الثلاثاء، 2 أبريل 2013

قسم المقالات : أوروبا والإسلام بقلم الشيخ محمد رشيد رضا

أوربا و الإسلام


رأي المنار فيما كتبه موسيو ميلي ونشرناه في الجزء الماضي :
كتب ذلك الوزير في الإسلام والمسلمين كتابة خبير بصير ، وقد صدق في
قوله : إن جراثيم الحياة كامنة في الإسلام ، وإن الرجوع إلى القرآن بعد تفسيره
واستخراج ثماره بطرق العلوم العصرية هو الذي يعيد الحياة إلى المسلمين ( وإن
أمة أوربية تتجرد عن أوهامها القديمة وتفهم هذه الخطة العالية يمكنها أن تتقدم على
غيرها تقدمًا عجيبًا ) وقد نصح لأمته إذ نبهها إلى ذلك بقوله بعدما تقدم وذلك في
آخر مقاله : ( فاليوم الذي تشمر فيه فرنسا عن ساعد الجد وتسعى في تعليم وتربية
الأهالي - ولا نقصد بذلك أن تلزمهم بنظاماتنا بل أن تسير بهم في مناهج التقدم
الملائمة لطباعهم - هو اليوم الجميل حسب قول موسيو جونار الذي تحصل به على
أكثر من فتح الممالك إذ به تتحقق لها السلطة على الأرواح ) .
ولكن هل تقبل فرنسا هذه النصيحة وتقدرها قدرها ؟
قرأنا لكثير من علماء فرنسا وساستها كلامًا حسنًا في الإسلام وأماني حسنة
في شأن المسلمين ، ولكن ما رأينا لذلك تأثيرًا حقيقيًّا ، فصار أكثرنا يحمل ذلك الكلام
وأمثاله على الخلابة والتمويه ومخادعات السياسة ، ولكن الكلام المعقول في نفسه إذا
سمعه العاقل عن العاقل لا يمكن له أن يسميه تمويهًا وخداعًا ، فأنا أعتقد أن جراثيم
الحياة كامنة في الإسلام ، وأن رؤساء المسلمين هم المانعون لها من النمو ، وأعتقد
أن دولة أوربية تتمكن من إحياء مملكة إسلامية يعرف لها فضلها جميع المسلمين
ويكون لها منهم قوة تجعل لها مكانة عليا في الأرض ، حتى في أوربا نفسها ، وقد
سبق لي كتابة في ذلك . وأعتقد أن فرنسا من أقدر الدول الكبرى على ذلك
وأحوجهن إليه . فكيف يمكن أن أعتقد مع هذا كله أن قول موسيو ميلي مخادعة أو
خلابة ؟ ؟ أنا موقن بصحة كلامه وصدقه ، وربما كان اعتقادي هذا أقوى من اعتقاده
هو . ولكنني أشك في فقه أمته حقيقة ما يقول وقدرتها على الانسلال من الوهم القديم
الذي أشار إليه .
يعدون الشعوب الإسلامية من الشعوب الميتة أو الضعيفة ، ولكن منهم من
يقول : إن جراثيم الحياة كامنة فيها . ويعدون فرنسا من أعظم الأمم الحية ، ولكن
منا ومنهم من يعتقد أن مكروبات الضعف والانحطاط كامنة فيها . فنقول على هذا
وذاك : إن المسلمين محتاجون إلى دولة كفرنسا تساعدهم على الحياة الجديدة في
شمال أفريقية ، وإن فرنسا محتاجة إلى حفظ حياتها القديمة وإمدادها بشعوب قابلة
للحياة والقوة كالمسلمين . وإن هذا المطلب ممكن في نفسه ولكن فرنسا غافلة عنه ؛
لأن القوي العزيز قلما يفكر في حقيقة حال من يراه دونه ، فهذه عقبة دون المطلب
ومن ورائها عقبة أخرى وهي أن الضعيف قلما يؤمن بإخلاص القوى له ،
فالمسلمون إلى اليوم لا يظنون أن فرنسا تريد بهم خيرًا وهم معذورون بهذا ، وإنني
أصرح به نصحًا لفرنسا ورغبة في حسن التفاهم بيننا وبينها لعل في ذلك فائدة لنا
ولها . فما قلته هو الحقيقة وإن وُجد في المسلمين من أحسن القول في فرنسا كما
وُجد في الفرنسيين من أحسن القول في المسلمين ، فتلك الأقوال لم تغير الحقيقة ولا
يغيرها مثلها ، وإنما تغيرها الأعمال . والمسلمون الذين تسوسهم فرنسا لا يستطيعون
أن يستميلوها بعمل أكثر مما هم عليه من الطاعة لها ولكنها هي تستطيع أن تستميلهم
وأن تملك قلوبهم وأرواحهم كما هي مالكة لأبدانهم وأوطانهم ، فهي التي يجب عليها
الابتداء بالعمل .
ربما يظن بعض المغرورين بقوتهم أن حال الجزائر خفية ، لا يعرف حقيقتها
مسلمو مصر و الشام و الحجاز وسائر المشرق . الحق أقول لهؤلاء : إن تلك الحال
ليست بخفية ، فإننا نعرفها ونشعر بشعور أهلها ولكن ما كل ما يعلم يكتب ، وإنما
كتبنا الآن هذه الكلمات ؛ لما رأينا من بارقة الأمل في حسن التفاهم والسعي إليه
بالعمل .
لا نطلب من فرنسا للمسلمين أكثر مما أشار إليه مسيو ميلي ، وهو السعي في
تعليمهم وتربيتهم ، بالقيد الذي ذكره والشرط الذي اشترطه ، وهو أن يكون القصد
تقدمهم بما يلائم طباعهم لا إلزامهم بنظامات فرنسا وعاداتها ، فضلاً عن شرائعها
ودينها ، فالمطلوب مساعدتهم على إحياء لغتهم ودينهم ، وإنماء ثروتهم مع تعليمهم
العلوم والفنون العصرية بالتدريج الملائم لحالهم .
يسهل هذا على فرنسا إذا قنعت من الاستعمار والامتلاك بما دون تحويل
المسلمين عن لغتهم ودينهم ورقبة بلادهم ، ولها بعد ذلك من موارد الثروة ومصادر
القوة ما شاءت مع الرضا والحب .
يعلم كل الملمين بأحوال السياسة من المسلمين أن فرنسا طامعة في الاستيلاء
على المغرب الأقصى وتأليف إمبراطورية أفريقية إسلامية ، وأهل الرأي منهم
يعلمون أن شجاعة أهل المغرب واستبسالهم لا يدفعان عنهم ما تريده فرنسا بهم مع
جهلهم وتفرقهم وكون بأسهم بينهم شديدًا . ولكن سياستها إياهم بمثل ما ساست به
الجزائر في الماضي قد يراها المغرورون أمرًا يسيرًا ، وهي في الحقيقة من أعسر
الأمور وأشدها تعقيدًا وخطرًا على فرنسا في المستقبل ، ويظن المغرورون أن تغيير
السياسة في الجزائر تغييرًا صوريًّا كاف في إرضاء المسلمين في تلك البلاد ،
وإقناعهم في سائر البلاد بأن فرنسا تريد ترقيتهم مع المحافظة على دينهم ولغتهم .
والحق أنه لا يفيد في الأمر إلا الإخلاص في العمل وهو لا يخفى على أحد .
أقول هذا لفرنسا وأنا ناصح أمين ، وإنما أنصح لها لاعتقادي أن في مصلحتها
هذه خيرًا للمسلمين ، بل أعتقد أن فرنسا لو جعلت لأهل الجزائر واليًا منهم لكانت
فائدتها من ذلك أكبر من فائدتهم ، فهل تلومني أمة الحرية إذا صرحت لها باعتقادي
هذا ، وتعاقبني عليه بمنع هذا الجزء من المنار أن يصل إلى الجزائر ؟ كلا بل أظن
أنها تقدر كلامي قدره ، فإن لم تقدره اليوم فلابد أن تقدره في يوم آخر .
بل نحن نعلم أن فرنسا ما رضيت أن يكون سلطانها على تونس سلطان حماية
لا سلطان امتلاك رسمي ؛ إلا لما استفادته من العبرة بحال الجزائر التي نعرفها نحن
وهي أعرف بها منا . ولكن ما عملته في تونس منتقد من وجوه كثيرة ، والمنة بما
فيه من إصلاح أكبر منه . وقد شكرنا لها في هذه الأيام ما كان من التنفيس عن حملة
الأقلام ، وإنشاء مجلس الشورى وإن كان دون المرام ، فعسى أن يكون هذا بدء
سياسة مثلى يشكرها لها الإسلام .
__________


المصدر مجلة المنار