السنن والأحاديث النبوية ( الجزء الخامس )
بحث العمل بالأحاديث القولية والأحاديث الفعلية
يقول حضرة الدكتور : أمّا السُّنّة القولية ( الأحاديث ) فبعضها نسخ بالقرآن ،
وبعضها الآخر نُسِخَ بالأحاديث الأخرى . ونحن نقول : ما الدليل الذي قام لدى
حضرة الدكتور في التفرقة بين السنة القولية والسنة الفعلية ؟ ولِمَ لا يكون النسخ في
الفعلية ؟ وما الدليل على ذلك ؟ أليس من المُقَرّر والمسلم أن أصل كل تشريع إنما
هو القول ؟ وهل يعرف الواجب والحرام , والسنة والمكروه إلى غير ذلك إلا بالقول ؟
ألم يكن من المعلوم أن الأفعال تتطرقها احتمالات كثيرة إذا لم يقارنها البيان بالقول ،
وقد تبقى مجملة لا يتعين المراد منها إلا به ؟
يقول حضرة الدكتور : ( فبعضها نسخ بالقرآن ) ويقال عليه : إن نسخ السنة
بالقرآن ؛ قد قال الإمام الشافعي : إنه لا يكون ، حتى حَكَى بعض الشافعية عنه أنه
قال حيث وقع نسخ السنة بالقرآن فمعه سنة عاضدة له .
حضرة الدكتور لم يذكر ذلك عنه ، بل نقل بعض قوله , وترك البعض ودونك
قول الإمام في الرسالة : ( لا ينسخ كتاب الله إلا كتابه ، ثم قال : وهكذا سنة رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - لا ينسخها إلا سنته ) فإن جاز الاستدلال بقول الإمام
هناك جاز هنا , وإلا فلا في الموضعين .
وقوله : ( وبعضها الآخر نسخ بالأحاديث الأخرى ) يقال عليه : فهذه الأخرى
الناسخة هل هي معلومة أم لا ، وهل هذه هي المدونة عند أهل الحديث أم هي
أحاديث غيرها ؟ وأين هي ؟ وَمَنْ أدراك بها , فإنك قد قررْتَ أنك لا تقبل النسخ إلا
أن تجد الله أو رسوله قال هذا ناسخ وهذا منسوخ , وينقل إلينا ذلك بالتواتر ؛ فَهَلاَّ
أنصفْتَ مناظريك ؟
وقوله : ( وعندنا أنه لن يبقَ منها شيء يجب العمل به غير موجود في القرآن )
الجواب عليه هنا أن يقال : إن هذه مجرد دعوى لا يستطيع حضرته أن يقيم البينة
عليها هو ولا غيره , فإن في السنن من الأحكام والآداب أضعاف ما في القرآن ,
وهي بفضل الله تعالى لا تخالف مقاصد القرآن , وهي مطابقة للعقل , ولا يمكن أن
يستغني عنها البشر , ولولا خوف الإطالة لأتينا بجمل منها , وبيّنا ما لها وما عليها ,
ومقدار الحاجة إليها فليتتبع ذلك حضرته .
بل نقول : ولا يبعد أن القرآن محتاج إلي السنة أكثر من احتياج السنة إليه ،
يوضحه أن القرآن الكريم ذو أوجه والسنة مبينة للمراد منه تارة وشارحة ومفسرة
أخرى . أو تأتي بأحكام زائدة على ما فيه يشرعها الله على لسان رسوله - صلى الله
عليه وسلم - لشدّة حاجة البشر إليها إظهارًا لكرامة رسوله - صلى الله عليه وسلم -
عليه وليتعودوا طاعته واتباعه كما أَمَر بذلك في كتابه ، ولئلا تجرّهم الشبهات إلى
ردّ بيانه للكتاب الكريم . ولبسط ذلك محل آخر .
يقول حضرته : ( لأنها لم تكن إلا شريعة وقتية تمهيدية لشريعة القرآن الثابتة
الباقية ) وأقول : هذه دعوى وتعليل لما شاء بما شاء , وكل أحد يمكنه أن يدعي ،
فأين الدليل ؟ أما قوله تعليلاً لذلك : نُهِيَتِ الصحابة عن كتابتها ، فيقالُ عليه : إن
مسألة النهي عن الكتابة والترخيص فيها هي مسألة لا تدلّ على نسخ السنن النبوية
بأحد الدلالات مطلقًا ، والقارئ يرى أن حضرة الدكتور قد ملأ الكون صياحًا بالإنكار
على العمل بالظّنّ ، فما لنا نراه قد انسلّ هنا إلى هَدْم ما كان أسسه ، ثم يَعْمِد إلى هدْمِ
القصور اليقينية ، فيرد جميع السنن ويلغي طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -
التي أمر الله بها في غير موضع من كتابه , والأحاديث المتواترة لفظًا ومعنًى في
وُجُوب اتباعه واتباع سنته . ويرد إجماع الصحابة ، بل جميع الأمة ، ما له يردّ ذلك
كله بالخرص والتخمين الذي لا يبلغ إلى أضعف مراتب الظن ، بل لا يصح أن
يعتبره معتبر ، فليعتبر حضرته بمناقضته لنفسه بنفسه .
إن أمر النهي عن الكتابة لم ينقل إلينا متواترًا ، بل قد اختلف في رفعه إلى
المعصوم - صلى الله عليه وسلم - وفي نسخه ، وقد عارضه ما هو أقوى منه ، ولم
ينصَّ فيه على أن المراد منه أن السنن موقت شرعها ، أو أنها منسوخة بعد مُدّة كذا
من الزمن , ولا أنه نُهِيَ عنها لأجل أن تندثر السنن بطول الزمن . إن أحد هذه
الأمور التي ذكرناها تمنع الاستدلال على ما قصده حضرة الدكتور ، فكيف يصح أن
يكون ما هذا حاله معارضًا لجميع الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وإجماع
الصحابة ، بل وسائر المسلمين ! فطاعة الرسول ووجوب اتباع سننه معلوم
بالضرورة من دين الإسلام - لا سِيَّمَا إذا كان حديث النهي عن الكتابة مُعَلّلاً بعلة
منصوصة عن رواية ، وهو خوف الالتباس بالمصحف . وكل من روي عنه من
الصحابة النهي أو الامتناع عن كتابة الحديث فهو دائر على هذه العلة ، كما صرحوا
بذلك . ومنهم من خاف أن يقع في الوعيد على الكذابين ، ومنهم من نهى عن كتابة
رأيه , فاشتبه ذلك على الناظرين , فظنوا أنه نهي عن كتابة السنة النبوية ، وليس
الأمر كذلك - فالقول بأن نهيهم عن كتابة العلم أو الحديث نصّ في النهي عن كتابة
السنن النبوية هو قول بالخرص .
ثم هل يجوز لمن لا يُجَوِّز العملَ بالظن أن يأخذ أقوالهم في أمر قد صرحوا
بسببه أن يتركه ويهمله , ثم يحمل قولهم على غير ما أرادوه ، بل على ما نُهُوا عنه ،
وهو ترك اتباع السنة واعتقاد وجوب اتباعها . ثم نقول : الحقُّ أن الأمور المعللة
يدور حكمها مع عللها ، وحيث زالت العلة زال الحكم ، وهو هنا خوف الالتباس
بالمصحف ، فقد وقع الإجماع على جواز - بل استحباب - كتابة الحديث ، وقال
بعضهم بالوجوب ، وهو الحق . هذا كله إذا سلمنا أن حديث النهي مرفوع وأنه غير
منسوخ . ومن اطلع على القاعدة الأصولية من أنه إذا وقع التعارض بين دليلين
أحدهما مانع والآخر مرخص مثلاً , عرف أن الإجماع على كتابة السنن غير
معارض لنص ؛ لأنه بعد تساقط الدليلين المتعارضين ، أعني حديث النهي عن
الكتابة وأحاديث الأمر والترخيص فيها ، تبقى البراءة الأصلية , والإجماع إن لم نقل
هو حجة ، فهو مؤيد لها .
ونحن نسأل حضرة الدكتور ، هل حكم حديث النهي عامّ وباقٍ أم لا ؟ فإنْ قُلت
بالأخير ، فقد وافقتنا ، وحينئذ لا يصحّ لك الإلزام به . وإن قلت بالأول لزمك أن
تمنع عن كتابة جميع العلوم المستنبطة من القرآن بل أولى من ذلك كله أن تمنع عن
كتابة سائر العلوم .
إن كان الاختلاف في كتابة السنة قادحًا في العمل بها مسوغًا لاقتراح أن علة
ذلك وسببه كونها شريعةً مؤقتةً - فإن الاختلاف قد وقع في جميع القرآن وكتابته ،
وأول من خالف في ذلك الخليفة الأول , ثم رجع إلى قول عمر - رضي الله عنه -
قِيل يسوغ أن يقال : إن الصِّدِّيق رضي الله عنه لم يخالف في ذلك إلا لأن شريعة
القرآن مؤقتة ؟ لا - لا - في الأمرين ، فإن قيل : إن الصِّدِّيق قد وقع الإجماع عليه ،
والفاروق لما سأل الصحابة رأيهم في جمع السنن أشاروا عليه بجمعها ، ولكنه
خالفهم للسبب الذي ذكرناه ، كما صرح بذلك هو ؛ إذ لم يحن له الوقت المناسب
الذي يزول فيه خوف الالتباس ، ولما كان هو إذ ذاك صاحب الأمر لم يستطع من
أشار عليه منهم أن يفعل غير ما أمضاه الخليفة .
ومن تفكر في أهل زماننا بل منذ أزمان قديمة رأى صحّة هذا التعليل
المنصوص دراية كما هو صحيح رواية , فإنك تجد مصداق ذلك فيما نراه من
انكباب الناس وانهماكهم على كُتُب شحنت بآراء مشايخهم وأسلافهم حتى جعلوها
كالمصاحف ، بل قدموها على المصحف وعلى السنة النبوية على صاحبها ألف
صلاة وتحية .
أما قوله : ( ولم يعاملها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه بالعناية
التي عُومِلَ بها القرآنُ لِتزول مِن بينِ المسلمين وتندثر ) فأقول : أي المعاملات يريد
حضرة الدكتور ؟ فإنْ كان يريد أن القرآن يمتاز بأنه كلام الله لفظًا ومعنى ، وأنه
معجز متحدّى به ، وأنه متعبّد بتلاوته ، وأنه كلام الخالق غير المخلوق ونحو ذلك ,
فهذا صحيح وسنن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يمكن أن تعامل بهذه
المعاملة كلها ، فكما أن الله جلَّ وعلا هو الربّ والإله المعبود و محمد - صلى الله
عليه وسلم - عبده ورسوله وداعٍ إليه بإذنه , فلا يعامل بما يعامل به الإله مما يخصّ
الألوهية والربوبية , فكذلك كلامه - صلى الله عليه وسلم - لا يعامل بما يعامل به
القرآن من كل الوجوه كما تقدم ، وإن أراد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم
يعامل سنته بما يعامل به القرآن مِن حيثية التشريع , كأن يأمر الأمة بما لا يجب
الائْتِمَار به , وينهاهم عمّا لا يجب أن ينتهوا عنه , أو أنه يعتقد ذلك , أو أن
أصحابه يرون عدم وُجُوب اتّباعه في جميع أقواله وأفعاله , وفيما شرع الله مِن الدِّينِ
على لسانه ، فإرادة هذا منه - صلى الله عليه وسلم - أو منهم هو أمحل المحال ،
وحضرة الدكتور نجله أن يعني ذلك ، فمن زعم أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم -
أوجب ما ليس بواجب , وحرّم ما ليس بحرام على الأمة ، وأنه يعلم ذلك ويعتقده ،
أو أن أصحابه يعتقدون ذلك ، أو أنهم لم يأتمروا به .. إلخ ، فخطؤه فوق كل خطأ ،
وافتراؤه فوق كل افتراء ، ومع ذلك كله هو غير مستند إلى شيء يصحّ الاعتماد
عليه حتى ولا شبهة .
فقول القائل : إن ما أوجبه أو حرمه النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هو
مقيّد بوقت حياته - هل يصحّ ويثْبُت بدعوى عدم الكتابة أو دعوى النهي عنها أو
أنها لم تكتب مدونة مرتبة ؟ قد قدمنا أن عدم الكتابة مطلقًا لم يرد فيها إلا حديث
واحد قد اخْتُلِفَ في رفْعِه وسبب النهي منصوص كما قدمناه مع معارضته لما هو
أصحّ منه .
فهل يصح أن يكون ذلك الحديث المذكور ناسخًا للآيات الكثيرة القرآنية
المصرحة بوجوب ولزوم طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - واتباعه ؟ إنّ
طاعة الله لا ينازع أحد في وجوبها في وقته - صلى الله عليه وسلم - وبعد وفاته ،
وإنها - أي طاعة الله - واجبة علينا كما هي واجبة على أول الأمة .
لكنّا نرى القرآنَ مصرّحًا بأنّ طاعة الله مشروطة بطاعة الرسول - صلى الله
عليه وسلم - وهل طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا الائتمار بأمْرِه
والانتهاء لنهيه ، وإلا لم تكن له طاعة , وقد عرفت ثبوتها ودَلَّ القرآنُ عليها نصًّا
كما يأتي ، وهي لا تكون إلا في سننه القولية ، كما قال تعالى : { وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ
رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً * مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ
عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } ( النساء : 79-80 ) أمّا الاتِّبَاع والتَّأَسِّي, فيكون في الفعلية العمليّة
والقوليّة .
مهما يمكن لأحد أن يعبّر عن وُجُوب اتّباع أحد وطاعته لا يمكنه أن يعبّر عن
ذلك بأكثر وأوضح مما عبّر الله به في وُجُوب اتباع رسوله محمد - صلى الله عليه
وسلم - فإنْ كان ذلك قابلاً للتشكيك لزم أنْ لا يوجد في العالم خير يوثق به وبدلالته .
إن الله جلّ شأنُه لم يأمر بطاعته في القرآن إلا وأمر بطاعة رسوله - صلى
الله عليه وسلم - معه , بل قد يُفْرِدُ الأمر بطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -
ويجعلها شرطًا لطاعته ولم يفرد طاعته عن طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -
ثم هو تارةً يأمر باتباعه , وتارةً يأمر بالتحاكم إليه , ويجعل ذلك من شرائط الإيمان ,
وكذلك تسليم ذلك له , وعدم وجدان الحرج - وتارةً يأمر بالتأسّي به , وتارةً يقول :
{ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } ( الحشر : 7 ) , وتارةً يُعْلِمنا
بأنه المبلّغ عنه المؤتمن , وتارةً ينسب التحليل والتحريم إليه - صلى الله عليه وسلم
- ثم نراه ينبّه في محلّ آخرَ بأنّه لا ينطق عن الهوى إنْ هو إلاّ وَحْيٌ يُوحَى -
وتارةً يأمره أنْ يحكم , وأن لا يحكم إلا بما أراه الله - وتارةً يقول له : { قُلْ إِن كُنتُمْ
تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } ( آل عمران : 31 ) , فجعل اتباع الرسول -
صلى الله عليه وسلم - مقدمًا على طلبتهم محبة الله وبابًا لمحبة الله لهم وهذا لا يمكن
أن يخص بقوم دون قوم وزمان دون زمان - وتارة ينهى عن التقدم بين يديه بقول أو
فعل ، وتارة ينهى عن التولي عنه وعن أمره - وتارة ينهى عن مخالفة أمره ، وتارة
ينهى عن التسوية بين دعائه ودعاء غيره ، وقد قرر أنه الداعي إلى الله حتى إنهم
كانوا يرون إجابته غير مبطلة للصلاة ، وتارة وتارة يحذر عن مخالفتهم أمره :
{ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } ( النور : 63 ) الآية - وتارة ينهى أن يجعلوا
لأنفسهم الخيرة من أمرهم مع أمره - وتارةً ينهى عن مشاقّته ، وأن من شاقّه فقد
شاقّ الله ، وتارةً يجعل من صفات الإيمان بالله المبادرة إلى طاعة الرسول - صلى
الله عليه وسلم - إلى غير ذلك مِن أساليب التعبير والتفنن فيه لإيضاح وُجُوب اتّباع
الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإن القرآن ملآن مِن أوله إلى آخره بذلك حتى
القصص , فإنها إنما سِيقَت للاعتبار وليطاع الله ويطاع رسوله - صلى الله عليه
وسلم - ويتبع وليؤمن الناس بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
فهل يصحّ أنْ يهدم هذا كله بشبهة حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - على
ما فيه مما قدمناه ؟ أم هل يسوغ أن يقال : إن الصحابة - رضي الله عنهم - خالفوا
ذلك كله , وإنهم لم يعتنوا بسنته إذا رأينا أحدهم احتاط في الرواية , أو حكم بخلاف
السنة بعذر أنها لم تبلغه , ولو بلغته لرجع إليها كما قد شوهد عنهم الرجوع إليها في
جميع أحوالهم ، وهل يصحّ اعتبار قول مَن خالف ما ذكرناه كائنًا مَن كان ما لم يكن
عن الله أو عن رسوله , وقد عرفت حكمها في ذلك .
فكيف يصح قول الدكتور إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لم
يعاملوا السنن النبوية بغير ما عاملوا به القرآن إلا لتندثر وتزول من بين المسلمين
مع ما عرفت مما قدمناه عن القرآن . وَلِمَ لَمْ يصرح الله ولا رسوله - صلى الله
عليه وسلم - ولا أصحابه - رضي الله عنه - بما صرح به حضرة الدكتور ؟
إنّ مَن تتبع أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - ووصاياه ومواعظه وخطبه
يجدها موافقة لِمَا دلّ القرآن عليه ، ومناقضة لما زعمَه حضرة الدكتور : ( إنِّي
تَارِكٌ مَا إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا ، كِتَابَ اللهِ وَسُنَّتِي ) , والأحاديث متواترة في أمْرِه
- صلى الله عليه وسلم - أن يبلغ عنه ، وفي وجوب اتباع سننه أيضًا تواترًا معنويًا ،
أما أقوال الصحابة - رضي الله عنهم - في اتباع الكتاب والسنة ، فأكثر من أن
تستقصى ، بل ذلك إجماع عنهم وعن سائر المسلمين ، وكل ما خالف الكتاب والسنة ,
فإنما هو عند الصحابة - رضي الله عنهم - من الرأي المذموم ، وهو الظن
المشئوم الذي حذر الله عنه في كتابه , فحمله حضرة الدكتور على الرواية والمروي
بلا بيّنة ، بل بناءً على اصطلاح المصطلحين . على أن كل مَن سِوَى الرسول
- صلى الله عليه وسلم - غير معصوم من الخطأ والسهو .
هذا ولا يحيط بسنته - صلى الله عليه وسلم - إلا مجموع الأمة , وما عند
الأمة من ذلك قد دوّن وها هو بين أيدينا , فهلمّوا بنا إلى اقتفائه واتباعه - صلى الله
عليه وسلم - الذي لا حياة ولا نجاة لنا إلا به { وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } ( الأنفال : 46 ) { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } ( النور : 63 ) الآية
{ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ } ( النور : 52 )
نسأل الله لنا ولأخينا الدكتور الهداية والتوفيق لصراط الذين أُنعم عليهم من النبيين
والصِّدِّيقِينَ والصالحين ، وأن يوفق من أراد له الهداية ، إنه سميع مجيب , وآخر
دعوانا أَنِ الحمد لله ربّ العالمين , وصلى الله وسلم على رسوله الأمين وآله
وأصحابه الطيبين ومتبعيهم بإحسان إلى يوم الدين آمين .
... ... ... ... ... ... كتبه بيده وقاله بفمه
... ... ... ... ... الحقير صالح بن علي اليافعي عفا الله عنه
( المنار )
إذا أراد الدكتور محمد توفيق أفندي صدقي أن يرد على هذه الرسالة ، فالمرجو
منه أن يبين ما يراه منتقدًا منها بالاختصار , ولا يطيل في أصل الموضوع ، وأن
يُسلِّم بغير المنتقد عنده تسليمًا صريحًا .
((يتبع بمقال تالٍ))
يقول حضرة الدكتور : أمّا السُّنّة القولية ( الأحاديث ) فبعضها نسخ بالقرآن ،
وبعضها الآخر نُسِخَ بالأحاديث الأخرى . ونحن نقول : ما الدليل الذي قام لدى
حضرة الدكتور في التفرقة بين السنة القولية والسنة الفعلية ؟ ولِمَ لا يكون النسخ في
الفعلية ؟ وما الدليل على ذلك ؟ أليس من المُقَرّر والمسلم أن أصل كل تشريع إنما
هو القول ؟ وهل يعرف الواجب والحرام , والسنة والمكروه إلى غير ذلك إلا بالقول ؟
ألم يكن من المعلوم أن الأفعال تتطرقها احتمالات كثيرة إذا لم يقارنها البيان بالقول ،
وقد تبقى مجملة لا يتعين المراد منها إلا به ؟
يقول حضرة الدكتور : ( فبعضها نسخ بالقرآن ) ويقال عليه : إن نسخ السنة
بالقرآن ؛ قد قال الإمام الشافعي : إنه لا يكون ، حتى حَكَى بعض الشافعية عنه أنه
قال حيث وقع نسخ السنة بالقرآن فمعه سنة عاضدة له .
حضرة الدكتور لم يذكر ذلك عنه ، بل نقل بعض قوله , وترك البعض ودونك
قول الإمام في الرسالة : ( لا ينسخ كتاب الله إلا كتابه ، ثم قال : وهكذا سنة رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - لا ينسخها إلا سنته ) فإن جاز الاستدلال بقول الإمام
هناك جاز هنا , وإلا فلا في الموضعين .
وقوله : ( وبعضها الآخر نسخ بالأحاديث الأخرى ) يقال عليه : فهذه الأخرى
الناسخة هل هي معلومة أم لا ، وهل هذه هي المدونة عند أهل الحديث أم هي
أحاديث غيرها ؟ وأين هي ؟ وَمَنْ أدراك بها , فإنك قد قررْتَ أنك لا تقبل النسخ إلا
أن تجد الله أو رسوله قال هذا ناسخ وهذا منسوخ , وينقل إلينا ذلك بالتواتر ؛ فَهَلاَّ
أنصفْتَ مناظريك ؟
وقوله : ( وعندنا أنه لن يبقَ منها شيء يجب العمل به غير موجود في القرآن )
الجواب عليه هنا أن يقال : إن هذه مجرد دعوى لا يستطيع حضرته أن يقيم البينة
عليها هو ولا غيره , فإن في السنن من الأحكام والآداب أضعاف ما في القرآن ,
وهي بفضل الله تعالى لا تخالف مقاصد القرآن , وهي مطابقة للعقل , ولا يمكن أن
يستغني عنها البشر , ولولا خوف الإطالة لأتينا بجمل منها , وبيّنا ما لها وما عليها ,
ومقدار الحاجة إليها فليتتبع ذلك حضرته .
بل نقول : ولا يبعد أن القرآن محتاج إلي السنة أكثر من احتياج السنة إليه ،
يوضحه أن القرآن الكريم ذو أوجه والسنة مبينة للمراد منه تارة وشارحة ومفسرة
أخرى . أو تأتي بأحكام زائدة على ما فيه يشرعها الله على لسان رسوله - صلى الله
عليه وسلم - لشدّة حاجة البشر إليها إظهارًا لكرامة رسوله - صلى الله عليه وسلم -
عليه وليتعودوا طاعته واتباعه كما أَمَر بذلك في كتابه ، ولئلا تجرّهم الشبهات إلى
ردّ بيانه للكتاب الكريم . ولبسط ذلك محل آخر .
يقول حضرته : ( لأنها لم تكن إلا شريعة وقتية تمهيدية لشريعة القرآن الثابتة
الباقية ) وأقول : هذه دعوى وتعليل لما شاء بما شاء , وكل أحد يمكنه أن يدعي ،
فأين الدليل ؟ أما قوله تعليلاً لذلك : نُهِيَتِ الصحابة عن كتابتها ، فيقالُ عليه : إن
مسألة النهي عن الكتابة والترخيص فيها هي مسألة لا تدلّ على نسخ السنن النبوية
بأحد الدلالات مطلقًا ، والقارئ يرى أن حضرة الدكتور قد ملأ الكون صياحًا بالإنكار
على العمل بالظّنّ ، فما لنا نراه قد انسلّ هنا إلى هَدْم ما كان أسسه ، ثم يَعْمِد إلى هدْمِ
القصور اليقينية ، فيرد جميع السنن ويلغي طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -
التي أمر الله بها في غير موضع من كتابه , والأحاديث المتواترة لفظًا ومعنًى في
وُجُوب اتباعه واتباع سنته . ويرد إجماع الصحابة ، بل جميع الأمة ، ما له يردّ ذلك
كله بالخرص والتخمين الذي لا يبلغ إلى أضعف مراتب الظن ، بل لا يصح أن
يعتبره معتبر ، فليعتبر حضرته بمناقضته لنفسه بنفسه .
إن أمر النهي عن الكتابة لم ينقل إلينا متواترًا ، بل قد اختلف في رفعه إلى
المعصوم - صلى الله عليه وسلم - وفي نسخه ، وقد عارضه ما هو أقوى منه ، ولم
ينصَّ فيه على أن المراد منه أن السنن موقت شرعها ، أو أنها منسوخة بعد مُدّة كذا
من الزمن , ولا أنه نُهِيَ عنها لأجل أن تندثر السنن بطول الزمن . إن أحد هذه
الأمور التي ذكرناها تمنع الاستدلال على ما قصده حضرة الدكتور ، فكيف يصح أن
يكون ما هذا حاله معارضًا لجميع الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وإجماع
الصحابة ، بل وسائر المسلمين ! فطاعة الرسول ووجوب اتباع سننه معلوم
بالضرورة من دين الإسلام - لا سِيَّمَا إذا كان حديث النهي عن الكتابة مُعَلّلاً بعلة
منصوصة عن رواية ، وهو خوف الالتباس بالمصحف . وكل من روي عنه من
الصحابة النهي أو الامتناع عن كتابة الحديث فهو دائر على هذه العلة ، كما صرحوا
بذلك . ومنهم من خاف أن يقع في الوعيد على الكذابين ، ومنهم من نهى عن كتابة
رأيه , فاشتبه ذلك على الناظرين , فظنوا أنه نهي عن كتابة السنة النبوية ، وليس
الأمر كذلك - فالقول بأن نهيهم عن كتابة العلم أو الحديث نصّ في النهي عن كتابة
السنن النبوية هو قول بالخرص .
ثم هل يجوز لمن لا يُجَوِّز العملَ بالظن أن يأخذ أقوالهم في أمر قد صرحوا
بسببه أن يتركه ويهمله , ثم يحمل قولهم على غير ما أرادوه ، بل على ما نُهُوا عنه ،
وهو ترك اتباع السنة واعتقاد وجوب اتباعها . ثم نقول : الحقُّ أن الأمور المعللة
يدور حكمها مع عللها ، وحيث زالت العلة زال الحكم ، وهو هنا خوف الالتباس
بالمصحف ، فقد وقع الإجماع على جواز - بل استحباب - كتابة الحديث ، وقال
بعضهم بالوجوب ، وهو الحق . هذا كله إذا سلمنا أن حديث النهي مرفوع وأنه غير
منسوخ . ومن اطلع على القاعدة الأصولية من أنه إذا وقع التعارض بين دليلين
أحدهما مانع والآخر مرخص مثلاً , عرف أن الإجماع على كتابة السنن غير
معارض لنص ؛ لأنه بعد تساقط الدليلين المتعارضين ، أعني حديث النهي عن
الكتابة وأحاديث الأمر والترخيص فيها ، تبقى البراءة الأصلية , والإجماع إن لم نقل
هو حجة ، فهو مؤيد لها .
ونحن نسأل حضرة الدكتور ، هل حكم حديث النهي عامّ وباقٍ أم لا ؟ فإنْ قُلت
بالأخير ، فقد وافقتنا ، وحينئذ لا يصحّ لك الإلزام به . وإن قلت بالأول لزمك أن
تمنع عن كتابة جميع العلوم المستنبطة من القرآن بل أولى من ذلك كله أن تمنع عن
كتابة سائر العلوم .
إن كان الاختلاف في كتابة السنة قادحًا في العمل بها مسوغًا لاقتراح أن علة
ذلك وسببه كونها شريعةً مؤقتةً - فإن الاختلاف قد وقع في جميع القرآن وكتابته ،
وأول من خالف في ذلك الخليفة الأول , ثم رجع إلى قول عمر - رضي الله عنه -
قِيل يسوغ أن يقال : إن الصِّدِّيق رضي الله عنه لم يخالف في ذلك إلا لأن شريعة
القرآن مؤقتة ؟ لا - لا - في الأمرين ، فإن قيل : إن الصِّدِّيق قد وقع الإجماع عليه ،
والفاروق لما سأل الصحابة رأيهم في جمع السنن أشاروا عليه بجمعها ، ولكنه
خالفهم للسبب الذي ذكرناه ، كما صرح بذلك هو ؛ إذ لم يحن له الوقت المناسب
الذي يزول فيه خوف الالتباس ، ولما كان هو إذ ذاك صاحب الأمر لم يستطع من
أشار عليه منهم أن يفعل غير ما أمضاه الخليفة .
ومن تفكر في أهل زماننا بل منذ أزمان قديمة رأى صحّة هذا التعليل
المنصوص دراية كما هو صحيح رواية , فإنك تجد مصداق ذلك فيما نراه من
انكباب الناس وانهماكهم على كُتُب شحنت بآراء مشايخهم وأسلافهم حتى جعلوها
كالمصاحف ، بل قدموها على المصحف وعلى السنة النبوية على صاحبها ألف
صلاة وتحية .
أما قوله : ( ولم يعاملها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه بالعناية
التي عُومِلَ بها القرآنُ لِتزول مِن بينِ المسلمين وتندثر ) فأقول : أي المعاملات يريد
حضرة الدكتور ؟ فإنْ كان يريد أن القرآن يمتاز بأنه كلام الله لفظًا ومعنى ، وأنه
معجز متحدّى به ، وأنه متعبّد بتلاوته ، وأنه كلام الخالق غير المخلوق ونحو ذلك ,
فهذا صحيح وسنن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يمكن أن تعامل بهذه
المعاملة كلها ، فكما أن الله جلَّ وعلا هو الربّ والإله المعبود و محمد - صلى الله
عليه وسلم - عبده ورسوله وداعٍ إليه بإذنه , فلا يعامل بما يعامل به الإله مما يخصّ
الألوهية والربوبية , فكذلك كلامه - صلى الله عليه وسلم - لا يعامل بما يعامل به
القرآن من كل الوجوه كما تقدم ، وإن أراد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم
يعامل سنته بما يعامل به القرآن مِن حيثية التشريع , كأن يأمر الأمة بما لا يجب
الائْتِمَار به , وينهاهم عمّا لا يجب أن ينتهوا عنه , أو أنه يعتقد ذلك , أو أن
أصحابه يرون عدم وُجُوب اتّباعه في جميع أقواله وأفعاله , وفيما شرع الله مِن الدِّينِ
على لسانه ، فإرادة هذا منه - صلى الله عليه وسلم - أو منهم هو أمحل المحال ،
وحضرة الدكتور نجله أن يعني ذلك ، فمن زعم أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم -
أوجب ما ليس بواجب , وحرّم ما ليس بحرام على الأمة ، وأنه يعلم ذلك ويعتقده ،
أو أن أصحابه يعتقدون ذلك ، أو أنهم لم يأتمروا به .. إلخ ، فخطؤه فوق كل خطأ ،
وافتراؤه فوق كل افتراء ، ومع ذلك كله هو غير مستند إلى شيء يصحّ الاعتماد
عليه حتى ولا شبهة .
فقول القائل : إن ما أوجبه أو حرمه النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هو
مقيّد بوقت حياته - هل يصحّ ويثْبُت بدعوى عدم الكتابة أو دعوى النهي عنها أو
أنها لم تكتب مدونة مرتبة ؟ قد قدمنا أن عدم الكتابة مطلقًا لم يرد فيها إلا حديث
واحد قد اخْتُلِفَ في رفْعِه وسبب النهي منصوص كما قدمناه مع معارضته لما هو
أصحّ منه .
فهل يصح أن يكون ذلك الحديث المذكور ناسخًا للآيات الكثيرة القرآنية
المصرحة بوجوب ولزوم طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - واتباعه ؟ إنّ
طاعة الله لا ينازع أحد في وجوبها في وقته - صلى الله عليه وسلم - وبعد وفاته ،
وإنها - أي طاعة الله - واجبة علينا كما هي واجبة على أول الأمة .
لكنّا نرى القرآنَ مصرّحًا بأنّ طاعة الله مشروطة بطاعة الرسول - صلى الله
عليه وسلم - وهل طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا الائتمار بأمْرِه
والانتهاء لنهيه ، وإلا لم تكن له طاعة , وقد عرفت ثبوتها ودَلَّ القرآنُ عليها نصًّا
كما يأتي ، وهي لا تكون إلا في سننه القولية ، كما قال تعالى : { وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ
رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً * مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ
عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } ( النساء : 79-80 ) أمّا الاتِّبَاع والتَّأَسِّي, فيكون في الفعلية العمليّة
والقوليّة .
مهما يمكن لأحد أن يعبّر عن وُجُوب اتّباع أحد وطاعته لا يمكنه أن يعبّر عن
ذلك بأكثر وأوضح مما عبّر الله به في وُجُوب اتباع رسوله محمد - صلى الله عليه
وسلم - فإنْ كان ذلك قابلاً للتشكيك لزم أنْ لا يوجد في العالم خير يوثق به وبدلالته .
إن الله جلّ شأنُه لم يأمر بطاعته في القرآن إلا وأمر بطاعة رسوله - صلى
الله عليه وسلم - معه , بل قد يُفْرِدُ الأمر بطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -
ويجعلها شرطًا لطاعته ولم يفرد طاعته عن طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -
ثم هو تارةً يأمر باتباعه , وتارةً يأمر بالتحاكم إليه , ويجعل ذلك من شرائط الإيمان ,
وكذلك تسليم ذلك له , وعدم وجدان الحرج - وتارةً يأمر بالتأسّي به , وتارةً يقول :
{ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } ( الحشر : 7 ) , وتارةً يُعْلِمنا
بأنه المبلّغ عنه المؤتمن , وتارةً ينسب التحليل والتحريم إليه - صلى الله عليه وسلم
- ثم نراه ينبّه في محلّ آخرَ بأنّه لا ينطق عن الهوى إنْ هو إلاّ وَحْيٌ يُوحَى -
وتارةً يأمره أنْ يحكم , وأن لا يحكم إلا بما أراه الله - وتارةً يقول له : { قُلْ إِن كُنتُمْ
تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } ( آل عمران : 31 ) , فجعل اتباع الرسول -
صلى الله عليه وسلم - مقدمًا على طلبتهم محبة الله وبابًا لمحبة الله لهم وهذا لا يمكن
أن يخص بقوم دون قوم وزمان دون زمان - وتارة ينهى عن التقدم بين يديه بقول أو
فعل ، وتارة ينهى عن التولي عنه وعن أمره - وتارة ينهى عن مخالفة أمره ، وتارة
ينهى عن التسوية بين دعائه ودعاء غيره ، وقد قرر أنه الداعي إلى الله حتى إنهم
كانوا يرون إجابته غير مبطلة للصلاة ، وتارة وتارة يحذر عن مخالفتهم أمره :
{ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } ( النور : 63 ) الآية - وتارة ينهى أن يجعلوا
لأنفسهم الخيرة من أمرهم مع أمره - وتارةً ينهى عن مشاقّته ، وأن من شاقّه فقد
شاقّ الله ، وتارةً يجعل من صفات الإيمان بالله المبادرة إلى طاعة الرسول - صلى
الله عليه وسلم - إلى غير ذلك مِن أساليب التعبير والتفنن فيه لإيضاح وُجُوب اتّباع
الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإن القرآن ملآن مِن أوله إلى آخره بذلك حتى
القصص , فإنها إنما سِيقَت للاعتبار وليطاع الله ويطاع رسوله - صلى الله عليه
وسلم - ويتبع وليؤمن الناس بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
فهل يصحّ أنْ يهدم هذا كله بشبهة حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - على
ما فيه مما قدمناه ؟ أم هل يسوغ أن يقال : إن الصحابة - رضي الله عنهم - خالفوا
ذلك كله , وإنهم لم يعتنوا بسنته إذا رأينا أحدهم احتاط في الرواية , أو حكم بخلاف
السنة بعذر أنها لم تبلغه , ولو بلغته لرجع إليها كما قد شوهد عنهم الرجوع إليها في
جميع أحوالهم ، وهل يصحّ اعتبار قول مَن خالف ما ذكرناه كائنًا مَن كان ما لم يكن
عن الله أو عن رسوله , وقد عرفت حكمها في ذلك .
فكيف يصح قول الدكتور إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لم
يعاملوا السنن النبوية بغير ما عاملوا به القرآن إلا لتندثر وتزول من بين المسلمين
مع ما عرفت مما قدمناه عن القرآن . وَلِمَ لَمْ يصرح الله ولا رسوله - صلى الله
عليه وسلم - ولا أصحابه - رضي الله عنه - بما صرح به حضرة الدكتور ؟
إنّ مَن تتبع أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - ووصاياه ومواعظه وخطبه
يجدها موافقة لِمَا دلّ القرآن عليه ، ومناقضة لما زعمَه حضرة الدكتور : ( إنِّي
تَارِكٌ مَا إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا ، كِتَابَ اللهِ وَسُنَّتِي ) , والأحاديث متواترة في أمْرِه
- صلى الله عليه وسلم - أن يبلغ عنه ، وفي وجوب اتباع سننه أيضًا تواترًا معنويًا ،
أما أقوال الصحابة - رضي الله عنهم - في اتباع الكتاب والسنة ، فأكثر من أن
تستقصى ، بل ذلك إجماع عنهم وعن سائر المسلمين ، وكل ما خالف الكتاب والسنة ,
فإنما هو عند الصحابة - رضي الله عنهم - من الرأي المذموم ، وهو الظن
المشئوم الذي حذر الله عنه في كتابه , فحمله حضرة الدكتور على الرواية والمروي
بلا بيّنة ، بل بناءً على اصطلاح المصطلحين . على أن كل مَن سِوَى الرسول
- صلى الله عليه وسلم - غير معصوم من الخطأ والسهو .
هذا ولا يحيط بسنته - صلى الله عليه وسلم - إلا مجموع الأمة , وما عند
الأمة من ذلك قد دوّن وها هو بين أيدينا , فهلمّوا بنا إلى اقتفائه واتباعه - صلى الله
عليه وسلم - الذي لا حياة ولا نجاة لنا إلا به { وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } ( الأنفال : 46 ) { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } ( النور : 63 ) الآية
{ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ } ( النور : 52 )
نسأل الله لنا ولأخينا الدكتور الهداية والتوفيق لصراط الذين أُنعم عليهم من النبيين
والصِّدِّيقِينَ والصالحين ، وأن يوفق من أراد له الهداية ، إنه سميع مجيب , وآخر
دعوانا أَنِ الحمد لله ربّ العالمين , وصلى الله وسلم على رسوله الأمين وآله
وأصحابه الطيبين ومتبعيهم بإحسان إلى يوم الدين آمين .
... ... ... ... ... ... كتبه بيده وقاله بفمه
... ... ... ... ... الحقير صالح بن علي اليافعي عفا الله عنه
( المنار )
إذا أراد الدكتور محمد توفيق أفندي صدقي أن يرد على هذه الرسالة ، فالمرجو
منه أن يبين ما يراه منتقدًا منها بالاختصار , ولا يطيل في أصل الموضوع ، وأن
يُسلِّم بغير المنتقد عنده تسليمًا صريحًا .
((يتبع بمقال تالٍ))