الأحد، 12 فبراير 2012

شخصيات تاريخية - مسلمون - عبد الرحمن الناصر


عبد الرحمن الناصر

أبو المطرِّف، عبد الرحمن بن محمد ابن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل بن معاوية ابن الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك ابن مروان الناصر لدين الله، أعظم بني أمية في المغرب سلطاناً وأطول ملوك الإسلام قبله مدة وزماناً. دام حكمه ما يزيد على خمسين سنة بما في ذلك مدة خلافته.
ولي الحكم في قرطبة سنة 300هـ/912م عند وفاة جده الأمير عبد الله ابن محمد، بعد حكم دام ستاً وعشرين سنة عصفت بالإمارة في أثنائه الخطوب وتمزقت أوصالها ونضبت مواردها. وكان محمد والد عبد الرحمن ولياً لعهد أبيه الأمير عبد الله، فوجد عليه أخوه المطرِّف حسداً وقتله، وكان عبد الرحمن وقتئذ طفلاً عمره عشرون يوماً حين قتل أبوه، وأمه محظية أبيه الإسبانية ماريانا واسمها (مزنة). وكفل الجد عبد الله حفيده وتعلق به، وكان يحظيه من دون بنيه، ويسكنه معه في القصر دون ولده، ويومي إليه ويرشحه لأمره، وربما أقعده في بعض الأيام والأعياد مقعد نفسه لتلقي ولاء الجند، ورمى إليه وهو مريض خاتمه إبانة لاستخلافه، فتعلقت آمال أهل الدولة به ولم يشكّوا في مصير الأمر إليه. وكان جلوسه في سدة الحكم مكان جده من دون أعمامه وأعمام أبيه أمراً مستطرفاً غريباً، وكان عمره آنذاك ثلاثاً وعشرين سنة، وحاز بيعة الخاصة والعامة ومن جميع أقربائه ولم يعترض معترض، وقد استبشر الناس بيمن نقيبته وعلو همته ورجوا إصلاح الأمور على يديه. وتسمى بالإمارة شأن سابقيه الذين لم يتعدوا في الخطبة الإمارة، وجرى عبد الرحمن على ذلك إلى آخر السنة السابعة عشرة من ولايته، عندما تسمى بأمير المؤمنين الخليفة الناصر لدين الله، وهو أول من تسمى بهذا اللقب من أموييّ الأندلس.
ولي عبد الرحمن الأندلس وهي تحتدم خلافاً وتضطرم شقاقاً ونفاقاً، واستولى العصاة على معظم كورها ومناطقها، فنهض من يومه بهمة عالية لمعالجة الأمور، وناضل مدة طويلة إلى أن استطاع أن يبسط السلطة على ديار الأندلس قاطبة ويحوّل الدولة إلى إحدى أقوى الدول في عصرها.
واجه عبد الرحمن منذ توليه السلطة مسألتين مهمتين تهددان وجود الدولة ذاتها، وهما: مسألة إعادة فرض سلطة أمير قرطبة على الأندلس الإسلامية كلها بصورة مباشرة بعد سحق العصيانات الكثيرة والاستقلالات الصغيرة التي غطت معظم ديار الأندلس. والمسألة الثانية مواجهة تهديد دول النصارى الإسبان في القسمين الشمالي والشمالي الغربي من شبه الجزيرة الإيبرية، وإلزامها الهدنة والمسالمة وفرض الطاعة عليها والضريبة السنوية التي كانت تؤديها لقرطبة أحياناً.
ففي الشأن الداخلي، قضى الأمير عبد الرحمن نصف سني حكمه في إعادة نواحي الأندلس إلى الطاعة والقضاء على العصيان، فمن العصاة من كان يطمع في إزالة الإمارة الأموية في قرطبة والحلول محلها، ومنهم آخرون يريدون استبدال سلطان المولدين بسلطان العرب، وهو هدف عصيان عمر بن حفصون في جهات (رندة والبيرة ومالقة وحصن ببشتر) والجنوب الغربي من قرطبة، وبعض العصاة قنعوا بالاستقلال في مناطق معينة مكنهم سعتها وغنى مواردها من إقامة دويلة فيها، مثل حال بني مروان الجليقي في الثغر الأدنى وبني حجاج في إشبيلية، ومع هؤلاء وأولئك وجد نوع من العصاة الصغار انحصر سلطانهم في حصن أو في عدد قليل من الحصون امتنعوا فيها، ومالأ بعضهم ابن حفصون خوفاً منه إذا كان مجاوراً لهم، أو بسبب عصبية المولّدين إذا كان الممتنع مولّداً، في حين كان بعضهم يخضع للأمير اسمياً ويدفع قدراً من المال جزية مقابل عهد الأمير له بحكم منطقته ومعظم هؤلاء كانوا في شرقي الأندلس.
أحاط عبد الرحمن نفسه بجمهرة من الأعوان والقادة الذين يثق بهم وبكفايتهم، أسند إليهم مناصب الدولة المدنية والعسكرية، واستعان في حروبه بابن عمه سعيد بن المنذر بن معاوية ابن أبان، ونهض بعزيمة قوية بعد أسابيع قليلة من توليه الحكم إلى تحقيق هدفه بسحق الثورة، وبدأ بحملة على الفتح بن موسى بن ذي النون من زعماء البربر وحليفه الرياحي، فأسقطهما واسترد «رباح»، ثم أتبعها بحملة إلى الغرب فاسترد مدينة «استجة» من أتباع ابن حفصون، وحصوناً قريبة في كورتي (جيان وريّة) و(وادي آش) وبلغ مجموع ما استولى عليه زهاء سبعين حصناً.
وكانت إشبيلية وقرمونة تحت حكم إبراهيم بن حجاج ثم بنيه من بعده، فوجه الأمير عبد الرحمن حملة بقيادة الحاجب بدر سنة 301هـ/914م استولت على إشبيلية وأزالت حكم بني حجاج، وتم لعبد الرحمن من خلال حملات متعددة على المناطق الثائرة كبح جماح ثورة ابن حفصون[ر] أخطر الثائرين التي استمرت مايزيد على خمسين عاماً وخطرها يكمن في قربها من مركز الإمارة، وفي طموح صاحبها وتعصب المولّدين ـ والمولّدون سلالة القوط والنصارى الاسبان الذين اسلموا منذ الفتح وعُدّوا جزءاً من المجتمع وحظوا برعاية وتسامح ـ والمستعربين لها، وفي هدفها الذي يسعى لانقلاب كامل يغير جنس الحاكمين ودينهم وينسف الدولة.
ومال ابن حفصون إلى المهادنة بسبب تراجع قوته وتقدمه في السن، ومات سنة 305هـ/917م وخلّف أربعة أبناء، هم: جعفر وسليمان وعبد الرحمن وحفص، أخذوا يتصارعون على وراثة أبيهم والناصر عبد الرحمن يستغل خلافاتهم، ودام العصيان في مناطقهم عشر سنين بعد موت الثائر عمر بن حفصون إلى أن سقطت (ببشتر) قاعدة العصيان في سنة 315هـ/928م. وكانت سياسة الناصر من جهة ترك العصاة يتصارعون ويؤجج صراعهم فيقضي بعضهم على بعض، ومن جهة ثانية معاملة المغلوبين بالحسنى واستعمال بعضهم في إدارات الدولة، وبذلك تم للناصر إعادة فرض سلطان قرطبة على كامل الديار العربية والإسلامية في شبه الجزيرة الإيبرية. أما في مسألة مواجهة الدويلات النصرانية الإسبانية شمالاً، فإن الناصر اتبع سياسة الإيقاع بين ملوكها وحكامها وتوجيه الضربات المتلاحقة عليها منذ بداية حكمه مع توقفات تقتضيها أعمال القضاء على الثوار الداخليين، فمنذ العام 304هـ/916م غزت قوات الناصر أراضي مملكة ليون الشمالية، وكانت مملكتا ليون (جليقية) وعاصمتها (سمورة) ومملكة نافار وبلاد البشكنس وعاصمتها (بنبلونة) أهم دولتين نصرانيتين في شبه الجزيرة. وكانت الحملات والحملات المضادة تتتابع يتخللها هدنات تتم، إما بسبب المجاعة التي تعقب قحطاً يصيب شبه الجزيرة، وإما بسبب التفات الناصر إلى الشأن الداخلي،وإما بسبب الصراع على السلطة الناشب بين المملكتين أو في داخل هيئة حكم كل منهما.
استغلت أندلس عبد الرحمن المنازعات الداخلية في المناطق النصرانية، واستطاعت أن تفرض الصلح والمهادنة والولاء على الدويلات النصرانية الشمالية التي صارت تتسابق إلى كسب ودّ عبد الرحمن وموادعته. وغدت الأندلس آنذاك أعظم ممالك الإسلام، تفد إليها وفود روما وألمانيا وفرنسا والصقالبا (البلغار) والقسطنطينية وممالك إسبانيا النصرانية وسفاراتها تخطب ودّها وتتبادل معها الرسائل والهدايا وتستمع إلى رأيها في قضايا ذلك العصر، فضلاً عن اقتباس كثير من مظاهرها الحضارية رفيعة المستوى حتى صارت قرطبة مركز الجاذبية الدبلوماسية الدولية.
والتفت الناصر إلى معالجة خطر جديد مزدوج ديني وسياسي يهدد دولته من الأساس، وهو ظهور الدعوة الفاطمية الإسماعيلية الشيعية التي اجتاحت شمالي إفريقيا وعدوة المغرب وسبتة وأخذت تهدد شواطئ الأندلس، وتقلّب ولاء بعض زعماء البربر من زناتة أو بعض الأدارسة الفاطميين وأمويّي الأندلس، واستطاع الناصر أن يضمن ولاء بعضهم في كفاحه الصعب وأن يوقف زخم الاندفاع الفاطمي إلى حد ما. على أن قيام الخلافة الفاطمية في مصر والشمال الإفريقي كان من أهم دوافع عبد الرحمن الناصر إلى تحويل دولته سنة 317هـ/929م من إمارة إلى خلافة بصورة إحياء لتراث الخلافة الأموية الروحي، ولاسيما أن الخلافة العباسية في المشرق قد استخذى أمرها، واستبدّ الترك ببني العباس، وقام المولى التركي الخادم مؤنس بقتل الخليفة المقتدر.
انكب عبد الرحمن الناصر مع ما بذله من جهد في معالجة أمور السياسة الخارجية وتثبيت وحدة البلاد، على تطوير دولته وتقويتها في جميع المجالات، ويعدّ عصره مع ما شغَله من حروب وفتن عصر عظمة ورخاء وأعظم عصور الإسلام في الأندلس. وقد اهتم بالأعمال الإنشائية العظيمة التي تظهر الملك الباذخ، فبنى مدينة الزهراء العامرة زينة مدن الدنيا آنذاك، وهي التي تطلّب بناؤها عهد الناصر ومعظم عهد خلفه الحكم المستنصر. وأصلح الجيش وبنى أسطولاً صار من أقوى أساطيل ذلك العصر، ينافس الأسطول الفاطمي في السيطرة على الحوض الغربي للبحر المتوسط، وانبسطت السكينة وعم الأمن وبدا غنى مالية الدولة وازدهرت الزراعة والصناعة والتجارة وشاع الترف، وقسم الناصر مالية الدولة إلى ثلاثة أقسام: قسم للجيش، وقسم لنفقة المنشآت العامة، وقسم ثالث يدّخر للطوارئ. ونظر الناصر في تثبيت العملة وتنظيمها من دار سكة وأوزان وغيرها. وبلغت مساجد قرطبة ثلاثة آلاف وحماماتها العامة ثلاثمئة، وكان لقرطبة سبعة أبواب وقد حفلت بالقصور والمتنزهات وطارت شهرتها في الآفاق. وحظيت العلوم والفنون والآداب بالرعاية والتشجيع، وقدم إليها من المشرق العلماء والمفكرون والأدباء والفنانون، كمجيء اللغوي الشهير أبي علي القالي سنة 330هـ، وقد اتبعت الدولة الأموية منذ عبد الرحمن الداخل نهجاً ظل يتبعه الناصر وهو اصطناع الموالي والصقالبة والبربر واتخاذهم أداة وبطانة، وذلك استرابة بالعرب خشية على الزعامة والإمارة، وكان الناصر يعهد بالمناصب إلى رجال من الصقالبة (الأسرى والخصيان من الجنس الصقلبي السلافي) والموالي الُمعتَقين أو الأرقاء الذين لا إرادة لهم إلا إرادة سيدهم، أو من النصارى الإسبان والألمان واللومبارديين والفرنسيين والإيطاليين الذين يؤتى بهم أطفالاً على يد القراصنة وتجار الرقيق من الجنسين ويربون تربية عربية ويلقَّنون الإسلام ونبغ بعضهم في حقل الثقافة العربية وكان منهم الحرس الخليفي ورجال الخاص والحشم. وكان يدير الدولة وزراء يبلغون العشرة أحياناً كلٌّ في مجال من المجالات. وكان الناصر يملك كفاية باهرة سياسية وعسكرية وإدارية، وكان عالماً أديباً يهوى الشعر وينظمه ويقرب الشعراء والأدباء ويدعو إلى نصيحته رجالاً من غير المسلمين، وكان شاعر الدولة الفقيه الشهير ابن عبد ربه صاحب كتاب «العقد الفريد»، وكان الناصر سمحاً جواداً شهماً معروفاً بحسن العهد وبتوقيعاته البليغة، غير أنه مع صفاته الرفيعة كان حريصاً جداً على سلطته غيوراً عليها يسحق كل من تحدثه نفسه بالوقوف في سبيله ولو كان أقرب الناس إليه، ومثال ذلك أن كبير أولاده عبد الله، وكان فهيماً عاقلاً بصيراً بالأمور أخذ يأتمر بأبيه مع بعض فتيان القصر ورجال الدولة بسبب إبعاده عن ولاية العهد لمصلحة أخيه الحكم الذي يليه، وبايعه جماعة من أهل قرطبة، وعلم الناصر بالأمر فقبض على المتآمرين وقتل ابنه وأمر بقتل الآخرين بمن فيهم أخوه القاضي ابن محمد وبعض أبناء عمومته.
مات عبد الرحمن الناصر في الحادية والسبعين مخلِّفاً أحد عشر ولداً، منهم ولي عهده الحكم المستنصر بالله، وقد وجد بخطه: أن أيام السرور التي صفت له في هذه المدة الطويلة كانت أربعة عشر يوماً فحسب