الأحد، 31 مارس 2013

قسم المقالات : الأحزاب فى مصر بقلم الشيخ محمد رشيد رضا

الأحزاب فى مصر بقلم الشيخ محمد رشيد رضا


كان يطرق مسامعنا في المجالس ، وتبصر أعيننا في الجرائد كلمة ( الحزب
الوطني ) ولا نجد لها مدلولاً ، وما زالت الجرائد الإنكليزية تقول : إن في مصر
حزبًا وطنيًّا سياسيًّا ، حتى صار فيها عدة أحزاب ، وربما أخذت هذه الجرائد ذلك
من الحركة الوطنية التي قامت في وجه الاحتلال في أوائل ولاية أمير البلاد لهذا
العهد ؛ إذ كان متحمس بتلك الحركة يمدح بالوطنية ، والمنكر لشيء منها أو
المتقاعس عن مشاركة ذويها يزن بالميل إلى الاحتلال ، ثم صار يوصف أهلها
بالحزب الوطني . ويظن بعض المفكرين أن للإنكليز غرضًا في وجود الأحزاب
بمصر لا سيما النوع الذي يعرف عندهم بالمتطرف ، فكانت كتابة جرائدهم إغراء
بذلك ودعًّا إليه .
ومن الناس من يقول : إن تسمية أولئك الذين قاموا في وجه الاحتلال حزبًا
خطأ عرفي أو لغوي ؛ إذ يفهم منه أن في البلاد حزبًا آخر أو أحزابًا آخرى يناظر
ويعارض بعضها بعضًا ، ولم يكن في البلاد شيء من ذلك وإنما كان السواد الأعظم
مغبوطًا بما ظهر به أولئك الذين يكتبون في مقاومة المحتلين ، ويستميلون فرنسا
لمساعدتها عليهم ، وما كان يوجد لهم معارض ، وكان يوجد أفراد يعتقدون أن ما
قاموا به عقيم أو ضار لما أفادهم النظر في العواقب ، ولكن هؤلاء الأفراد لم يكونوا
يعارضون ولا يقاومون ، وغاية ما كان يظهر من الواحد منهم أن يكاشف صديقه من
الآخرين برأيه ، والصواب أن مثل أولئك يصح أن يطلق عليهم لفظ ( حزب ) لغة ،
فإن الحزب كما في المعاجم جماعة الناس والصنف والطائفة منهم ، وقال الراغب :
الحزب : جماعة فيها غلظ . وفي لسان العرب ( وحزب الرجل : أصحابه وجنده الذين
على رأيه ) ثم قال : ( وكل قوم تشاكلت قلوبهم وأعمالهم فهم أحزاب وإن لم يلق
بعضهم بعضًا ) .
فأنت ترى أن لتسمية أولئك القوم حزبًا وجهًا في اللغة وجيها ، ولكن للأحزاب
في أوروبا معنى أخص ؛ وهو عبارة عن ارتباط المتشاكلين في القلوب أي الشعور
بالحاجة إلى مصلحة عامة وفي الأعمال لهذه المصلحة بقانون معروف ، ولم يوجد
مثل هذا في مصر إلا في هذا العام ، فقد تشكل فيه حزب الأمة والحزب الحر
وحزب الإصلاح الدستوري والحزب الوطني ، وسمعنا أيضًا نغمة حزب آخر سمي
الحزب الجمهوري ؛ ولذلك سمي هذا العام بعام الأحزاب ، وقال الشيخ عبد المحسن
في قصيدة يذكر فيها مرضه وشيئًا من العبرة بحال الزمان وأهله :
وطوارق الأسقام ما برحت ... تنتاب كالأحزاب في مصر
أما موضوع هذه الأحزاب فهو - بحسب ما صرح به زعماؤها - واحد ،
المقصد منه خدمة البلاد بالوسائل الممكنة ، حتى قيل إن الخلاف بينهم في الألفاظ
والأشخاص فقط . والصواب أن لكل حزب منها قطبًا يدور عليه : وهو مؤسس
الحزب ورئيسه الموثوق به عند المؤسسين المتعارفين المستعذبين لمشرب الحزب
إلا حزب الأمة ، فإن رئيسه هو ليس المؤسس له الذي تدور عليه سياسته ، وإنما
هو منتخب انتخابًا حقيقيًّا لرياسة شركة الجريدة قبل أن يسمى جمهور المؤسسين
أنفسهم حزبًا سياسيًّا . ولهذا يطمع سائر الأحزاب في سقوط هذا الحزب ؛ لأن
الشرق لم يتعود الأعمال المشتركة ، وإنما قوام أموره بالأفراد ؛ ولأن أفراده ليسوا
متفقين على مقاصده ولا متعاضدين فيه ، بل منهم من يتربص به الدوائر ويساعد
غيره عليه ؛ ولأنه ليس له سلطة يأوي إليها ويعتمد على مساعدتها وإمدادها ،
والسلطة في هذه البلاد سلطتان : سلطة الأمير الرسمية في الأحكام الحقيقية في نفوس
الجمهور ميلاً ، وسلطة الاحتلال الحقيقية في الأحكام والأعمال . وهذا الحزب يريد أن
يكون وسطًا بين هاتين السلطتين باسم الأمة ، فلا هو مع الإنكليز كما أشيع ولا مع
الأمير فيما يحب الأمير ويرى في السياسة ، وإن كان مخلصًا كغيره للخديوية نفسها .
هذا هو مبدأ العاملين فيه الآن ، فهو لا سند له إلا من ذاته ، فإذا نجح كما نحب فذلك
من دلائل ارتقاء الأمة في الأمور الاجتماعية ، وإذا هو سقط فسقوطه برهان على
أن الأمة لم تعدُ طور الطفولية في حياتها الاجتماعية .
والحزب الحر مؤسسه محمد وحيد بك وهو رئيسه الداعي إليه والمدافع عنه
بمساعدة صديقه محمد نشأت بك الذي كان من حاشية الأمير (معيته ) وهو كاتب مجيد
بالفرنسية ، وليس لهذا الحزب جريدة خاصة كغيره وإنما يكتب عنه محمد بك
في المقطم ومحمد نشأت بك في بعض الجرائد الفرنسية كالبروغريه ، ولم يدخل فيه
أحد من أكابر البلاد ، وأفراده أقل من أفراد سائر الأحزاب ، وهو يمتاز بكثرة الحث
على مسالمة المحتلين والثناء على ما يستحسن من أعمالهم في البلاد ، فهجيراه هذه
الكلمة ( سلامة المصريين في مسالمة المحتلين ) فهو لا يخالف غيره من الأحزاب إلا
في هذا ، وهو خلاف قولي ؛ إذ لا يقول حزب من الأحزاب بوجوب مقاومة المحتلين
ومعاداتهم بالعمل ، وإنما قصاراهم أن يبالغوا في انتقاد ما يرونه منتقدًا من أعمالهم ،
ويكبروه ويسكتوا عن الثناء على ما يرونه حسنًا نافعًا أو يصغروه . فذاك يمدح ولا
يذم ولا ينتقد ، وهم يذمون وينتقدون ، وقلما يمدحون ولا خلاف في سائر المطالب
الأساسية .
وأما حزب الإصلاح الدستوري فمؤسسه الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد
وهو رئيسه ، وقد اختار له من الأعضاء من يجمعهم الرأي وترشدهم الرؤية ،
ويثبتهم الركن الركين الذي يأوون إليه ، فقانونه أوضح قوانين الأحزاب ، ورجاله
أدهى رجالهم ، والشيخ علي نفسه أبعد المشتغلين بالسياسة المصرية غورًا وأشدهم
حزمًا وأحذقهم في الدخول في الأمر والخروج منه . الفرق الحقيقي بين هذا الحزب
وغيره من الأحزاب التي تشاركه في الخدمة العامة للأمة أنه مؤيد لسياسة الأمير ،
لا يتحول عنها في حال من الأحوال ، يتهم إذا اتهمت ، وينجد إذا أنجدت ، ويوالي
من والت ، ويعادي من عادت ، فهو حزب طبيعي متين والرجاء في ثباته وبقائه
أقوى من الرجاء في سائر الأحزاب بحسب ما عليه مصر من الحالة الاجتماعية
والسياسية الآن ، ولا دليل على تغيرها في زمن قريب .
وما صرح به هذا الحزب في قانونه من كون طلب المجلس النيابي أصلاً من
أصوله ، لا ينافي تأييده لسياسة الأمير صاحب الحكم الشخصي ، فإن طلب المجلس
النيابي مرضي للأمير أيده الله بتوفيقه ، كما علم من حديثه المشهور مع مكاتب
جريدة ( الطان ) الفرنسية ، بل لا يبعد أن يكون هو أول من فكر بوجوب طلب الأمة
له كما يقول بعض العقلاء .
وأما الحزب الوطني فمؤسسه الآن مصطفى كامل باشا صاحب جريدة اللواء ،
وهو رئيسه ، وهو جزء من الحزب الوطني الذي كان موجودًا بالقوة أو بالفعل من
قبل على ما بيناه في صدر هذا المقال ، والقسم الآخر من ذلك الحزب هو حزب
الإصلاح الدستوري . والفرق بين هذين الحزبين على ما أرى وهو رأي يوافقني عليه
كثير من العقلاء هو أن حزب الإصلاح الدستوري يجمعه الرأي وبه يعمل ،
والحزب الوطني يجمعه الإحساس والشعور وبه يعمل ، وإن شخص صاحب جريدة
المؤيد ليس ركنًا من أركان الحزب الأول وإن كان قطبه وأقدر العاملين فيه ولكن
شخص صاحب جريدة اللواء ركن من أركان الحزب الآخر مقصود بالذات منه ،
ولذلك اتفقوا على أن يكون رئيس الحزب ما دام حيًّا بلا شرط ولا قيد . ويظهر لنا
أن المعجبين بالحزب الوطني أكثر عددًا من المعجبين بغيره من الأحزاب ؛ لأن منهم
فيما يقال أكثر تلاميذ المدارس والخائضين في السياسة من العامة وذلك معقول ؛ لأن
هؤلاء الذين يتبعون داعي الشعور ويخضعون لسلطان الوجدان ويحبون الغلو أكثر
ممن عداهم . وقد سلكت جريدة اللواء طريقة تحريك الوجدان وتهييج الشعور
الوطني بعناية عظيمة تناسب الاستعداد الغالب على الشعب . ويظن أن غرض
صاحبها من ذلك ومن نشر الدعوة إلى حزبه في الأرياف ؛ هو أن يستميل رأي
السواد الأعظم إلى نفسه ، حتى يكون زعيمًا حقيقيًّا إذا دعا إلى شيء تؤيده الأمة
بالمال والحال ... وادعاؤه هذه الزعامة من قبل دليل على استعداده لها ، فإننا قد
تعودنا أن نرى كل رأي للواء معزوًّا إلى الأمة برمتها ، حتى مثل العفو أو عدم
مقاصة ذلك المجرم القاتل في السودان . وقد أمدته في استعداده هذا الجرائد
الإنكليزية في أثناء حادثة العقبة ؛ إذ كانت تصفه بالزعيم المهيج وغرضها من ذلك
معلوم فيالله من دهاء الإنكليز .
هذا ، وإن في كل حزب من الأحزاب من الرجال المحبين للبلاد والمخلصين
في خدمتها بحسب اعتقادهم من يعتمد عليهم في القيام بشؤونها ، وقد جهل بعض
الحقيقة من قال : إن كل حزب قد أنشئ لتأييد جريدة ، ومدير تلك الجريدة هو منشئه
ومسخره لجريدته ، ومن أنه لا فرق بين هذه الأحزاب في المقصد .
ونرجو أن يكون إنشاء الأحزاب في مصر آية من آيات الأخذ بالارتقاء
الاجتماعي ، وأن يكون تعددها سببًا لطول حياتها ؛ لما تقتضيه المباراة والمزاحمة
من تمسك كل حزب بما قام به ، ونسأله تعالى أن يوفق الجميع لما فيه الخير
والمصلحة للبلاد .
__________

المصدر مجلة المنار 1907 ميلادية