الأحد، 5 مايو 2013

قسم المقالات : الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة والفرق بين الانقلاب والثورة بقلم محمد روحى الخالدى المقدسى

الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة[*] ( 1 )


( الفرق بين الانقلاب والثورة )
الانقلاب في اصطلاح المؤرخين تغيير مهم في حكومة الدولة ، وقلب في
قوانينها ، وهو غير الثورة ، التي بمعنى العصيان والخروج عن الطاعة ، والقيام
على الحكومة المشروعة ، والفرق بين الانقلاب والثورة كبير ، فإن الثورة كثيرًا ما
تضر بمنافع الأمة ومصالحها ، وتصدها عن السير في طريق النجاح ، بخلاف
الانقلاب ، فإنه مهما آلم الأمة ورضرضها ، فهو يخطو بها خطوة في التقدم ،
ويصعد بها درجة في سلم النجاح ، وأكثر كُتَّاب العربية لا يفرقون بين الكلمتين ،
ويطلقون اسم الثورة على الانقلاب ، فيقولون الثورة الفرنساوية مثلاً ، بدل الانقلاب
الفرنساوي ، ولم يلتفتوا إلى ما روي عن لويس السادس عشر ، ملك فرنسا ، لما
أُخْبِرَ بهدم قلعة الباستيل ( Bastille la ) وإطلاق المسجونين فيها فقال : إذًا هذه
ثورة ( Révolte ) فأجابه المخبر : عفوًا يا مولاي ، بل هذا انقلاب
( Révolution ) .
فمراد ملك فرنسا أن فعل الثائرين غير مشروع ، ولا حق لخروجهم عن
الطاعة ، وجواب المخبر ينافيه ، وبيَّن أن الانقلاب غير الثورة والعصيان ، فنحن
اليوم أحوج إلى تعيين معاني الكلمات ، وإلى سكب قوالب الألفاظ على قدر المعاني ؛
لأن الانقلاب السياسي من شأنه أن يحدث انقلابًا في اللغة والأدب ، فضلاً عن
انقلاب الأخلاق والعادات والأفكار ، ألا ترى الجرائد العثمانية على اختلاف لغاتها
من تركية وعربية ورومية وأرمنية ويهودية ( أسبانية وعبرانية ) وبلغارية
وفرنساوية والجرائد الألبانية والكردية على وشك الظهور - كيف بدلت لهجاتها بعد
حدوث الانقلاب ، وهجرت تلك الألفاظ الفخمة والتعبيرات السقيمة ، التي تغطي
المعاني بستار المهابة حتى تستبهم على القارئ ، وتقيد فكره بسلاسل التذليل
والاستعباد .
* * *
( الاستبداد يولد الانقلاب )
فالذي يولد الانقلاب هو الاستبداد ، ومقتضاه التغلب والقهر اللذان هما من آثار
الغضب والحيوانية ، لا من قواعد الدين الإسلامي ، كما يتوهم البعض منا ، وأكثر
الأوربيين الذين يصفون الحكومات الإسلامية بكونها ثيوقراطية ، أي أنها جامعة بين
الديانة والسياسة ، وأحكام المستبد أو المستبدين في الغالب جائرة عن الحق ، مجحفة
بمن تحت يدهم من الخلق ، لحملهم إياهم على ما ليس في طوقهم من أغراض
المستبد أو المستبدين وشهواتهم ، ولذا ورد في الخط الشريف السلطاني الذي منح به
القانون الأساسي ( إن قوة الحكومة تحافظ على حقوقها المقبولة والمشروعة ، وعلى
منع الحركات غير المشروعة ، أعني بها منع ومحو الخطيئات وسوء الاستعمالات
المتولدة من الحكم الاستبدادي الفردي أو الأفراد القلائل ، ليستفيد جميع الأقوام
المركبة هيئتنا منهم نعمة الحرية والعدالة والمساواة بلا استثناء وذلك حق ومنفعة
حَرِيَّان بالهيئة الاجتماعية المدنية ، إلخ ) .
* * *
( الاستبداد والإسلام )
فالاستبداد هو منبع الشرور ، وسبب التأخر والانحطاط ، وقد ورث ملوك
الإسلام هذا الاستبداد عن أكاسرة الفرس وقياصرة الرومان ، عن نماردة بابل
وفراعنة مصر ، عن جنكيز خان و تيمور لنك . والإسلام أول شريعة اعترضت
على الاستبداد ، وقاومته أشد المقاومة ، وساوت بين أفراد الأمة ، وحافظت عن
الحقوق والحرية الشخصية ، وأمنت الأجانب المعاهدين ، فضلاً عن أفراد الأمة -
على أموالهم ودمائهم وأعراضهم ، ومهدت السبيل للحكومة الديموقراطية ، ووضعت
حق الحاكمية في الأمة ، ولم تكتف بإعطائها الحرية في القول والعمل والكتابة
والاجتماع ، بل فرضت على كل فرد من أفرادها الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر ، فجعلت الأمة مسيطرة على الحقوق العامة ، ولم تفرق في الحقوق الخاصة
بين المسلمين وخليفتهم ، ولا أولي الأمر منهم . ورد في الدرر ، وهو من أهم الكتب
الشرعية : ( إن الخليفة يقتص منه ويؤخذ بالمال ، لأنهما من حقوق العبد ،
ويستوفيه ولي الحق ، إما بتمكينه أو بالاستعانة بمنعة المسلمين ) ، ولذا حكمت
القضاة على أكثر من واحد من الخلفاء وسلاطين الإسلام برد المال وضمانه ،
وأنزلتهم عن المنصة ، وأقعدتهم مع الخصم في مجلس الحكم .
* * *
( الاستبداد آسيوي لا إسلامي )
كان الحال على ما ذكر مدة الخلفاء الراشدين ، ومن اقتفى أثرهم ، كعمر بن
عبد العزيز ، من بني أمية ، ثم تغلب الاستبداد الآسيوي على أحكام الدين الإسلامي ،
وانقلبت الخلافة إلى سلطنة ، وأصبح خليفة الإسلام ( مقدسًا وغير مسئول ) ،
كملوك الإفرنج ليومنا هذا ، لا يقتص منهم ، ولا يؤخذون بالأموال ، ولا تستطيع
المحاكم إحضارهم ، ولا إصدار الحكم عليهم ، ويرثون الملكَ كما يرث أحدنا مال أبيه
فاستبدوا بالأمر استبداد لويس الرابع عشر ، الذي كان يقول : ( الدولة هي أنا ) ,
و( أموال الرعية إنما هي ملك لملكها ، فإذا أخذ شيئًا منها ، فقد أخذ حقه ! ! ) ،
واستباحوا التصرف في نفوس الرعية وأموالهم وأعراضهم ، وفي خزائن الدولة
وبيت المال وأوقاف المساجد والمؤسسات الخيرية . وصار الوزراء والمصاحبون
يقولون : ( خسرو بكند شيرينست ) , أي : ما أعجب كِسْرَى فهو حسن ، فالحسن
هو ما استحسنه السلطان ، والقبيح ما استقبحه السلطان ، ولا دخل في ذلك للعقل
والذوق ، ولا للحكمة والشرع ، لأنهم أولوا الشرع على حَسَب غاياتهم وأغراضهم .
فإذا تصفحت تواريخ الأمم الإسلامية في الشرق والغرب ، تراها مؤسسة على
هذا الاستبداد الآسيوي ، وعلى جانب من الاستعباد الأفريقي ، وليس فيها شيء من
الحرية الإسلامية ولا المشورة المأمور بها في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ،
كما قال الله لنبيه : { وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ
وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ } ( آل عمران : 159 ) , وقوله تعالى : { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } ( الشورى :
38 ) ، وحديث : ( أنتم أعلم بأمور دنياكم ) وأمثاله كثيرة كحديث حلف الفضول
المشهورة في التواريخ : وذلك أن قبائل من قريش تداعت إلى حلف الفضول الذي
عقدته قديمًا قبائل العرب ، واشتهر باسم رؤسائهم الفضيل و المفضل ، فاجتمعت
وجوه قريش في دار عبد الله بن جدعان لشرفه ونسبه ، فتحالفوا وتعاقدوا أن لا
يجدوا بمكة مظلومًا من أهلها أو من غيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه ، وكانوا
على ظلمه حتى ترد عليه مظلمته ، وكان ذلك قبل الإسلام ، قال النبي صلى الله
عليه وسلم : ( لقد شهدت مع عمومتي حلفًا في دار عبد الله بن جدعان ، ما أحب أن
لي به حُمْرَ النَّعَم ، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت ) فأي شيء أشبه بهذا الاجتماع
والتعاقد من البرلمان والمبعوثان ؟ لا , بل من جمعية الاتحاد والترقي ؟ ولقد أحسن
جِدًّا العلامة المقري في جوابه المذكور في نفح الطيب حيث قال :
سألني بعض الفقهاء عن السبب في سوء بخت المسلمين في ملوكهم ، إذ لم
يَلِ أمرهم من يسلك بهم الجادَّةَ ، ويحملهم على الواضحة ، بل من يغتر في مصلحة
دنياه ، غافلاً عن عاقبة أخراه ، فلا يرقب في مؤمن إلاَّ ولا ذمة ، ولا يراعي عهدًا
ولا حرمة !
فأجبته : بأن ذلك لأن الملك ليس في شريعتنا ، وذلك أنه كان فيمن قبلنا
شرعًا ، قال الله تعالى ممتنًّا على بني إسرائيل : { وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً } ( المائدة :
20 ) ولم يكن ذلك في هذه الأمة ، بل جعل لهم خلافة ، قال الله تعالى : { وَعَدَ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ } ( النور : 55 ) الآية ،
وقال تعالى : { وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا } ( البقرة :
247 ) وقال سليمان : { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا } ( ص : 35 ) , فجعلهم
الله تعالى ملوكًا ولم يجعل في شرعنا إلا الخلفاء ، فكان أبو بكر خليفة رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - وإن لم يستخلفه نصًّا ، لكنْ فَهِمَ الناس ذلك فهمًا ، وأجمعوا
على تسميته بذلك ، ثم استخلف أبو بكر عمر ، فخرج بها على سبيل الملك الذي
يرثه الولد عن الوالد إلى سبيل الخلافة الذي هو النظر والاختيار ، ونص في عهده
على ذلك ، ثم اتفق أهل الشورى على عثمان . فإخراج عمر لها عن بنيه إلى
الشورى دليل على أنها ليست ملكًا ، ثم تعين علي بعد ذلك ، إذ لم يبق مثله ، فبايعه
مَنْ آثر الحق على الهوى ، واصطفى الآخرة على الدنيا ، ثم الحسن كذلك ، ثم كان
معاوية أول من حوَّل الخلافة ملكًا ، والخشونة لينًا ، ثم إن ربك من بعدها لغفور
رحيم ، فجعلها ميراثًا ، فلما خرج بها عن وضعها لم يستقم ملك فيها . ألا ترى أن
عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كان خليفة لا ملكًا ، لأن سليمان رحمه الله رغب
عن بني أبيه إيثارًا لحق المسلمين ، ولئلا يتقلدها حيًّا وميتًا ، وكان يعلم اجتماع
الناس عليه ، فلم يسلك طريق الاستقامة بالناس قط إلا خليفة ، وأما الملوك فعلى ما
ذكرت إلا مَنْ قلّ ، وغالب أفعاله غير مرضية . ا هـ
فيظهر لنا من هذا الكلام الفرق بين الخلافة والملك ، والسبب الذي جعل ملوك
الإفرنج مقدسين وغير مسئولين .
* * *
( منبع الاستبداد قصر الملك والخلافة )
ومنبع استبداد الدول الإسلامية في قديم الزمان وحديثه ، هو قصر الخلافة ،
ودار الملك والإمارة ، حيث تكثر دسائس المقربين ، ويشتد حرصهم على الجاه
وطمعهم في جمع الأموال وادخارها ، وفي إنفاذ الكلمة ، ولذا ابتعد عنهم أهل التقوى
والورع في جميع البلدان والأزمان . فالمقرب منهم لا يكاد يتم له الأمر إلا ويظهر له
رقباء يشون به ، وينصبون له أشراك المكيدة ، ويتهمونه بأنواع التهم ، وينسبون
إليه كل خلل في الدولة ، حتى يبعدوه عن مركز الدولة ، وربما تسببوا في مصادرته
وقتله مع أولاده وعياله ، كما جرى للبرامكة مع هارون الرشيد . فتاريخ الدول
والإمارات الإسلامية كلها وقائع برمكية . وقد ينصر الوزير على الخليفة أو الأمير ،
ويحجر عليه ، ويصير هو المستبد بالأمر ، ونتيجة القضيتين واحدة ، وهي
الاستبداد ، وتغلب القوة على الحق . والأمة في جميع هذه الأحوال شاخصة ببصرها
لا تطلع على خفايا السياسية وتدبير الملك ، ولا على دسائس المقربين وحيلهم
لإخفائهم جميع ذلك عنها ، واستبدادهم بالأمر عليها . ولقد أجاد لسان الدين بن
الخطيب وزير بني الأحمر في الرسالة التي خاطب بها الوزير ابن مرزوق ،
ووصف بها أحوال خدمة الدولة ومصايرهم ، وعبر فيها عن ذوق ووجدان ، وهي
أبلغ ما حرر في هذا الصدد ، وقد ذكرها المقري في الجزء الثالث من نفح الطيب
في غصن الأندلس الرطيب . فالمصلحون لم يتخلصوا من هذه الغوائل ولا وجدوا
وقتًا لإصلاح داخل الممالك وتحكيم سياستها الخارجية ، ولذا انصرفت هممهم لجمع
الأموال وادخارها ، واغتنام فرصة التقرب ونيل التوجه واكتساب السعادة ، لأن
الواحد منهم لا يدري إلى متى يدوم له التوجه والإقبال ، فيسارع إلى الاستفادة من
الحال التي أسعده الحظ بنيلها .
* * *
( قصر السلطنة العثمانية وتربية ولي العهد والكامريلا )
كان قصر السلطنة في الممالك العثمانية مرتبًا على الأصول والتقاليد الموروثة
عن المغول ، حيث كانت الدولة عبارة عن خيمة كبيرة حكومتها بابها العالي . وأول
وظيفة على هذه الحكومة إنزال الخان المعظم على الرحب والسَّعَة ، وإسكان من معه
من الحريم والأسرة والأقارب والحاشية ، واستكمال أسباب راحتهم وسعادتهم ،
واستحضار النفقات اللازمة لهم ولرؤساء ( العرضي ) . فالعمود الأوسط القائمة
عليه هذه الخيمة هو ( الصدر الأعظم ) القائم مقام الخان المعظم ، أي السلطان ,
والحامل لختمه الذاتي , والوكيل المطلق عنه في جميع مسائل الدولة الداخلية
والخارجية ، وبجانبه ( قاضي عسكر ) لفصل الدعاوى وتقسيم مواريث الجند ,
والمحافظة على حقوق السلطنة ، وشيخ الإسلام إنما هو ( قاضي عسكر ) وظيفته
أحدث عهدًا . فقضاء العسكر قديم في الدولة ومتقدم فيها على قضاء المدن ، مما يدل
على حياتها العسكرية المتنقلة ، ثم ( الدفتر دار ) الذي يقيد الأموال ويحرر الحساب ،
وهو اليوم ناظر المالية ، ثم ( النيشانجي ) الذي يكتب الإرادات والفرمانات
وغيرها ، فهؤلاء أعمدة ثانوية حوالي العمود الأعظم الذي في وسط الخيمة ، وأما
حبال الخيمة فهي الأغوات .
ويقسم الأغوات بحسب خدمتهم ، في الداخل أو في الخارج ، إلى قسمين :
فالقسم الأول هم خدمة الداخل المسمى ( اندرون ) من مماليك البيضان وطواشية
السودان المحافظين على الحريم ، وكبيرهم آغة دار السعادة ، ويسمى أيضًا آغة
البنات ( قيزلر آغاسي ) ، ثم آغة البستانيين ( بستانجي باشي ) المكلفين بزرع
البساتين والجنان ، وآغة الرسل الموصلين للأخبار ، وآغة المحافظين على الأثواب
والألبسة ( أثوابجي باشي ) و ( القهوه جي باشي ) و ( الإبريقدار ) و ( السجاده
جي باشي ) , إلخ ، والقسم الثاني هم خدمة الخارج وأغوات ( العرضي ) مثل آغة
الإنكشارية ( يكيجري آغاسي ) وآغة الصباهية ( سباهي ) وآغة الطوبجية ، وهو
( الطوبجي باشي ) , إلخ ، فهؤلاء الأغوات من خدمة الداخل وخدمة الخارج , كلُّهم
في درجة واحدة بمثابة حبال الخيمة ، ولا فرق بينهم في التشريفات الرسمية
والمعاشات والتعيينات ، ولا في الاعتبار والمكانة عند الدولة ، فالجاهل والعالم ،
والعبد المملوك والحر ، ووضيع النسب وشريفه ، ومجهول الأصل ومعروفه ،
والأبتر الخصي وكامل الأعضاء - كلهم متساوون لا تمييز بين ( القهوه جي باشي )
الذي لا تحتاج صناعته إلا معرفة طبخ القهوة وتقديمها ، وبين ( الطوبجي باشي )
المتوقفة صناعته على معرفة الفنون العسكرية والمعارف الكثيرة ، وهذا الذي حَمَلَ
الشاعرَ المفلقَ الأميرَ شكيبًا على أن يقول أبياته المشهورة ومنها :
وألفيت فيها أمة عربية ... يرى الترك منهم أمة الزنج أكرما
ولذا امتزجت الحياة البيتية بالحياة الدولية ، والمسائل النسائية بالمسائل
السياسية ، وأشغال السراي السلطانية بأشغال الباب العالي ، وبين السراي والباب
العالي وسط يقال له المابين ، لأنه بين ( الأندرون ) أي الداخل وبين ( البيرون )
أي الخارج . ويشتمل المابين على الكتاب والقرناء والمصاحبين , وهم ( المابينجية )
ويعدون كلهم من أهل السراي وخدمتها .
فامتلأت السراي السلطانية بالأسرى من السراري الجركسيات والمماليك
والطواشية ، مع أن الشرع الإسلامي لا يبيح هذه العادة المستكرهة ، قال شارح الدر :
( وفي قطع الذَّكَر من الأصل عمدًا قصاص ) ويندر فيهم وفي جميع خدمة الداخل
من يتعلم القراءة ، فضلاً عن الكتابة ؛ لأن فضيلة الواحد منهم أن يكون على الفطرة
الأصلية ، فارغًا من العلوم والمعارف ، لئلا يسوّل له الشيطان أمرًا أو دسيسة
سياسية ، توجب انقلاب الملك ، ولذا اختاروا الخدمة من قرى الأناضول البعيدة ،
ومن ذوي السذاجة والغرارة ، فإذا ولد لأحد السلاطين العظام مولود ، تربى في
حجر والدته الجركسية على دلال السراري والأغوات إلى تمام السنة الثانية عشرة
من عمره ، ثم تبدل تلك السراري بالحظايا ، فيتخذ منهن حرمًا ينزوي بهن في أحد
القصور ، وتبقى الأغوات والمماليك على ما كانت عليه أيام صباه ، وربما جاءوه
بحافظ يحفظه القرآن ، ومعلم يعلمه مبادئ العلوم ، ولكن أكبر معلم للإنسان هو
البيئة التي يكون فيها ، وكيف يتعلم المرء بدون أن يخرج من بيته ويحتكّ بالعلماء
ورجال الدولة . فيبقى ولي العهد على هذه الحال ينتظر دوره في الملك ، وهو
محبوس في قصره ، وعليه العيون والجواسيس لا يمكنون أحدًا من الدنوّ إليه ، ولا
المرور بجانب قصره ، فضلاً عن محادثته في المسائل العلمية والسياسية .
ومتى جاء دوره وجلس على سرير الملك ، سعى طواشية السودان ومماليك
البيضان في وضعه تحت نفوذهم ، وحرصوا على أن لا يفلت من أيديهم ، وفتشوا
على أضعف نقطة في قلبه وأخلاقه ، فلا يمضي عليهم كثير حتى يكتشفوها ،
فيستميلون قلبه إليهم من تلك النقطة ، ويستفيدون منها لإنفاذ كلمتهم وجر المنافع
إليهم وإلى أصحابهم ومن كان من حزبهم وشيعتهم . فيتألف من خدمة القصر
الملوكي حزب قوي يسمى كامريلا ( Camarilla ) وهي كلمة أسبانية ، معناها
جماعة المنفذين في قصر الملك ، فيتداخلون في المسائل ، ويعارضون في السياسة
ويستولون على الأمور ، وإذا رأوا السلطان مال لصدر أعظم أو وزير انقضوا عليه
وسلقوه بألسنتهم وافتروا عليه بإفكهم ، ونسبوه للعجز والتقصير ، وسعوا في تنزيل
قدره وترذيله ، لأجل وضعه تحت سيطرتهم ، ولذا كان في الغالب للقهوة جي باشي
والأثوابجي باشي والإبريقدار والسجادة جي باشي والبستانجي باشي حتى البلطه جي
باشي ، وهو الحطاب - نفوذ كلمة ومكانة أكثر من الصدر وبقية الوزراء ورجال
الدولة ، ولا سِيَّمَا في المسائل المالية وجر المنافع وتوظيف المنتسبين إليهم ، ولم
تزل رتبة آغا دار السعادة معادلة لرتبة الصدر الأعظم والخديوي المعظم ، ولهم
بالفرنساوية لقب سون التس ( Son Altesse ) كأمراء الإفرنج وأبناء ملوكها
العظام ، ولم يزل أكثرنا متذكرًا نفوذ بهرام آغا وأمثاله .
* * *
( شروع الدولة العلية بالإصلاح )
لو استمرت أوربا نائمة في ظلام القرون الوسطى لبقيت الدولة العلية سائرة
في هذه الطريق العوجاء سير مملكة الصين ، أو سلطنة المغرب الأقصى التي
انحطت إلى درجة البداوة ، بعد أن كان لها في العمران قدم راسخة ، بسبب مهاجرة
الأندلسيين إليها ومتاجرتهم في إفريقيا الغربية ، ولكن أوربا استيقظت من غفلتها في
القرون الجديدة ، وأوجدت هذه المدنية العجيبة التي بهرت العالم ، وغيرت وجه
الأرض باكتشافاتها واختراعاتها وعلومها وفنونها وآدابها ، وتجاوزت دول أوستريا
( النمسا ) وروسيا والبندقية إلى ممتلكات الدولة العلية ، فأحست بالضعف
والانحطاط والتقهقر ، وبدأت في الإصلاحات الجديدة من عهد السلطان مصطفى
خان الثالث ، فأحدثت الطوبخانة ، وأنشأت معملاً لسكب المدافع ، وأقبل السلطان
سليم الثالث بهمة عالية وإقدام على القيام بالإصلاح ، ورتب إدارة الطوبجية
والبحرية ، وجلب المعلمين والمهندسين من أوربا ، وأحدث النظام الجديد ، فاغتالته
أيدي المنون بسبب هيجان الإنكشارية الذين فسدت أخلاقهم ، وأصبحوا بلاء مبرمًا
على الأمة والدولة ، بعد أن كان لهم في الفتوحات العثمانية شأن عظيم ، ومفاخر
كثيرة مسطورة في تاريخ أوربا العسكري .
ثم جلس السلطان محمود الثاني وأزال غائلة الإنكشارية ، ونظم العساكر
الجديدة ، وأجرى من الإصلاحات ما هو مفصل في التاريخ العثماني . وأصاب
الدولة العلية من الحوادث المهمة ما حملها على الاحتكاك بالدول الأوربية ، والدخول
في ميدان سياستها ، مثل حروبها مع روسيا ، واحتلال نابليون بونابرت لمصر و
سوريا ، وخروج محمد علي باشا ، وتبه دلنلي علي باشا ، وحرب المورة ،
واستقلال اليونان ، وحوادث جبل لبنان . وتداخلت أوربا في شئون الدولة العلية
بداعي المحاماة عن المسيحيين : فروسيا تحامي عن الأمم السلافية وجميع المتدينين
بالمذهب الأرثوذكسي ، وفرنسا على الكاثوليك ، و إنكلترا عن مبشري البروتستانت ،
وجميعهن يحرضن المسيحيين من رعية الدولة على مقاومة الاستبداد ، ويطالبن
الباب العالي بإجراء الإصلاحات ، ووضع القوانين والنظامات لمنع التعدي على
النصارى ، ولمساواتهم في الحقوق مع المسلمين . والباب العالي يجد الاستفادة من
العداوة القديمة التي غرستها الحروب الصليبية بين المسلمين والنصارى أهون عليه
من سوق العساكر وتكبد المصاريف الحربية لتسكين الفتن وإخماد الثورات . وهكذا
جرت المذابح وارتكبت الفظائع التي تقشعر الجلود من سماع وصفها ، وعادت على
الوطن بالويل والخراب كمذابح الروم في حرب المورة ، ومذابح لبنان في حادثة
الشام ، ومذابح البلغار في حرب روسيا الأخيرة ، وهي التي قام لها غلادستون وقعد ،
وأرغى وأزبد ، على منبر الخطابة في مجلس العموم الإنكليزي ، وآخرها الفظائع
الأرمنية المعروفة ، وهي نقطة سوداء في صحيفة التاريخ .
* * *
( صدارة مصطفى رشيد باشا )
فالحوادث التي جرت قبل معاهدة باريس ساقت بعض رجال الدولة إلى تعلم
اللغات الأوربية ولا سِيَّمَا الفرنساوية للوقوف على سياسة أوربا ، ولتنظيم العساكر
البرية والبحرية ، وكان لأكثر المتعلمين نسبة وتردد على مصر التي شرعت
بالإصلاحات على عهد محمد علي باشا . ونبغ من رجال الدولة مصطفى رشيد باشا ،
السياسي الشهير ، ابن مصطفى أفندي متولي وقف السلطان بايزيد ، وكان مولده
في الآستانة ( 1214هـ ) ، فقرأ القرآن ومبادئ العلوم الإسلامية , وأجاد الخط ,
وتعلم شيئًا من مبادئ اللغة الفرنساوية ، ودخل في مَعِيّة نسيبه الصدر الأسبق
إسبارطه لي علي باشا ، وذهب إلى مصر مرارًا وخالط رجالها , وتقلب في مناصب
الدولة العلية ، وفي سفارة باريس و لوندره ، فأكمل تحصيل اللغة الفرنساوية ،
واطلع على دقائق السياسة وخوافيها ، وكانت المسألة الشرقية شاغلة وزارات أوربا
بسبب اجتهاد روسيا في جمع كلمة الأمم السلافية وطمعها في الاستيلاء على
القسطنطينية ، وروسيا أكبر الدول الأوربية وأكثرها نفوسًا ، وأشدها خطرًا على
الموازنة السياسية ، فكانت الدول الأوربية ، وفي مقدمتهن إنكلترا ، التي هي
أحرص الدول على مقاومة السياسة الروسية ، تشوق الدولة العلية إلى القيام
بالإصلاحات الجديدة لتستعيد قوتها السابقة ، فتحمي نفسها وتكون لبقية الدول سدًّا
منيعًا أمام هجوم روسيا .
فلما جلس السلطان عبد المجيد خان ( تموز " يوليو " سنة 1839 ) كان
مصطفى رشيد باشا سفيرًا في لوندره ، فتعين ناظرًا للخارجية ، وحضر للآستانة ،
وكان له رأي ودخل كبير في التنظيمات ، وفي تشرين الثاني ( نوفمبر ) من السنة
المذكورة قرأ بحضور رجال الدولة وأعيانها والسفراء الأجنبية الخط الشريف
السلطاني المعروف بالتنظيمات ، وكانت قراءته في كلخانة ( أي دار الورد ) ، وهي
من دوائر السراي القديمة ( طوب قبو ) التي بجانب جامع أيا صوفيا ؛ ولذا اشتهر
بخط شريف كلخانة ، واشتمل على تأمين الرعية على أرواحهم وأموالهم
وأعراضهم ، وعلى قاعدة مطردة في استيفاء الأموال الأميرية ، وعلى أخذ
العسكر بالقرعة وتعيين مدة الخدمة ، وإلغاء الامتيازات ، وطرح التكاليف
بنسبة ما لكل واحد من الثروة ، ومساواة الرعية أمام القانون ، وإلغاء المصادرة
والانغارية ، وهي الإجبار على العمل بلا أجرة ، وتعرف بالسخرة ، ونحو ذلك
مما هو مدرج في هذا الفرمان المعروف بالتنظيمات جَمْع كلمة تنظيم العربية .
فالدولة العلية إنما أصدرت هذه التنظيمات إرضاءً لأوربا ، ولا سِيَّمَا إنكلترا ،
والأمة الإسلامية لم تفهم معنى هذه التنظيمات ، ولا معنى تأمين الناس على الأرواح
والأموال والأعراض ، كأن الشريعة التي كانت دستور العمل تبيح التجاوز والتعدّي
على الأرواح والأموال والأعراض ، وحاشاها من ذلك . فالبلاء لم يكن سببه فقدان
القانون والشريعة حتى يزول بإصدار هذه التنظيمات ، وإنما سببه الاستبداد المتسلط
على كل قانون وشريعة . فالحرية التي منحتها التنظيمات لم تكن شيئًا مذكورًا
بجانب الحرية التي منحها القرآن لو زال عنه الاستبداد والجهل المسْتَوْلِيَانِ على
المسلمين ، فيجتهدون في فهمه وتأويله على مقتضى نواميس المدنية الحاضرة ، كما
فعل أحرار العلماء ، كالشيخ محمد عبده وغيره .
فشرعت الدولة العلية في إجراء الأحكام المشار إليها في التنظيمات ، وسنت
قانونًا لأخذ العساكر ، جرى تطبيقه في بعض الأيالات وأحدث في بعضها ثورة
وعصيانًا كعصيان الأرناؤوط ( 1844 ) الذي سكَّنه رشيد باشا نفسه . ثم باشرت
في تنظيم المعارف وفتح المكاتب في الآستانة ونظمت محاكم التجارة المختلطة
( 1846 ) كما نظمت بعض دوائر الدولة وأقلامها . فكان مصطفى رشيد باشا الذي
تولى مسند الصدارة العظمى ست مرات ، وتُوُفِّيَ سنة 1274هـ - 1858م -
مصدر هذه الإصلاحات ، بسبب وقوفه على الأفكار الجديدة ومعرفته اللغة
الفرنساوية والأدبيات العثمانية ؛ فسعى في إفراغ الكتابة التركية في قالب سهل
سلس ، بعد أن كادت تكون غير مفهومة عند العموم ، لكثرة ما فيها من التعقيد
والتشابيه الغامضة ، والألفاظ والتراكيب اللغوية من فارسية وعربية . ونشأ في
عهده وتحت ظله الشاعر الشهير إبراهيم شناسي أفندي ، موجد الأدب الجديد
العثماني ، حصَّل العلوم العربية واللغة الفرنساوية ، وذهب لباريس فاطلع فيها
على آداب الطريقة المدرسية ، ونسج على منوال راسين و لافونتين ، وأدخل في
الأدب التركي التعقل المشروط في الطريقة المدرسية ، كما فصلنا ذلك في كتابنا
( تاريخ علم الأدب ) .
وكان الأدب التركي كله خيالات ومبالغات أعجمية ، قلما يجد الإنسان فيه
حكمة وتعقلاً ، وديوان شناسي صغير الحجم ، لكنه نموذج للأدب الجديد ، وأكثر
قصائده في مدح مصطفى رشيد باشا . وأنشأ شناسي جريدة تركية سماها ( تصوير
أفكار ) وحرر فيها المقالات السياسية والتاريخية والأدبية بقلم سهل سلس مفهوم ،
وطبع ديوانه مع منتخبات ( تصوير أفكار ) ثانيةً في مطبعة أبي الضيا توفيق بك ،
وكانت وفاة شناسي في سنة 1288هـ قبل بلوغه سن الشيخوخة والوظائف العالية .
* * *
( عالي باشا وفؤاد باشا )
ظهرت فئة قليلة من المتعلمين على النسق الجديد واقتفوا أثر مصطفى رشيد
باشا ، ونبغ منهم اثنان شهيران خلّد التاريخ ذكرهما وهما ، السيد أمين عالي باشا ،
وفؤاد باشا ، ومولدهما في سنة 1230هـ ، الأول ابن مصر جارشيلي علي رضا
أفندي ، أي المنسوب لسوق مصر ، وهو سوق العطارين . والثاني ابن الشاعر
الشهير كجه جي زاده عزت ملا ، الذي نفي للأناضول في زمن السلطان محمود
خان ، ومات في منفاه . فتعلم أمين مبادئ العلم ، وإجادة الخط ، وقرأ الفرنساوية
على معلم مخصوص ، ودخل قلم الديوان الهمايوني في الخامسةَ عَشْرَةَ مِن عمره .
ومن عادة رؤساء القلم تسمية كل داخل باسم يتميز به عن سميه ، ولم
يصطلحوا كالعرب والإفرنج بتسمية الولد باسم أبيه أو أسرته . وكان أمين قصير
القامة ، فسمي ( عالي ) تسمية بالضد ، تفاؤلاً بعلو همته . فذهب إلى أوربا في
كتابة السفارات ، وأتقن الفرنساوية ، وانتسب لرشيد باشا ، وامتاز في فنون السياسة
والمعارف المصرية ، وعين عضوًا في ( اتجمن دانش ) أي مجلس المعارف ،
المؤسس على نسق أكادميات أوربا . وكان عالي باشا يحسن الفرنساوية والتركية
كتابة وإنشاءً ، وتقلب في وظائف كثيرة مهمة مثل السفارات والوزارات ومسند
الصدارة العظمى . وأما فؤاد ، فدخل المكتب الطبي العسكري وخرج جراحًا في
العسكرية ، ثم دخل قلم الترجمة في الباب العالي وتقلب في الوظائف السياسية
والخارجية ، وترأس مجلس التنظيمات ، ومجلس الأحكام العدلية ، وحضر إلى
سوريا أيام الحادثة ، وكان إذ ذاك ناظرًا للخارجية ، ثم ذهب بمعية السلطان عبد
العزيز إلى معرض باريس سنة 1867 ومرض فيها ، وتوفي في نيس من فرنسا ،
وله من العمر 55 سنة فقط ، وكان في اللغة التركية أديبًا شاعرًا ، وضع مع جودت
باشا ( القواعد العثمانية ) التي لم يؤلف للآن أحسن منها ، وخلف الفريق كجه جي
زاده عزت فؤاد باشا الكاتب الشهير .
فرشيد باشا وعالي باشا وفؤاد باشا هم نوابغ السياسة العثمانية ، وواضِعُو
الإصلاحات الجديدة بدلالة السفراء الأجانب إرضاءً لدول أوربا ، ولا سِيَّمَا إنكلترا ،
ومماشاة لها لحرصها على تقوية الممالك العثمانية لتتقي بها شر روسيا ، فأمر هؤلاء
النوابغ بترجمة القوانين والنظامات والتعليمات والأوامر المدرجة في الدستور ترجمة
حرفية ، ولم يجدوا لهم وقتًا لدرس احتياجات البلاد الداخلية والمدنية الإسلامية حق
درسها ، ولا لنشر الأفكار الجديدة بين المسلمين المفاخرين بسابق مجدهم ومتانة
شرعهم ، ولذا لاموا هؤلاء المصلحين ولم يرضوا عن أعمالهم زاعمين أنها تئول إلى
قلب البلاد ، وجعلها إفرنجية محضة . ولذا كانت الأكثرية لحزب تركيا القديمة ، ولم
يكن من حزب تركيا الفتاة إلا فئة قليلة ، درسوا العلوم الجديدة درسًا سطحيًّا ،
وبعضهم زار أوربا مرةً أو مرتين . ومع هذا وفق حزب تركيا الفتاة لاستمالة أوربا
إليه ، وأفلح في الحصول على اتفاق إنكلترا وفرنسا و ساردينيا ، أي إيطاليا ،
فحاربن روسيا ، وانتصرن عليها في حرب القرم وعقدن معاهدة باريس ( 30
مارس سنة 1856 ) واعترفت أوربا بمقتضاها بتمام ملكية الدولة العثمانية
واستقلالها ، ومنع أية دولة من المداخلة في أمورها الداخلية ، وصدر خط شريف
ثان في ذلك التاريخ أيضًا مؤيد لخط كلخانه ، ويشتمل على حرية الأهالي ومساواتهم
في الحقوق والمعاملات . ثم جلس السلطان عبد العزيز خان سنة 1861 وأصدر
فرمان الإصلاحات ، ولكن هذه الفرمانات والخطوط الشريفة السلطانية لم تمنع تمامًا
سوء الاستعمال والاستبداد الذي في إدارة الدولة ، وبقي الارتكاب والظلم والاستبداد
على ما كان عليه سابقًا ، لعدم إصلاحهم السراي السلطانية ، كما أصلحوا وجاق
الإنكشارية والصباهية ، وقلبوهما إلى النظام الجديد .
* * *
( حزب تركيا الفتاة )
أول مؤسس لحزب تركيا الفتاة هو مصطفى فاضل باشا بن إبراهيم باشا
المصري ثم صهره خليل شريف باشا . ولد مصطفى فاضل في القاهرة سنة 1830م ،
وحصل العلوم الجديدة ، حتى صار على جانب من العرفان والاضطلاع والوقوف
على دقائق الأمور ، فخدم في مصر ، وبعد جلوس السلطان عبد العزيز بسنة ، تعين
ناظرًا للمعارف في الآستانة ، ثم ناظرًا للمالية ، وأجرى فيها عدة إصلاحات ، وكان
ميكروب الاقتراض قد تفشى في هذه النظارة ، وأحدث بلاء القوائم النقدية ، حتى
بلغت الديون ما بلغته ، فأثقلت كاهل الأمة ، وكان الصدر الأعظم إذ ذاك يوسف
كامل باشا ، صهر والي مصر محمد علي باشا ، ومترجم تليماك للتركية ، الترجمة
الأولى العويصة ، وكان عالي باشا في نظارة الخارجية ، وفؤاد باشا في رياسة
مجلس الأحكام العدلية ، ثم في نظارة الحربية ، وأدخل فيها حسين عوني باشا العدو
الألد لعمر باشا المجري . وكان فؤاد باشا تعين حكمًا لفصل الخلاف الحادث بين
مصطفى فاضل باشا وإخوته على تقسيم ميراث أبيهم ، فحصل بينهما رقابة وعداوة ،
فلما تولى فؤاد باشا الصدارة تسبب في عزل مصطفى فاضل من نظارة المالية ،
مع ما له من الخدم والإصلاحات المفيدة ، فشق ذلك على مصطفى فاضل ، وقدم
للسلطان عبد العزيز خان لائحته الشهيرة التي شدد فيها النكير على الاستبداد ،
وكشف الغطاء عن عورات الدولة ، وبيّن أسباب الضعف والانحطاط وسوء
الاستعمال بحرية لم يعتدها رجال المابين ، ولا سمعوا بمثلها قبل ذلك ، ثم هاجر إلى
باريس سنة 1865 ، ولحقت به فئة من الشبان ، فأكرم مثواهم ، وأنفق على تعليمهم
ونبغ منهم كثيرون في الأدب والكتابة والسياسة . حدثني أحدهم قال : كنا في
باريس في عيشة راضية ، لا يهتم الواحد منا بأمر معايشه ، فإذا فرغ من الدرس
والتحقيق والمشاهدة ، عاد إلى منزله ، فوجد ما يحتاج إليه من الطعام والمنام ،
بخلاف أحرار هذا الزمان ، الذين قاسوا أشد العذاب في أمر معايشهم .
فاشتغلت النابتة الجديدة بفنون الأدب وعلوم التاريخ والسياسة والصناعات
النفيسة ، فنظموا الشعر ، وألفوا القصص ، ونشروا المقالات في الجرائد ، ونبغ
منهم نامق كمال بك ، شاعر النشأة الجديدة وأديبها ، وموجد الأدب الجديد العثماني ،
ولد في الآستانة سنة 1250هـ وقرأ في المكاتب وتعلم الفرنساوية ، وصارت له
مهارة زائدة في الإنشاء ، الذي نشر به مقالاته السياسية في الجرائد بأسلوب
مستحدث طريف ، هو من السهل الممتنع ، وأشعاره على نسق أشعار فيكتور هوجو
في طلب الحرية وتدبير المملكة وإصلاح شئون الحكومة ، وله مؤلفات كثيرة منها
التاريخ العثماني ، الذي لم يطبع ، وقصة وطن أو سليستره ، التي تمثل اليوم في
الآستانة و سلانيك بعد حدوث الانقلاب ، وتوفي نامق كمال بك وهو متصرف في
جزيرة ساقز سنة 1305هـ . ومنهم ضيا باشا الأديب الشاعر ، وسعد الله باشا
سفير فينا الأسبق ، مترجم قصيدة لامارتين التي عنوانها ( البحيرة ) ، وله أشعار
عصرية رائقة .
ومنهم أبو الضيا توفيق بك ، الذي أصلح حروف الطبع وكتب الخط الكوفي ،
وطبع الكتب والرسائل والمجموعات بصنعة بديعة عجيبة لم تبلغها إلى الآن مطابع
الشرق ولا مطابع أوربا الشرقية . وعبد الحق حامد بك ، سفير بروكسل ، وصاحب
قصة طارق بن زياد ، وكثير غيرهم من الكتاب والأدباء أنصار حزب تركيا
الفتاة ، الذي أسسه مصطفى فاضل باشا ، ثم صهره خليل شريف باشا ، الذي
جاء من مصر إلى الآستانة ، وتوظف في نظارة الخارجية بسبب معرفته الفرنساوية ،
وصار سفيرًا لباريس وغيرها وناظرًا للخارجية ، وتزوج بأكبر بنات مصطفى
فاضل باشا ، وهي الأميرة الشهيرة نازلي خانم ، التي اقتفت أثر والدها وزوجها
الأول في تعضيد حزب تركيا الفتاة ، وساعدته بالمال والجاه ، هي وشقيقها الأمير
محمد علي باشا .
* * *
( لائحة فاضل باشا للسلطان عبد العزيز )
لخص مصطفى فاضل باشا سياسة تركيا الفتاة في اللائحة المذكورة التي قدمها
إلى السلطان عبد العزيز خان ، وقال فيها :
( تتصور أوربا أن المسيحيين وحدهم في تركيا خاضعون للمعاملات
الاستبدادية ، ولاحتمال أنواع الأذى والتحقير المتولد من الظلم ، وليس الأمر كذلك ،
فإن المسلمين ربما كان الظلم والعسف أشد وطأة عليهم ، وهم أكثر انحناء تحت نير
العبودية من المسيحيين ، لأن المسلمين ليس وراءهم دولة أجنبية تتحيز لهم وتحامي
عنهم ، فرعايا جلالتكم من جميع المذاهب مقسومون إلى صنفين : الظالمين ظلمًا لا
حد له ، والمظلومين بلا شفقة ولا مرحمة ، والأولون يجدون في الحكومة المطلقة
غير المقيدة التي تستعملها جلالتكم ، والتي اغتصبوها - إغراء وتشويقًا إلى جميع
الرذائل ، وأما الآخرون فتفسد أخلاقهم أيضًا بعلاقاتهم الضارة مع سادتهم ، وبما أنهم
مجبرون على الخضوع دائمًا للشهوات الرذيلة ، ولا يستطيعون إيصال شكاياتهم
الصحيحة إلى أعتاب سدتكم الملوكية ؛ لأن ظلاَّمهم يرون هذه الاستغاثة - مع
الاحترام - بحكومة جلالتكم من أكبر المفاسد ، فاعتادوا على دناءة الأخلاق التي لا
يمكن تصورها ) .
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
فهذه الأصول الاستبدادية التي كان أعداء الإصلاح من حزب تركيا القديمة
يريدون المحافظة عليها ، ويعدون التمسك بها من الغيرة الدينية والحمية الوطنية ،
والإسلام والوطنية بريئان منها للأسباب المشروحة فيما مر . فحزب تركيا الفتاة
يمكننا أن نعتبر وجوده منذ تولي مصطفى فاضل باشا نظارة المعارف ( 1862م ) ،
وهاجر إلى باريس ( 1865 - 1867م ) وأنصار هذا الحزب هم جميع المطلعين
على الكتب الفرنساوية وأدب الطريقة المدرسية ، أو على ما ترجم منها بالتركية ،
والذي أطلق عليه هذا الاسم هم الفرنساويون الذين قالوا : ( جون تركي ) كما
يقولون ( جون فرانس - جون ألمانيا - جون إيتالي ) ، فترجم بتركيا الفتاة وقيل
بالتركية ( كنج تركار ) ، ولذا قال هانوتو : إن تركيا الفتاة من اللغة الفرنساوية .
وقد جوزي مصطفى فاضل باشا على جرأته بمصادرة أمواله ، ثم أعيدت إليه
بوساطة بعض الأجانب ، ثم حرم من ميراث الخديوية ، هو و حليم باشا بسبب
صدور الفرمان السلطاني بانتقالها إلى أكبر أولاد المالك ، وهو إذ ذاك إسماعيل باشا ،
وصار مسند الخديوية ينتقل من الوالد إلى ولده ، بعد أن كان ينتقل إلى الأكبر
فالأكبر من الأسرة ، كما هي القاعدة في جميع الممالك الإسلامية ، لما علمت من أن
الإسلام ليس فيه ملك موروث .
وفي سنة 1278هـ و1871م أصيبت المملكة العثمانية بوفاة أشهر قوادها
عمر باشا ، وأشهر سواسها الصدر الأعظم عالي باشا ، صاحب الأعمال الكثيرة في
تنظيم إدارة الحكومة ، ووضع ميزانية للمالية ، وتأسيس نظارة الداخلية والأوقاف ،
ومجالس الدعاوى والتمييز وتنظيم أصول المحاكمات واستعمال الأصول
الأعشارية ، وغير ذلك من الإصلاحات الداخلية والسياسية الخارجية ، وترجمت
القوانين والنظامات عن الفرنساوية بلا نظر ولا معرفة بصالح البلاد
واحتياجاتها ، فترجموا مثلاً قانون التجارة الفرنساوي القديم ، وأبقوا فيه مسائل
النكاح و ( الدوتة ) واشتراك الزوجين بالأموال وعدمه ، كما هو مختص
بالأوربيين ولا وجود له في الشرق ، لا عند المسلمين ولا عند المسيحيين . وبعد
وفاة عالي باشا تولى مسند الصدارة محمود نديم باشا ، ومال إلى روسيا حتى سمي
( نديموف ) ، وبذر أموال الخزينة ، وأصبح آلة في يد الجنرال اغناتيف سفير
روسيا في الآستانة .
* * *
( صدارة نديم باشا الأولى )
محمود نديم باشا كان أبوه واليًا ، فتربى في داره على الاستبداد والارتكاب ،
وتعين واليًا كأبيه ثم ناظرًا للبحرية ، وكان شديد التعصب للإدارة القديمة المستبدة ،
كثير البغض للإصلاحات الجديدة والحرية . تقرب إلى السلطان عبد العزيز خان
بالتملق ، واستولى عليه من أضعف نقطة فيه ، وهي العظمة ، فدس له بأنه تحت
وصاية فؤاد باشا وعالي باشا ، مع أنه خليفة الله في الأرض ، والقابض على رقاب
خمسين مليونًا من الرعية ، الذين هم عبيد جلالته ! وأن بيت المال هو حق من
حقوقه ، له أن يتصرف فيه حسبما شاء وأراد ! وكانت الميزانية المالية وضعت في
أيام عالي باشا وفؤاد باشا ، وحدد فيها مصاريف المابين ، فانقلبت أحوال السلطان
عبد العزيز خان في صدارة محمود نديم ، واستبد بالأمر ، وأبعد عن الوظائف
الملكية والعسكرية الرجال الذين تخيرهم عالي باشا ودربهم وعلمهم حتى كانوا من
خيرة الموظفين ، فاستبدل بهم المرتكبون وكثر تحويل الوظائف والعزل والنصب
والترقي في جميع الوظائف الملكية والعسكرية ، حتى كان الضابط يرتقي إلى
المراتب العلى في أقرب ، ويصبح مشيرًا ، بعد أن كان من قبل أَشْهَرٍ ضابطًا
صغيرًا . وزاد الإسراف والتبذير ببناء السرايات التي لا لزوم لها ، وإنشاء
الأسطول الذي صار أثرًا بعد عين ، كما زاد الانهماك في الملذات والشهوات ،
وكانت أوربا وصيارفة الآستانة تقرض الأموال بالربا الفاحش والديون تتراكم على
خزينة الدولة ، والمكلفون بها هم فقراء الرعية ، من أصحاب الأعشار والأغنام ،
يؤدونها من كد اليمين ، وعرق الجبين .
ومن الغلطات السياسية في صدارة محمود نديم باشا إصدار الفرمان بفصل
الكنيسة البلغارية عن الكنيسة الرومية ، وتعيين إكسارخوس للبلغار مستقل عن
بطريرك الروم في القسطنطينية ، وكان ذلك بمساعي الجنرال إغناتيف ، حبيب
محمود نديموف باشا ، للتوصل إلى إحداث دولة للبلغار ، مع أن الباب العالي كان
يعتبر جميع هؤلاء الأمم الصغيرة ، كالبلغار والصرب والأفلاخ والبغدان و الجبل
الأسود والهرسك روما تابعين لبطريركية القسطنطينية ، لاشتراكهم جميعًا في الدين
الأرثوذكسي . ومن الغلطات المالية أيضًا إعطاء المثري النمساوي اليهودي الشهير ،
وهو البارون هرش ، امتياز سكة حديد الروم أيلي المعروفة بسكك الحديد الشرقية ،
وإضرار الخزينة والأمة من وراء ذلك ضررًا كبيرًا ، وفي أثناء ذلك ظهر مدحت
باشا في مسند الصدارة .
* * *
( صدارة مدحت باشا الأولى )
ولد مدحت باشا في القسطنطينية سنة 1822م ، ووالده حاج علي أفندي ،
أصله من روسجق ، التي كانت مركز ولاية الطونة ( بلغارستان ) على ضفة نهر
الطونة ( الدانوب ) اليُمْنَى ، ولما كان من صغار الموظفين لم يستطع تعليم ابنه غير
مبادئ العلوم وحسن الخط المعدود في ذاك الدور من أكبر العلوم وأهمها للدخول في
الوظائف والترقي فيها ، وأدخله على حداثة سنه قلم الصدارة ، فتخرج في أقلام
الباب العالي ، وتعلم بالمشاهدة والتجربة والاختبار ، وتعين مأمورًا في الولايات ،
ومكث سنتين في دمشق الشام ، وترقى إلى أن صار باشكاتب في مجلس ( والا ) ،
وهو شورى الدولة ، وذهب مرّة ثانية إلى دمشق و حلب للتحقيق عن القبر صلي
محمد باشا ، وألفت باستعداده واجتهاده نظر رشيد باشا وعالي باشا وفؤاد باشا
ورفعت باشا ناظر الخارجية إليه ، فأجلسه معه رفعت باشا ليسمع المحاورة التي
دارت بينه وبين البرنس منجيكوف ، مندوب دولة روسيا ، وذلك قبل حرب القرم ،
فاطلع مدحت باشا حينئذ على السياسة الخارجية ، وبعد وفاة رشيد باشا سنة 1858م
تولى الصدارة عالي باشا ، فأذن لمدحت بالذهاب إلى أوربا مدة ستة أشهر ، فذهب
إلى باريس ولوندره وبروكسل وفينا ، وشاهد انتظام الإدارة ومحاسن المدنية
والترقيات العصرية . وما زال يرتقي في الوظائف حتى صار والي ولاية الطونة
( بلغارستان الحالية ) ، فأجرى فيها إصلاحات كثيرة ، وفتح مجلس الأيالة ، وهو
المجلس العمومي ، الذي فتحه راشد باشا في سوريا ، ثم عين واليًا لولاية بغداد
ومشيرًا لعساكرها ، فسكن عصيان نجد ، وأهداه السلطان عبد العزيز خان سيفًا
مكافأة له على خدمه ، وإذ كان الصدر الأعظم محمود نديم باشا كثير العزل والنصب
والتبديل ، نقل مدحت باشا من ولاية بغداد إلى ولاية أدرنه ، فمر بكرسي السلطنة
وطلب مقابلة الحضرة السلطانية ، وأراها طرق الخلل وسوء الإدارة وعاقبة الأمر ،
فعزل محمود نديم من الصدارة وتولاها مدحت باشا ، لكنه لم يبق فيها إلا ثلاثة
أشهر ، وكان سبب عزله على ما روي أن إحدى سراري القصر بعثت إليه مع
الطواشي طالبة تعيين أحد خدامها قائمقام في أحد الأقضية ، فأجابه مدحت :
( سلِّمْ على الخانم , وقل لها : أن تلتمس هي بنفسها من أفندينا ذلك ) , واشتد
غضبه من مداخلة السراري وتتابع رجائهم .
* * *
( صدارة نديم باشا الثانية )
كثر تبديل الصدور بعد عزل مدحت ، حتى بلغوا نحو العشرة في خلال سنة
أو خمسة عشر شهرًا ، ثم عاد إلى الصدارة محمود نديم باشا ، وكان العود غير أحمد ،
فزاد الارتكاب ، وبيعت الرتب والنياشين ، كما بيعت الوظائف بالمزاودة ، بحيث
أصبح يَحْتَجِنُهَا الذي يزيد في الثمن ، واختلت الموازنة المالية ، حتى قضت بإعلان
الإفلاس في 5 تشرين الأول ( أكتوبر ) سنة 1875 ، وطمع العدو في البلاد ،
فأوجب ذلك هيجان تركيا الفتاة وعقلاء الأمة ، وكان التجسس غير معروف في ذلك
الوقت ، وكان للجرائد حرية في الكتابة والانتقاد ، فشرعت جريدة ( وقت ) التركية
في نشر الحكايات والأساطير عن ملوك الصين ، واستنتاج الأمثال والمواعظ من
انقراض ملكهم ، والتعريض بذلك لوزارة محمود نديم باشا ، وأخذ فريق من الناس
يطوفون على المجالس والدواوين والأندية العامة ، ويقصون أنواع المظالم
والارتكاب وسوء الإدارة ، فهاجت الأفكار العمومية ، ولا سِيَّمَا الصوفتاوات ، وهم
طلاب العلوم الدينية ، البالغ عددهم في جوامع الآستانة نحو خمسةَ عَشَرَ إلى
عشرين ألف طالب .
* * *
( هياج الصوفتاوات وصدارة رشدي باشا )
اجتمع من هؤلاء الطلاب زهاء خمسة أو ستة آلاف طالب ، وهجموا على
الباب العالي في 22 مايس ( مايو ) سنة 1876 ، وذهب آلاف منهم إلى سراي
طولمه باغجه ، مقر السلطان عبد العزيز ، فشكوا إليه طالبين عزل محمود نديم ،
وتولية محمد رشدي باشا ، فأجيبوا إلى ذلك ، وصدرت الإرادة السنية بتشكيل
الوزارة ، وتولية محمد رشدي باشا الصدارة ، و حسين عوني السر عسكرية ،
وقيصر لي أحمد باشا نظارة البحرية ، وراشد باشا ، الذي كان واليًا على سوريا ،
نظارة الخارجية ، و خير الله أفندي مشيخة الإسلام .
* * *
( خلع السلطان عبد العزيز )
كان حزب مدحت باشا من الأحرار ، مؤلفًا من نامق كمال بك ، وضيا بك ،
ورؤوف بك ، و إسماعيل بك ، وهؤلاء لم يرتقوا إلى رتبة الباشاوية ، وأما الذين
ارتقوا منهم إلى هذه الرتبة بعد ذلك ، فهم حسن فهمي باشا و شاكر باشا و سعد الله
باشا و رائف باشا ورفعت باشا ، وكانوا من الوزراء ، فلما تولى حزب تركيا الفتاة
زمام الأمر ، واستولى على المالية ، والقوة البرية والبحرية والشرعية ، خلعوا
السلطان عبد العزيز في 17 جمادى الأولى سنة 1293 و30 مايس ( مايو ) سنة
1876 بفتوى من شيخ الإسلام ، واجلسوا ابن أخيه السلطان مراد خان ، ففرح به
الناس واستبشروا ، وكان السير هنري إليوت ، سفير إنكلترا أشد السفراء سرورًا ،
والجنرال اغناتيف ، سفير روسيا ، أكثرهم غمًّا ، وهو حبيب محمود نديم باشا ،
والمشير عليه بتلك السياسة العوجاء ، ونقل السلطان عبد العزيز من سراي طولمه
باغجه إلى سراي طوب قبو المقابلة لها على ساحل البحر . ثم نقل بناء على طلبه
إلى سراي جراغان المجاورة لطولمه باغجه على ساحل المضيق ( البوغاز ) ، وبعد
خمسة أيام وقع الاغتيال ، واختلف فيه ، هل كان بطريق الانتحار ، أو القتل عمدًا ،
فإن الذين كشفوا على الجثة وجدوها في الطبقة السفلى من السراي ، على سجادة
بقرب الباب ، ففي إنزالها من الطبقة العليا المعدة للسكنى إلى الطبقة السفلى شبهة ،
وعلى فرض ثبوت الجناية ، فمن عساه يكون المتهم بها ! هل حريم السراي
وطواشيتها ، الذين تكثر بينهم الدسائس ، ويصعب التحقيق ؟ أو مدحت باشا وحزبه ،
الذين لا مأرب لهم بذلك ؟ وقد توصلوا إلى مأربهم بدون إراقة دم ، واستحقوا
إجلال العالم لهم من عثمانيين وأوربيين ، وهم أعقل وأدهى من أن يلوثوا عملهم
العظيم بدم جناية ودسيسة مثل هذه .
* * *
( حادثة الجركس حسن بك وخلع السلطان مراد )
ثم حدثت مسألة الجركس حسن بك ياور السلطان عبد العزيز ، فإنه دخل دار
مدحت باشا والوزراء مجتمعون فيها ، وقتل السرعسكر ، وراشد باشا ناظر
الخارجية ، ووالي سوريا قبلاً ، و أحمد آغا الخادم ، وجرح ناظر البحرية ، وبعض
الياورية الحاضرين ، فأثرت هذه الحوادث في السلطان مراد ، وأدت إلى اختلال
شعوره ، فخلع بعد ثلاثة أشهر وثلاثة أيام من جلوسه .
جلوس السلطان عبد الحميد :
جلس على سرير الملك جلالة مولانا السلطان عبد الحميد خان الثاني بعد أن
اشترط مدحت باشا وحزبه ثلاثة شروط :
( 1 ) إعلان القانون الأساسي .
( 2 ) استشارة الوزراء وجعلهم مسئولين وحدهم في أمور الدولة .
( 3 ) تعيين ضيا بك وكمال بك كاتبين خاصين للمابين ، وسعد الله بك
باشكاتب ، لأنهم من الأحرار الحريصين على تنفيذ أحكام القانون الأساسي ،
والأولون ممن قاموا بتسويده وتنميقه . فلم يعمل بهذه الشروط ، وتعين الداماد محمود
جلال الدين باشا ، مشيرًا للمابين ، وإنكليز سعيد باشا ، رئيسًا للياورية ، وكجوك
سعيد باشا ، الصدر الأسبق في هذه الآونة ، وكان سعيد بك باشكاتب للمابين .
* * *
(مؤتمر الآستانة وإعلان القانون الأساسي وصدارة مدحت باشا الثانية)
كانت بلاد البلقان في اختلال وهيجان بسبب قيام الهرسك والصرب والجبل
الأسود والبلغار وتأففهم من الظلم والاستعباد ، ومطالبتهم بالاستقلال ، وتمسك كل
منهم بقوميته وأدب لغته ، بعد أن كان الدين المسيحي الأرثوذكسي يجمعهم تحت
سلطة بطريرك القسطنطينية . وكانت أوربا تطالب الدولة العلية بإجراء الإصلاحات ،
والعناية بالمسيحيين التابعين لها ووقايتهم من الظلم والاعتساف ، فتقرر عقد مؤتمر
( قونفرانس ) في الآستانة العلية لاتخاذ التدابير اللازمة لتسكين البلاد وإصلاحها ،
وكان المؤتمر مؤلفًا من أحد عشر مندوبًا ، اثنين من إنكلتره ، وهما سفيرها السير
هنري إليوت ، واللورد سالسبوري ، واثنين من فرنسا ، واثنين من أوستريا
( النمسا ) ، وواحد من روسيا ، وهو الجنرال إغناتيف ، وواحد من إيطاليا ،
وواحد من ألمانيا ، واثنين من قبل الدولة العلية ، وهما صفوت باشا ، و أدهم
باشا ، فعقدوا جلستهم الأولى في 23 كانون الأول ( ديسمبر ) سنة 1876 في دائرة
الترسانة التي على خليج دار السعادة من جهة غلطه . ولم يكد يتم افتتاح المؤتمر إلا
وقد سمعوا أصوات المدافع ، فوقف صفوت باشا قائلاً : أيها السادة , إن أصوات
المدافع التي تسمعونها هي دلالة على إعلان القانون الأساسي من قِبَل جلالة سلطاننا
الأعظم ، وهذا القانون متكفل الحقوق والحرية لجميع رعايا المملكة العثمانية بلا
استثناء ، وقد حصل بذلك المقصود من عقد المؤتمر ، فأصبح انعقاده وعمله من قبيل
العبثيات .
فبُهِتَ القومُ وانفضت الجلسة . وقد أعلن القانون الأساسي حقيقة في ذلك اليوم ،
وأطلق لدى إعلانه مائة مدفع ومدفع في جميع المدن والممالك العثمانية ذات
القلاع . وكان مدحت باشا هو روح هذا الانقلاب العظيم ، وهو القابض على زمام
الأمر في الحقيقة منذ خلع السلطان عبد العزيز ، وإن لم يكن ( صدرًا أعظم ) وكان
الصدر الأعظم إذ ذاك محمد رشدي باشا ، شيخًا مسنًّا منقادًا له ولحزب تركيا الفتاة ،
وبعد جلوس السلطان عبد الحميد خان الثاني ، استعفى محمد رشدي باشا لشيخوخته ،
وتولى الصدارة العظمى مدحت باشا ، وهي صدارته الثانية .
لم يرض الجنرال إغناتيف بهذه الإصلاحات ، بل أصر على بقاء المؤتمر ،
فداوم أعماله ، وقدم لائحة إلى الباب العالي في 15 كانون الثاني ( يناير ) سنة
1877 ، وطلب الجواب عنها في خلال ثمانية أيام ، فكانت من قبيل ( الأولتيماتوم )
* * *
( عقد المجلس العالي ورفضه لائحة مؤتمر الآستانة )
عقد الصدر الأعظم مدحت باشا مجلسًا عاليًا مؤلفًا من الوزراء والمشيرين
ورجال الدولة والرؤساء الروحيين وأعيان المسلمين والمسيحيين واليهود ، وعرض
عليهم لائحة المؤتمر ، وأفهمهم مطالب الدول الأوربية ، وأن ردها يؤدي إلى الحرب ،
فتشاوروا بكامل الحرية ، وأبدى كل منهم رأيه ، فقال رءوف بك ، ابن رفعت
باشا ناظر الخارجية الأسبق إذ ذاك : الحرب كداء الحمى ، يمكن أن ننجو منه ،
ولكن لائحة المؤتمر كداء السل الرئوي ، عاقبته القبر لا محالة . وقال صاوا باشا ،
من خطبة طويلة : إننا نختار الموت على إهانة شرفنا ، وألقى وكيل بطريرك
الأرمن الكاثوليك مقالة طويلة في ردّ اقتراحات المؤتمر ، فرفض المجلس قَبولها
بالاتفاق ، وظهر من هذا الاجتماع ائتلاف المسلمين والمسيحيين واليهود ، واتفاقهم
واتحادهم على محبّة الوطن وترقيه ، والغيرة على منافعه ، وكان الروم والأرمن
الكاثوليك أشدهم حماسة ، حتى إن الروم عزموا على تشكيل فرقة متطوعة لمحاربة
الصرب مع العساكر العثمانية ، لأن استقلال الأمم البلقانية من الصرب والجبل
الأسود والبلغار مُضِرّ بصالح الروم ، لانفصالهم عن الكنيسة الأرثوذكسية ، التي هي
تحت رياسة بطريرك الروم القسطنطينية ، ورفضهم استعمال اللغة والأدبيات
اليونانية ، فَبِنَاءً على جميع ذلك أجاب الباب العالي في 20 كانون الثاني ( يناير )
برفض مطالب الدول المذكورة في لائحتهن ، فانفض مؤتمر الآستانة ، وغادرها
المندوبون والسفراء ، دلالةً على قطع العلاقات بين أوربا والباب العالي .
* * *
( تغلب حزب التقهقر وكتاب مدحت للسلطان )
كان الحزب المخالف للقانون الأساسي يسعى في التخلص من هذا القانون ،
فبعد تعيين مدحت باشا في الصدارة انعقد مجلس الوكلاء برياسته في دار الداماد
محمود جلال الدين باشا ، وتذاكروا في القانون الأساسي ، فارتأى أحمد جودت باشا ،
ناظر العدلية ( الحقانية ) تأجيل هذا القانون لعدم الحاجة إليه ( ؟ ) بسبب جلوس
السلطان الحالي ! وكان أحمد جودت باشا من المنتسبين إلى الداماد محمود جلال
الدين ، ومن كبار العلماء والمؤرخين ، ولكن ارتشاءه مشهور في الآستانة والولايات ،
وإعلان القانون يسد على المرتكبين أمثاله باب الارتكاب ، فبإصرار مدحت باشا
وحزبه ، مثل ضيا بك وكمال بك وغيرهم من الأحرار الذين مر ذكرهم ، وبجريدتي
( وقت ) و ( استقبال ) والمقالات الشائقة المحررة فيهما - صدر الخط الشريف
السلطاني إلى مدحت باشا بإعلان القانون الأساسي ، وحمله الباشكاتب سعيد بك إلى
الباب العالي ، وتُلِيَ في الميدان الواسع الذي أمام الباب ، بحضور جماهير الناس ،
وبعد تلاوته ، خطب مدحت باشا في الموضوع ، وتلا الدعاء فوزي أفندي ، مفتي
أورفه وأمن الناس ، ومازال مدحت باشا يلحّ في طلب اجتماع المبعوثان ، ويجتهد
في تأليفه من الأحرار ، والمابين يؤخر ذلك ، ويفرق جميع الأحرار ، حتى إنه أراد
تعيين ضيا بك ، مسود القانون الأساسي ، سفيرًا في برلين لئلا ينتخب مبعوثًا عن
أهل الآستانة . فضاق صدر مدحت باشا من التأخير والمحاولة ، وكتب إلى الذات
الشاهانية مباشرة : ( لم يكن غرضنا من إعلان القانون الأساسي إلا محو الاستبداد ،
وتعيين ما لجلالتكم من الحقوق ، وما عليها من الواجبات ، وتعيين وظائف الوكلاء
ومسئوليتهم ، وتأمين جميع الناس على حريتهم ، حتى ترتقي البلاد في معارج
الارتقاء - إلى أن قال : وإني لكثير الاحترام لشخص جلالتكم ، ولكن الشرع
الشريف يوجب علي أن لا أطيع أموركم ( أوامركم ) ، إذا لم تكن موافقة لمنافع
الأمة ) ، ونحو ذلك مما لم يسمع بمثله إلا من مصطفى فاضل باشا ، كما تقدم ،
وبالحقيقة إن أحكام الشريعة الإسلامية وفتاوى الفقهاء في هذا الصدد لا تترك أدنى
شك ولا ريب ؛ لأن السلطان بحكم الشرع ليس مطلق الحرية ، ولا مطلق التصرف
في أموال الناس ومنافعهم ، وإنما هو في جميع ذلك مقيد بالأحكام الشرعية ، ولا
طاعة لمخلوق في معصية الخالق . فالحكومة المطلقة التي درجت عليها الدول
والإمارات الإسلامية وتوارثتها من عهد معاوية ، لا وجود لها على التحقيق في الدين
الإسلامي .
* * *
( عزل مدحت باشا ونفيه وصدارة أدهم باشا )
فعزل مدحت باشا ، ونفي على الباخرة ( عز الدين ) إلى إيطاليا ، ووجهت
الصدارة العظمى إلى أدهم باشا ، والد حمود بك و خليل بك مديري دار العاديات
( الموزه خانه ) ، وعيّن جودت باشا للداخلية ، وأحمد وفيق أفندي لرياسة مجلس
المبعوثان مؤقتًا ، لأن انتخاب الرئيس مبين في المادة السابعة والسبعين من القانون
الأساسي .
* * *
( انتخاب أعضاء مجلس المبعوثان )
رأت الدولة العلية إصرار أوربا على إصلاح الروم أيلي ، فسارعت إلى
انتخاب المبعوثين ، وتطبيق أحكام القانون الأساسي ، الذي نالت به الأمة العثمانية
الحرية وحق الحكم ، فلم يفقه الناس إذ ذاك معنى هذه الحرية ، ولا قَدَرُوها حقَّ
قدرها ، فظنوا أن المبعوثين كبقية الموظفين ، يشتغلون بمصالح الأمة تحت سيطرة
الوزراء والنظار ، ليستفيدوا من الرواتب التي ينقدونها ، فلم يهتموا بأمر الانتخاب
كما يجب ، حدثني بعض أحرار الآستانة ، قال كنا نحرّض الناس على الانتخاب
ونسوقهم إليه سوقًا ، وهم يقولون : ألم يكفنا ما لدينا من المجالس والدوائر المشحونة
بالموظفين حتى نزيد عليها مجلسًا جديدًا ، ونتكبد القيام برواتب موظفيه ؟ فإن لم
يصلح حالنا وتنتظم إدارتنا بجميع ما نراه أمام أعيننا من النظارات والدوائر العظيمة
المشتملة على الألوف من الموظفين ، أتراه يصلح بمجلس المبعوثان ؟
هذا ما كان يقال في قاعدة السلطنة ومقر الخلافة ، فما بالك في مراكز الولايات
والألوية ، إذ كان المنتخبون لا يوصون مبعوثيهم إلا بطلب الرتب والأوسمة
والألقاب والمناصب والمخصصات والرواتب لهم ولأقاربهم وذويهم ! ! ولمن لاذ بهم
وحام حول حماهم ، أو بإعفائهم من التكاليف الأميرية والخدمة العسكرية وتخفيف
الضرائب والمكوس عنهم ، ونحو ذلك ! مما يعود على الوطن بالخراب لا بالعمران ،
كأن خزينة الدولة كنز لا يفنى ، تمطر عليه الأموال من رحمة الله بغير عدّ ولا
حساب .
* * *
( افتتاح مجلس المبعوثان وخطاب السلطان )
افتتح المجلس العمومي ، المؤلف من الأعيان والمبعوثان في 4 ربيع الأول
سنة 1294 و19 مارت ( مارس ) سنة 1877 في بهو الاستقبال الكبير في سراي
طولمه باغجه بمحلة بشكطاش ، وتُلِيَ النطق السلطاني أمام الحضرة السلطانية ،
وهو :
أيها الأعيان والمبعوثان :
إنني أبدي الامتنان بافتتاح المجلس العمومي ، الذي اجتمع للمرة الأولى في
دولتنا العلية ، وجميعكم تعلمون أن ترقي عظمة واقتدار الدول والملل ، إنما هو قائم
بالعدل ، حتى إن ما انتشر في العالم من قوة دولتنا العلية وقدرتها في أوائل ظهورها
كان من مراعاة العدل في سير الحكومة ، ومراعاة حق ومنفعة كل صنف من
صنوف الرعية ، وقد عرف العالم أجمع تلك المساعدات التي قام بها أحد أجدادنا
العظام المرحوم السلطان محمد خان الفاتح في مطلب حرية الدين والمذهب ، وجميع
أسلافنا العظام أيضًا ، قد سلكوا على هذا الأثر ، فلم يقع في هذا المطلب خلل في
وقت من الأوقات ، ولا ينكر أن المحافظة على ألسنة صنوف رعيتنا ومليتهم
ومذاهبهم منذ ست مائة عام كانت النتيجة الطبيعية لهذه القضية العادلة . والحاصل
بينما كانت ثروة الدولة والملة ( الأمة ) وسعادتها صاعدتين في مدارج الترقي في
تلك الأعصار والأزمان بفضل حماية العدالة ووقاية القوانين - أخذنا بالانحطاط
تدريجًا بسبب قلة الانقياد للشرع الشريف ، وللقوانين الموضوعة ، وتبدلت تلك القوة
بالضعف … ) , إلخ .
ثم ذكر إزالة السلطان محمود غائلة الإنكشارية ، وسبقه لفتح باب إدخال مدنية
أوربا الحاضرة إلى الممالك العثمانية ، واقتفاء السلطان عبد المجيد خان أثره ،
وإعلانه أساس التنظيمات الخيرية … , إلخ النطق السلطاني المعروف .
قابل الجميع هذا النطق بالخضوع والركوع ( ! ! ! ) وخصص لاجتماع
المبعوثين بهو كبير في سراي العدلية ، بالقرب من أيا صوفيا تحت رياسة أحمد
وفيق أفندي ، الذي صار بعد ذلك باشا ، وعين للرياسة بإدارة سنية لا بالانتخاب !
ولذا كان رقيبًا على مدحت باشا ، وقد اتهمه حزب تركيا الفتاة بالاستبداد ؛ لأن
رياسة مجلس المبعوثان شبيهة بوظيفة رئيس المويسيقي المركبة من آلات كثيرة
مختلفة ، لكل آلة توقيع خاص ، فعلى الرئيس أن يلاحظ موازنة الأنغام وائتلاف
بعضها ببعض ، لتخرج جميعها بصورة مفيدة مطربة ، وليس له أن يأخذ آلة من
الآلات المويسيقية ويضرب عليها ليوازن ما بينها .
* * *
( مذكرات مجلس المبعوثان )
كانت الجلسة الأولى مخصصة للمذاكرة في العريضة التي ينبغي تقديمها من
مجلس المبعوثان ، جوابًا عن النطق السلطاني ، فحررت مسودة الجواب ، وأسقط
الكاتب منه كلمة ( ألسنة ) في الجواب عن فقرة ( المحافظة منذ ست مائة عام على
ألسنة… ) المذكورة في النطق السلطاني ، فقام أحد مبعوثي الروم من الآستانة ,
وقال ما محصله : ( لا يمكننا أن نقبل إسقاط كلمة تدل على أثمن امتياز نِلْناه ؛ لأن
لساننا - نحن معشرَ الرومِ - هو ثروتنا ، فمن سوء الفهم وقلة الأدب نحو جلالة
سلطاننا الأعظم أن نمحو كلمة أثبتها جلالته بنفسها وكرَّرْت مَنْحَنا ذلك من جديد )
فقال الرئيس : ليس بحثنا في ذلك ، لأنا لا نعرف في هذا المجلس لسانًا غير اللسان
العثماني الرسمي . فقال جمهور العثمانيين : ( بك أعلى ! بك أعلى ! ! ) أي حسن
كثيرًا ، حسن كثيرًا ، فقام مبعوث أرمني ، وأيد كلام المبعوث الرومي ، فقال
الرئيس ثانية : ليس بحثنا في ذلك ، ومع هذا فإني أسأل أعضاء المجلس عَمّا إذا
كانت آراؤهم موافقة لرأيي ؟ فقال جمهور المبعوثين : ( أوت أفندم ! أوت أفندم ! )
أي : نعم , يا سيدي ! نعم , يا سيدي !
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(*) رسالة حفيلة جليلة ألفها صديقنا محمد روحي أفندي الخالدي المقدسي ، من أرباب الأقلام المشهورين باستقلال الفكر وأصالة الرأي ، وهو مؤلف كتاب (تاريخ علم الأدب عن الإفرنج والعرب)، وكان وقت كتابتها في (بردو) إحدى المواني الفرنسية ، وقد رأينا أن أحسن تقريظ لها ، نشرها في المنار ؛ لأنها أصدق تاريخ لأعظم انقلاب

# نشر هذا المقال عام 1908 م