الأربعاء، 26 سبتمبر 2012

موسوعة المفاهيم الإسلامية : الذكاة الشرعية

الذكاة الشرعية

الحيوانات من حيث مسكنها ومستقرها نوعان: بحرية وبرية.
فالبحرية -ونعني ما يسكن جوف الماء ولا يعيش إلا فيه- كلها حلال، كيفما وجدت، سواء أخذت من الماء حية أو ميتة، طفت أو لم تطف يستوي في ذلك السمك والحيتان، وما يسمى كلب البحر أو خنزير البحر أو غير ذلك، ولا عبرة بمن أخذها وصادها، مسلما أو غير مسلم، فقد وسع الله على عباده بإباحة كل ما في البحر، دون أن يحرم نوعا معينا، أو يشترط ذكاة له كغيره، بل ترك للإنسان أن يجهز على ما يحتاج إلى الإجهاز منه بما يستطيع متجنبا التعذيب ما أمكنه.
قال تعالى ممتنا على عباده: (وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا) سورة النحل:الآية 14. وقال: (أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة) سورة المائدة:96، أي: المسافرين.
فعم سبحانه وتعالى ولم يخص شيئا من أشياء (وما كان ربك نسيا).
وأما الحيوانات البرية فلم يصرح القرآن بتحريم شيء منها إلا لحم الخنزير خاصة -والميتة والدم وما أهل لغير الله به من أي حيوان- كما تقدم في الآيات التي جاءت بصيغة محددة حاصرة للمحرمات في أربعة إجمالا وعشرة تفصيلا.
ولكن القرآن الكريم قال عن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم: (ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) سورة الأعراف:157.
والخبائث هي التي يستقذرها الذوق الحسي العام للناس في مجموعهم وإن أساغها أفراد منهم.
ومن ذلك أنه "نهى عليه السلام عن أكل لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر".
ومن ذلك ما روي في الصحيحين أنه "نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير".
والمراد بالسباع ما يفترس الحيوان ويأكل قسرا كالأسد والنمر والذئب ونحوها. والمراد بذي المخلب من الطير ما كان له ظفر جارح كالنسر والبازي والصقر والحدأة.
ومذهب ابن عباس رضي الله عنه لا حرام إلا الأربعة المذكورة في القرآن وكأنه يرى أن أحاديث النهي عن السباع وغيرها تفيد الكراهة لا التحريم، أو لعلها لم تبلغه. قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرا، فبعث الله نبيه، وأنزل كتابه فأحل حلاله وحرم حرامه، فما أحل فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو. وتلا: (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم …) سورة الأنعام:145.
وبهذه الأية كان يرى ابن عباس أن لحم الحمر الإنسية حلال.
وإلى مذهب ابن عباس ينزع الإمام مالك، حيث لم يقل بحرمة السباع ونحوها، واكتفى بكراهتها.
ومن المقرر أن الذكاة الشرعية لا تأثير لها في الحيوانات المحرمة من حيث إباحة أكلها، إلا أنها تؤثر في تطهير الجلد دون اشتراط الدباغ.
وما أبيح أكله من الحيوانات البرية نوعان:
نوع مقدور عليه متمكن منه، كالأنعام من إبل وبقر وغنم، وغيرها من الحيوانات المستأنسة والدواجن والطيور التي تربى في المنازل ونحوها.
ونوع غير مقدور عليه ولا يتمكن منه.
أما النوع الأول فقد اشترط الإسلام لإباحته أن يذكى تذكية شرعية.
آكلا ما لم يذكر اسم الله عليه. وفي صحيح البخاري عن عائشة أن قوما حديثي عهد بجاهلية قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: "إن قوما يأتوننا باللحمان لا ندري أذكروا اسم الله عليها أم لم يذكروا؟ أنأكل منها أم لا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذكروا اسم الله وكلوا"".
والسر في هذه الذكاة -كما يلوح لنا- هو إزهاق روح الحيوان بأقصر طريق يريحه بغير تعذيب. لهذا اشترطت الآلة المحددة وهي أسرع أثرا واشترط الذبح في الحلق -وهو أقرب المواضع لمفارقة الحياة بسهولة- ونهي عن الذبح بالسن والظفر، لأن الذبح بهما تعذيب للحيوان، ولا يقع بهما غالبا إلا الخنق، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإحداد الشفرة وإراحة الذبيحة "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته".
ومن هذا الإحسان ما رواه ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن تحد الشفار، وأن توارى عن البهائم وقال: "إذا ذبح أحدكم فليجهز" أي: فليتم.
وعن ابن عباس أن رجلا أضجع شاة وهو يحد شفرته. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتريد أن تميتها موتات ؟ هلا أحددت شفرتك قبل أن تضجعها؟"
وراى عمر رجلا يسحب شاة برجلها ليذبحها، فقال له: ويلك !! قدها إلى الموت قودا جميلا.
وهكذا نجد الفكرة العامة في هذا الباب هي الرفق بالحيوان الأعجم وإراحته من العذاب ما استطاع الإنسان إلى ذلك سبيلا.
وقد كان أهل الجاهلية يجبون أسنمة الإبل -وهي حية- ويقطعون أليات الغنم وكان في ذلك تعذيب لهذه الحيوانات، ففوت النبي صلى الله عليه وسلم مقصودهم وحرم عليهم الانتفاع بهذه الأجزاء، فقال: "ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة".
أما طلب التسمية عند الذكاة فإن لها سرا لطيفا ينبغي التنبه له والالتفات إليه. في من جهة مضادة لما كان يصنع الوثنيون وأهل الجاهلية من ذكر أسماء آلهتهم المزعومة عند الذبح، وإذا كان المشرك يذكر في هذا الموضع اسم صنمه فكيف لا يذكر المؤمن اسم ربه؟
ومن جهة ثانية، فإن هذه الحيوانات تشترك مع الإنسان في أنها مخلوقة لله، وأنها كائنات حية ذات روح.. فلماذا يتسلط الإنسان عليها، ويزهق أرواحها، إلا أن يكون ذلك بإذن من خالقه، الذي خلق له ما في الأرض جميعا؟ وذكر اسم الله هنا هو إعلان بهذا الإذن الإلهي. كأن الإنسان يقول: إنني لا أفعل ذلك عدوانا على هذه الكائنات، ولا استضعافا لتلك المخلوقات، ولكن باسم الله أذبح، وباسم الله أصيد ، وباسم الله آكل.
رأينا كيف شدد الإسلام في أمر الذبح واهتم به، لأن مشركي العرب وغيرهم من أهل الملل جعلوا الذبائح من أمور العبادات بل من شؤون العقيدة وأصول الدين، فصاروا يتعبدون بذبح الذبائح لآلهتهم، فيذبحون على النصب عندها أو يهلون باسمها عند الذبح، وحرم ما ذبح على النصب وما أهل لغير الله به.
ولما كان أهل الكتاب أهل توحيد في الأصل، ثم سرت إليهم نزعات الشرك ممن دخل في دينهم من المشركين الذين لم يتخلصوا تماما من أدران شركهم القديم، وكان هذا مظنة لأن يفهم بعض المسلمين أن معاملة أهل الكتاب في ذلك كأهل الأوثان -رخص الله تعالى في مؤاكلة أهل الكتاب كما رخص في مصاهرتهم- فقال تعالى في سورة المائدة وهي من آخر ما نزل من القرآن: (اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم) سورة المائدة:5.
ومعنى هذه الآية إجمالا: اليوم أحل لكم الطيبات، فلا بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام. وطعام الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى حل لكم بمقتضى الأصل، لم يحرمه الله عليكم قط، وطعامكم حل لهم كذلك أيضا، فلكم أن تأكلوا من اللحوم التي ذكوا حيوانها أو صادوه، ولكم أن تطعموهم مما تذكون وتصطادون.
وإنما شدد الإسلام مع مشركي العرب، وتساهل مع أهل الكتاب، لأنهم أقرب إلى المؤمنين، لاعترافهم بالوحي والنبوة وأصول الدين في الجملة. وقد شرعت لنا موادتهم بمؤاكلتهم ومصاهرتهم وحسن معاشرتهم لأنهم إذا عاشرونا وعرفوا الإسلام في بيئته ومن أهله، على حقيقته، علما وعملا وخلقا، ظهر لهم أن ديننا هو دينهم في أسمى معانيه، وأكمل صوره، وأنقى صحائفه، مبرأ من البدع والأباطيل والوثنيات.
وكلمة (طعام الذين أوتوا الكتاب) كلمة عامة تشمل كل طعام لهم: ذبائحهم وحبوبهم وغيرها، فكل ذلك حلال لنا، ما لم يكن محرما لعينه كالميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير، فهذه لا يجوز أكلها بالإجماع سواء أكانت طعام كتابي أو مسلم.
بقي هنا إيضاح عدة مسائل يهم المسلمين معرفتها:
إذا لم يسمع من الكتابي أنه سمى غير الله عند الذبح كالمسيح والعزير، فإن ذبيحته حلال. وأما إذا سمع منه تسمية غير الله، فمن الفقهاء من يحرم ذبيحته تلك لأنها مما أهل لغير الله به.
وبعضهم يقول: أباح الله لنا طعامهم وهو أعلم بما يقولون.
وسئل أبو الدرداء رضي الله عنه عن كبش ذبح لكنيسة يقال لها (جرجس) أهدوه لها: أنأكل منه ؟ فقال أبو الدرداء للسائل: اللهم عفوا، إنما هم أهل كتاب طعامهم حل لنا وطعامنا حل لهم. وأمره بأكله.
وسئل الإمام مالك فيما ذبحه أهل الكتاب لأعيادهم وكنائسهم فقال: أكرهه ولا أحرمه. وإنما كرهه من باب الورع خشية أن يكون داخلا فيما أهل لغير الله به، ولم يحرمه لأن معنى ما أهل به عنده -بالنسبة لأهل الكتاب- إنما هو فيما ذبحوه لآلهتهم مما يتقربون به إليها ولا يأكلونه فأما ما يذبحونه ويأكلونه فهو من طعامهم وقد قال تعالى: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم).
المسألة الثانية: هل يشترط أن تكون تذكيتهم مثل تذكيتنا: بمحدد في الحلق ؟ اشترط ذلك أكثر العلماء، والذي أفتى به جماعة من المالكية أن ذلك ليس بشرط.
قال القاضي ابن العربي في تفسير آية المائدة: "هذا دليل قاطع على أن الصيد وطعام الذين أوتوا الكتاب من الطيبات التي أباحها الله، وهو الحلال المطلق، وإنما كرره الله تعالى ليرفع به الشكوك ويزيل الاعتراضات عن الخواطر الفاسدة، التي توجب الاعتراضات وتحوج إلى تطويل القول. ولقد سئلت عن النصراني يفتل عنق الدجاجة ثم يطبخها: هل تؤكل معه أو تؤخذ منه طعاما ؟ فقلت: تؤكل، لأنها طعامه وطعام أحباره ورهبانه، وإن لم تكن هذه ذكاة عندنا، ولكن أباح الله لنا طعامهم مطلقا، وكل ما يرونه في دينهم، فإنه حلال لنا إلا ما كذبهم الله فيه. ولقد قال علماؤنا: إنهم يعطوننا نساءهم أزواجا، فيحل لنا وطؤهن، فكيف لا نأكل ذبائحهم، والأكل دون الوطء في الحل والحرمة؟"
هذا ماقرره ابن العربي. وقال في موضع ثان: "ما أكلوه على غير وجه الذكاة كالخنق وحطم الرأس (أي بغير قصد التذكية) ميتة حرام". ولا تنافي بين القولين، فإن المراد: أن ما يرونه مذكى عندهم حل لنا أكله، وإن لم تكن ذكاته عندنا ذكاة صحيحية، وما لا يرونه مذكى عندهم لا يحل لنا. والمفهوم المشترك للذكاة: هو القصد إلى إزهاق روح الحيوان بنية تحليل أكله.
وهذا هو مذهب جماعة المالكية.
وعلى ضوء ما ذكرناه نعرف الحكم في اللحوم المستوردة من عند أهل الكتاب كالدجاج ولحوم البقر المحفوظة، مما قد تكون تذكيته بالصعق الكهربائي ونحوه. فما داموا يعتبرون هذا حلالا مذكى فهو حل لنا، وفق عموم الآية. أما اللحوم المستوردة من بلاد شيوعية: فلا يجوز تناولها بحال، لأنهم ليسوا أهل كتاب وهم يكفرون بالأديان كلها، ويجحدون بالله ورسالاته جميعا.

اختلف العلماء في ذبيحة المجوس، فالأكثرون يمنعون من أكلها لأنهم مشركون.
وقال آخرون: هي حلال، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"سنوا بهم سنة أهل الكتاب". وقد قبل الجزية من مجوس هجر.
وقال ابن حزم في باب التذكية من كتابه (المحلى): "وإنهم أهل كتاب فحكمهم كحكم أهل الكتاب في كل ذلك".
والصابئون عند أبي حنيفة أهل كتاب أيضا.
وليس على المسلم أن يسأل عما غاب عنه: كيف كانت تذكيته ؟ وهل استوفت شروطها أم لا ؟ وهل ذكر اسم الله على الذبيحة أم لم يذكر ؟ بل كل ما غاب عنا مما ذكاه مسلم -ولو جاهلا أو فاسقا- أو كتابي، فحلال أكله.
وقد ذكرنا من قبل حديث البخاري أن قوما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا ؟ فقال عليه السلام: "سموا الله عليه أنتم وكلوا".
قال العلماء في هذا الحديث: هذا دليل على أن الأفعال والتصرفات تحمل على حال الصحة والسلامة، حتى يقوم دليل على الفساد والبطلان.
 أ.د. يوسف القرضاوى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ