الثلاثاء، 4 مارس 2014

قسم المقالات : باراك يريدها صليبية بقلم دكتور مصطفى محمود


باراك يريدها صليبية
   
بقلم د مصطفى محمود


المشهد الدموي علي أرض فلسطين والتراشق المستمر وسقوط القتلي علي الجانبين وتفجير القنابل والحركة المكوكية لعرفات من وإلي كلينتون تبدو أنها مسلسل مقصود من إسرائيل للتعجيل باتفاق مسلوق قبل رحيل كلينتون‏..‏
ويبدو أن إسرائيل غير متفائلة بقدوم بوش الابن علي مقعد الرياسة الأمريكي‏..‏ وهي في الواقع لا تخشي الإبن ولكنها تخشي الأب بوش الكبير مدير المخابرات السابق ومهندس حرب الخليج والرجل الداهية الذي يحمل تحت ضرسه ثأرا مبيتا لما فعلته به إسرائيل وجماعات الضغط الإسرائيلية التي ضيعت عليه فرصة الفوز بمرحلة رئاسية ثانية‏..‏ وجاءت بكلينتون‏..‏ برغم ما قدم الرجل الداهية لأمريكا من صفقة العمر بالإتيان بصدام وبترول العراق غنيمة سهلة تغترف منها سنوات بسعر نزلت به إلي تسع دولارات للبرميل ومرغت أنف العراق عدو إسرائيل اللدود وخصيمها التاريخي في الرغام وأذاقت شعبه الجوع والفاقة‏..‏ وبرغم كل هذا آزرت جماعات الضغط الإسرائيلية كلينتون عليه‏..‏ وفعلت في الانتخابات الأخيرة كل الحيل الممكنة والمستحيلة لإسقاط بوش الابن ومناصرة آل جور ونائبه اليهودي عليه‏..‏ وحولت المشهد الانتخابي إلي فضيحة عالمية‏.‏
لن ينسي الرجل الداهية كل هذه المكائد وسوف يردها أضعافا مضاعفة
لتتعجل إسرائيل إذن في الأسابيع القليلة الباقية أي اتفاق مسلوق مع الفلسطينيين‏..‏ ولتدفع بعجلة الحوادث‏..‏ ولتقتل من الفلسطينيين أطفالا وشبابا أكبر عدد ممكن ولتتصيد أفراد المقاومة من حول عرفات الواحد بعد الآخر‏..‏ لكي تدفع بعرفات وبرجاله إلي قبول أي عرض‏..‏ فالرجل الداهية لن ينسي لها أنها خذلته‏..‏ والأيام القادمة لحكمه لن تكون شهر عسل لها بأي حال‏.‏
هل إسرائيل علي حق في مخاوفها؟‏!!‏ من بوش العجوز‏.‏
لا أظن‏..‏ فالرجل الداهية يفكر بعقلية رؤساء العصابات‏..‏ ورؤساء العصابات لا يفكرون بمنطق الثأر‏..‏ وإنما بمنطق المنافع‏..‏ وقد يتفق الخصوم اذا كانت هناك مصلحة‏..‏ وقد يتحول ألد الأعداء الي أعز الأصدقاء فجأة‏..‏ وكل شيء ممكن‏..‏ بين رجال العصابات‏.
إنها مسرحية من مسرحيات هتشكوك تحتمل كل المفاجآت ولا يمكن التنبؤ بنهايتها من مقدمات بسيطة وساذجة مثل حكاية الثأر المبيت‏.‏
وكلينتون يريد أن يفعل المستحيل في أيامه الأخيرة ليفوز بالنوبل‏..‏ وهو يرحب بهذه الحركة المكوكية ولو بدون أمل‏..‏ والرئيس عرفات يريد أن يلتمس لشعبه مخرجا ويتعلق بالحبال الدايبة‏.‏
وأرجو ألا يتعجل عرفات أي حل مسلوق‏..‏ وألا يوقع علي أي اتفاق‏..‏ وكلام كلينتون لا يبدو منه ان لديه حلا وانما هو يدور في حلقة مفرغة‏..‏ والعروض التي تسربت الي الصحف معظمها مناورات لا تقدم ولا تؤخر وأكثرها كلام معاد ومرفوض‏.‏
وياسر عرفات علي العكس يملك في نظري ورقة مضمونة أقوي من كل الأوراق اسمها المقاومة‏..‏ وإسرائيل لا تستطيع ان تصمد طويلا لعملية القتل والقتل المضاد وليس لديها رصيد ولا فائض‏..‏ بل عندها دائما نقص في الرجال‏..‏ والعكس في الجانب الفلسطيني فعندهم فائض في النسل ويسبقون إسرائيل في لعبة التكاثر‏.‏
والشعب الفلسطيني يمكن أن يدخل في حرب عصابات طويلة‏..‏ وإسرائيل لا تستطيع‏..‏ والمقاومة الفلسطينية يمكن أن تدخل في حرب التحام رجلا لرجل‏..‏ وإسرائيل لا تستطيع‏.‏
والفلسطيني فدائي بطبيعته‏..‏ وهو يستطيع أن يصنع من نفسه قنبلة متنقلة يفجرها فيمن يشاء‏.‏
والإسرائيلي يحتاج الي دبابة أو طائرة أو مصفحة ليقاتل‏..‏ وهو لا يحارب إلا من وراء جدار يحميه‏..‏ وهذا حال بني إسرائيل كما قال الله الذي خلقهم لا يقاتلونكم جميعا إلا في قري محصنة أو من وراء جدر‏(14‏ ـ الحشر‏)‏ ويقول الله عنهم‏..‏ ولتجدنهم أحرص الناس علي حياة‏(‏ البقرة ـ‏96).‏
ويقول لهم‏..‏ قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين‏(‏ البقرة‏94‏ ـ‏95).‏
هذا علم الله بهم وبأحوالهم وبخوفهم وجبنهم‏.‏
ولأن رجال حزب الله الإيرانيين أدركوا هذا جيدا فقد استطاعوا أن يخرجوهم مهرولين من لبنان بصواريخ الكاتيوشا‏..‏ كما أخرجناهم نحن في حرب‏73‏ من خط بارليف بصيحات‏..‏ الله أكبر‏..‏ وبالهجوم الخاطف الذي طردهم شر طردة‏.‏
وبرغم الطائرات والدبابات والصواريخ وأكداس السلاح فهم مازالوا يعيشون في رعب ويبنون الحصون ويحفرون الخنادق ويلوذون بالجبار الأمريكي وينشرون حرب الشائعات والأضاليل ويصنعون لأنفسهم هالة مزيفة كاذبة‏.‏
ولن يكون بوش القادم ظلهم الظليل المأمول الذي يلوذون به بعد كلينتون ومازال كلينتون في أيامه القليلة الباقية أملهم الوحيد الباقي يتدافعون وراءه ليجد لهم حلا‏..‏
وأرجو ألا يتسرع الرئيس عرفات في قبول أي عرض وأن يثق بنفسه وبرجاله وبقضيته وبأنه الأقوي لأن الحق معه والتاريخ معه والعرب معه‏.‏
ويعلم الحكماء من العرب أن انتصار إسرائيل معناه نهايتهم وأن التاريخ لقرون قادمة يصنع اليوم من هذه اللحظات العصيبة‏.‏
وإسرائيل لها باعها الطويل في إشعال الفتن وحروب الشائعات والدسائس والإيقاع بهذا وذاك والفوز في المعارك بأقل تكلفة والتخطيط لألف سنة والنفس الطويل والمكر الدءوب من طباعها ولا تستنكف إسرائيل من استخدام أقذر الأسلحة وأحط الوسائل‏.‏
والعرب هم أصحاب الملاحم والبطولات وأشعار الحماسة وهم أهل حمية وأهل شهامة ونجدة وهم أصحاب تاريخ‏..‏ ولكن كل هذا لا يكفي بدون وحدة قوية تجمعهم‏.‏
والصراع العربي ـ الإسرائيلي سوف يطول ويطول ربما لسنوات‏.‏
والحكمة والتدبر والتفكير في كل خطوة أمور مطلوبة‏.‏
والمفاوضات الطويلة المملة لأمثال شلومو بن عامي ومادلين أولبرايت عرفناها وعرفنا سخفها وركاكتها‏..‏ والصراع هذه المرة سوف يشمل رقعة شطرنج واسعة ورقعة الشطرنج سوف تشمل هذه المرة الشرق الأوسط كله والأمريكتين والقارة الأوروبية وآسيا والصين والكوريتين وربما العالم كله‏.‏
والسياسة أولا وعمرو موسي فارسها هي القاطرة التي سوف تقود الحركة وتخطط للنقلات المدروسة خطوة خطوة‏..‏ ونقلة نقلة‏.‏
وباراك صرح بأن إسرائيل تستعد لنشوب حرب طويلة‏..‏ وهو كذاب فإسرائيل لا تتحمل مخاطر حرب طويلة‏..‏ ولكنها مجرد حركة شطرنج‏..‏ ينتظر منا الرد عليها بحركة يفهم منها نوايانا‏.‏
وهو يريد أن يستدرج العرب لحرب نظامية تتحرك فيها تشكيلات الطائرات وأسراب الدبابات وفلول المصفحات‏..‏ وهي حكاية خرافية لا تدور إلا في ذهنه وحده‏..‏ ولا مكان لها ولا مناسبة عندنا‏.‏
والحرب إذا حدثت يا سيد باراك لن تكون إلا حرب عصابات من بيت لبيت والتحام عنيف رجلا لرجل وصواريخ كاتيوشا ومفاجآت غير محسوبة علي مثال المفاجآت التي ذقتم مرارتها في لبنان علي أيدي رجال حزب الله‏.‏
وأكبر خطأ يمكن أن يقع فيه العرب هو حرب الجيوش ولقاء الجحافل‏..‏ ولا مكان لمثل هذا في رقعة فلسطين المحدودة‏..‏ إلا إذا كان باراك يفكر في لقاء المجموعة العربية كلها في الخلاء الوهمي‏..‏ وهي كوابيس في مخه يريد أن يفزعنا بها‏..‏ وكيف يواجه باراك شبكة المصالح العربية وعلاقتها الحميمة مع أوروبا والغرب ومع بقية العالم‏..‏ إنه يهذي ولاشك‏..‏ ويحاول عمل فرقعة وجس نبض‏..‏
أرجو أن يوقن باراك أن اللقاء الوشيك والمرتقب مع الفلسطينيين لن يكون تراشقا من النوافذ والبلكونات وفراندات العمارات‏..‏ ولكن سيكون التحاما رجلا برجل‏..‏ وأنه سيواجه غضبة عربية شاملة ولن يكون التراشق هذه المرة بالحجارة وإنما بالقنابل اليدوية والذخيرة الحية والعربات المفخخة‏..‏ وسيكون القتلي من الجانبين بلا عدد‏.‏ انها الإنتفاضة ياسيد باراك وما أدراك ما الانتفاضة‏.‏
إن أطفال الحجارة قد كبروا‏..‏ يا مارشال باراك‏.‏
والأخطار المحتملة بغير حدود‏.‏
ولن تستطيع يا باراك أن تحتوي الكارثة التي سوف تفجرها الانتفاضة وسيكون دم الكل علي رأسه واندحار إسرائيل علي يديه‏.‏
وفي النهاية لن تحسم الحرب شيئا‏..‏ فأنت لن يستطيع أن يضع فلسطين كلها تحت الاحتلال‏..‏ وهو لا يملك القوات الكافية لتوزيعها علي الخراب الذي سيتضاعف‏..‏ وسيتحول هذا الخراب برغم أنفة الي اوكار وخنادق ومخابيء ينطلق منها الرصاص في كل اتجاه‏.‏
ان الخراب الذي سوف يخلقه سوف يتحول الي خميرة الهزيمة النهائية لك ولقواته‏.‏
والفلسطيني له عذره حينما يشك في الوعود والمواثيق التي توقع عليها يا سيادة المارشال‏..‏ وماذا فعل إخوة يوسف حينما تآمروا علي يوسف وألقوه في الجب وذهبوا الي أبيهم يبكون وألقوا علي قميصه بدم كذب وزعموا أن الذئب أكله‏..‏ وهم أبناء أعظم أنبياء اليهود الذي أطلقوا عليه إسم إسرائيل‏..‏ واشتقوا دولتهم من اسمه‏..‏ وهل يكون باراك أعز من أبناء يعقوب الذين كذبوا علي أبيهم أفحش ما يكون الكذب‏..‏ إنهم لهم عذرهم بلا شك‏.‏ وهذه سمعتكم التي فضحتها التوراه وفضحها القرآن‏.‏
ولنا عذرنا نحن أيضا إذا شككنا في وعودك‏..‏ فهذا دأبكم مع أنبيائكم‏..‏ فكيف تصدق وعودكم معنا‏.‏
إن المشكلة أكبر بكثير من أن تحل بالمواثيق يا سيادة المارشال‏..‏
ولن تصلحها الحرب أيضا‏..‏
والانتفاضة أخطر من الحرب فهي تفتح الأبواب لفوضي بلا نهاية‏.‏
وفكر مرتين قبل أن تقدم علي مغامرة لن تؤدي إلا إلي المزيد من الخسارة وربما كان الرضا بالقليل الذي غنمتموه ظلما وعدوانا‏..‏ وإعادة الحقوق لأصحابها بداية الطريق الصحيح‏.‏
والقناعة كنز لا يفني‏.‏
وأقول للمارشال باراك‏..‏ هل تريدها صليبية؟‏!!‏ ولكن الصليبيين هزموا أيضا يا سيادة المارشال‏..‏ ألا تذكر ذلك‏..‏ أم أنك نسيت‏..!!.‏ يبدو لي ان ذاكرتك ضعيفة أو تتناسي‏.‏