السبت، 24 ديسمبر 2011

رسالة إلى محافظ أسوان ورئيس الحكومة المصرية

فى هذا المقال والذى قد نشر فى جريدة ( صوت أسوان ) فى عدد سابق وتلبية لرغبة بعض القراء الذين لم تتح لهم قراءة المقال أعيده اليوم مع بعض التعديلات البسيطة والتى تتناسب مع الكتابة فى موقع اليكترونى
وأقول
سبب هذا المقال هو لقاء قناة دريم الفضائية لمحافظ أسوان مع أهالى قرية المنصورية بالمحافظة
وما لفت انتباهى وجعلنى أسرع فى كتابة المقال هو سؤال الأهالى للمحافظ عن توفير مياه لزراعة الأراضى الصحراوية غرب النيل بجوار المنصورية الجديدة ( وهى احدى قرى الظهير الصحراوى والتى أعلن عنها الرئيس مبارك فى برنامجه الانتخابى الأخير ) فقد أدهشنى رد المحافظ بأن تخصيص حصة من مياه النيل هو قرار سيادى وليس قراره تاركا القرية الجديدة - كما تسمى - دون عمل ، أى عبارة عن مساكن وشوارع لم يتم رصفها بعد
بداية فان فكرة قرى الظهير الصحراوى فكرة رائعة لانها سوف تعمل على زيادة المساحة المعمورة بمصر بجانب انها تخلق مراكز اشعاعية جديدة وهو ما يعود بالنفع على مصر التى تستشرف المعنى الحقيقى للتقدم لتتبوء مكانتها التى تليق بها كمنبع لحضارات العالم ، لكن ما أعترض عليه وبشدة أن نوقف الحلم فى مهده فما معنى ان تكون القرية عبارة عن مساكن دون عمل او نواة اقتصادية حتى يكون اسما على مسمى ، لذا ففى مقالى بالجريدة اخترت له عنوانا يدل على فكرة المقال وهو ( محافظ أسوان : المنصورية الجديدة قرية أم مساكن ؟ ) ، لذا سأحاول فى هذا المقال أن أبين كيف تكون القرية حتى يتضح أن القرية ليست عبارة عن مساكن فقط
نحاول الآن أن نفهم المعنى اللغوى لكلمة قرية ونبدأ ونقول
سميت القرية كذلك لاجتماع الناس فيها لأن القاف والراء والحرف المعتل يدل على جمع واجتماع ، يقولون قريت الماء فى المقراة اى جمعته ، ومن الباب القرو وهو كل شئ على طريقة واحدة نقول قروت وقريت اذا سلكت ، وقال النابغة وهذا عندنا من الاول كانه يتبعها قرية قرية
ومنه القرى بفتح القاف والراء اى الظهر وسمى قرى لما اجتمع فيه من العظام ، وناقة قرواء اى شديدة الظهر
ومنه القرآن كأنه سمى بذلك لجمعه ما فيه من الأحكام والقصص والمواعظ والأخبار وغير ذلك
ويقولون الناس قرارى الله تعالى فى أرضه أى شهود
والنسب الى قرية قرئى فى قول ابى عمرو وقروى فى قول يونس
وقول بعضهم ما رايت قرويا افصح من الحجاج انما الى القرية التى هى المصر
وام القرى مكة لأن أهل القرى والارض يقصدونها وفيها يجتمعون لاداء مناسك الحج ، والقريتين فى قوله تعالى ) رجل من القريتين عظيم ( مكة والطائف
والجمع قرى ، وجاءنى كل قار وباد أى الذى ينزل فى القرية والذى ينزل فى البادية
واذا كان هناك اختلاف فى معنى القرية فى القرآن الكريم عنها فى المعنى الدارج اليوم الا ان اى معنى دارج لابد له من أصل لغوى ، فمثلا المعنى الدارج اليوم على دلالة القرية جغرافيا على التجمع السكنى الصغير واقتصاديا على النمط الزراعى وهى دلالة طارئة مصطلح عليها عند أهل الفنون والامر نفسه فى دلالة المدينة على التجمع السكنى الكبير وعلى نمط المعيشة التجارى والصناعى ، ولعل ذلك يشير الى احد الاختلافات الجوهرية بين القرية والمدينة عند تعريف كل منهما
فاذا كان من خصائص المدينة انها جالبة للعمالة فذلك للنمط الاقتصادى وتنوع سبله ، بينما تتميز القرية بوجود حرفة واحدة سائدة يتقنها أهل هذه القرية ومن مميزات هذه الحرفة انها قد تكون بدائية - ولا مانع عندى ن تطورها - المهم انها موجودة وفى حالتنا هذه ومن البديهى ان تكون الحرفة هى الزراعة
اذا مما تقدم لا فرق بين القرية والمدينة فى وجود سبل العيش الكريم لاى انسان لان الانسان البدائى انما كان سبب تجمعه الاول هو لقمة العيش وبعد ذلك يبنى بيته ثم قريته وهكذا تجمع المصريون منذ القدم على ضفتى النيل ، فألف باء قرية تقول يوجد العمل ومصدر الرزق فيتجمع الناس ثم يبنون بيوتهم وباقى مستلزمات المعيشة
ولذلك القرآن الكريم قد لا يوحى باختلاف بين القرية والمدينة الا فى الاعتبار فقط ، فالقرية معتبر فيها الحال والمدينة معتبر فيها المحل وان شأت قلت القرية سكان والمدينة مساكن ، أى اذا كانت المدينة قد توحى للناظر بوجود كل سبل الراحة الا أن هذه السبل قد تكون على حساب الانسان ذاته ، أما القرية فحتى مع وجود قصور فى تلك السبل الا أن اهتمام القرية بالانسان أشد ولا يكون ذلك الا بوجود مصدر الرزق الاساسى والا كيف يكون الاهتمام ؟؟؟
ولذلك وتكملة لهذا المعنى فكثير من الآيات فى القرآن الكريم تشير الى معنى الدلالة على العاقل حين تذكر القرية
يقول تعالى ( ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها ) الآية
ويقول تعالى ( وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة ) الآية
وغيرها كثير
أما المدينة فتأتى فى القرآن بمعنى الفضاء أى الحيز المكانى الذى يستقر أو يتحرك فيه وهنا جاءت فى سياقات الذهاب والمجئ والدخول والخروج ومنها
قوله تعالى ( ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها ) الآية
وقوله تعالى ( وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى ) الآية
ولعل ذلك أيضا يشير الى معنى كلمة المدنية وهى احدى مصطلحى كلمة الحضارة فعند تعريف معنى كلمة الحضارة فقد استقر العلماء عندما تحدثوا عن الحضارة الانسانية انما يقصدون الحضارة بشقيها المادى أى العمران وهو ما يعرف بمصطلح ( المدنية ) وبشقها الآخر المعنوى وهو ما يتصل بالتعبير اللغوى أو الفكرى أو الروحى أو الفنى أو السلوكى أو غير ذلك من معنويات الحضارة الانسانية وهو ما يعرف بمصطلح ( الثقافة ) وهذا التعريف يزيد من فهم المعنى المقصود
يقول ابن كثير فى تفسيره لقوله تعالى ( حتى اذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها ) الآية ، يقول : فى هذه الآية دليل على اطلاق القرية على المدينة لانه قال أولا ( حتى اذا أتيا أهل قرية ) وقال هاهنا ( فكان لغلامين يتيمين فى المدينة ) صدق الله العظيم
فاذا كان المعنى اللغوى والمعنى الدارج والمعنى القرآنى كل هذه المعانى لا تستقيم فى كل الأحوال على اطلاق هذه الهيئة من الأبنية فى قرى الظهير الصحراوى على كلمة القرية لذا فلنطلق عليها مساكن الظهير الصحراوى
أما القرية فلها متطلبات وأسس وأركان
فالقرية وكما تقدم هم البشر ، هو الانسان بماضيه وحاضره ومستقبله ، بطموحه واحلامه ، وصراعاته ، بآلامه وآماله
ببكاء رضيع وابتسامة طفل وفرحة قلب شاب كافح وصبر فى انتظاره لغد أفضل
فى ضحكة فتاة علمت أن الحياة تستحق أن تعاش فحلمت .. أوليس من حقها أن تحلم ؟؟؟
فى عيون أم تتغير ملامحها وتفاعلاتها بتغير الأحداث .. فما أقبح رتابة الحياة وما أجمل أن تنتظر التغيير
فى سعادة والد رأى فى عيون أبنائه أن الحياة قد تبدأ بعد الخمسين
فى سعادة كهل أوحت له الطبيعة من حوله أن شيخوخته تزيده هيبة ووقارا ونضارة ورونقا
فى شعر شاعر وقلم كاتب وأدب أديب
فى ابداع مبدع ونوتة ملحن أوحيت لهم من تغريد طائر وصياح ديك ونباح كلب ونسمات هواء عليل تتعانق مع أغصان شجرة تتمايل على ضفاف نهر النيل العظيم لتكون مياهه الزرقاء القديمة قدم الأرض شاهدة على عظم هذه اللوحة ولتسجد اجلالا لمن سواها
هذه هى القرية وهذا هو الانسان
بقلم / د أحمد كلحى
نشر هذا المقال فى 5 سبتمر 2010