الخميس، 19 يناير 2012

الصحابة : عمرو بن العاص

الصحابة
عمرو بن العاص

(50 ق.هـ ـ 43هـ/574 ـ 664م)

أبو عبد الله عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم، من بني سهم، ينتهي نسبه إلى كعب بن لؤي، من كنانة. فهو قرشي القبيلة، مكّي السكن، وكان بنو سهم في الجاهلية والإسلام يحتلون مكانة مرموقة، وكانت لهم سمعة حسنة؛ إذ كان الناس يحتكمون إليهم في خصوماتهم، كما كانت لهم الرئاسة على الأموال التي تأتي إلى «آلهتهم».
كان والده العاص بن وائل تاجراً غنياً، يُعد من سادات قريش وأصحاب الشرف والرفعة فيها، تولى القضاء في الجاهلية فنال احترام الناس وتقديرهم. أما أمه فهي سلمى ابنة حرملة، كانت تلقب بالنابغة، وهي من عنزة، وكانت قد سبيت وبيعت في سوق عكاظ ثم بيعت ثانية وثالثة، واشتراها أخيراً العاص بن وائل فأولدها ابنه عمراً، فكان لعمرو إخوة عدة وأخت واحدة من أمه.
نشأ عمرو في بيت مترف، وكان فصيح اللسان، قوي الحجة، ثابت الجنان، قوي البنية ماهراً بالقتال بالسيف وبضروب الفروسية، حاضر البديهة، محباً للشعر ويقرضه أحياناً، عمل أول أمره بالتجارة وأكسبه ذلك سعة الأفق ومعرفة الناس، إضافة إلى إطلاعه على أوضاع البلاد التي تاجر معها وأحوالها، وقد أهّله ذلك ليكون رسول قريش مع عبد الله بن أبي ربيعة إلى النجاشي ملك الحبشة، ليطلبا منه طرد المسلمين الذين كانوا قد هاجروا إلى بلده فراراً بدينهم، وإعادتهم إلى مكة، فأجرى النجاشي مقابلة بينهما وبين ممثل المهاجرين جعفر بن أبي طالب أخفق فيها عمرو وصاحبه، فحاول عمرو إقناع النجاشي ثانية بإخراجهم من بلاده ولكنه رفض، وأمر أن يرد عليهم ما حملاه من هدايا قريش له ولبطارقته. وقد كان لهذه المهمة أثر في نفسه، لما لمسه من المسلمين من إيمان بعقيدتهم ومحبة بعضهم لبعض.
عاد عمرو بن العاص إلى مكة ليبلغ قريشاً رفض النجاشي الاستجابة لطلبها بطرد المسلمين من بلاده، ثم أخذ يتتبع أخبار المسلمين في مكة والمدينة، ثم مضى إلى الرسولr ليسلم على يده، وكان برفقته خالد بن الوليد وعثمان بن طلحة، وذلك في السنة الثامنة للهجرة. قدّر النبي ما تميز به عمرو من ذكاء ومواهب وحسن رأي، فعقد له على سرية عرفت باسم سرية ذات السلاسل مؤلفة من ثلاثمئة رجل، وأرسله لإخضاع قضاعة، وتآلف أقارب أم والده لأنها كانت من قبيلة بَلِيّ وليدعوهم إلى الإسلام، ثم أمدّه الرسولr بمئتين من المهاجرين والأنصار، فيهم أبو بكر وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وأمّر عليهم أبا عبيدة بن الجراح، فلما وصل المدد رغب عمرو بن العاص في إمارة الجيش، فاستجاب أبو عبيدة لرغبته خوفاً من الفرقة وعملاً بتوجيهات الرسول له، ألاّ يختلف مع ابن العاص لئلاّ يؤدي ذلك إلى إضعاف المسلمين وانقسامهم، وعرفت هذه الحملة بذات السلاسل لأنها جرت عند ماء معروف بهذا الاسم. عاد عمرو إلى المدينة بعد أن حقق الهدف الذي أُرسل من أجله، وكان الرسولr قد أرسله من قبل أيضاً في مئة من المسلمين إلى قبيلة هذيل لهدم صنمها المسمى «سُواع» ثم كلفه الذهاب إلى عُمان لدعوة ولدي الجُلَنْدَى (جَيْفَر وعَبّاد) حاكمَي عُمان إلى الإسلام، وقد أقنع عمرو أصغر الأخوين باعتناق الإسلام واستعان به لإقناع أخيه الأكبر، فلما عرف الرسول بنجاح مهمته أوكل إليه جمع صدقات عُمان، فبقي في عمله نحو سنتين، ثم عاد إلى المدينة حين وفاة الرسولr.
عقد الخليفة أبو بكرt أربعة ألوية لأربعة من القادة لتحرير بلاد الشام من سلطة الروم، كان أحدهم عمرو بن العاص ووجهه لتحرير فلسطين، وكان الوالي الرومي والقائد العسكري عليها يدعى Aretion؛ وقد دعاه العرب بأرطبون، وكان من القادة المشهود لهم بالجرأة والكفاءة، واتخذ من أجنادين مركزاً لقيادته وحشد وحدات كثيرة من الجند في كل من بيت المقدس والرملة وغزة. تخوف عمرو بن العاص من هذه الحشود الكبيرة، فكتب إلى الخليفة عمر حينئذٍ يستشيره بما يفعله، فأجابه الخليفة «لقد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب» هادفاً من وراء ذلك إلى رفع معنوياته ولتشجيعه. وبدأت المعركة بين الطرفين، ولم تكن القوى المسلمة مكافئة للقوى البيزنطية، ومع ذلك فقد استطاع عمرو وجيشه هزيمة الروم.
شارك عمرو في معركة اليرموك، كان على ميمنة جيش العرب المسلمين، وأبدى بسالة وشجاعة في أثناء القتال مما زاد في شهرته واحترام الجند لقدراته. وعندما توجهت جيوش المسلمين لتحرير دمشق نزل عمرو بن العاص على باب الفراديس، فيما نزل خالد بن الوليد على الباب الشرقي، وأبو عبيدة بن الجراح على باب الجابية.
عقد الخليفة عمر بن الخطاب في أثناء وجوده في بلاد الشام اجتماعاً في الجابية، حضره كبار القواد للتداول في أوضاع البلاد المحررة وذلك عام 18هـ/639م، وقد انتهز عمرو بن العاص الفرصة ليعرض على الخليفة فكرة تحرير مصر، وطلب منه أن يأذن له بالسير مع جنوده ليقوم بالمهمة، وأقنع الخليفة بذلك محتجاً بأن وجود الروم في مصر يهدد دوماً المسلمين وخاصة في فلسطين، وأخبره بما تحتويه مصر من خيرات؛ إذ إنه عرفها عندما كان يعمل بالتجارة في الجاهلية فقد زارها مرات عدة وتعرف معظم أقاليمها ومدنها.
نزل الخليفة عند رغبة عمرو ووضع تحت أمرته 4000 جندي وقال له: «إني مرسل لك رسالة، فإذا وصلتك قبل دخول تخومها فعليك أن تنصرف مع جندك، وإذا استلمتها بعد دخولك حدودها فامض لوجهتك واستعن بالله واستنصره».
ويبدو أن عمرو أخَّر استلام كتاب الخليفة حتى وصل إلى مشارف العريش، وعمل بموجبه وتابع سيره فحرر المدينة من دون كبير عناء عام 18هـ/639م، وأخذ يتوغل في الأراضي المصرية حتى وصل إلى مدينة الفرما، وكان اسمها بلوزيم Pelusium، فحاصرها نحو شهر وفتحها عام 19هـ/640م، ثم انتقل منها إلى مدينة بلبيس التي سقطت بيد عمرو بعد شهرين من القتال.
توجه عمرو بعد ذلك إلى أم دنين، وكان اسمها Tendonia، حيث نشب القتال بينه وبين الروم الذين سارعوا إلى التحصّن في بابليون، فضرب عليهم الحصار وطلب من الخليفة إرسال مدد فأمده بأربعة آلاف رجل فيهم بعض كبار الصحابة كالزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود، ومسلمة ابن مخلد، وعبادة بن الصامت وجميعهم من المشهود لهم بالجرأة والشجاعة، إلا أن المدد تأخر فأوقف عمرو القتال، وسار مع بعض جيشه نحو إقليم الفيوم لإخضاعه كما قرر فتح أم دنين، فلما علم بوصول المدى سارع لملاقاة الروم، وكانوا بقيادة تيودورس وهو أخو الامبراطور البيزنطي هرقل وتحت إمرته نحو عشرين20 ألف مقاتل ودام القتال بين الجيشين، وتمكن عمرو من خصمه بفضل الخطة الحربية التي وضعها، القائمة على مفاجأة العدو، بوضع كمائن كانت تدخل المعركة في الوقت المناسب، وتحسمها.
لم يبق أمام عمرو سوى حصن بابليون والاسكندرية، فضرب الحصار على حصن بابليون نحو سبعة أشهر، جاعلاً من هليوبولس (عين شمس) مركزاً لقيادته.
طال الحصار وساءت أحوال الروم المحاصرين ويئسوا من وصول مدد لهم، فطلب المقوقس (قيرس) من عمرو إرسال وفد للتفاوض معه، واتفق الطرفان المتفاوضان على بنود للصلح، بعث بها المقوقس إلى سيده الامبراطور، فرفضها ونقم على المقوقس واتهمه بالجبن والخيانة، وأمره بالقدوم إليه، ثم جرده من منصبه ونفاه.
تتالت الهزائم على فرق جيش الروم، فعاد الامبراطور لاستدعاء المقوقس من منفاه وسمح له بالتفاوض من جديد مع عمرو، وعقد الصلح، وخاصة بعد أن سقطت الاسكندرية بأيدي المسلمين عام 21هـ/642م، وقد أسفرت المفاوضات عن تعهد الروم بدفع الجزية وألا تعود جيوشهم ثانية إلى مصر أو أن يحاولوا استردادها.
لم يفِ الروم بتعهدهم فأخذوا يشجعون عملاءهم في الإسكندرية، ثم أرسلوا لمساعدتهم أسطولاً مؤلفاً من 300 سفينة، فتمردوا، فقضى عليهم عمرو وسيطر على الاسكندرية وهدم أسوارها واستولى على مراكبهم.
وما إن هدأت الأعمال العسكرية حتى أخذ الجنود يبنون قرية صغيرة دعيت بالفسطاط (أي الخيمة) في المكان الذي نصب فيه عمرو بن العاص خيمته عند محاصرته لبابليون، ثم اتسعت حتى أصبحت مدينة كبيرة، كما بُنيَّ فيها مسجد عمرو بن العاص، وكان أول أمره متواضعاً في شكله ومظهره، قليل المساحة، وقد أمر فيما بعد الخليفة الوليد بن عبد الملك بهدمه وتجديد بنائه وتوسيع رقعته.
استقر عمرو بالاسكندرية ليراقب ما يقوم به الروم من تحركات بحرية، كما أخذت الإمدادات العسكرية تصل إليه تباعاً من المدينة فعمل على استغلال طاقاتها وحماستها، وذلك بالتوسع غرباً، فاستسلمت له بَرقة صلحاً مقابل جزية معينة، ثم حاصر طرابلس حتى استسلمت، كما هاجم مدينة صُبراته حيث التقى ببعض زعماء البربر الذين دانوا له بالطاعة ومنهم زعيم قبيلة لُواته.
عاد عمرو إلى الاسكندرية ليستقر فيها ويدير شؤونها، وقد تفرغ لإعمار مصر فأعاد حفر قناة، كانت تصل البحر الأحمر بنهر النيل، وكانت قد شقت زمن الفرعون نخاو، ولكنها أهملت فيما بعد فتراكم فيها الطمي وأصبحت غير صالحة للعمل، وقد أطلق عليها عمرو بن العاص بعد إصلاحها اسم «خليج أمير المؤمنين»، كما أنشأ مقاييس عدة للنيل وفي أماكن مختلفة من ضفتيه.
ساس عمرو في أثناء حكمه لمصر الناس بالعدل، وتقرب من المصريين عامة من دون التمييز بين الأقباط والمسلمين، وكان بطريرك القبط مقصياً عن منصبه ورعيته بسبب خلافة المذهبي مع الروم (البيزنطيين) وبقي متوارياً عنهم ثلاثة عشر عاماً، فما أن استقر الأمر لعمرو بن العاص قربه منه وأعاده إلى منصبه، وكلف الأقباط جباية الخراج وأشاع الأمن والطمأنينة في ربوعهم، وسمح لهم بممارسة شعائرهم الدينية بكل حرية، وعوّضهم عمّا هُدِمَ من ديارهم، وما نهب الروم أموالهم، فحظي بمحبة المصريين عامة. 
بقي عمرو طوال خلافة عمر بن الخطاب حاكماً على مصر، ومدّة وجيزة من خلافة عثمان بن عفان، الذي عزله وعين عبد الله بن سعد بن أبي السرح، وكان عمر بن الخطاب قد ولاه على الصعيد وإقليم الفيوم.
عاد عمرو بن العاص بعد عزله إلى مكة، ولم يكن على وفاق مع الخليفة عثمان، بالرغم من نصيحته له أن يتبع بالسير في أمور الدولة نهج سابقيه عمر وأبي بكر.
كان له أثر كبير في الخلاف الذي نشب بين علي بن أبي طالب ومعاوية ابن أبي سفيان، إذ استطاع معاوية أن يغري عَمراً بالانضمام إليه، وقد تجلى دهاء ابن العاص في حرب صفين عندما بدأت بوادر الهزيمة تتضح في جيش الشام، إذ نصح معاوية أن يأمر جنده برفع المصاحف على أسنة الرماح لإيقاف القتال والاحتكام إلى ما جاء في القرآن الكريم، وقد نجم عن ذلك انقسام في صفوف أنصار علي بين مؤيد ومعارض. كما خدع أبا موسى الأشعري ممثل علي بن أبي طالب في أمر التحكيم، إذ ثبت عمرو صاحبه في الخلافة، مخالفاً للاتفاق الذي تم بين الممثلين اللذين قررا خلع الطرفين معاوية وعلي ودعوة المسلمين إلى اختيار خليفة بدلاً عنهما.
رفض الخوارج الوضع الجديد فقرروا اغتيال علي ومعاوية وعمرو بن العاص في وقت واحد، إلا أن هذا القرار لم ينفذ إلا بعلي بن أبي طالب، وأخفق المكلفان الآخران في تحقيق هدفهما.
إن مواقف عمرو هذه، وما نجم عنها من ظهور خلافات في صفوف أنصار علي بن أبي طالب، إضافة إلى نجاح سياسته في معاملة المصريين، جعلت بعض المؤرخين يعدونه أحد دهاة العرب الأربعة، بقي عمرو والياً على مصر في خلافة معاوية حتى وفاته، وهو في التسعين من عمره، ودفن في سفح جبل المقطم، وكانت آخر كلماته:
«اللهم أنك أمرتني فلم أأتمر، وزجرتني فلم أنزجر، ولا بريء فأعتذر، ولا مستكبر بل مستغفر لا إله إلا أنت».