الثلاثاء، 4 مارس 2014

قسم المقالات : صفوة الصفوة بقلم دكتور مصطفى محمود


صفوة الصفوة
   
بقلم د مصطفى محمود

كيف حدث إن اجتمعت الخلايا في جنين النبات لتؤلف وردة ؟ وكيف نشأت في الوردة أعضاء تأنيث وأعضاء تذكير ثم جاء النحل بغريزة لا يدركها لينقل حبوب اللقاح من أعضاء التذكير إلي أعضاء التأنيث فتنشأ بذلك بويضة ملقحة تتحول بعد ذلك إلي بذرة‏..‏
ثم تهب الرياح فتذرو البذور في الهواء لتقع علي أرض سبخة‏..‏ ثم تأتي موجة باردة فيتلبد الجو بالغيوم وتسقط الغيوم مطرا‏..‏ وتتسلل قطيرات الماء في الشقوق حتي تدرك الجذور فتسعي في قنواتها الشعرية حتي تدرك السيقان والفروع وتتسلق حتي تبلغ الوردة لتسقيها من جديد وتسقي الأجنة في باطنها وتضربها الشمس فتتفتح حمراء متوهجة ليتساقط عليها النحل من جديد مجذوبا بألوانها لتستمر معزوفة التلقيح والإنجاب وتخرج الثمار والبذور ويأتي موعد القطاف وتمتد الأيدي لتجمع وتقطف وتصل التفاحة إلي مائدتك فتأكل وتشبع وتنسي هذه السلسلة من جنود الغيب التي كانت تعمل في خدمتك منذ مطلع الشمس وأنت لا تدري‏..‏ وهي أيضا نفسها لا تدري؟‏.‏ إنما هو الله من وراء الكل يأمر العناصر ويدبر كل شيء‏.‏
من زرع لك السهول وسفوح الجبال؟ ومن زرع لك الغابات التي خرجت كالنبت الشيطاني حول خط الاستواء وفيها جوز الهند والأناناس وكل ماتشتهي نفسك؟ ومن جمد الماء في القطبين ليسيل بعد ذلك في الربيع والصيف ليملأ منابع الأنهار لتكون هناك خضرة وبقول وفواكه ومائدة عامرة من كل صنف‏..‏ ؟‏!!‏
ومن ساق إليك الحيتان والأسماك تسعي إلي شاطئك لتصطاد وتأكل هذه الوجبات المتنوعة الغنية بالعناصر والفيتامينات؟‏!‏
هل رأيت كيف اصطفت حبات الرمان وعناقيد الأعناب في قطوفها مثل أقراط المرجان العقيق‏..‏ ؟‏!‏
من الواضح أنه كان هناك ترتيب مسبق لكل هذا‏..‏ وأنه كان هناك إعداد لهذه المأدبة الكريمة البازخة‏..‏ وعلماء الجيولوجيا‏..‏ يقولون إن الأرض كانت في بدايتها غير الأرض‏..‏ والجو غير الجو‏..‏ وأن الحديد جاء إلي الأرض من جسيمات مقذوفة من نجوم متفجرة في أقصي المجرة في الفضاء البعيد‏.‏
وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس‏(25‏ ـ الحديد‏)..‏ لقد جاءنا الحديد من السماء بتعدين وتجهيز سماوي عجيب‏.‏



وماكان لهذا البأس أن يتم وما كان لتلك الصلابة أن تنشأ لولا تلك الجسيمات وفعلها التكويني في ذرة الحديد لينشأ الحديد المتماسك الذي نعرفه في بأسه وقوته وصلابته‏..‏ ولتقوم ترسانات وصناعات للسلاح بلا عدد‏.‏
والأرض التي انصدعت إلي مسطحات وصفائح وقارات ومحيطات‏..‏ والسموات التي امتدت إلي فضاءات بلا حدود
والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون‏(47‏ ـ الذاريات‏)‏ إشارة إلي الاتساع المستمر بقوي خفية‏.‏
والمجرات بالفعل تتباعد منذ نشأتها‏..‏ والتجمعات النجمية في سبح مستمر وتفرق محسوب والفضاء يزداد إتساعا‏..‏ كأنه بالونة تتسع وتتسع وتوشك ان تنفجر‏..‏
إنها معزوفة تكوينية هائلة‏..‏ يقودها مايسترو عظيم ليس كمثله شيء‏..‏ خالق مبدع لا حدود لقدراته‏..‏ هو رب هذا الكون وصانعه‏.‏
وهذا عالمه المذهل‏..‏ العجيب
فماذا عن عالمنا؟ وماذا عن نشأتنا؟
لقد خلق الله أبانا آدم وأمنا حواء في عالم أمثل ثم أهبطنا الله منه بسبب المعصية وغواية الشيطان
وعصا آدم ربه فغوي‏(121‏ ـ طه‏)‏
قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو‏(123‏ ـ طه‏)‏
فكان هبوطنا من العالم الأمثل إلي عالم الكدح والابتلاء والصراع والعدوات والحروب‏..‏ وكان نزولنا إلي أرض الامتحان والمعاناة والحكمة النهائية في هذه المعاناة كانت هي الاختبار والامتحان والفرز والتصنيف حيث تأتي المراتب في النهاية حسب الاستحقاقات‏..‏ ونحن نجرب في دنيانا مراحل مشابهة من الفرز والتصنيف في مراحل تعليمنا من الابتدائي إلي الثانوي إلي الجامعة الي الدراسات العليا‏..‏ إلي أعلي الدرجات‏.‏ حيث يكون في إمكانك أن تخترع وتبتكر‏,‏ ويكون لك حقوق وملكية فكرية تبيعها لمن تشاء بالسعر الذي تشاء وتصبح من حملة جوائز النوبل ومن أصحاب الملايين‏.‏
والخلاصة المفيدة أن هذا الكون الذي نعيش فيه له معني‏..‏ وأن الدنيا نموذج افتراضي لآخره سوف تأتي فيما بعد لتكون مثالية في نعيمها مثالية في عقابها‏..‏ لمن ينجح في هذا الامتحان‏..‏ ولمن يرسب فيه أيضا‏.‏
لا ظلم اليوم
هكذا تكون ترنيمة السماوات بما فيها من مخلوقات ساعة النهاية‏..‏ لأن التدبير عظيم والعدل مطلق والبناء غاية في الإحكام‏..‏ لا ظلم اليوم‏..‏ روعة في كل شيء‏.‏
ولكنك تري كل هذا من البداية في ورقة الشجر‏..‏ وفي جناح الفراش‏..‏ وفي نسج العنكبوت‏..‏ وفي الذرة‏..‏ وفي المجرة‏..‏ وفي صدح البلابل‏..‏ وفي تغريد العصافير‏..‏ وفي سعي الحية إلي جحرها‏..‏ وفي طنين النحلة حول عشها‏.‏
وتري هذا في الخلية الحية‏..‏ وفي معجزة الجينات‏..‏ وفي جزيء البروتين‏..‏ وفي بصمة الإصبع‏.‏
وتسمع بأذنيك صدي لهذا التكوين المذهل في سيمفونية لبيتهوفن‏,‏ وفي صدح كروان في منتصف الليل‏..‏ وفي صوت فيروز حينما يجلجل في أوبراتها الرحبانية‏..‏ وفي صوت سيد درويش حينما يصيح بصوته الشامخ‏..‏ أنا المصري‏..‏ كريم العنصرين‏..‏ فينتفض التاريخ كله مع انتفاضة صوته‏..‏ وكأنما وقف الزمن كله ليستمع‏..‏ وتعلم ساعتها يقينا‏..‏ لماذا ذكر الله مصر بالاسم في القرآن الكريم في سبعة مواقع‏..‏ ولم يذكر روسيا ولا أمريكا ولا إنجلترا ولا فرنسا‏..‏ لأنها مصر مهد العبادات كلها‏..‏ وأم التاريخ‏.‏
لقد ذكر ربنا البنان في القرآن الكريم وأنه سوف يعيد صورة البصمة إلي أصلها يوم البعث كما كانت في الدنيا عند صاحبها‏.‏
بلي قادرين علي أن نسوي بنانه
ونعلم الآن‏..‏ ماهي البصمة‏..‏ وماوجه الإعجاز فيها‏..‏ وكيف لا تتشابه بصمتان من أول الخلق إلي يوم القيامة‏..‏ هي لفتة عابرة‏..‏ ولكنها تصيب العقل بالقشعريرة‏.‏
إن المتكلم عظيم وعليم علما موسوعيا شاملا‏..‏ ويتكلم من عتبة صدق مطلق ولانملك إلا الإصغاء والخشوع‏..‏ إلي قرآنه‏.‏
ونشكر ربنا علي أننا ولدنا عربا نعرف لغتنا العربية بالسليقة وندركها تذوقا‏..‏ وتلك نعمة لا يدركها الأجنبي لجهله بلغة القرآن وبعده عن أسراره‏.‏
ولا أحب أن أبتعد عن المعني الرئيسي ولا عن جوهر السياق الذي اخترته من أول المقال‏..‏ أن هناك تدبيرا حكيما مقصودا في كل شيء‏..‏ وأنه لا مكان لصدفة‏..‏ ولا موقع لعشوائية‏..‏ وإن جاءت العشوائية فإنه يكون لها دور في البناء العام‏..‏ ويكون لها ضرورة في سياق الأحداث‏..‏ ولا تكون ساعتها عشوائية بل تكون تدبيرا مقصودا‏.‏
كل ماحدث كان مخططا ومرادا ومقصودا من البداية‏..‏ وكانت هناك إرادة وراء كل ماجري‏.‏
وكان هناك خالق وموجد ومبدع
وماحدث كان لابد أن يحدث
لا يوجد في وجهك عضو زائد
والتشويه إذا حدث يظهر له جراح تجميل لعلاجه
وكل عشب صيدلية متكاملة
والنملة ديوان شعر في دقة تكوينها وتعدد مواهبها
وفي بيت النمل نظام وحكم ودستور ولغة
قالت نملة ياأيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده لقد عرفت النملة سليمان بالاسم‏..‏
كيف‏..‏ ؟‏!‏
هل يمكن أن تعرفك النملة باسمك وهي تتسلق علي الحائط وتدرك أنك مريض ومزاجك منحرف وتبلغ أهلها بحكايتك‏..‏ هل تشهد عليك في الآخرة وتحكي عن جريمتك‏..‏ ؟
إن ماتقوله النملة في القرآن الكريم يدل علي أنها عالم بأسره برغم صغر حجمها وهوان شأنها‏..‏ ويدل علي أن علمنا عنها أقل من القليل‏.‏
ومايقال عن النملة يقال عن أي حشرة‏..‏ كما يقال عن الميكروب والفيروس‏..‏ والذرة‏..‏ فالعالم كله حي وناطق بطريقته‏..‏ واللغز‏..‏ هو كيف ندرك طريقته؟‏..‏ والعلم بهذه الأسرار‏..‏ هو العلم الحق‏..‏ وهو العلم الكاشف للغيوب‏..‏ وهو العلم الذي يختص به الله ملائكته ورسله‏.‏
والخلاصة أننا أجهل بكثير مما نتصور‏..‏ وأننا عمي وصم وبكم برغم مانتصور من طلاقة ألسنتنا وعلمنا باللغات ودراستنا للفيزيا والكيميا والكمبيوتر والبرمجيات‏..‏ فما نعلمه قطرة من بحر‏..‏ ومانراه مجرد بروفيل ناقص ومانسمعه همس‏..‏ ومانبصره أشباح‏..‏ ومانتصوره أطر وهياكل وعناوين بينما الماهيات والحقائق ألغاز والحروف أسرار والعلم الحقيقي علم قلوب لا يبلغه إلا أفراد ملهمون‏.‏
وهو علم لا يكون إلا بإذن رب القلوب
وهو لا يكون إلا لصفوة الصفوة المختارة
وباب هذا العلم هو السجود الكامل
ليس سجود الجسد وحده
وإنما سجود القلب وسجود الحواس وسجود العقل وسجود الوعي وإسلام المدارك جميعها لله‏.‏
ولاحظ لنا في هذه الدرجة من التجرد ولا أحسبها تأتي اجتهادا وإنما تأتي عطاء وإفاضة من الله لأنبيائه المختارين‏..‏ والعلم درجات
وأضعف العلم هو ماتأخذه من كتاب وماتتلقاه من معلم
وأعظم العلماء هم المختارون من ربهم وهم الرسل ومن في درجتهم
وأول مرحلة لنوال هذا العلم هي الأدب‏..‏ والحياء‏..‏ وعدم رؤية النفس في أي شيء‏..‏ ورؤية الله في كل شيء
هل أنت من هذه الصفوة‏..‏ وهل يمكن أن تكون لك خصوصية‏..‏ وهل يمكن أن تؤتي حظا من الإلهام
اقرأ المقال من أوله وأعد النظر إلي الحياة حولك وحاول أن تفهم كيف اجتمعت مفرداتها لتؤلف هذه السيمفونية الرائعة‏.‏
وتأملها ساجدا معجبا مفتونا‏..‏ فذلك هو بداية العلم
أما نهاية العلم فهو مايقع في قلبك من خشية وفي أفعالك من مراقبة وفي ضميرك من يقظة وفي سلوكك من تقوي‏..‏ كما قال موسي وقد أسرع صاعدا الجبل تلبية لنداء ربه‏..‏ واليهود يهرولون علي أثره‏..‏
هم أولاء علي أثري وعجلت إليك رب لترضي‏(84‏ ـ طه‏)‏
وكما يفعل السفهاء العكس بالمسارعة الي إرضاء نزواتهم والله أحق بأن يرضوه‏..‏ يكون حال المؤمنين الأطهار الأبرار علي الضد‏..‏ لا يشغلهم إلا رضا ربهم وحده‏.‏
سل نفسك من الذي تحاول أن ترضيه في حياتك‏..‏ هذا هو السؤال المهم
إن الدين أخلاق أولا وأخيرا
وهو سلوك‏..‏ وآداب‏..‏ ورقي
ومن أجل هذا خلقت الدنيا ومغرياتها ليعرف في النهاية إلي أين تتوجه الهمة وبماذا تتعلق الرغبة‏.‏
وماالصعود إلي عرفات والطواف حول الكعبة والرجم والتلبية‏..‏ والهرولة بين الصفا والمروة‏..‏ إلا رموز لهذا السعي الدءوب‏..‏ وماالوضوء والصلاة إلا تطهر واحتشاد لهذه اللحظة‏.‏
والسجود ذاته رمز لخشوع الباطن
فهل أنت خاشع؟‏!‏
هل أنت ساجد حقا ؟‏!‏
فلماذا تسرق وترتشي وتكذب وتغش وتتلون كالحرباء مع الأهوء والمصالح؟
أنت إذن كذاب‏..‏ ومصيرك في النهاية‏..‏ الإبعاد‏..‏ والسقوط‏..‏ والهاوية‏..‏
الدين ليس شقشقة لسان وانما هو معراج عقل وروح ووجدان وهو تصعيد لكل المواهب الخارقة في الحشوة الإنسانية إلي ذري رفيعة‏.‏
والدين ليس أطماعا سياسية وليس وسيلة الي القفز علي الكراسي وصناعة الانقلابات‏..‏ وما يحدث من هذا القبيل هو مكر دنيوي‏.‏
وأقرأ المقال مرة أخري من أوله إذا أردت أن تكون من الصفوة‏..‏ والأمر يستحق العناء‏..‏ والطريق طويل‏.‏