الأحد، 12 فبراير 2012

شخصيات تاريخية - مسلمون - عبد الرحمن الداخل


عبد الرحمن الداخل

أبو المطرف، عبد الرحمن بن معاوية ابن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم الأموي القرشي، مؤسس الإمارة الأموية في الأندلس، لقبه الخليفة العباسي المنصور (136ـ158هـ) بصقر قريش لأنه عَبَر البحر، وقطع القفر، ودخل بلداً أجنبياً مفرداً، فمصر الأمصار، وجنّد الأجناد ودوّن الدواوين، وأقام ملكاً بعد انقطاعه، بحسن تدبيره وشدة شكيمته.
ولد عبد الرحمن بموضع يعرف بدير حسينة قرب دمشق، وتوفى والده معاوية وهو صغير، فتولى تربيته مع إخوته، جدُّه الخليفة هشام بن عبد الملك (105ـ125هـ)، أمه أم ولد من قبيلة نفزة البربرية تسمى راح، سقطت الدولة الأموية ولم يكن قد بلغ العشرين من عمره، واضطر ككثير من أبناء الأسرة الأموية إلى التواري عن الأنظار، ولاسيما عندما عمد عبد الله ابن علي العباسي والي الخليفة أبي العباس على الشام إلى إبادة كل أموي. وتروي المصادر القديمة قصة هرب عبد الرحمن من الشام بشكل أقرب ما يكون إلى الأساطير، فقد لجأ مع أختيه وأخيه الأصغر سليمان إلى قرية لهم على شاطئ الفرات، فلما سدّ العباسيون عليه منافذ الهرب لم يجد مع أخيه مناصاً من إلقاء نفسيهما في ماء الفرات، وبعد أن شعر المطاردون بإفلات طريدتهم عمدوا إلى الحيلة، وطلبوا منهما العودة إلى الشاطئ ووعدوهما بالأمان، ولم يُعِر عبد الرحمن هذا الوعد اهتماماً وتابع سباحته نحو الشاطئ الآخر، لكنّ أخاه الأصغر الذي عجز عن مغالبة التيار رجع، وتناسى الجند العباسي وعدهم له بالأمان فقتلوه على مرأى من أخيه. وصل عبد الرحمن سالماً إلى الضفة الأخرى للفرات، وبعد أن اختبأ مدة في قنسرين توجه نحو فلسطين ومنها إلى مصر، حيث وافاه مولاه بدر ومعه بعض المال وكمية من الأحجار الكريمة من أختيه، وبعد ذلك وافاه مولاه الثاني سالم، واتجه ثلاثتهم بعد ذلك إلى إفريقيا، ولم يكن هذا الاتجاه مقصوراً على عبد الرحمن وحده بل كان طريق أكثرية الهاربين من الأمويين الذين تبعثروا في كل مكان ووصلوا إلى أقاصيه هرباً من مركز الدولة إلى أطرافها.
اجتاز عبد الرحمن بُرقة وأقام أمداً في إفريقيا إلا أنه ما لبث أن وجد الخطر يتهدده من جديد، لا من العباسيين، وإنما من سميّه أمير القيروان عبد الرحمن بن حبيب الفهري الذي كان يرغب في إقامة حكم مستقل له في شمالي إفريقيا ويخشى منافسة الأمويين، ولذلك حاول الاعتداء على عبد الرحمن الذي هرب وغادر ولاية إفريقيا، فأقام مدة عند قبيلة مكناسة وأخيراً حطّ عصا الترحال بين أفراد قبيلة أمه نفزة، ثم تركها ليعيش في منطقة العَدْوَة في كنف قوم من مغيلة، ومن هناك بدأ يرنو بأبصاره نحو الأندلس، التي كانت تخضع آنذاك صورياً ليوسف الفهري وفعلياً للصُمَّيل، وكلاهما ينتمي إلى قيس وقبائلها، التي تعدّ أقلية في الأندلس قياساً بالقحطانية، التي تؤلف قبائلها أكثر العرب النازلين في الأندلس، وقد اضطرمت نيران الحرب الأهلية بين القيسيين واليمنيين، وكل فريق يبذل كل ما لديه من قوى لكي يحرز النصر فيها، وقد رأى عبد الرحمن أن هذا الوضع غير المستقر يقدّم فرصة سانحة لكل صاحب عصبية، ولعبد الرحمن عصبيته الخاصة المتمثلة بموالي الأمويين الذين اتصلوا بزعماء باقي العصبيات، وعندما لم يجد القائمون على الدعوة قبولاً لدى الزعيم القيسي الصميل، اتجه الدعاة إلى العصبية اليمانية المنافسة فرحبوا بذلك لأنهم كانوا يريدون واجهة يثورون باسمها ووجدوا في عبد الرحمن بغيتهم.
نزل عبد الرحمن إثر ذلك في ميناء المنكّب الصغير في شهر ربيع الأول سنة 138هـ، وبين نزول عبد الرحمن على شاطئ المنكّب وبين معركة المصّارة انقضى نحو تسعة شهور، كانت الستة الأولى فترة تجميع للقوى لكل من الطرفين، بينما كانت الشهور الثلاثة الأخيرة، فترة تحركات لكل من الخصمين، وانتهت بالمعركة الفاصلة التي جعلته يدخل قرطبة في اليوم نفسه ويبايع بالإمارة فيها ويصبح سيد الأندلس بعد أن استسلم له أعداؤه.
ليست عملية وصول عبد الرحمن للحكم هي الأساس في جعل عمله يبدو فذاً بنظر القدماء والمحدثين على حد سواء، بل يبقى الجوهري في عمله هو حفاظه على الحكم بعد الوصول إليه وتوطيده لخلفائه وأسرته، حتى إنّ حكم الأمويين في الأندلس عاش أكثر من ثلاثة أضعاف المدة التي عاشها في المشرق، وتشيد الروايات بعظمة دولة بني أمية التي قامت في الأندلس بفضل عبد الرحمن، التي لم يكن في دول الدنيا أنبل منها ولا أكثر نصراً على الشرك وأجمعها لخلال الخير.
يُعد تغيير عبد الرحمن لمفهوم الحكم الجانب الأعظم من أعماله، إذ إنّ السلطة قبل عبد الرحمن كانت قبلية، فعلى الرغم من وجود والٍ في قرطبة لم يكن لكور الأندلس في هذه الفترة ولاة، وإنما كانت هناك رئاسات وبما أن السلطة كانت قبلية فقد تجلى المفهوم القبلي للسلطة واضحاً عند تنازع القبائل إدارة الأندلس، فقد كانت القبيلة المنتصرة تنكّل بخصومها ولاتكتفي بنيل الإمارة، وهذا ما كان يعد خطراً على قضية العرب والإسلام في أرض شبه الجزيرة الإيبرية، ولاسيما أنّ الدولة المسيحية الإسبانية نشأت وترعرعت، وأصبحت لها كل مقومات الدولة في فترة عصر الولاة. ولذلك عمل عبد الرحمن جاهداً على إحلال سلطة الدولة ممثلة بالأمير محل سلطة القبيلة، وحاول تطبيق هذا المفهوم مباشرة إثر انتصاره ودخوله دار الإمارة في قرطبة، وتجلى ذلك في موقفه من القيسية، إذ إنه لم ينكل بهم، وإنما أخضعهم لسلطانه، ومنع أتباعه من اليمانية من السلب والنهب، كما منعهم من قتل أعدائهم باستئصال شأفتهم قائلاً، «لا تستأصلوا شأفة أعداء ترجون صداقتهم واستبقوهم لمن هم أشدّ عداوة منهم» يشير إلى استبقائهم ليستعان بهم على أعداء الدين.
أما موقفه من اليمانية الذين دعموه، فإنه بعد أن وصل إلى الحكم عدّهم أتباعاً عليهم أن يأتمروا بأمره، في حين أنه لم يكن لهم أكثر من أداة لتحقيق ثأرهم من القيسية، وكان التباين في النظرة من العوامل التي أدّت إلى ثورتهم على عبد الرحمن على الرغم من أنه حاول بعد دخوله قرطبة أن يتألف رؤساء القبائل، فعمد إلى استحضار الوفود إلى قرطبة، وإلى القعود لهم في قصره أيام عدة في مجالس يكلم فيها رؤساءهم ووجوههم بكلام سَرّهم وطيّب نفوسهم.
عمد عبد الرحمن إثر استتباب الأمر إلى تعيين الولاة على الكور المختلفة واعتمد في بادئ الأمر على الزعماء القبليين فجعلهم ولاة في مناطق سيادتهم، ولكن ثورة العصبيات جعلته يعزل الزعماء القبليين الذين أظهروا رفضاً للانصياع إلى سلطة الأمير العليا، ويعيّن بدلاً منهم أمراء من الأمويين أو الموالي، وإذا كانت الروايات تقدم أسماء بعض الولاة، فإنها لا تشير إلى مدى صلاحياتهم وسلطاتهم، ولكنها تُظهر أن عبد الرحمن كان يطلب من ولاته التزام الطاعة وتدبير شؤون كورهم بما يتفق مع مصلحة الدولة، أما شؤون المعاهدين فقد تركهم المسلمون أحراراً ينظمون أمورهم على النحو الذي أرادوا ما داموا على الطاعة ويؤدون ما عليهم من الأموال. وقد عيّن عبد الرحمن لأول مرة في الأندلس رئيساً عاماً له عرف بقومس الأندلس، يقيم إلى جواره في قرطبة ويستشيره كأحد علية القوم، ولكن قومس الأندلس لم يكن له حق تعيين قمامسة النواحي لأن ذلك يعطيه سلطاناً واسعاً خطراً ولاسيما أن النصرانية كانت لاتزال واسعة الانتشار.
إلى جانب الولاة ورؤساء أهل الذمة الذين ساعدوا عبد الرحمن على إدارة الدولة تذكر المصادر وجود حجاب وكتاب ووزراء إضافة إلى القضاة في حين تهمل المصادر ذكر هؤلاء في الفترة السابقة، وقد استحدث عبد الرحمن منصب قاضي الجماعة الذي ظل طوال تاريخ الأندلس تقريباً لقباً لقاضي الحضرة أو العاصمة ولكبير قضاة الدولة الأندلسية، وتكاد المصادر تجمع على أن عبد الرحمن كان لا يكل الأمور إلى غيره، ولكنه أيضاً لاينفرد في إبرامها برأيه، ولذلك جمع حوله عدداً من المستشارين، كان بعضهم من الموالي وبعضهم الآخر من العرب، ولاسيما من الأمراء الأمويين، أما كُتّابه فكانوا كلهم من الموالي، كما أن بعض مستشاريه كانوا في الوقت نفسه كُتّاباً له.
ونظم الداخل شؤون الأمن، فتذكر المصادر لأول مرة وجود صاحب للشرطة هو الحصين بن الدجن بن عبد الله العقيلي، فارس أهل الشام، حضر يوم المصّاره مع عبد الرحمن فأحسن البلاء، فلما استوسق الأمر لعبد الرحمن ولاه الشرطة كما ضمّ عبد الرحمن مواليه فجعلهم حرساً له.
إن نجاح عبد الرحمن بتأسيس دولة وتنظيمها والقضاء على الزعامات والثورات، وفرض هيبة الدولة ترك أثره الكبير في علاقاته الخارجية قياساً بدولة اشتوريش؛ وهي الدولة الإسبانية الشمالية، فإن توحيد قوى الأندلس تحت راية عبد الرحمن وعبور جيش الأمير ووصوله حتى منابع نهر إبرو، وفرض الجزية على مسيحي الشمال ونجاحه في تقويض سيادتها من الداخل أدّى إلى ظهور حزب يدعو للخضوع لرغبات الأمير الأموي، وعدم جدوى الوقوف في وجهه، وسمّى بعضهم فترة حكم الملوك الذين عاصروا حكم عبد الرحمن فترة التعرب؛ لأنها كانت تدور في فلك قرطبة ليس سياسياً فحسب بل حضارياً أيضاً.
اتخذ عبد الرحمن قرطبة عاصمة دائمة للدولة، بينما كانت قاعدة الحكم قبل ذلك غير ثابتة فتارة قرطبة وتارة إشبيلية، وحرص عبد الرحمن على جعل قرطبة صورة من دمشق في منازلها البيضاء ذات الأفنية الداخلية، المزينة بالأزهار والورود ونافورات المياه، كذلك عرف عنه أنه كان يرسل أشخاصاً إلى المشرق لجلب أشجار الفاكهة من الشام، فيُسمع عن رجل أردني اسمه سفر بن عبيد الكلاعي، ينسب إليه بعض الفواكه التي غرسها وأثمرت مثل التين السفري والرمان السفري، ولايزال هذا النوع من الرمان معروفاً في إسبانية بحلاوته وصغر حجمه ويسمى الاسم نفسه أيضاً.
كذلك بنى عبد الرحمن في شمال غربي قرطبة منية أو قصراً صيفياً سماه قصر الرصافة محاكياً في ذلك قصر جده هشام بن عبد الملك الذي بناه خارج دمشق في بادية الشام سنة 110هـ، وسماه بهذا الاسم ولازالت توجد في هذا المكان بقرطبة قرية تحمل هذا الاسم La Ruzafa، وقد أعاد عبد الرحمن سنة 169هـ/785م بناء جامع قرطبة، وفيه تلاحظ المؤثرات الشامية المقتبسة من المسجد الأموي بدمشق، مثال ذلك العقود المزدوجة التي تزيد من ارتفاع السقف وتجعله مناسباً مع اتساع مساحة المسجد، كذلك يلاحظ هذا التأثير في وضع المئذنة، وفي الممر الذي يصل المسجد بقصر الإمارة.
وقد تأثرت الحياة الدينية في هذه الفترة الأولى بالشام، فقد اعتنق الأندلسيون في بادئ الأمر مذهب الأوزاعي إمام الشام (ت157هـ)، وكان الأوزاعي من المجاهدين الذين رابطوا في مدينة بيروت التي كانت في ذلك الوقت رباطاً لصد هجمات البيزنطيين، لهذا اهتم بصفة خاصة بالتشريعات الحربية وأحكام الحرب والجهاد، وهذا الاهتمام كان يناسب وضع الأندلسيين في هذه الفترة الأولى من حياتهم القائمة على الجهاد والحرب، وفي عهد عبد الرحمن دخل معاوية بن صالح الحضرمي من أهل الشام من حمص، وكان أول من دخل الأندلس بالحديث ولاسيما حديث أهل الشام وقد ولاه عبد الرحمن القضاء والصلاة، ووجد ابتداء من عهد عبد الرحمن مشايخ للإفتاء، مثل عيسى بن دينار، ويحيى بن يحيى، وأشهرهم كان أبو موسى الهوّاري الذي يعدّ عالم الأندلس، رحل إلى المشرق من الأندلس بعد دخول عبد الرحمن، وكان قد جمع علم العرب إلى علم الدين فكان إذا دخل قرطبة لم يُفت أحد من مشايخ قرطبة حتى يرحل عنهم.
وكان عبد الرحمن شديد الحذر قليل الطمأنينة شجاعاً شاعراً، وفي شعره يتجلّى حنينه وشوقه وحبه لبلاد الشام. ومن شعره قوله:
أيها الراكب الميمم أرضـي             
                  أقّرِ من بعضي السلام لبعضي
إن جسمي كما علمت بأرضٍ
وفـؤادي ومـالكيه بــأرضِ
قُدّر البين بيننا فافـترقـنا               
                  وطوى البينُ عن جفوني غمضِ
قد قضى الله بالفراق علينا       
فعسـى باجتماعنا سوف يقضي
توفى عبد الرحمن بعد حكم دام 34سنة ودفن بالروضة من قصر الإمارة بقرطبة.