الأربعاء، 1 مايو 2013

قسم المقالات : كيف نستعمل الحرية بقلم حسين وصفى رضا

كيف نستعمل الحرية


أيها السادة الأحرار :
وقفت غير مرة مثل هذا الموقف بعد إعلان الحرية ، وكنت في مواقفي الأُوَل
أرسل القول إرسالاً ؛ لأن المواضيع متوفرة ، والشعور بالحال أطلق اللسان من
عقاله ، وفكّ الأفكار من أصفادها ، بعد أن لبثت مُدّة ترسف فيها ، حتى كدنا نيأس
من انتهائها ، مع علمنا بأن لكل بداية نهاية .
ولكنني الآن أتلو عليكم خطبتي تلاوةً ، لأنني سئلت أن أتكلم في موضوع لا
أتعداه ، ومرتجل الكلام لا يستطيع حصره في موضوع واحد ، لأن الخطب
الارتجالية حُرّة مثلكم أيها السادة فهي تَأْبَى التقييد ، وقد جعلت موضوع خطابي هذا
( كيف نستعمل الحرية ) لأننا أحوج إلى هذا الموضوع الآن من سائر المواضيع .
خاض الخطباء في تعريف الحرية وحدودها ، حتى كادوا يضعون لها قيودًا ،
ويخرجونها عمّا وجدت له ، ولو كانت ذات شعور لعجبت كيف يحاول تقييدها
طلقاؤها ! .
وكاد قوم بهذه النواحي يشوهون وجهها الجميل ، ويشوشون مفهومها المستبين ،
فظنوا أن الحرية تبيح للناس امتهان حكامهم ، والنعي على صالحهم وطالحهم .
سادتي : إن من يدفع عن مركزه بقوة ، إنما يرجع إليه مثل القوة التي دفع بها ،
فإذا كانت المظالم زحزحتنا بقوتها الوحشية عن مكاننا ، فنحن لا نرتكز في نقطة
إلا إذا دفعنا تلك المظالم في صدرها ، وأنحينا باللائمة على القائمين بها .
الشعب الذي يغلو الحكام في ظلمه ، يجب أن يتطرف في الحرية متى نالها .
الحاكم المسترسل بالظلم ، الملوث بالرشوة ، لا يفيقه من سكرة الاستبداد إلا
التقريع الفظيع ، والتنديد الشديد ، فهو كالعضو المخدر ، لا يحس إلا بالوخز المؤلم
وربما لا يحس به .
كل هذا أيها الإخوان لازم بل واجب ، ولكن لا يسوغ أن نجعله دينًا لنا حتى
كأنه هو المقصود بكلمة الحرية ، إذًا نكون صرفنا الحرية عن معناها ، ولم نعرف
كيف نستعملها ، وحاشا ثم حاشا ، وكلاّ ثم كلاّ .
أيها الشعب السوري العظيم ، يا سلالةَ الفينيقيين الذين أدهشوا العالم ، الذين لم
تَهَبْ سفنهم هجمات أمواج المحيط الأعظم ، الذين ملأ ذكرهم بطون التواريخ ، إنني
أحييك وأهش لك ، أُحيّيك باسم الحريّة ، وأناديك بملء ماضغيّ : أنت أسمى من أن
تضع الحرية في غير موضعها ، وأنت أحق بها وأهلها ، بل إنما وجدت لتكون لك
قبل كل البشر .
الحرية هي تمتع الشخص بما لا يضير به سواه ، وصيانة الأفراد من عبث
الحاكمين ، وسهولة سلوك السبل التي من شأنها إعلاء شأن الأمة ، وتبسط أبنائها في
الحضارة والعمران ، وعدم استكانتهم للظلم والهوان .
أبيح لنا القول أيها الإخوان ، فاسترسلنا في القول ، والقول مقدمة للعمل فيجب
أن نعمل أيضًا .
وضح لنا نهج المعين الذي ارتوى منه الإفرنج قبلنا ، فلا يحسن بنا أن
نرتشف منه ارتشافًا ، بل يجب أن نبتلعه ابتلاعًا إذا قدرنا .
أتيح لنا أن نعمل ما نشاء ، فلا يليق بنا أن نعمل ما من شأنه إضعاف قُوَانا
وإنهاك جسومنا ، بل يجب أن نعمل على ما يرفع شأننا ، ويجعلنا في مَصَافّ الأمم
الحيّة الراقية ، وبذلك نحسن استعمال الحرية .
الجمعيات هي أساس النجاح ، ودعائم الرّقيّ ، فيجب أن نؤسس جمعيات ، لا
يسوغ أن تكون جمعياتنا لطائفة من الناس ، لا يجوز أن تكون إسلامية أو مسيحية
أو يهودية مهما كانت وجهتها ، وأنّى كان قصدها ، بل يجب أن تكون عثمانية بحتة ،
أنتم عثمانيون أيها الإخوان ، فيجب أن تكون جمعياتكم عثمانية ، الجامعة التي
تنضمّون تحت لوائها هي العثمانية ، فاجعلوها جمعياتكم كذلك تحسنوا استعمال
الحرية .
عاشرت اثنين أيها الناس منذ بضع سنين اسمهما مشترك بين المسلمين
والنصارى ، وأنا للآن لا أعرف إنْ كانا مسلمَيْنِ أو نَصْرَانِيَّيْنِ ، ويجب أن
تكونوا أنتم كذلك أيضًا ، يجب أن تتعارفوا بعثمانيّتكم لا بمذهبكم ونحلتكم ، أليس
كذلك ؟ بَلَى , بَلَى .
المدارس الوطنية هي كل ما نحتاجه الآن ؛ لننهض من كبوتنا ، ونُقَال من
عثرتنا ، وليس عندنا الآن مدارس وطنيّة بالمعنى الذي أريده ، أريد بالوطنيّة التي
تضمّ الفِرَق والنِّحَل ، وتنشئ طلاّبَها تنشئة واحدة ، غايتها إعلاء شأن الوطن ،
ووقاية الحرية بالمهج والأرواح ، والمدارس هي نبت الجمعيات وبنتها , فمتى
أنشئت الجمعيات فقد أسست المدارس ، فأنشئوا الجمعيات أنشئوا الجمعيات تحسنوا
استعمال الحرية .
الجرائد هي القوة الكبرى والمدرسة التهذيبية ، وهي ميزان أعمال الأمة ،
وعنوان حالها ، وهي المسيطر الرقيب على الحكومة , بل إن رقابتها تتناول كل
شيء ، وهي قائد الأمة إلى مواطن السعادة والهناء ، والصادقة بها عن معاطن البوار
والشقاء ، فيجب أن تكثر الجرائد بيننا ويعمّ انتشارها وبذلك نحسن استعمال الحرية .
الخطابة هي مدرسة الشعوب الثانية بعد الجرائد ، ولها من العوامل في التأثير
الكبير ، ومن البواعث على العمل المفيد ، ما يرفع ويعلي ، وينتاش الأمم من
الحضيض الأسفل ، وينيف بها على يفاع المجد والسؤدد ، وإذا كانت الجرائد للقراء
فقط فإن الخطب يتناولها سمع القارئ والأمي ، ويستفيد منها العامل والجاهل ،
والنشيط والخامل ، والصانع ، والزارع ، بل هي لكل أحد ، والخطابة الحرة كانت
ولا تزال من الدعائم التي يشاد عليها بناء التمدن الباهر ، ويرتفع بها صرح المجد
الحقيقي ، فالمنابر المنابر ! ! ! لا تهملوا شأنها ، ارفعوا أعوادها ، ليرنّ صوت
خطبائها ، ليهتفوا فلتدم الحرية ، فبذلك نحسن استعمال الحرية .
التآلف بين الفِرَق والنِّحَل هو الضامن الوحيد لبقاء وَحْدَتنا ، واجتماع قوانا ،
والمحافظة على حريتنا ، وبه نرد عادية المظالم ، وندفع غائلة الظالم ، وهو الذي
يجعل مجموع أفراد الأمة كالجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر
الجسد بالسهر والحمى ، أو كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا ، كما ورد في
الحديث الشريف ، فيجب أن نتآلف ، يجب أن نتآلف ، يجب أن نتآلف ، لنحسن
استعمال الحرية ، فليدم التآلف .
إن استعمال الحرية يكون بالسير على النهج الذي أشرعته لكم أيها السادة ،
وثَمَّة شئون أخرى ، يضيق مثل هذا الموقف عن استيعابها ، ولنا من حزم رجالنا
خير كفيل للسير على النهج السوي ، والطريق المعبّد ، والأمل معقود على أن
يبينوها بالعمل لا بالقول .
بقيت لي كلمة أُرَانِي مُلْجَأً إلى الجهر بها ، قبل نزولي عن هذا المنبر ، تلك
الكلمة هي إعلان استيائي واستياء العقلاء ، ممن يذهبون إلى أن الحريّة منحة أو
هبة من شخص معلوم ، إن هذا القول لا يليق صدوره من الأحرار ، إنه كذب
وخيانة ونفاق ، وليست هذه الخصال من الحرية في شيء ، إن الحرية هي حق
للشعب يسلبه منه بعض الظالمين سلبًا ، فنيل الشعب له إنما هو استرداد لحقه
المغتصَب منه ، وليس من الهبات والمنح ، الحرية ليست ملكًا للحاكم ولا للسلطان
فكيف يهب الإنسان ما ليس بملك له .
هذا , وإنني أشكر لجيشنا الباسل سعيه الكبير ، وعمله العظيم ، الذي خالف به
كل جيوش العالم ، منذ وجد الجيش وأسست الجندية ، فإن الجيوش في كل الأدوار
والأجيال ، كانت يد الظالم القوية ، يستعين بها على قتل روح الحرية ، ولا أذهب
بالاستشهاد بكم بعيدًا أيها السادة ، بل أُلْفِتُ أنظارَكم إلى فظائع جيش العجم ،
ومنكرات جيش روسيا ، وكيف يمثلون بطلاب الحرية أقبح تمثيل عملاً بإرادة
المستبدّين ، وتنفيذًا لمقاصد الظالمين ، فليمت المستبدّون ، وليسحق الظالمون .
وأشكر أيضًا لرجال جمعية الاتحاد والترقي العثماني ، ولكل رجال الإصلاح
الذين وقفوا حياتهم ، وخاطروا بأرواحهم ، في سبيل استرجاع الحرية ، وأصرح بأن
جمعيتهم قامت بما لم تقم به جمعية في العالم منذ أسست الجمعيات ، فإنها كانت سببًا
في إحياء شعب بأسره ، لأن الشعب المستعبَد هو والميت شرع ، هذا مع اعترافي
بما للجمعيات من الأثر المحمود في خدمة النوع الإنساني .
وأسأل الله أن يوفقنا للسير على ما يُعْلِي شأنَ أُمَّتِنا ، ويرفع مقام دولتنا ،
ويحفظ علينا نعمة الحرية مادامت السموات والأرض . ا هـ .

.
__________
(*) خطبة من الخطب التي ألقاها في إحدى احتفالات الحرية ببيروت السيد حسين وصفي رضا عام 1908م