العمل
لئن كان للطبيعة حق الأولوية في إحداث الثروة ، سواء في أرضها الخصبة ،
أو في أحراشها الكثيفة ، أو في مناجمها الكثيرة المعادن ، أو في مراعيها الغزيرة
الكلأ ، أو في أنهارها المتدفقة بالخيرات ، فإن المدار في استثمار كل ذلك على
العمل ولو قليلاً ، فلا بُدَّ من فلح الأرض وبذر الحبوب قبل أن تجود الطبيعة بنعمائها ،
وتبذل الأرض غلتها ، ولا بُدَّ من احتفار المناجم قبل استخراج كنوزها ، ولا بُدَّ
من جني الثمار قبل التمتع بلذيذ طعمها . فالعمل ضروري للعمران ، ولازم لكل
موجود ، وهو للموارد الطبيعية التي هي ينابيع الثروة بمثابة الدلو من البئر ، إذ
لولاه ما قدر أحد على الاغتراف منها .
وقد وفى الدين العمل قسطه من المدح ، حيث حثّ على التمسك به ، فقال عز
وجل في سورة مريم : { وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي
وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا } ( مريم : 25-26 ) وهو أمر به ؛ لأنه إذا كان جلّ شأْنُه
يأمر السيدة مريم ، وهي في وقت المخاض ، بهزّ جذع النخلة قبل أن يتساقط عليها
التمر ، مع أنه قادر على أن يكفيها مئونة ذلك التعب ، فمن البديهي أنه يأمر كل فرد
من أفراد الهيئة الاجتماعية بالسعي في تحصيل رزقه ، ولا سِيَّمَا إذا كان صحيح
الجسم . وقال تعالى في آية أخرى : { وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا } ( النبأ : 10-11 ) أي وقتًا يلزم فيه السعي لتحصيل العيش وترقب الرزق بالعمل ،
وقال : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ } ( الجمعة : 10 ) وهو أمر بوجوب جوب البلاد ، والضرب في طولها وعرضها
رغبةً في العمل والانتفاع بما خلق جلت عظمته من الخيرات ، وقال : { فَابْتَغُوا
عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ } ( العنكبوت : 17 ) أي : اعملوا حتى تحصلوا على ما يقوم
بضروراتكم ، وقال : { فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } ( الملك :
15 ) وقال : { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى } ( النجم : 39 ) وكان النبي
صلى الله عليه وسلم جالسًا مع أصحابه ذات يوم فنظروا إلى شابّ ذي جلد وقوة ،
وقد بكر يسعى ، فقالوا : وَيْحَ هذا ! لو كان شبابه وجلده في سبيل الله ، فقال النبي :
( لا تقولوا هذا ؛ فإنه إن كان يسعى على نفسه لِيكفيَها المسألة ويغنيها عن الناس ،
فهو في سبيل الله ، وإن كان يسعى على أبوين ضعيفين أو ذرية ضعاف ليغنيهم
ويكفيهم ، فهو في سبيل الله ) وقال : ( احرث لدنياك كأنك تعيش أبدًا ) وقال :
( لأَنْ يأخذ أحدكم حبله فيحتطب ، خير من أن يأتي رجلاً أعطاه الله من فضله
فيسأله أعطاه أو منعه ) وقال : ( ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل
يده ، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده ) رواه البخاري ، وهكذا فضل النبي
العمل في أية حرفة على الاستنامة إلى الكسل ، وإراقة ماء الوجه في الطلب . وجاء
في الإنجيل ما معناه : ( تأكل خبزك بعرق جبينك ) , وهو حث على العمل طلبًا
للارتزاق . وروي أن سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام رأى رجلاً فقال ما تصنع ؟
قال : أتعبّد ، قال ومن يعولك ؟ قال أخي ، قال : أخوك أعبد منك . وقال عمر بن
الخطاب : ( ما مِن موطن يأتيني الموتُ فيه أحب إليّ مِن موطن أتسوق فيه لأهلي
أبيع وأشتري ) , وقال : ( لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق , ويقول : اللهم ارزقني ،
فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة ) ، وقيل للإمام أحمد : ما تقول فيمن
جلس في بيته أو مسجده وقال : لا أعمل شيئًا حتى يأتيني رزقي ؟ فقال أحمد :
( هذا رجل جهل العلم ، أما سمِع قولَ النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله جعل
رزقي تحت ظل رمحي ) . وقوله عليه السلام حين ذكر الطير فقال : ( تغدو
خماصًا وتروح بطانًا ) ، فذكر أنها تغدو في طلب الرزق .
هكذا يحث الدين على العمل ويرغب فيه مراعاة لتقدم العمران ، ومحافظة
على النوع الإنساني من الفَنَاء ، ومن ذلك تظهر حطة أولئك الذين يرون التوسل
وسيلة للارتزاق ، والتسول حرفةً للعيش ، أولئك الذين لم يعرفوا مَزِيّة العمل
وعلاقته بالسعادة ، ففضلوا مدّ أيديهم للسؤال على مدها للعمل ، واستسهلوا أن يكونوا
كالكلاب تأكل كل ما يلقى إليها ، أولئك هم الذين يحل الشقاء بالبلد الذي يحلون فيه ،
فهم يستنفدون ثروته ، ويستنزفون خيراته ، بدون أن يسعوا في إحداثها .
العمل هو أساس الثروة ، فكيف ينتظر النجاح بدونه ، وهو دعامة كل ما نراه
في العالم مِن التقدم في المدنية . ما رأينا بلدًا تمسك أهله بأهداب العمل إلا وتحولت
فيه الصحاري القفراء إلى حدائقَ غَنّاء ، وجادت الأرض بكنوزها ، وانْسَابَ الذهب
إلى جيوب أهلها . لولاه لم يَصِرِ الترابُ تِبْرًا ، وتتبدل المفاوز بمعاهد للعلوم ،
ومعابد للنسك ، ومعامل للصناعة . لولاه ما ضحكت الأرض من بكاء السماء ، ولا
ابتسمت الأزهار في الأكمام ، ولا حملت الأشجار لذيذ الثمار من كل زوجين اثنين ؛
إذ إنه لا بُدَّ من غرسها قبل أن تصير دانية ظلالها ، مذللة قطوفها ، ولا غنى عن
تعهدها قبل أن تترعرع أغصانها ، وتصير دوحة تناطح السحاب . لولاه ما استنبط
الإنسان الوسائل التي يسخر بها القوى الطبيعية ، ويتغلب على الصعاب ، ويقرب
المسافات بالبخار والكهرباء ، ويجعل كليهما رهين إشارته . لولاه ما أخذت الأرض
زخرفها ، وبلغت من المدنية غايتها ، وبدت آثار العمران في أنحائها ، وصارت
معمورة ، يتزايد سكانها في كل عام ، وتتضاعف ثروتها آنًا فآنًا .
من ينكر فضل العمل في إحداث الثروة ، فليرجع ببصره الكَرّة إلى ( أستراليا )
في الماضي يجدها في آخر درجة من الانحطاط ، لخمول سكانها الأصليين ،
وكثرة اتِّكَالهم على الموارد الطبيعية ، ويشاهدها الآن ، وقد نالت من العمران حظًّا
وافرًا ، وجرت في المدنية شوطًا بعيدًا . ذلك لأن قومًا عرفوا مَزِيّة العمران
استوطنوها ، فنهلوا من تلك الموارد ، وعملوا في بَرّها وبَحْرها ، واحتفروا المناجم
واستخرجوا كنوزًا دفنتها الأرض في بطنها أجيالاً ، وحافظت عليها لمن يُقِّدُر العمل
حقَّ قدره . فطبيعة تلك البلاد لم تتغير ، وإنما تغير سكانها . بل ما لنا وللتمثيل
بأستراليا ، وأمامنا شبه جزيرة العرب التي كانت محطّ رحال المدنية ، ومهبط العلوم
والعرفان ، ومصدر العمران ، ما لها قد عفت آثار مدنيتها ، ودالت دولة ملوكها ،
واندرست معالم علومها ، واندثرت معارفها ، وصار ذلك المجد القديم ، والسؤدد
الماضي ، أشبه بحلم حالم ! ! ؟ أليس السبب هو أن ذلك السلف الصالح خلف مِن
بعدهم خلفٌ أضاعوا الجد الموروث ، وأهملوا العمل ، وتمسكوا بأذيال الكسل ، حتى
صاروا قديمًا في عالم جديد { وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ } ( الكهف : 18 ) .
كان ( كسناي ) وأضرابه يعتبرون الأرض الوسيلة الوحيدة لإحداث الثروة ،
ويبخسون العمل حقه في الإحداث ، وذلك زعم صحيح من جهة أن الأرض ينبوع
المواد التي تقوم بها الصناعة ، فلا يقدر الصانع على نسج ثوب بدون قطن ،
ويستحيل عليه صناعة آلة حديدية بدون حديد ، ولكن ( كسناي ) بخس العامل حقه ،
وأنكر عليه تحويله الحديد من شكله الطبيعي ، حيث لا ينتفع به ، إلى شكل يصير
بواسطته آلة بخارية يتهافت الناس على ابتياعها . أنكر على العالم الكيماوي تركيبه
لدواء فيه شفاء للناس من مواد طبيعية لا تفيد كثيرًا ، وهذا ما لا ترضاه العدالة ،
على أنه بعد ( كسناي ) كما قدمنا أتيح للعمل أن يأخذ ( آدم سميث ) بناصره ،
ويظهر فضله ، ويطنب في مدحه ، ومن ثم أخذ مقامه في الصعود ، ونجمه في
السعود ، حتى لقد قال فيه العلامة ( جيد ) : إنه هو الجدير دون غيره أن يكون
الوسيلة في إحداث الثروة حقيقة ؛ إذ الإنسان هو المنتج الحقيقي لها ، وما الطبيعة
إلا طوع إرادته ، يحركها كيف شاءت تلك الإرادة .
* * *
أ- أدوار العمل
( عصر الصيد )
في ذلك العصر كان الإنسان قليل العمل ، كثير الاعتماد على الطبيعة ، يعيش
من صيد البر أو البحر ، وكان رحالاً كالأنعام السائمة ، يسكن البقاع الكثيرة القنص ،
كما تأوي هذه إلى المروج الغزيرة الكلأ ، ويلقي عصا الترحال إذا قل الصيد ، كما
تفعل هي إذا غيض الماء أو جفت المراعي . وقد كان في ذلك الدور مهددًا بخطرين :
الوحوش الكاسرة ، والمجاعات المهلكة ، لقلة ادخاره ، لما يقتات به في إعساره ،
فالويل له إذا أصابه مرض أقعده عن الصيد ، أو انتابه حر أو برد منعه عن مطاردة
فريسته ، والويل له إذا كان ضعيف النكاية أعداءه ( كذا في الأصل ) الذين يداهمونه
لسلب ما اقتنصه . وكان عدم ادخاره راجعًا إلى أسباب كثيرة ، منها عدم احترام
الحقوق ، فكان حقه مزعزعًا لا يقدر هو على حمايته ، وليس هناك حكومة تدافع
عنه ، ومنها عدم وجود مسكن له أو ذرية في أغلب الأحيان ، ولذا لم يوجد عنده ما
يدعوه إلى الاحتفاظ بالقوت تحرزًا للمستقبل .
* * *
( عصر الرعاية )
ولما رأى نفسه معرضًا للمجاعات القتالة التي كانت تجتاحه من وقت إلى آخر ،
ورأى أنه ملزم بالنفقة على زوجته وأولاده ، توجهت همته إلى تدجين الحيوانات
النافرة كالإبل والخيل والغنم وغيرها ، مما كان لا ينتفع به كثيرًا . ووجد من أهله
وذويه من يساعده على رعي تلك الإبل والغنم في الوديان والمروج الفسيحة التي
تحيط به ، والانتقال بها من مكان إلى آخر . وفي ذلك العصر ازداد عدد الناس عما
كانوا عليه ، وتألفت منهم قبائل كثيرة كانت ثروة كل واحدة منهن تقدر بعدد رءوس
الإبل أو الغنم التي تملكها ، كما كانت الحال عند العرب والتركمان ، وكما هي الآن
عند العرب الرحالة والزط . ويمكننا أن نعزو كثرة عدد الناس إلى سببين :
( الأول ) كثرة نتاج الحيوانات التي كانوا يربونها حتى صاروا في سَعَة من
العيش ، فكانوا ينتفعون بألبانها وأوبارها ولحومها وجلودها ، حتى قلت المجاعات
بينهم .
( الثاني ) ازدياد العصبية في كل واحدة من تلك القبائل ، مما جعل حق
الملكية مضمونًا نوع ضمان ، وحبب إلى كل فرد اقتناء الحيوانات فزادت الثروة
وزاد العدد .
* * *
( عصر الزراعة )
وكانت النتيجة الطبيعية لزيادة عدد السكان هي الازدحام على المراعي
بالحيوانات ، مما جعل حشائشها التي غرستها يد الطبيعة غير كافية لسد الحاجة ،
فعمد الناس إلى معالجة الزراعة من إثارة الأرض ، وبذر الحبوب فيها وتعهدها
بالسقي ، حتى نبت ما يكفي لمئونتهم ولأنعامهم . واستخدموا في الزراعة كثيرًا من
تلك الحيوانات ، ومن ذلك العصر ظهر العمل بمظهر أجلى ، إذ لم يعد الإنسان
مُفوِّضًا كلَّ أموره للطبيعة ، يأوي حيث نبتت حشائشها ، ويرحل إذا جفت خيراتها ،
بل أخذ يُعوِّل على مِعْوَله ، فيحول به الأرض المجدبة إلى مزارع كثيرة الخيرات ،
وانبنى على رغد عيشه تقدم عظيم في أحواله الأدبية ، فنظم معيشته وظهرت
الحكومات لأول مرة بالمعنى الذي نراها به الآن ، ولا حاجة بنا إلى القول : إن
معظم الأمم المتمدينة في الزمن الماضي كانت تعالج الزراعة في أول أمرها قبل أن
ترسخ قدمها في المدنية . والسبب في ذلك بساطة الزراعة ، وعدم احتياجها إلى كثير
تفكير أو كبير عناء ، على أن تلك الأمم نفسها وَجَّهَتْ همتها بعد أن تم لها
الأمر إلى استجادة الصنائع على اختلاف أنواعها .
* * *
( عصر الصناعة )
الصناعة أثر من آثار المدنية ، تتوجه الهمم إليها عند بزوغ شمسها ، وتستجاد
إذا زخر بحر العمران ، والسبب في ذلك راجع إلى أمرين :
( الأول ) أن الإنسان لا تتوق نفسه إلى الكماليات ، كالصناعات المختلفة ،
إلا بعد تحصيل الضروري من مأكل وملبس .
( الثاني ) هو أن معظم الصناعات المختلفة تحتاج إلى الممارسة والتعليم ،
وهما لا يوجدان في وسط الأمم المتوحشة ، ومن الصنائع ما هو مقدم ، كصناعة
النجارة والحدادة والبناء والخياطة ؛ لأن منفعتها ظاهرة لبناء المسكن وعمل الملبس ،
ولذا توجد أحيانًا بحالة ساذجة ، ومنها ما لا يوجد في الأمة إلا إذا تفننت وتنوعت
أساليب مدنيتها ، كصناعة الرسم وصناعة الطباعة وتجليد الكتب [2] ، وكلما علا
كعب الأمة في العمران ابتدعت الصنائع المختلفة ، واستنبطت الاختراعات المفيدة ،
وارتقت فيها الأعمال العقلية الضرورية للصنائع ، كالتعليم والتأليف .
* * *
( عصر استخدام البخار )
على أنه مهما يكن من تقدم الصناعة عند بعض الأمم في الأحقاب الغابرة ،
فإن اختراع البخار في القرن الماضي ، جعل صناعة الزمن الحاضر متقنة ، وصار
العامل بدل أن يستغرق وقتًا طويلاً في الصناعة ، يدير الآلة البخارية فتكفيه مئونة
التعب .
* * *
ب- الأعمال العقلية
ولا مشاحَّة في أن عمل الإنسان في الأدوار التي تقدمت لم يكن يدويًّا محضًا ،
بل لا بُدَّ له من أعمال عقلية ولو قليلة ، لأنه لا ينتظر أن يصنع الإنسان عدة للصيد
أو آلة لفلح الأرض أو يبذر الحبوب ، إلا بعد التفكير الذي هو المميز للإنسان من
الحيوان ، ولا يتصور أن يستوعب الصنائع إلا بعد أن يعرف دقائقها من المعلم ،
ويتعلم العلوم المرتبطة بها ، ثم هو لا يقدر على تعهد الأرض ما لم يوجد هناك حاكم
يمنع عنه تعدي الغير ، ومهندس يسهل له الري ، ولم ينتفع بالآلات البخارية في
الزراعة والصناعة إلا بعد أن أجهد المخترعون ( كجيمس وات ) وغيره قرائحهم
حتى وصلوا إلى استخدام البخار ، فالأعمال العقلية ضرورية للأعمال اليدوية ،
كالزراعة والصناعة ، وهي مقدمة عليها حتى في أحقر الصنائع .
* * *
ج- الأعمال المنتجة للثروة
اختلفت الآراء من عصر إلى آخر في تحديد الأعمال البشرية التي تكون
نتيجتها زيادة ثروة الأمم ، أما العرب فكانوا يرون - كما يؤخذ من كلام الحريري
وغيره من الحكماء - أن المعاش إمارة وتجارة وفلاحة وصناعة ، وقد قال الخليفة
المأمون : ( الناس أربعة : ذو سيادة أو صناعة ، أو تجارة أو زراعة ، فمن لم يكن
منهم كان عيالاً عليهم ) , ويفهم من ذلك أن تلك الأعمال الأربعة هي التي كانت
معتبرة مُحْدِثَة للثروة ، بمعنى أن عمل الحاكم الذي يقي البلاد شر العدو ، ويرد
المظالم ، وينظم الري ، هو عمل يزيد في الثروة ، وكذلك عمل الصانع الذي يوجد
منافع للمواد الأولية ، والتاجر الذي يتوسط في جلب تلك المصنوعات وتسليمها
لطالبيها ، والزارع الذي يقوم بإثارة الأرض وبذر الحب فيها حتى تنبت ما يسد
الحاجة ، وأما أعمال غيرهم فلم تكن محدثة للثروة ، وأما الطبيعيون ، وهم ( كسناي )
ومن كان على مذهبه ، فقد تقدم أنهم كانوا يعتبرون أن المحدث للثروة من الأعمال
ما كانت متعلقة بالأرض من إثارتها وحرثها وبذر الحبوب فيها ، وبناء على ذلك
قسموا الناس إلى ثلاث طبقات : طبقة ملاك الأراضي ، وهم المحدثون للثروة حقيقة ؛
وطبقة الفلاحين ، وهم الذين يساعدون على هذا الإحداث ، وغيرهم من السكان ،
كذوي الإمارة وذوي التجارة وذوي الصناعة ، وكانوا يرون هؤلاء عيالاً على
الطبقتين الأُولَيَيْنِ . ولكن ( آدم سميث ) لم يَنْحْ نَحْوَ أولئك الاقتصاديين ، فقد اعتبر
الصناعة والتجارة والإمارة من الأعمال المنتجة للثروة ، وتبعه من أتى بعده من
الاقتصاديين .
ويمكننا أن نقسم الأعمال ( أولاً ) إلى ما هي مباشرة لإعداد سلعة من السلع
للقيام بسد حاجة من حاجات الإنسان ، وهذه محدثة للثروة بلا خلاف ، مثال ذلك
العمل الذي يتكبده كل من حارث الأرض وباذر القمح وحاصده ودارسه وطاحنه
وعاجنه وخابزه ، لأن كلاًّ منها موجه إلى إعداد الخبز مباشرة ، وإن تنوعت حالات
القمح المراد جعله خبزًا ؛ ( ثانيًا ) إلى غير مباشرة لإعداد الصِّنْف ، وهذه إمّا يدوية
أو عقلية ، أما الأولى فلا يخلو حالها من أحد أمور خمسة :
( أ ) الأعمال التي يتكبدها الناس في استخراج المواد الأولية اللازمة
للصناعة ، كاحتفار المناجم وتشذيب الأشجار وغير ذلك ، وهذه بالطبع منتجة
مادامت نتيجتها تستخدم في الصناعة .
( ب ) الأعمال التي تصرف في إعداد الآلات اللازمة لصناعة الصنف ،
مثال ذلك شغل الحداد في تجهيز المحراث أو آلة الغزل .
( ج ) الأعمال التي يكون من شأنها بناء المحلات المعدة للصناعة كالمعامل
والأحواض ، وهكذا لأنه لولا تلك المحال لما توفر إعداد البضائع القطنية مثلاً أو
المراكب .
( د ) ما يوجه من الأعمال إلى الحصول على طعام وكساء ولوازم للصناع
مادامت تلك الحاجات غير خارجة عن حدّ الكفاية ، أو للحصول على الفحم اللازم
لتسيير الآلات البخارية في حالة ما إذا كان الصانع لا يشتغل بيده .
( هـ ) الأعمال التي بواسطتها يمكن نقل الصنف إلى حيث يطلبه الناس ،
ويدخل فيها عمل الحمالين في البر وصناعة المراكب والآلات البخارية , وبناء
الأحواض والأرصفة , وأعمال أمناء النقل والمراكبية , وجميع التجار والمتسببين
والسماسرة , والأعمال التي تحسنت بواسطتها الطرقات وغير ذلك .
أما العقلية فمنها ما هو متعلق بالصناعة أو الزراعة أو التجارة ؛ كالاختراع ,
والتأليف , وتعليم الصناعات , والتفنن في ابتداعها وترويجها ، ولا شكَّ في أن هذه
منتجة ، ولا فرْقَ بين أن تكون هذه موجهة إلى الزراعة أو الصناعة أو التجارة ،
ويدخل تحت هذه أعمال الري على اختلاف أنواعها ، وجميع ما تعمله الحكومة أو
الأهالي لترقية الصناعة أو التجارة أو الزراعة ، ولا جُنَاحَ علينا إذا نحن عَدَدْنَا
ضمن تلك الأعمال ، ما يبذله الفلاسفة والحكماء من الأفكار لتعضيد الحالة
الاقتصادية والاجتماعية ، وما تبذله الحكومة مِن بثّ العدل في الربوع ، والمحافظة
على الأمن ، سواء بِسَنِّ القوانين أو الأعمال الحربية بَرِّيَّةً كانت أو بَحْرِيَّةً .
__________
(2) انظر مقدمة ابن خلدون .
أو في أحراشها الكثيفة ، أو في مناجمها الكثيرة المعادن ، أو في مراعيها الغزيرة
الكلأ ، أو في أنهارها المتدفقة بالخيرات ، فإن المدار في استثمار كل ذلك على
العمل ولو قليلاً ، فلا بُدَّ من فلح الأرض وبذر الحبوب قبل أن تجود الطبيعة بنعمائها ،
وتبذل الأرض غلتها ، ولا بُدَّ من احتفار المناجم قبل استخراج كنوزها ، ولا بُدَّ
من جني الثمار قبل التمتع بلذيذ طعمها . فالعمل ضروري للعمران ، ولازم لكل
موجود ، وهو للموارد الطبيعية التي هي ينابيع الثروة بمثابة الدلو من البئر ، إذ
لولاه ما قدر أحد على الاغتراف منها .
وقد وفى الدين العمل قسطه من المدح ، حيث حثّ على التمسك به ، فقال عز
وجل في سورة مريم : { وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي
وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا } ( مريم : 25-26 ) وهو أمر به ؛ لأنه إذا كان جلّ شأْنُه
يأمر السيدة مريم ، وهي في وقت المخاض ، بهزّ جذع النخلة قبل أن يتساقط عليها
التمر ، مع أنه قادر على أن يكفيها مئونة ذلك التعب ، فمن البديهي أنه يأمر كل فرد
من أفراد الهيئة الاجتماعية بالسعي في تحصيل رزقه ، ولا سِيَّمَا إذا كان صحيح
الجسم . وقال تعالى في آية أخرى : { وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا } ( النبأ : 10-11 ) أي وقتًا يلزم فيه السعي لتحصيل العيش وترقب الرزق بالعمل ،
وقال : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ } ( الجمعة : 10 ) وهو أمر بوجوب جوب البلاد ، والضرب في طولها وعرضها
رغبةً في العمل والانتفاع بما خلق جلت عظمته من الخيرات ، وقال : { فَابْتَغُوا
عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ } ( العنكبوت : 17 ) أي : اعملوا حتى تحصلوا على ما يقوم
بضروراتكم ، وقال : { فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } ( الملك :
15 ) وقال : { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى } ( النجم : 39 ) وكان النبي
صلى الله عليه وسلم جالسًا مع أصحابه ذات يوم فنظروا إلى شابّ ذي جلد وقوة ،
وقد بكر يسعى ، فقالوا : وَيْحَ هذا ! لو كان شبابه وجلده في سبيل الله ، فقال النبي :
( لا تقولوا هذا ؛ فإنه إن كان يسعى على نفسه لِيكفيَها المسألة ويغنيها عن الناس ،
فهو في سبيل الله ، وإن كان يسعى على أبوين ضعيفين أو ذرية ضعاف ليغنيهم
ويكفيهم ، فهو في سبيل الله ) وقال : ( احرث لدنياك كأنك تعيش أبدًا ) وقال :
( لأَنْ يأخذ أحدكم حبله فيحتطب ، خير من أن يأتي رجلاً أعطاه الله من فضله
فيسأله أعطاه أو منعه ) وقال : ( ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل
يده ، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده ) رواه البخاري ، وهكذا فضل النبي
العمل في أية حرفة على الاستنامة إلى الكسل ، وإراقة ماء الوجه في الطلب . وجاء
في الإنجيل ما معناه : ( تأكل خبزك بعرق جبينك ) , وهو حث على العمل طلبًا
للارتزاق . وروي أن سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام رأى رجلاً فقال ما تصنع ؟
قال : أتعبّد ، قال ومن يعولك ؟ قال أخي ، قال : أخوك أعبد منك . وقال عمر بن
الخطاب : ( ما مِن موطن يأتيني الموتُ فيه أحب إليّ مِن موطن أتسوق فيه لأهلي
أبيع وأشتري ) , وقال : ( لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق , ويقول : اللهم ارزقني ،
فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة ) ، وقيل للإمام أحمد : ما تقول فيمن
جلس في بيته أو مسجده وقال : لا أعمل شيئًا حتى يأتيني رزقي ؟ فقال أحمد :
( هذا رجل جهل العلم ، أما سمِع قولَ النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله جعل
رزقي تحت ظل رمحي ) . وقوله عليه السلام حين ذكر الطير فقال : ( تغدو
خماصًا وتروح بطانًا ) ، فذكر أنها تغدو في طلب الرزق .
هكذا يحث الدين على العمل ويرغب فيه مراعاة لتقدم العمران ، ومحافظة
على النوع الإنساني من الفَنَاء ، ومن ذلك تظهر حطة أولئك الذين يرون التوسل
وسيلة للارتزاق ، والتسول حرفةً للعيش ، أولئك الذين لم يعرفوا مَزِيّة العمل
وعلاقته بالسعادة ، ففضلوا مدّ أيديهم للسؤال على مدها للعمل ، واستسهلوا أن يكونوا
كالكلاب تأكل كل ما يلقى إليها ، أولئك هم الذين يحل الشقاء بالبلد الذي يحلون فيه ،
فهم يستنفدون ثروته ، ويستنزفون خيراته ، بدون أن يسعوا في إحداثها .
العمل هو أساس الثروة ، فكيف ينتظر النجاح بدونه ، وهو دعامة كل ما نراه
في العالم مِن التقدم في المدنية . ما رأينا بلدًا تمسك أهله بأهداب العمل إلا وتحولت
فيه الصحاري القفراء إلى حدائقَ غَنّاء ، وجادت الأرض بكنوزها ، وانْسَابَ الذهب
إلى جيوب أهلها . لولاه لم يَصِرِ الترابُ تِبْرًا ، وتتبدل المفاوز بمعاهد للعلوم ،
ومعابد للنسك ، ومعامل للصناعة . لولاه ما ضحكت الأرض من بكاء السماء ، ولا
ابتسمت الأزهار في الأكمام ، ولا حملت الأشجار لذيذ الثمار من كل زوجين اثنين ؛
إذ إنه لا بُدَّ من غرسها قبل أن تصير دانية ظلالها ، مذللة قطوفها ، ولا غنى عن
تعهدها قبل أن تترعرع أغصانها ، وتصير دوحة تناطح السحاب . لولاه ما استنبط
الإنسان الوسائل التي يسخر بها القوى الطبيعية ، ويتغلب على الصعاب ، ويقرب
المسافات بالبخار والكهرباء ، ويجعل كليهما رهين إشارته . لولاه ما أخذت الأرض
زخرفها ، وبلغت من المدنية غايتها ، وبدت آثار العمران في أنحائها ، وصارت
معمورة ، يتزايد سكانها في كل عام ، وتتضاعف ثروتها آنًا فآنًا .
من ينكر فضل العمل في إحداث الثروة ، فليرجع ببصره الكَرّة إلى ( أستراليا )
في الماضي يجدها في آخر درجة من الانحطاط ، لخمول سكانها الأصليين ،
وكثرة اتِّكَالهم على الموارد الطبيعية ، ويشاهدها الآن ، وقد نالت من العمران حظًّا
وافرًا ، وجرت في المدنية شوطًا بعيدًا . ذلك لأن قومًا عرفوا مَزِيّة العمران
استوطنوها ، فنهلوا من تلك الموارد ، وعملوا في بَرّها وبَحْرها ، واحتفروا المناجم
واستخرجوا كنوزًا دفنتها الأرض في بطنها أجيالاً ، وحافظت عليها لمن يُقِّدُر العمل
حقَّ قدره . فطبيعة تلك البلاد لم تتغير ، وإنما تغير سكانها . بل ما لنا وللتمثيل
بأستراليا ، وأمامنا شبه جزيرة العرب التي كانت محطّ رحال المدنية ، ومهبط العلوم
والعرفان ، ومصدر العمران ، ما لها قد عفت آثار مدنيتها ، ودالت دولة ملوكها ،
واندرست معالم علومها ، واندثرت معارفها ، وصار ذلك المجد القديم ، والسؤدد
الماضي ، أشبه بحلم حالم ! ! ؟ أليس السبب هو أن ذلك السلف الصالح خلف مِن
بعدهم خلفٌ أضاعوا الجد الموروث ، وأهملوا العمل ، وتمسكوا بأذيال الكسل ، حتى
صاروا قديمًا في عالم جديد { وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ } ( الكهف : 18 ) .
كان ( كسناي ) وأضرابه يعتبرون الأرض الوسيلة الوحيدة لإحداث الثروة ،
ويبخسون العمل حقه في الإحداث ، وذلك زعم صحيح من جهة أن الأرض ينبوع
المواد التي تقوم بها الصناعة ، فلا يقدر الصانع على نسج ثوب بدون قطن ،
ويستحيل عليه صناعة آلة حديدية بدون حديد ، ولكن ( كسناي ) بخس العامل حقه ،
وأنكر عليه تحويله الحديد من شكله الطبيعي ، حيث لا ينتفع به ، إلى شكل يصير
بواسطته آلة بخارية يتهافت الناس على ابتياعها . أنكر على العالم الكيماوي تركيبه
لدواء فيه شفاء للناس من مواد طبيعية لا تفيد كثيرًا ، وهذا ما لا ترضاه العدالة ،
على أنه بعد ( كسناي ) كما قدمنا أتيح للعمل أن يأخذ ( آدم سميث ) بناصره ،
ويظهر فضله ، ويطنب في مدحه ، ومن ثم أخذ مقامه في الصعود ، ونجمه في
السعود ، حتى لقد قال فيه العلامة ( جيد ) : إنه هو الجدير دون غيره أن يكون
الوسيلة في إحداث الثروة حقيقة ؛ إذ الإنسان هو المنتج الحقيقي لها ، وما الطبيعة
إلا طوع إرادته ، يحركها كيف شاءت تلك الإرادة .
* * *
أ- أدوار العمل
( عصر الصيد )
في ذلك العصر كان الإنسان قليل العمل ، كثير الاعتماد على الطبيعة ، يعيش
من صيد البر أو البحر ، وكان رحالاً كالأنعام السائمة ، يسكن البقاع الكثيرة القنص ،
كما تأوي هذه إلى المروج الغزيرة الكلأ ، ويلقي عصا الترحال إذا قل الصيد ، كما
تفعل هي إذا غيض الماء أو جفت المراعي . وقد كان في ذلك الدور مهددًا بخطرين :
الوحوش الكاسرة ، والمجاعات المهلكة ، لقلة ادخاره ، لما يقتات به في إعساره ،
فالويل له إذا أصابه مرض أقعده عن الصيد ، أو انتابه حر أو برد منعه عن مطاردة
فريسته ، والويل له إذا كان ضعيف النكاية أعداءه ( كذا في الأصل ) الذين يداهمونه
لسلب ما اقتنصه . وكان عدم ادخاره راجعًا إلى أسباب كثيرة ، منها عدم احترام
الحقوق ، فكان حقه مزعزعًا لا يقدر هو على حمايته ، وليس هناك حكومة تدافع
عنه ، ومنها عدم وجود مسكن له أو ذرية في أغلب الأحيان ، ولذا لم يوجد عنده ما
يدعوه إلى الاحتفاظ بالقوت تحرزًا للمستقبل .
* * *
( عصر الرعاية )
ولما رأى نفسه معرضًا للمجاعات القتالة التي كانت تجتاحه من وقت إلى آخر ،
ورأى أنه ملزم بالنفقة على زوجته وأولاده ، توجهت همته إلى تدجين الحيوانات
النافرة كالإبل والخيل والغنم وغيرها ، مما كان لا ينتفع به كثيرًا . ووجد من أهله
وذويه من يساعده على رعي تلك الإبل والغنم في الوديان والمروج الفسيحة التي
تحيط به ، والانتقال بها من مكان إلى آخر . وفي ذلك العصر ازداد عدد الناس عما
كانوا عليه ، وتألفت منهم قبائل كثيرة كانت ثروة كل واحدة منهن تقدر بعدد رءوس
الإبل أو الغنم التي تملكها ، كما كانت الحال عند العرب والتركمان ، وكما هي الآن
عند العرب الرحالة والزط . ويمكننا أن نعزو كثرة عدد الناس إلى سببين :
( الأول ) كثرة نتاج الحيوانات التي كانوا يربونها حتى صاروا في سَعَة من
العيش ، فكانوا ينتفعون بألبانها وأوبارها ولحومها وجلودها ، حتى قلت المجاعات
بينهم .
( الثاني ) ازدياد العصبية في كل واحدة من تلك القبائل ، مما جعل حق
الملكية مضمونًا نوع ضمان ، وحبب إلى كل فرد اقتناء الحيوانات فزادت الثروة
وزاد العدد .
* * *
( عصر الزراعة )
وكانت النتيجة الطبيعية لزيادة عدد السكان هي الازدحام على المراعي
بالحيوانات ، مما جعل حشائشها التي غرستها يد الطبيعة غير كافية لسد الحاجة ،
فعمد الناس إلى معالجة الزراعة من إثارة الأرض ، وبذر الحبوب فيها وتعهدها
بالسقي ، حتى نبت ما يكفي لمئونتهم ولأنعامهم . واستخدموا في الزراعة كثيرًا من
تلك الحيوانات ، ومن ذلك العصر ظهر العمل بمظهر أجلى ، إذ لم يعد الإنسان
مُفوِّضًا كلَّ أموره للطبيعة ، يأوي حيث نبتت حشائشها ، ويرحل إذا جفت خيراتها ،
بل أخذ يُعوِّل على مِعْوَله ، فيحول به الأرض المجدبة إلى مزارع كثيرة الخيرات ،
وانبنى على رغد عيشه تقدم عظيم في أحواله الأدبية ، فنظم معيشته وظهرت
الحكومات لأول مرة بالمعنى الذي نراها به الآن ، ولا حاجة بنا إلى القول : إن
معظم الأمم المتمدينة في الزمن الماضي كانت تعالج الزراعة في أول أمرها قبل أن
ترسخ قدمها في المدنية . والسبب في ذلك بساطة الزراعة ، وعدم احتياجها إلى كثير
تفكير أو كبير عناء ، على أن تلك الأمم نفسها وَجَّهَتْ همتها بعد أن تم لها
الأمر إلى استجادة الصنائع على اختلاف أنواعها .
* * *
( عصر الصناعة )
الصناعة أثر من آثار المدنية ، تتوجه الهمم إليها عند بزوغ شمسها ، وتستجاد
إذا زخر بحر العمران ، والسبب في ذلك راجع إلى أمرين :
( الأول ) أن الإنسان لا تتوق نفسه إلى الكماليات ، كالصناعات المختلفة ،
إلا بعد تحصيل الضروري من مأكل وملبس .
( الثاني ) هو أن معظم الصناعات المختلفة تحتاج إلى الممارسة والتعليم ،
وهما لا يوجدان في وسط الأمم المتوحشة ، ومن الصنائع ما هو مقدم ، كصناعة
النجارة والحدادة والبناء والخياطة ؛ لأن منفعتها ظاهرة لبناء المسكن وعمل الملبس ،
ولذا توجد أحيانًا بحالة ساذجة ، ومنها ما لا يوجد في الأمة إلا إذا تفننت وتنوعت
أساليب مدنيتها ، كصناعة الرسم وصناعة الطباعة وتجليد الكتب [2] ، وكلما علا
كعب الأمة في العمران ابتدعت الصنائع المختلفة ، واستنبطت الاختراعات المفيدة ،
وارتقت فيها الأعمال العقلية الضرورية للصنائع ، كالتعليم والتأليف .
* * *
( عصر استخدام البخار )
على أنه مهما يكن من تقدم الصناعة عند بعض الأمم في الأحقاب الغابرة ،
فإن اختراع البخار في القرن الماضي ، جعل صناعة الزمن الحاضر متقنة ، وصار
العامل بدل أن يستغرق وقتًا طويلاً في الصناعة ، يدير الآلة البخارية فتكفيه مئونة
التعب .
* * *
ب- الأعمال العقلية
ولا مشاحَّة في أن عمل الإنسان في الأدوار التي تقدمت لم يكن يدويًّا محضًا ،
بل لا بُدَّ له من أعمال عقلية ولو قليلة ، لأنه لا ينتظر أن يصنع الإنسان عدة للصيد
أو آلة لفلح الأرض أو يبذر الحبوب ، إلا بعد التفكير الذي هو المميز للإنسان من
الحيوان ، ولا يتصور أن يستوعب الصنائع إلا بعد أن يعرف دقائقها من المعلم ،
ويتعلم العلوم المرتبطة بها ، ثم هو لا يقدر على تعهد الأرض ما لم يوجد هناك حاكم
يمنع عنه تعدي الغير ، ومهندس يسهل له الري ، ولم ينتفع بالآلات البخارية في
الزراعة والصناعة إلا بعد أن أجهد المخترعون ( كجيمس وات ) وغيره قرائحهم
حتى وصلوا إلى استخدام البخار ، فالأعمال العقلية ضرورية للأعمال اليدوية ،
كالزراعة والصناعة ، وهي مقدمة عليها حتى في أحقر الصنائع .
* * *
ج- الأعمال المنتجة للثروة
اختلفت الآراء من عصر إلى آخر في تحديد الأعمال البشرية التي تكون
نتيجتها زيادة ثروة الأمم ، أما العرب فكانوا يرون - كما يؤخذ من كلام الحريري
وغيره من الحكماء - أن المعاش إمارة وتجارة وفلاحة وصناعة ، وقد قال الخليفة
المأمون : ( الناس أربعة : ذو سيادة أو صناعة ، أو تجارة أو زراعة ، فمن لم يكن
منهم كان عيالاً عليهم ) , ويفهم من ذلك أن تلك الأعمال الأربعة هي التي كانت
معتبرة مُحْدِثَة للثروة ، بمعنى أن عمل الحاكم الذي يقي البلاد شر العدو ، ويرد
المظالم ، وينظم الري ، هو عمل يزيد في الثروة ، وكذلك عمل الصانع الذي يوجد
منافع للمواد الأولية ، والتاجر الذي يتوسط في جلب تلك المصنوعات وتسليمها
لطالبيها ، والزارع الذي يقوم بإثارة الأرض وبذر الحب فيها حتى تنبت ما يسد
الحاجة ، وأما أعمال غيرهم فلم تكن محدثة للثروة ، وأما الطبيعيون ، وهم ( كسناي )
ومن كان على مذهبه ، فقد تقدم أنهم كانوا يعتبرون أن المحدث للثروة من الأعمال
ما كانت متعلقة بالأرض من إثارتها وحرثها وبذر الحبوب فيها ، وبناء على ذلك
قسموا الناس إلى ثلاث طبقات : طبقة ملاك الأراضي ، وهم المحدثون للثروة حقيقة ؛
وطبقة الفلاحين ، وهم الذين يساعدون على هذا الإحداث ، وغيرهم من السكان ،
كذوي الإمارة وذوي التجارة وذوي الصناعة ، وكانوا يرون هؤلاء عيالاً على
الطبقتين الأُولَيَيْنِ . ولكن ( آدم سميث ) لم يَنْحْ نَحْوَ أولئك الاقتصاديين ، فقد اعتبر
الصناعة والتجارة والإمارة من الأعمال المنتجة للثروة ، وتبعه من أتى بعده من
الاقتصاديين .
ويمكننا أن نقسم الأعمال ( أولاً ) إلى ما هي مباشرة لإعداد سلعة من السلع
للقيام بسد حاجة من حاجات الإنسان ، وهذه محدثة للثروة بلا خلاف ، مثال ذلك
العمل الذي يتكبده كل من حارث الأرض وباذر القمح وحاصده ودارسه وطاحنه
وعاجنه وخابزه ، لأن كلاًّ منها موجه إلى إعداد الخبز مباشرة ، وإن تنوعت حالات
القمح المراد جعله خبزًا ؛ ( ثانيًا ) إلى غير مباشرة لإعداد الصِّنْف ، وهذه إمّا يدوية
أو عقلية ، أما الأولى فلا يخلو حالها من أحد أمور خمسة :
( أ ) الأعمال التي يتكبدها الناس في استخراج المواد الأولية اللازمة
للصناعة ، كاحتفار المناجم وتشذيب الأشجار وغير ذلك ، وهذه بالطبع منتجة
مادامت نتيجتها تستخدم في الصناعة .
( ب ) الأعمال التي تصرف في إعداد الآلات اللازمة لصناعة الصنف ،
مثال ذلك شغل الحداد في تجهيز المحراث أو آلة الغزل .
( ج ) الأعمال التي يكون من شأنها بناء المحلات المعدة للصناعة كالمعامل
والأحواض ، وهكذا لأنه لولا تلك المحال لما توفر إعداد البضائع القطنية مثلاً أو
المراكب .
( د ) ما يوجه من الأعمال إلى الحصول على طعام وكساء ولوازم للصناع
مادامت تلك الحاجات غير خارجة عن حدّ الكفاية ، أو للحصول على الفحم اللازم
لتسيير الآلات البخارية في حالة ما إذا كان الصانع لا يشتغل بيده .
( هـ ) الأعمال التي بواسطتها يمكن نقل الصنف إلى حيث يطلبه الناس ،
ويدخل فيها عمل الحمالين في البر وصناعة المراكب والآلات البخارية , وبناء
الأحواض والأرصفة , وأعمال أمناء النقل والمراكبية , وجميع التجار والمتسببين
والسماسرة , والأعمال التي تحسنت بواسطتها الطرقات وغير ذلك .
أما العقلية فمنها ما هو متعلق بالصناعة أو الزراعة أو التجارة ؛ كالاختراع ,
والتأليف , وتعليم الصناعات , والتفنن في ابتداعها وترويجها ، ولا شكَّ في أن هذه
منتجة ، ولا فرْقَ بين أن تكون هذه موجهة إلى الزراعة أو الصناعة أو التجارة ،
ويدخل تحت هذه أعمال الري على اختلاف أنواعها ، وجميع ما تعمله الحكومة أو
الأهالي لترقية الصناعة أو التجارة أو الزراعة ، ولا جُنَاحَ علينا إذا نحن عَدَدْنَا
ضمن تلك الأعمال ، ما يبذله الفلاسفة والحكماء من الأفكار لتعضيد الحالة
الاقتصادية والاجتماعية ، وما تبذله الحكومة مِن بثّ العدل في الربوع ، والمحافظة
على الأمن ، سواء بِسَنِّ القوانين أو الأعمال الحربية بَرِّيَّةً كانت أو بَحْرِيَّةً .
__________
(2) انظر مقدمة ابن خلدون .