الأحد، 31 مارس 2013

قسم المقالات : رسالتى إلى رئيس المجتهدين فى السامرة بقلم جمال الدين الأفغانى

رسالتى إلى رئيس المجتهدين فى السامرة بقلم جمال الدين الأفغانى



بسم الله الرحمن الرحيم
حقًّا أقول : إن هذا الكتاب خطاب إلى روح الشريعة المحمدية أينما وجدت ،
وحيثما حلت ، وضراعة تعرضها الأمة على نفوس زاكية تحققت
بها ، وقامت بواجب شؤونها كيفما نشأت ، وفي أي قطر نبغت ، ألا وهم العلماء
فأحببت عرضه على الكل وإن كان عنوانه خاصًّا .
حبر الأمة ، وبارقة أنوار الأئمة ، دعامة عرش الدين ، واللسان الناطق عن
الشرع المبين ، جناب الحاج الميرزا محمد حسن الشيرازي صان الله به حوزة
الإسلام ورد كيد الزنادقة اللئام .
لقد خصك الله بالنيابة العظمى عن الحجة الكبرى واختارك من العصابة الحقة
وجعل بيدك أزمة سياسة الأمة بالشريعة الغراء وحراسة حقوقها بها وصيانة قلوبها
عن الزيع والارتياب فيها ، وأحال إليك من بين الأنام ( وأنت وارث الأنبياء ) مهام
أمور تسعد بها الملة في دارها الدنيا وتحظى بالعقبى ، ووضع لك أريكة الرئاسة
العامة على الأفئدة والنُّهى إقامة لدعامة العدل وإثارة لمحجة الهدى ، وكتب عليك بما
أولاك من السيادة على خلقه حفظ الحوزة والذود عنها والشهادة دونها على سنن من
مضى .
وإن الأمة قاصيها ودانيها وحضرها وباديها ووضيعها وعاليها قد أذعنت لك
بهذه الرئاسة السامية الربانية جاثية على الركب خارة على الأذقان ، تطمح نفوسها
إليك في كل حادثة تعروها ، تطل بصائرها عليك في كل مصيبة تمسها ، وهي
ترى أن خيرها وسعدها منك وأن فوزها ونجاتها بك وأن أمنها وأمانيها فيك .
فإذا لمح منك غض طرف ، أو نيت[1] بجانبك لحظة ، وأمهلتها وشأنها لمحة
ارتجفت أفئدتها ، واختلت مشاعرها ، وانتكثت عقائدها ، وانهدمت دعائم إيمانها ،
نعم لا برهان للعامة فيما دانوا إلا استقامة الخاصة فيما أمروا ، فإن وهن هؤلاء في
فريضة ، أو قعد بهم الضعف عن إماطة منكر لاعتور أولئك الظنون والأوهام ،
ونكص كل على عقبية مارقًا من الدين القويم ، حائدًا عن الصراط المستقيم .
وبعد هذا وذاك وذلك أقول : إن الأمة الإيرانية بما دهمها من عراقيل
الحوادث التي آذنت باستيلاء الضلال على بيت الدين ، وتطاول الأجانب على
حقوق المسلمين ، ووجوم الحجة الحق ( إياك أعني ) عن القيام بنصرها وهو
حامل الأمانة ، والمسؤول عنها يوم القيامة - قد طارت نفوسها شعاعا وطاشت
عقولها ، وتاهت أفكارها ووقفت موقف الحيرة ( وهي بين إنكار وإذعان وجحود
وإيقان ) لا تهتدي سبيلا . وهامت في بيداء الهواجس في عتمة الوساوس ، ضالة
عن رشدها لا تجد إليه دليلا ، وأخذ القنوط بمجامع قلوبها ، وسد دونها أبواب
رجائها ، وكادت أن تختار - إياسا منها - الضلالة على الهدى ، وتعرض عن
محجة الحق وتتبع الهوى ، وإن آحاد الأمة لا يزالون يتساءلون - شاخصة
أبصارهم - عن أسباب قضت على حجة الإسلام ( إياك أعني ) بالسبات والسكوت ،
وحتم عليه أن يطوي الكشح عن إقامة الدين على أساطينه ، واضطره إلى ترك
الشريعة وأهلها ، إلى أيدي زنادقة يلعبون بها كيفما يريدون ، ويحكمون فيها بما
يشاؤون ، حتى إن جماعة من الضعفاء زعموا أن قد كذبوا وظنوا في الحجة ظن
السوء ، وحسبوا الأمر أحبولة الحاذق وأسطورة الملق ؛ وذلك لأنها ترى ( وهو
الواقع ) أن لك الكلمة الجامعة ، والحجة الساطعة ، وأن أمرك في الكل نافذ ، وليس
لحكمك في الأمة منابذ ، وأنك لو أردت تجمع آحاد الأمة بكلمة منك ( وهي كلمة
تنبثق من كيان الحق إلى صدور أهله ) فترهب بها عدو الله وعدوهم ، وتكف
عنهم شر الزنادقة ، وتزيح ما حاق بهم من العنت والشقاء ، وتنشلهم من ضنك العيش
إلى ما هو أرغد وأهنى ، فيصير الدين بأهله منيعًا حريزًا ، والإسلام بحجته رفيع
المقام عزيزًا .
هذا هو الحق ، أنك رأس العصابة الحقة[2] ، وأنك الروح الساري في آحاد
الأمة فلا يقوم لهم قائمة إلا بك ، ولا تجتمع كلمتهم إلا عليك ، لو قمت بالحق
نهضوا جميعًا ولهم الكلمة العليا ، ولو قعدت تثبطوا وصارت كلمتهم هي السفلى ،
ولربما كان هذا السير بالدوران حينما غض حبر الأمة طرفه عن شؤونهم ، وتركهم
هملاً بلا راع ، وهمجًا بلا رادع ولا داع يقيم لهم عذرًا فيما ارتابوا . خصوصًا لما
رأوا أن حجة الإسلام قد وَنَي فيما أطبقت الأمة خاصتها وعامتها على وجوبه ،
وأجمعت على حظر الاتقاء فيه[3] خشية لغوبه ، ألا وهو حفظ حوزة الإسلام الذي
به بعد الصيت وحسن الذكر والشرف الدائم والسعادة التامة . ومن يكون أليق بهذه
وأحرى بها ممن اصطفاه الله في القرن الرابع عشر ، وجعله برهانًا لدينه وحجة
على البشر .
أيها الحبر الأعظم ، إن الملك قد وهنت مريرته فساءت سيرته ، وضعفت
مشاعره فقبحت سريرته ، وعجز عن سياسة البلاد ، وإدارة مصالح العباد ، فجعل
زمام الأمور كليها وجزئيها بيد زنديق أثيم غشوم ثم بعد ذلك زنيم ... يسب الأنبياء
في المحاضر جهرًا ولا يذعن لشريعة الله أمرًا ، ولا يرى لرؤساء الدين وقرًا ،
يشتم العلماء ، ويقذف الأتقياء ، ويهين السادة الكرام ، ويعامل الوعاظ معاملة اللئام ،
وإنه بعد رجوعه من البلاد الإفرنجية قد خلع العذار ، وتجاهر بشرب العقار ،
وموالاة الكفار ، ومعاداة الأبرار . هذه هي أفعاله الخاصة في نفسه ، ثم إنه باع
الجزء الأعظم من البلاد الإيرانية ومنافعها لأعداء الدين : المعادن ، والسبل
الموصلة إليها ، والطرق الجامعة بينها وبين تخوم البلاد ، والخانات التي تبنى على
جوانب تلك المسالك الشائعة التي تتشعب إلى جميع أرجاء المملكة وما يحيط بها من
البساتين والحقول . نهر الكارون والفنادق التي تنشأ على ضفتيه إلى المنبع وما
يستتبعها من الجنائن والمروج ... والجادة من الأهواز إلى طهران ، وما على
أطرافها من العمارات والفنادق والبساتين والحقول . والتنباك وما يتبعه من المراكز
ومحلات الحرث وبيوت المستحفظين والحاملين والبائعين أنى وجد وحيث نبت ،
وحكر العنب للخمور وما تستلزمه من الحوانيت ، والمعامل والمصانع في جميع
أقطار البلاد ، والصابون والشمع والسكر ولوازمها من المعامل والبنك ، وما أدراك
ما البنك ؟ هو إعطاء زمام الأهالي كلية بيد عدو الإسلام واسترقاقه لهم واستملاكه
إياهم وتسليمهم له بالرئاسة والسلطان .
ثم إن الخائن البليد أراد أن يرضي العامة بواهي برهانه فحبق قائلاً : إن هذه
معاهدات زمانية ، ومقاولات وقتية ، لا تطول مدتها أزيد من مائة سنة ! ! يا لله من
هذا البرهان الذي سوله خرق الخائنين ، وعرض الجزء الباقي على الدولة الروسية
حقًّا لسكوتها ( لو سكتت ) مرداب رشت وأنهر الطبرستان والجادة من أنزلى إلى
الخراسان وما يتعلق بها من الدور والفنادق والحقول . ولكن الدولة الروسية شمخت
بأنفها وأعرضت عن قبول تلك الهدية ، وهي عازمة على استملاك الخراسان
والاستيلاء على الأذربيجان و المازندران إن لم تنحل هذه المعاهدات ولم تنفسخ هذه
المقاولات القاضية على تسليم المملكة تمامًا بيد ذاك العدو الألد ، هذه هي النتيجة
الأولى لسياسة هذا الأخرق .
وبالجملة : إن هذا المجرم قد عرض أقطاع البلاد الإيرانية على الدولة ببيع
المزاد ، وإنه ببيع ممالك الإسلام ودور محمد وآله عليهم الصلاة والسلام للأجانب ،
ولكنه لخسة طبعه ودناءة فطرته لا يبيعها إلا بقيمة زهيدة ودراهم معدودة ( نعم
هكذا يكون إذا امتزجت اللئامة والشره بالخيانة والسفه ) .
وإنك أيها الحجة إن لم تقم بنصر هذه الأمة ولم تجمع كلمتها ولم تنزعها بقوة
الشرع من يد هذا الأثيم ، لأصبحت حوزة الإسلام تحت سلطة الأجانب ( يحكمون فيها
بما يشاؤون ويفعلون ما يريدون ) وإذا فاتتك هذه الفرصة أيها الحبر ووقع الأمر
وأنت حي لما أبقيت ذكرًا جميلاً بعدك في صحيفة العالم وأوراق التواريخ . وأنت تعلم
أن علماء الإيران كافة والعامة بأجمعهم ينتظرون منك ( وقد حرجت صدورهم
وضاقت قلوبهم ) كلمة واحدة يرون سعادتهم بها ونجاتهم فيها ... ومن خصه الله بقوة
كهذه كيف يسوغ له أن يفرط فيها ويتركها سدى .
ثم أقول للحجة قول خبير بصير أن الدولة العثمانية تتبجح بنهضتك على هذا
الأمر ، وتساعدك عليه لأنها تعلم أن مداخلة الإفرنج في الأقطار الإيرانية
والاستيلاء عليها تجلب الضرر إلى بلادها لا محالة ، وأن وزراء الإيران وأمراءها
كلهم يبتهجون بكلمة تنبض بها في هذا الشأن ؛ لأنهم بأجمعهم يعانون هذه
المستحدثات طبعًا ، ويسخطون من هذه المقاولات جبلة ، ويجدون بنهضتك مجالاً
لإبطالها ، وفرصة لكف شر الشره الذي رضي بها وقضى عليها .
ثم إن العلماء وإن كان كل صدع بالحق وجبه هذا الأخرق الخائن بسوء
أعماله ، ولكن ردعهم للزور ، وزجرهم عن الخيانة ، ونهرهم المجرمين ما قرت
كسلسلة المعدات قرارًا ، ولا جمعتها وحدة المقصد في زمان واحد .
وهؤلاء لتماثلهم في مدارج العلوم وتشاكلهم في الرئاسة وتساويهم في الرتب
غالبًا عند العامة لا ينجذب بعضهم إلى بعض ولا يصير أحد منهم لصقًا للآخر ولا
يقع بينهم تأثير الجذب وتأثر الانجذاب حتى تتحقق هيئة وحدانية وقوة جامعة يمكن
بها دفع الشر وصيانة الحوزة . كل يدور على محوره ، وكل يردع الزور وهو في
مركزه ، ( هذا هو سبب الضعف عن المقاومة وهذا هو سبب قوة المنكر والبغي ) .
وأنت وحدك أيها الحجة بما أوتيت من الدرجة السامية والمنزلة الرفيعة علة
فعالة في نفوسهم ، وقوة جامعة لقلوبهم ، وبك تنضم القوى المتفرقة الشاردة ، وتلتئم
القدر المتشتتة الشاذة ، وإن كلمة منك تأتي بوحدانية تامة يحق لها أن تدفع الشر
المحدق بالبلاد ، وتحفظ حوزة الدين وتصون بيضة الإسلام ، فالكل منك وبك
وإليك ، وأنت المسؤول عن الكل عند الله وعند الناس .
ثم أقول : إن العلماء والصلحاء في دفاعهم فرادى عن الدين وحوزته قد قاسوا
من ذاك العتل شدائد ما سبق منذ قرون لها مثيل ، وتحملوا لصيانة بلاد المسلمين
عن الضياع وحفظ حقوقهم عن التلف كل هوان وكل صغار وكل فضيحة .
ولا شك أن حبر الأمة قد سمع ما فعله أدلاء الكفر وأعوان الشرك بالعالم
الفاضل الصالح الواعظ الحاج الملا فيض الله الدربندي ، وستسمع قريبا ما صنعه
الجفاة الطغاة بالعالم المجتهد التقي البار الحاج السيد علي أكبر الشيرازي ، وستحيط
علمًا بما فعله بحماة الملة والأمة من قتل وضرب وكي وحبس . ومن جملتهم الشاب
الصالح الميرزا محمد رضا الكرماني الذي قتله ذلك المرتد في الحبس . والفاضل
الكامل البار حاج سياح ، والفاضل الأديب الميرزا فروغي ، والأريب النجيب
الميرزا محمد علي خان ، والفاضل المتفنن اعتماد السلطنة وغيرهم .
وأما قصتي وما فعله ذلك الكنود الظلوم معي ، فمما يفتت أكباد أهل الإيمان
ويقطع قلوب ذوي الإيقان ، ويقضي بالدهشة على أهل الكفر وعباد الأوثان ، إن
ذاك اللئيم أمر بسحبي وأنا متحصن بحضرة عبدالعظيم عليه السلام في شدة المرض
على الثلج إلى دار الحكومة بهوان وصغار وفضيحة لا يمكن أن يتصور دونها في
الشناعة ( هذا كله بعد النهب والغارة ) { إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } ( البقرة :
156 ) .
ثم حملني زبانيته الأوغاد وأنا مريض على برذون مسلسلاً في فصل الشتاء
وتراكم الثلوج والرياح الزمهريرية ، وساقتني جحفلة من الفرسان إلى خانقين
وصحبني جمع من الشرط ... ولقد كاتب الوالي من قبل والتمس منه أن يبعدني
إلى البصرة علمًا منه أنه لو تركني ونفسي لأتيتك أيها الحبر وبثثت لك شأنه وشأن
الأمة ، وشرحت لك ما حاق ببلاد الإسلام من شر هذا الزنديق ، ودعوتك أيها
الحجة على عون الدين ، وحملتك على إغاثة المسلمين ، وكان على يقين أني لو
اجتمعت بك لا يمكنه أن يبقى على دست وزارته المؤسسة على خراب البلاد
وهلاك العباد ، وإعلاء كلمة الكفر .. . ومما زاده لؤمًا على لؤمه ودناءة على دناءته
أنه دفعًا لثورة العامة وتسكينًا لهياج الناس نسب تلك العصابة التي ساقتها غيرة
الدين وحمية الوطن إلى المدافعة عن حوزة الإسلام وحقوق الأهالي ( بقدر الطاقة
والإمكان ) إلى الطائفة البابية . كما أشاع بين الناس أولاً ( قطع الله لسانه ) أني
كنت غير مختون ( واإسلاماه ) ما هذا الضعف ؟ ما هذا الوهن ؟ كيف أمكن أن
صعلوكًا دنيء النسب ، ووغدًا خسيس الحسب ، قدر أن يبيع المسلمين وبلادهم بثمن
بخس دراهم معدودة ، ويزدري بالعلماء ويهين السلالة المصطفوية ، ويبهت السادة
المرتضوية البهتان العظيم . ولا يد قادرة تستأصل هذا الجذر الخبيث شفاء لغيظ
المؤمنين ، وانتقامًا لآل سيد المرسلين ، عليه وآله الصلاة والسلام .
ثم لما رأيت نفسي بعيدا عن تلك الحضرة العالية أمسكت عن بث الشكوى ...
ولما قدم العالم المجتهد القدوة الحاج السيد علي أكبر إلى البصرة طلب مني أن أكتب
إلى الحبر الأعظم كتابا أبث فيه هذه الغوائل والحوادث والكوارث ، فبادرت إليه
امتثالا ، وعلمت أن الله تعالى سيحدث بيدك أمرًا ، والسلام عليكم ورحمة الله
وبركاته .

ويعلق الشيخ رشيد رضا على هذه الرسالة بقوله
إن هذا الكتاب نفخ روح الحماسة والغيرة في ذلك العالم العظيم صاحب
النفوذ الروحي في الأمة الفارسية ، فأفتى بحرمة استعمال التنباك وزراعته وأذاع
العلماء فتواه بسرعة البرق ، فخضعت لها أعناق الأمة حتى قيل : إن الشاه طلب في
صبيحة يوم بعد وصول الفتوى إلى طهران النارجيلة ( الشيشة ) فقيل له : إنه
ليس في القصر تنباك لأننا أتلفناه . فسأل عن السبب مبهوتًا فقيل له : فتوى حجة
الإسلام ، فقال : لمَ لم تستأذنوني ؟ قيل : إنها مسألة دينية لا حاجة فيها إلى
الاستئذان ! ! واضطر بعد ذلك إلى ترضية الشركة الإنكليزية على أن تأخذ نصف
مليون جنيه وتبطل الامتياز . وبهذا أنقذ السيد جمال الدين بلاد إيران من احتلال
الإنكليز لها بإبطال مقدمته ، وهو ذلك الامتياز أو الامتيازات التي قرأت شرحها في
كتابه فهكذا تكون الرجال وهكذا تكون العلماء .
هكذا هكذا وإلا فلا لا ... ليس كل الرجال تدعى رجالا

المصدر مجلة المنار