: ( ليس كمثله شيء )
الثاني : يتأول بحسب ما يليق بها ، فعلى هذا المراد المجاز: كما يقال ( فلان في قبضتي ) و ( في كفي )، لا يراد به أنه حال في كفه ، بل المراد: تخت قدرتي.
        ويقال ( فلان بين أُصْبُعَيّ أقلبه كيف شئت ) أي: أنّه مِنيﱢ على قهره والتصرف فيه كيف شِئْتُ.
فمعنى الحديث أنه سبحانه وتعالى متصرف في قلوب عباده وغيرها كيف شاء ، لا يمتنع عليه منها شيء ولا يفوته ما أراده كما لا يمتنع على الإنسان ما كان بين إصبعيه ، فخاطب العرب بما يفهمونه ومثله بالمعاني الحسية تأكيداً له في نفوسهم.
فإن قيل : فقدرة الله تعالى واحدة ، والأصبعان للتثنية ، فالجواب: أنه قد سبق أن هذا مجاز واستعارة ، فوقع التمثيل بحسب ما اعتاده غير مقصود به التثنية والجمع والله أعلم " أ.هــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحاديث الساق        روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري  أن ناسا في زمن رسول الله  صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم:" نعم ، قال هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحوا ليس معها سحاب ؟ ..."إلي أن قال:" فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود.... "(1) ح رقم 183 كتاب الإيمان باب رؤية المؤمنين ربهم سبحانه وتعالى.


        قال النووي في شرحه لهذا الحديث عند قوله  صلى الله عليه وسلم ( فيكشف عن ساق ): ضبط يكشف بفتح الياء وضمها وهما صحيحان.
        وفسر ابن عباس وجمهور أهل اللغة وغريب الحديث الساق عنها بالشدة أي يكشف عن شدة وأمر مهول، وهذا مثل تضربه العرب لشدة الأمر، ولهذا يقولون: قامت الحرب على ساق. وأصله أن الإنسان إذا وقع في أمر شديد شمر ساعده، وكشف عن ساقه للاهتمام به.


        قال القاضي عياض رحمه الله: وقيل : والمراد بالساق هنا نور عظيم ، وورد ذلك في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم  قال ابن فورك: ومعنى ذلك ما يتجدد للمؤمنين عند رؤية الله تعالى من الفوائد والألطاف.
قال القاضي عياض : وقيل : قد يكون الساق علامة بينه وبين المؤمنين من ظهور جماعة من الملائكة على خلقه عظيمة لأنه يقال : ساق من الناس ، كما يقال: رجل من جراد ، وقيل : قد يكون ساق مخلوقاً جعله الله تعالى علامة للمؤمنين خارجة عن السوق المعتادة ، وقيل : معناه كشف الخوف وإزالة الرعب عنهم وما كان غلب على قلوبهم من الأهوال فتطمئن حينئذ نفوسهم عند ذلك ، ويتجلى لهم فيخرون سجدا". انظر شرح النووي لصحيح مسلم ( 3/401 ) ح 183.
.

        روى البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال:" قلنا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل نرى ربنا يوم القيامة ..."إلي أن قال:" فيقول هل بينكم وبينه آية تعرفونه ؟ فيقولون الساق، فيكشف عن ساقه فيسجد له كل مؤمن.... "(3) ح رقم 7439 كتاب التوحيد باب " وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ".


        قال ابن حجر في فتح الباري في شرحه لهذا الحديث:قال: وأما الساق فجاء عن ابن عباس في قوله تعالى: " يوم يكشف عن ساق "(4) آية 42، من سورة القلم
. قال: عن شدة من الأمر، والعرب تقول قامت الحرب على ساق إذا اشتدت ومنه
قد سن أصحابك ضرب الأعناق وقامت الحرب بنا على ساق


        وجاء عن أبي موسى الأشعري في تفسيرها: عن نور عظيم ، قال أبن فورك : معناه ما يتجدد للمؤمنين من الفوائد والألطاف.

        وقال المهلب: كشف الساق للمؤمنين رحمة ، ولغيرهم نقمة ، وقال الخطابي: تهيب كثير من الشيوخ الخوض في معنى الساق ومعنى قول ابن عباس إن الله يكشف عن قدرته التي تظهر بها الشدة ، وأسند البيهقي الأثر المذكور عن ابن عباس بسندين كل منها حسن ، وزاد : إذا خفي عليكم شيء من القرآن فاتبعوه من الشعر وذكر الرجز المشار إليه ، وأنشد الخطابي في إطلاق الساق على الأمر الشديد: * في سنة قد كشفت عن ساقها *


        وأسند البيهقي من وجه آخر صحيح عن ابن عباس قال: يريد يوم القيامة ، قال الخطابي: وقد يطلق ويراد النفس.أ.هـ انظر فتح الباري ح 7439 ( 19/484 – 485 ).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحاديث القدم والرجل        روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة  عنه قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم " تحاجت الجنة والنار ، فقالت النار : أوثرت بالمتكبرين والمجبرين ..." إلى أن قال : " فأما النار فلا تمتليء حتى يضع الله تبارك وتعالى رجله تقول: قط قط فهنالك النار تمتليء ويزوي بعضها إلى بعض .... " (2) كتاب الجنة وصفة نعيمها باب جهنم أعاذنا الله منها ح 2846.

        وفي رواية أخرى: عن أنس بن مالك عن النبي  صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول : هل من مزيد ، حتى يضع رب العزة فيها قدمه ، فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط بعزتك وكرمك .... " (3) كتاب الجنة وصفة نعيمها باب جهنم أعاذنا الله منها ح 2848.

        قال النووي في شرح صحيح مسلم على هذا الحديث : قوله  صلى الله عليه وسلم : " فأما النار فلا تمتليء حتى يضع الله تبارك وتعالى رجله "
        وفي الرواية التي بعدها : " لا تزال جهنم تقول : هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة تبارك وتعالى قدمه فتقول: قط قط".

        هذا الحديث من مشاهير أحاديث الصفات ، وقد سبق مرات بيان اختلاف العلماء فيها على مذهبين: أحدهما ، وهو قول جمهور السلف ، وطائفة من المتكلمين أنه لا يتكلم في تأويلها ، بل نؤمن أنها حق على ما أراد الله ، ولها معنى يليق بها ، وظاهرها غير مراد.

        والثاني وهو قول جمهور المتكلمين أنها تتأول بحسب ما يليق بها. فعلى هذا اختلفوا في تأويل هذا الحديث ، فقيل: المراد بالقدم هنا المتقدم ، وهو شائع في اللغة ، ومعناه حتى يضع الله تعالى فيها من قدمه لها من أهل العذاب .
قال المازري والقاضي: هذا تأويل النضر بن شميل ونحوه عن ابن الأعرابي
        الثاني: أ ن المراد قدم بعض المخلوقين، فيعود الضمير في قدمه إلى ذلك المخلوق المعلوم.

        الثالث:أنه يحتمل أن في المخلوقات ما يسمى بهذه التسمية . وأما الرواية التي فيها يضع الله فيها رجله فقد زعم الإمام ابن فورك أنها غير ثابتة عند أهل النقل ، ولكن قد رواها مسلم وغيره فهي صحيحة ، وتأويلها كما سبق في القدم ، ويجوز أيضا أن يراد بالرجل الجماعة من الناس كما يقال رجل من جراد أي قطعة منه.
قال القاضي: أظهر التأويلات أنهم قوم استحقوها وخلقوا لها.
        قالوا: ولابد من صرفه عن ظاهره لقيام الدليل القطعي العقلي على استحالة الجارحة على الله تعالى. أ.هــ) النووي شرح صحيح مسلم ( 17/310 – 311 ) ح ( 2846 ).
روى البخاري في صحيحه عن أنس  عن النبي  صلى الله عليه وسلم قال: " يلقى في النار وتقول هل من مزيد حتى يضع قدمه فتقول قط قط "(2) ح 4848 كتاب التفسير باب قوله تعالى " وتقول هل من مزيد ".

        وفي رواية أخرى : " تحاجت الجنة والنار ..." إلى ان قال : " فأما النار فلا تمتليء حتى يضع رجله فتقول قط قط ... "(3) ح 4850 كتاب التفسير باب قوله تعالى " وتقول هل من مزيد ".


        قال ابن حجر في فتح الباري في شرحه لهذا الحديث:واختلف في المراد بالقدم فطريق السلف في هذا وغيره مشهورة وهو أن تمر كما جاءت ولا يتعرض لتأويله بل نعتقد استحالة ما يوهم النقص على الله. وخاض كثير من أهل العلم في تأويل ذلك فقال: المراد إذلال جهنم فإنها إذا بالغت في الطغيان وطلب المزيد أذلها الله فوضعها تحت القدم وليس المراد حقيقة القدم.
والعرب تستعمل ألفاظ الأعضاء في ضرب الأمثال ولا تريد أعيانها كقولهم رغم أنفه وسقط في يده. وقيل المراد بالقدم الفرط السابق : أي يضع الله فيها ما قدمه لها من أهل العذاب قال الإسماعيلي: القدم قد يكون اسما لما قدم كما يسمى ما خبط من ورق خبطا. فالمعنى ما قدموا من عمل.


        وقيل المراد بالقدم قدم بعض المخلوقين فالضمير للمخلوق معلوم، أو يكون هناك مخلوق اسمه قدم أو المراد بالقدم الأخير لأن القدم أخر الأعضاء فيكون المعنى: حتى يضع الله في النار أخر أهلها فيها ويكون الضمير للمزيد. وقال ابن حبان في صحيحه بعد إخراجه : هذا من الأخبار التي أطلقت بتمثيل المجاورة وذلك أن يوم القيامة يلقى في النار من الأمم والأمكنة التي عُصي الله فيها فلا تزال تستزيد حتى يضع الرب فيها موضعا من الأمكنة المذكورة فتمتليء لأن العرب تطلق القدم على الموضع
قال تعالى ( أن لهم قدم صدق ) يريد موضع صدق.
        وقال الداودي : المراد بالقدم قدم صدق وهو محمد والإشارة بذلك إلى شفاعته وهو المقام المحمود فيخرج من كان في قلبه شيء من الإيمان وتعقب بأن هذا منابذ لنص الحديث لأن فيه يضع قدمه بعد أن قالت ( هل من مزيد ) والذي قاله مقتضاه أنه ينقص منها وصريح الخبر أنها تنزوي بما يجعل فيها لا بما يخرج منها.
        قلت : ويحتمل أن يوجه بأن من يخرج منها يبدل عوضهم من أهل الكفر كما حملوا عليه حديث أبي موسى في صحيح مسلم: " يعطي كل مسلم رجلا من اليهود والنصارى فيقال هذا فداؤك من النار " فإن بعض العلماء قال: المراد بذلك أنه يقع عند إخراج الموحدين وأنه يجعل مكان كل واحدا منهم واحد من الكفار بأن يعظم حتى يسد مكانه ومكان الذي خرج وحينئذ فالقدم سبب للعظم المذكور فإذا قع العظم حصل الملء الذي تطلبه
ثم قال : وقال أبو الوفاء بن عقيل : تعالى الله عن أنه لا يعمل أمره في النار حتى يستعين عليها بشيء من ذاته أو صفاته وهو القائل للنار: " كوني برداً وسلاماً " فمن يأمر نارا أججها غيره أن تنقلب عن طبعها وهو الإحراق فتنقلب كيف يحتاج في نار يؤججها هو إلى استعانة؟(1) فتح الباري ( 13/571 – 572 ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أحاديث توهم الحركة والانتقال
حديث النزول :
        روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول : من يدعوني فاستجيب له .... "((1) ح 758 باب صلاة الليل والوتر كتاب صلاة المسافرين وقصرها.ورواه البخاري ح 1145 باب الدعاء والصلاة من آخر الليل كتاب التهجد
قال النووي في شرحه لهذا الحديث:
قوله صلى الله عليه وسلم  " ينزل ربنا ....الخ"

        هذا الحديث من أحاديث الصفات ، وفيه مذهبان مشهوران للعلماء سبق إيضاحهما في كتاب الإيمان ومختصرهما أن أحدهما وهو مذهب جمهور السلف وبعض المتكلمين أنه يؤمن بأنها حق على ما يليق بالله تعالى وأن ظاهرها المتعارف في حقنا غير مراد ، ولا يتكلم في تأويلها مع اعتقاد تنزيه الله تعالى عن صفات المخلوق، وعن الانتقال والحركات وسائر سمات الخلق
والثاني مذهب أكثر المتكلمين وجماعات من السلف وهو محكي هنا عن مالك والاوزاعي أنها تتأول على ما يليق بها بحسب مواطنها فعلى هذا تأولوا هذا الحديث تأويلين أحدهما تأويل مالك بن أنس وغيره معناه تنزل رحمته وأمره وملائكته كما يقال: فعل السلطان كذا إذا فعله إتباعه بأمره ، والثاني أنه على الاستعارة ومعناه الإقبال على الداعين بالإجابة واللطف. والله أعلم." أ.هــ

        وعبارة الإمام مالك " يتنزل ربنا – تبارك وتعالى – أمره فأما هو فدائم لا يزول " تأويلات الإمام مالك أنظر التمهيد (7/143) لابن عبد البر ، سير أعلام النبلاء (8/105) ، يقول يحيى بن كثير تلميذ مالك " حسن والله ... " فهو متابع له فيه.
        قال ابن حجر في فتح الباري:قوله: " ينزل ربنا إلى السماء الدنيا " استدل به من أثبت الجهة وقال هي جهة العلو ، وأنكر ذلك الجمهور لأن القول بذلك يفضي إلى التحيز ، تعالى الله عن ذلك.
وقد اختلف في معنى النزول على أقوال ، فمنهم من حمله على ظاهره وحقيقتة وهم المشبهة ، تعالى الله عن قولهم
إلى أن قال " ومنهم من أجراه على ما ورد مؤمنا به على طريق الإجمال منزها الله تعالى عن الكيفية والتشبيه وهم جمهور السلف.
ونقله البيهقي عن الأئمة الأربعة و السفيانين [ سفيان الثوري وسفيان بن عيينة ] والحمادين [ حماد بن زيد وحماد بن سلمة ] والاوزاعي والليث وغيرهم .... ". إلى أن قال:ومنهم من فصل بين ما يكون تأويله قريبا مستعملا في كلام العرب.
وبين ما يكون بعيدا مهجورا فأول في بعض وفوض في بعض وهو منقول عن مالك وجزم به من المتأخرين ابن دقيق العيد.


        قال البيهقي: وأسلمها الإيمان بلا كيف والسكوت عن المراد إلا أن يرد ذلك عن الصادق فيصار إليه..."إلى أن قال: " وقال ابن العربي : حكي عن المبتدعة رد هذه الأحاديث وعن السلف إمرارها ، وعن قوم تأويلها وبه أقول.
فأما قوله: " ينزل " فهو راجع إلى أفعاله لا إلى ذاته بل ذلك عبارة عن ملكه الذي ينزل بأمره ونهيه والنزول كما يكون في الأجسام يكون في المعاني فإن حملته في الحديث على الحسي فتلك صفة الملك المبعوث بذلك ، وإن حملته على المعنوي بمعنى أنه لم يفعل ثم فعل فيسمي ذلك نزولا عن مرتبة إلى مرتبة فهي عربية صحيحه. انتهى.
وقال ابن حجر: والحاصل أنه تأوله بوجهين: إما بأن المعنى ينزل أمره أو الملك بأمره، وإما بأنه استعارة بمعنى التلطف بالداعين والإجابة لهم ونحوه. (1) فتح الباري (4/146-147). أ.هــ


        ويقول الإمام الحافظ ابن حزم في شرحه النزول الوارد في هذا الحديث:
وهذا إنما هو فعل يفعله الله تعالى في سماء الدنيا من الفتح لقبول الدعاء وأن تلك الساعة من مظان القبول والإجابة والمغفرة للمجتهدين والمستغفرين والتائبين وهذا معهود في اللغة تقول نزل فلان عن حقه بمعنى وهبه لي وتطول به علي. ومن البرهان على أنه صفة فعل لا صفة ذات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  علق التنزل المذكور بوقت محدود فصح أنه فعل محدث في ذلك الوقت مفعول حينئذ وقد علمنا أن ما لم يزل فليس متعلقا بزمان البته. وقد بين رسول الله  صلى الله عليه وسلم في بعض ألفاظ الحديث المذكور ما ذلك الفعل وهو أنه ذكر عليه السلام أن الله يأمر ملكا ينادي في ذلك الوقت بذلك. وأيضا فإن ثلث الليل مختلف في البلاد باختلاف المطالع والمغارب يعلم ذلك ضرورة من بحث عنه فصح ضرورة أنه فعل يفعله ربنا تبارك وتعالى في ذلك الوقت لأهل كل أفق. (2) الفصل في الملل والأهواء والنحل (2/152 وما بعدها ).
أ.هــ


        وقال الحافظ ابن حيان في صحيحه (2/136) عقب روايته لحديث النزول: " ينزل بلا آلة ولا تحرك ولا انتقال من مكان إلى مكان " أ.هــ
        روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة  أن ناسا قالوا لرسول الله  صلى الله عليه وسلم :" يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة .... " وفيه " فيأتيهم الله تبارك وتعالى... "
يقول الإمام النووي في شرحه لهذا الحديث : يقال في قوله صلى الله عليه وسلم  فيأتيهم الله بعد أن أشار إلى قولي أهل العلم في أحاديث وآيات الصفات وأن الأول التفويض مع التنزيه والثاني التأويل على ما يليق بها ثم قال: فعلى هذا المذهب –يقصد التأويل – يقال في قوله صلى الله عليه وسلم  فيأتيهم الله أن الإتيان عبارة عن رؤيتهم إياه لأن العادة أن من غاب عن غيره لا يمكنه رؤيته إلا بالإتيان فعبر بالإتيان و المجئ هنا عن الرؤية مجازا، و قيل الإتيان فعل من أفعال الله تعالى سماه إتيانا ، وقيل المراد بيأتيهم الله أي يأتيهم بعض ملائكة الله.
قال القاضي عياض رحمه الله: هذا الوجه أشبه عندي بالحديث.


        قال: ويكون هذا الملك الذي جاءهم في الصورة التي أنكروها من سمات الحدث الظاهرة على الملك والمخلوق قال أو يكون معناه يأتيهم الله في صورة أي يأتيهم بصورة ويظهر لهم من صور ملائكته ومخلوقاته التي لا تشبه صفات الإله يختبرهم ، وهذا آخر امتحان المؤمنين فإذا قال لهم هذا الملك أو هذه الصورة: أنا ربكم رأوا عليه من علامات المخلوق ما ينكرونه ويعلمون أنه ليس ربهم ، ويستعيذون بالله منه. (2) شرح صحيح مسلم للنووي ( 3/394 -395 ).
وقال ابن حجر في فتح الباري بنحو كلام النووي (3) فتح الباري (17/453)
أ.هــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحاديث توهم الانفعالات النفسية
حديث العجب والضحك والفرح :

        روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة  قال: جاء رجل إلى رسول الله  صلى الله عليه وسلم فقال إني مجهود ..." إلى أن قال: " فلما أصبح غدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم  فقال: " قد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة " ح 2054 ،كتاب الأشربة ، باب إكرام الضيف وفضل إيثاره.

        قال النووي في شرحه لهذا الحديث الحديث:قوله  صلى الله عليه وسلم : " عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة "
قال القاضي: المراد بالعجب من الله رضاه ذلك.
قال: وقد يكون المراد عجبت ملائكة الله ، وأضافه إليه سبحانه وتعالى تشريفا. (2) شرح النووي على مسلم ( 14/209 ). أ.هــ

        وروى البخاري في صحيحه في موضعين عن أبي هريرة  : أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم  فقال: ضحك الله الليلة أو عجب من فعلكما فأنزل الله " ويؤثرون على أنفسهم ... "(3) ح 3798 كتاب مناقب الأنصار ، ح رقم 4889 كتاب التفسير باب قول الله عز وجل ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ). الآية جزء من الآية 9 سورة الحشر.


        قال ابن حجر في شرحه على هذا الحديث ( رقم 3798):" ونسبة الضحك والتعجب إلى الله مجازية والمراد بهما الرضا بصنيعهما ". أ. هــ

        وقال ابن حجر في الحديث الأخر رقم (4889 ):" قال الخطابي: أخلاق العجب على الله محال ومعناه الرضا فكأنه قال إن ذلك الصنيع حل من الرضا عند الله حلول العجب عندكم قال: وقد يكون المراد بالعجب هنا أن الله يُعجَّب ملائكته من صنيعهما لندور ما وقع منهما في العادة، قال: وقال أبو عبد الله : " معنى الضحك هنا الرحمة. "

        قال ابن حجر: " ولم أر ذلك في النسخ التي وقعت لنا من البخاري، قال الخطابي: وتأويل الضحك بالرضا أقرب من تأويله بالرحمة، لأن الضحك من الكرام يدل على الرضا فإنهم يوصفون بالبشر عند السؤال "
ثم قال ابن حجر: " الرضا من الله يستلزم الرحمة وهو لازمه والله أعلم "فتح الباري (11/104) ، (14/21-22).أ.هــ


        روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة  عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  :" ..... والله لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة.... "(5) ح 2675 باب الحض على التوبة والفرح بها كتاب التوبة.

        قال النووي في شرحه على هذا الحديث عند قوله  صلى الله عليه وسلم : " لله أشد فرحاً بتوبة عبده ... " قال العلماء: فرح الله تعالى هو رضاه ، و قال المازري :الفرح ينقسم على وجوه: منها السرور ، والسرور يقاربه الرضا بالمسرور به. قال: فالمراد هنا أن الله تعالى يرضى توبة عبده أشد مما يرضى واجد ضالته بالفلاة ، فعبر عن الرضا بالفرح تأكيدا لمعنى الرضا في نفس السامع ومبالغة في تقريره. (1) شرح مسلم للنووي (17/219).
أ.هــ