الثلاثاء، 16 أبريل 2013

الموسوعة الكبرى للفتاوى : بحث ( ما و من ) وتفسير سورة الكافرون

بحث ( ما و من ) وتفسير سورة الكافرون


المفتى
فضيلة الشيخ محمد رشيد رضا
تاريخ الفتوى 1908 ميلادية


السؤال
من محمد حسيب أفندي عامر وكيل تلغراف ( بلبيس - شرقية ) .
حضرة العلامة المفضال صاحب المنار
بعد السلام والتحية ؛ نرجوكم إيضاحَ معنى لفظة ( ما ) , وما تشير إليه في
قوله عز وجل : { لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } ( الكافرون :
2-3 ) , فإني إنْ أعطيتها حكم غير العاقل كقاعدتها النَّحْوِيّة استحال ذلك على
المولى سبحانه وتعالى ، وإن أعطيتها حكم العاقل فالأصنام وما كانوا يعبدون ليست
بذي عقل ، أفيدوني مأجورين والسلام


الجواب
قالوا : إنّ لفظ ( ما ) هنا أُرِيد به الصفة ، أي : ( المعبود ) وإذا أريد
بها الصفة تطلق على العاقل وغيره . وجوَّزَ بعضُهم أن يكونَ إطلاقُها على الله عز
وجل بعد إطلاقها على الأصنام من قبيل المشاكلة ؛ لأجل التناسق في التعبير .
ولعل السائلَ يعلمُ أنه نقل عن سيبويه وغيره أن كون ( ما ) لما لا يعقل أغلبي
لا مطرد , والشواهد عليه من التنزيل وكلام العرب معروفة ، قال الزمخشري في
الكشاف : و ( ما ) عام في كل شيء , فإذا علم فرق بما ومن وكفاك قول العلماء :
( من لما يعقل ) اهـ أي : فأَطْلَقُوا ( ما ) على العاقل في نفس القاعدة التي ذكروا فيها
أنّ ( مَن ) خاصّة بالعاقل .
وفي حاشية الأمير على المغني بعد ذكر عبارة الكشاف : قال التفتازاني : أي يصحّ
إطلاقُ ما على ذي العقل وغيره عند الإبهام ؛ لاستفهام أو غيره , فإذا علم أن الشيء
من ذوي العلم والعقل فرق بمن وما , فتختص ( من ) بالعاقل , و ( ما ) بغيره . وبهذا
الاعتبار يقال : إن ( ما ) لغير العقلاء . واستدل على إطلاق ( ما ) على ذوي العقول
بإطباق أهل العربية على قولهم : ( مَن لِمَا يَعقل ) مِن غير تجوّز في ذلك حتّى لو قِيل : ( لمن يعقل ) . كان لغوًا بمنزلة أن يقال : الذي عقل عاقل . فإن قِيل : كان الواجب هنا أن يفرق بما ومن ؛ لأن ما يعقل معلوم أنه من ذوي العلم . قلنا : نعم , لكن بعد اعتبار الصلة , أعني ( يعقل ) . وأما الموصول نفسه فيجب أن يعتبر مبهمًا مرادًا به شيء ما ليصح في موقع التفسير بالنسبة إلى من لا يعلم مدلول
( من ) وليقع وصفه بـ ( يعقل) مفيدًا غير لغو .
ومحصله أنك إنْ لاحظْتَ العاقل مِن حيثُ إنه عاقل استعملت فيه : ( من )
وإن لاحظته مِن حيثُ إنه شيءٌ ما استعملت فيه ( ما ) كما تقول : ما الإنسان ؟ .
ا هـ وأنت تعلم أن ( ما ) في السورة ليست لبيان أن مدلولها عاقل أو عالم , بل لبيان
أنه شيء معبود , فاستعمل فيه اللفظ العام الذي تفسره الصلة .
هذا , وإنني رأيتُ بعض الناس لا يفهمون معنى السورة , وقد سألني غير
واحد بالمشافهة عن معنى ما فيها من صورة التكرار , فأحببت أن أورد هنا ما كتبه
الأستاذ الإمام في تفسيرها تتمة للفائدة , وهو :
الكافر هو المعاند الجاحد الذي إذا رأى ضياء الحق أغمض عينيه ، وإذا سمع
الحرف من كلمته سَدَّ أذنيه ، ذلك الذي لا يبحث في دليل بعد عرضه عليه ، ولا
يذعن للحجة إذا اخترقت فؤاده ، بل يدفع جميعَ ذلك حُبًّا فيما وجد نفسَه فيه مع
الكثير ممن حوله ، واستند في التمسك به إلى تقليد من سلفه ، فهذا الصِّنْف هو الذي
قال الله فيه : { إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ البُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ
فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُم مُّعْرِضُونَ } ( الأنفال : 22-23 ) .
بعض هذا الصنف بل الغالب من أفراده يقول للداعي إلى الحق أو يحدث نفسه
ليلهيها عن فهمه : إلامَ يدعونا ؟ أإلى الله , فَنَحْن نعتقد به ؟ أإلى توحيده فنحن نوحده ؟
وغاية ما في الأمر نتخذ شُفَعَاءَ إليه ، نسأله بحقهم عنده أو بمكانتهم لديه ، أإلى
عبادته فنحن نركع ونسجد له ؟ وغاية ما عندنا زيادة على ذلك أننا نعظم أولياءَه ,
وأهل الشفاعة عنده ، ونتوسل إليهم ليتوسلوا إليه .
هذه وساوسهم , وهذه أَمَانِيُّهُمْ فأراد الله سبحانه أن يقطع العلاقة بينهم وبين ما
عليه الداعي إلى الحق صلى الله عليه وسلم بأصرح ما يمكن أن يصرّح به , فقال له :
{ قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } ( الكافرون : 1-2 ) أي : إنّ الإله الذي
تزعمون أنكم تعبدونه ليس هو الذي أعبده ؛ لأنكم إنما تعبدون ذلك الذي يتخذ
الشفعاء أو الولد أو الذي يظهر في شخص أو يتجلى في صورة معينة أو نحو ذلك مما
تزعمون , وإنما أعبد إلهًا منزهًا عن جميع ما تصفون به إلهكم { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا
أَعْبُدُ } ( الكافرون : 3 ) أي : إنكم لستم بعابدين إلهي الذي أدعو إليه كما تزعمون ،
فإنكم زعمتم أن الذي تعبدونه يتقرب إليه بتعظيم الوسائط لديه ، فتوسلتم بها إليه ،
وتعتقدون أنه يقبل توسطها عنده ، فهذا الذي تعبدونه ليس الذي أعبد فلهذا لا
تعبدون ما أعبد , بل تعصونه وتخالفون أمره ، ثم لما كانوا يظنون أن عبادتهم التي
يؤدونها أمام شفعائهم ، أو في المعابد التي أقاموها لهم وبأسمائهم ، أو يؤدونها لله في
المعابد الخاصة به أو في خلواتهم ، وهم على اعتقادهم بالشفعاء - عبادة لله خالصة ،
وأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يفضلهم في شيء نفى أن تكون عبادته
مماثلةً لعبادتهم , وأن تكون عبادتهم مماثلةً لعبادته , فقال : { وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } ( الكافرون : 4 ) فـ ( ما ) هذه مصدرية وليست بالموصولة , مثل التي تقدمت
أي : ولا أنا بعابد عبادتكم { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } ( الكافرون : 5 ) أي : ولا
أنتم عابدون عبادتي .
فمفاد الجملتين الأوليين الاختلاف التام في المعبود , ومفاد الجملتين الأخريين تمام الاختلاف في العبادة , فلا معبودنا واحد ولا عبادتنا واحدة ، لأن معبودي ذلك الإله الواحد المنزّه عن النّدّ والشفيع ، المتعالي عن الظهور في شخص معين ، أو المحاباة لشعب أو واحد بعينه ، الباسط فضله لكل من أخلص له ، الآخذ قهره
بناصية كل من نابذ المبلغين الصادقين عنه ، والذي تعبدونه على خلاف ذلك .
وعبادتي مخلَصة لله وحدَه ، وعبادتكم مشوبة بالشرك مصحوبة بالغفلة عن الله
تعالى , فلا تُسمى على الحقيقة عبادة فأين هي من عبادتي { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } ( الكافرون : 6 ) دينكم مختص بكم لا يتعداكم إليَّ , فلا تظنوا أني عليه أو على شيء
منه { وَلِيَ دِينِ } ( الكافرون : 6 ) [*] أي : ديني هو دين خاصّ بي ، وهو
الذي أدعو إليه ، ولا مشاركة بينه وبين ما أنتم عليه ، ولا يخفى أن هذا المعنى الذي
بيناه هو ما يهدي إليه أسلوب السورة الشريفة خصوصًا هذه الآية الأخيرة { لَكُمْ دِينُكُمْ
وَلِيَ دِينِ } ( الكافرون : 6 ) , فإنها صريحة في أن المراد : نفي الخلط المزعوم .
وما دلت عليه السورة هو ما دلت عليه آية { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ
مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } ( الأنعام : 159 ) أي : لا علاقة بينك وبينهم لا في المعبود ولا في
العبادة . وأما ما قيل من غير ذلك فإن صحّ شيء مما وردَ فيه , فاحمله على معناه
مستقلاًّ عن معنى السورة , ولا تَغْتَرَ بكل ما يُقال , فأفضل ما تفهم هو أقرب ما
يفهم والله أعلم . ا هـ
__________
(*) لفظ ( دين ) مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة لأجل الوقف .