الأحد، 15 أبريل 2012

موسوعة علوم القرآن - التفسير : الصوفية وموقفهم من القرآن الكريم

الصوفية وموقفهم من القرآن


وقع الاختلاف في أصل هذه الكلمة ( تصوف) فقيل : إنها مشتقة من الصوف ؛ وذلك لأن الصوفية خالفوا الناس في لبس فاخر الثياب فلبسوا الصوف تقشفا وزهدا ، وقيل : إنه من الصفاءس ؛ وذلك لصفاء قلب المريد، وطهارة باطنه وظاهره عن مخالفة ربه 0 وقيل : إنه مأخوذ من الصفة التي ينسب إليها فقراء الصحابة المعروفون بأهل الصفة 0 ويري غيرهم أنه لقب غير مشتق 0 قال القشيري رحمه الله : ( ولا يشهد لهذا الاسم اشتقاق من جهة العربية ، ولا قياس ، والظاهر أنه لقب 0 ومن قال باشتقاقه من الصفاء أو من الصفة فبعيد من جهة القياس اللغوي 0 قال : وكذلك من الصوف ؛ لأنهم لم يختصوا به )
أما معنى التصوف 00 فقيل : ( هو إرسال النفس مع الله على ما يريده ) ، وقيل : ( هو مناجاة القلب ومحادثة الروح ، وفلي هذه المناجاة طهرة لمن شاء أن يتطهر ، وصفاء لمن أراد التبرؤ من الرجس والدنس ، وفي تلك المحادثة عروج إلى سماء النور والملائكة ، وصعود إلى عالم الفيض والإلهام 0 وما هذا الحديث والنجوي إلا ضرب من التأمل ، والنظر ، والتدبر في ملكوت السموات والأرض 0 بيد أن الجسم والنفس متلازمان وتوأمان لا ينفصلان ، ولا سبيل إلى تهذيب أحدهما بدون الآخر 0 فمن شاء لنفسه صفاء ورفعة فلابد له أن يتبرأ عن الشهوات وملذات البدن 00 فالتصوف إذن : فكر وعمر 0 ودراسة وسلوك )

ينقسم التصوف إلى قسمين أساسيين :
       تصوف نظري : وهو التصوف الذي يقوم على البحث والدراسة 0
وتصوف عملي : وهو التصوف الذي يقوم على التقشف والزهد والتفاني في طاعة الله 0 وكل من القسمين كان له أثره في تفسير القرآن الكريم ، مما جعل التفسير الصوفي ينقسم أيضا إلي قسمين : تفسير صوفي نظري ، وتفسير صوفي فيضي أو إشاري.
 
التصوف الصوفي النظري
       وجد من المتصوفة ـ كما قلنا ـ من بني تصوفه على مباحث نظرية ، وتعاليم فلسفية ، فكان من البدهي أن ينظر هؤلاء المتصوفة إلى القرآن نظرة تتمشي مع نظرياتهم ، وتتفق وتعاليمهم0
       وليس من السهل أن يجد الصوفي في القرآن ما يتفق صراحة مع تعاليمه ولا ما يتمشي بوضوح مع نظرياته التي يقول بها ؛ إذ أن القرآن عربي جاء لهداية الناس لا لإثبات نظرية من النظريات ، ربما كانت في الغالب مستحدثة وبعيدة عن روح الدين وبداهة العقل
       غير أن الصوفي حرصا منه على أن يتسلم له تعاليمه ونظرياته ، يحاول أن يجد في القرآن ما يشهد له أو يستند إليه ، فتراه من أجل هذا يتعسف في فهمه للآيات القرآنية ، ويشرحها شرحا يخرج بها عن ظاهرها الذي يؤيده الشرع ، وتشهد له اللغة.
 
 
التفسير الصوفي النظري: في الميزان
       من هذه الأمثلة السابقة كلها نستطيع أن نقرر في صراحة واطمئنان : أن التفسير الصوفي النظري تفسير يخرج بالقرآن ـ في الغالب ـ عن هدفه الذي يرمي إليه !! 0 يقصد القرآن هدفا معينا بنصوصه وآياته ، ويقصد الصوفي هدفا معينا بأبحاثه ونظرياته 0 وقد يكون بين الهدفين تنافر وتضاد ، فيأبى الصوفي إلا أن يحول القرآن عن هدفه ومقصده ، إلى ما يقصده هو ويرمي إليه ، وغرضه بهذا كله : أن يروج لتصوفه على حساب القرآن ، وأن يقيم نظرياته وأبحاثه عن أساس من كتاب الله ، وبهذا الصنيع يكون الصوفي قد خدم فلسفته التصوفية ولم يعمل للقرآن شيئا ، اللهم إلا هذا التأويل الذي كله شر على الدين وإلحاد في آيات الله !! 00
       رأينا ابن عربي يميل ببعض الآيات إلى مذهبه القائل بوحدة الوجود ، ورأينا غيره كأبي يزيد البسطامي ، والحلاج ، وغيرهما ، يسلك هذا المسلك نفسه أو قريبا منه 0 ووحدة الوجود ـ عندهم ـ معناها أنه ليس هناك إلا وجود واحد كل العالم مظاهر ومجال له ، فالله سبحانه هو الموجود الحق، وكل ما عداه ظواهر وأوهام ، ولا توصف بالوجود إلا بضرب من التوسع والمجاز ، وهذه النظرية سرت إلى بعض المتصوفة عن طريق الفلاسفة ، وعن طريق الإسماعيلية الباطنية الذين خالطوهم وأخذوا عنهم مذهبهم القائل بحلول الإله في أئمتهم ، وصوروه ـ أعني الصوفية ـ بصورة أخري تتفق مع مذهب الباطنية في الحقيقة ، وإن اختلفت في الاصطلاح والألفاظ 000 !!
       هذا المذهب الذي خول لمثل الحلاج أن يقول : أنا الله ، ولمثل ابن عربي أن يقول : إن عجل بني إسرائيل أحد المظاهر التي اتخذها الله وحل فيها ، والذي جره فيما بعد إلى القول بوحدة الأديان لا فرق بين سماوي وغير سماوي ؛ إذ الكل يعبدون الإله الواحد المتجلي في صورهم وصور جميع المعبودات.
       هذا المذهب الذي يذهب بالدين من أساسه 00 هل يكون سائغا ومقبولا أن نجعله أصلا نبني عليه أفهامنا لآيات القرآن الكريم ؟ 00 وهل يليق بابن عربي وهو الأستاذ الأكبر ، أن ينظر من خلاله إلى مثل قوله تعالى في الآيتين ( 6 و 7 ) من سورة البقرة { إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون 0 ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم } 0
       فيقول شارحا لهذا النص القرآني : ( يا محمد 000 إن الذين كفروا : ستروا محبتهم في 00 دعهم فسواء عليهم أأنذرتهم بوعيدك الذي أرسلتك به ، أم لم تنذرهم لا يؤمنون بكلامك ؛ فإنهم لا يعقلون غيري ، وأنت تنذرهم بخلقي وهم ما عقلوه ولا شاهدوه ، وكيف يؤمنون بك وقد ختمت على قلوبهم فلم أجعل فيها متسعا لغيري ، وعلى سمعهم فلا يسمعون كلاما في العالم إلا مني ، وعلى أبصارهم غشاوة من بهائي عند مشاهدتي ، فلا يبصرون سواي ، ولهم عذاب عظيم عندي 00 أردهم بعد هذا المشهد السني إلى إنذارك وأحجبهم عني ، كما فعلت بك بعد قاب قوسين أو أدنى قربا 00 أنزلتك إلى من يكذبك ، ويرد ما جئت به إليه مني في وجهك ، وتسمع فيّ ما يضيق له صدرك ، فأين ذلك الشرح الذي شاهدته في إسرائك ؟ فهكذا أمنائي على خلقي الذين أخفيتهم رضاي عنهم ) اهـ
       وهل يجدر بمثل هذا الصوفي الكبير أن يتأثر بمذهبه في وحدة الوجود فيقول في قوله تعالي في الآية (23) من سورة الإسراء { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } : ( 000 فعلماء الرسوم يحملون لفظ قضى على الأمر ، ونحن نحمله على الحكم كشفا 00 وهو الصحيح ؛ فإنهم اعترفوا أنهم ما يعبدون هذه الأشياء إلا لتقربهم إلى الله زلفى ، فأنزلهم منزلة النواب الظاهرة بصورة من استنابهم ، وما ثم صورة إلا الألوهية فنسبوها إليهم 0 ولهذا يقضي الحق حوائجهم إذا توسلوا بها إليه غيرة منه على المقام أن يهتضم ، وإن أخطئوا في النسبة فما أخطئوا في المقام ، ولهذا قال : { إن هي إلا أسماء سميتموها } [ النجم 23] ، أي أنتم قلتم عنها : إنها آلهة 000 وإلا فسموهم ، فلو سموهم لقالوا : هذا حجر ، أو شجر ، أو ما كان ، فتتميز عندهم بالأسمية ؛ إذ ما كل حجر عبد ولا اتخذ إلها ، ولا كل شجر ، ولا كل جسم منير ، ولا كل حيوان 0 فلله الحجة البالغة عليهم بقوله : قل سموهم 00 )
       وأصرح من هذا أنه لما عرض لقوله تعالي في الآية (163) من سورة البقرة { وإلهكم إله واحد } قال : ( 000 إن الله تعالي خاطب في هذه الآية المسلمين ، والذين عبدوا غير الله قربة إلى الله ، فما عبدوا إلا الله ، فلما قالوا : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى فأكدوا ذكر العلة ، فقال الله لنا : إن إلهكم والإله الذي يطلب المشرك القربة إليه بعبادة هذا الذي أشرك به واحد ، كأنكم ما اختلفتم في أحديته 00 فقال : وإلهكم ، فجمعنا وإياهم إله واحد ، فما أشركوا إلا بسببه فيما أعطاهم نظرهم 0 ومن قصد من أجل أمر ما فذلك الأمر على الحقيقة هو المقصود لا من ظهر أنه قصد ، كما يقال : من صحبك لأمر أو أحبك لأمر ولّى بانقضائه ؛ ولهذا ذكر الله أنهم يتبرءون منهم يوم القيامة ، وما أخذوا إلا من كونهم فعلوا ذلك من نفوسهم ، لا أنهم جهلوا قدر الله في ذلك ، ألا ترى الحق لما علم هذا منهم كيف قال : وإلهكم إله واحد ؟ ، ونبههم فقال : { قل سموهم} فيذكرونهم بأسمائهم المخالفة أسماء الله ، ثم وصفهم بأنهم في شركهم قد ضلوا ضلالا بعيدا ، أو مبينا ؛ لأنهم أوقعوا أنفسهم في الحيرة ؛ لكونهم عبدوا ما نحتوا بأيديهم ، وعلموا أنه لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنهم من الله شيئا ، فهي شهادة من الله بقصور نظرهم وعقولهم ، ثم أخبرنا الله أنه قضى ألا نعبد إلا إياه بما نسبوه من الألوهية لهم أي جعلوهم كالنواب لله والوزراء ، كأن الله استخلفهم ، ومن عادة الخليفة أن يكون في رتبة من استخلفه عند المستخلف عليه؛ فلهذا نسبوا الألوهية لهم ابتداء من غير نظر فيمن جعل ذلك 0 وقول من قال:{ أجعل الآلهة إلها واحدا } إنما كان من أجل اعتقادهم فيما عبدوه أنهم آلهة دون الله المشهود له عندهم بالعظمة على الجميع ، فأشبه هذا القول ما ثبت في الشرع الصحيح من اختلاف الصور في التجلي ، ومعلوم عند من يشاهد ذلك أن الصورة ما هي هذه الصورة ، وكل صورة لابد أن يقول المشاهد لها : إنها الله 0 لكن لما كان هذا من عند الله ، وذلك الآخر من عندهم أنكر عليهم التحكم في ذلك ، كما ثبت في قوله تعالي : { فأينما تولوا فثم وجه الله } [ البقرة 115] ، هذا حقيقة ؛ فوجه الله موجود في كل جهة يتولى أحد إليها ، ومع هذا لو تولى الإنسان في صلاته إلى غير الكعبة مع علمه بجهة الكعبة لم تقبل صلاته ، لأنه ما شرع له إلا استقبال هذا البيت الخاص بهذه العبادة الخاصة، فإذا تولى في غير هذه العبادة التي لا تصح إلا بتعيين هذه الجهة الخاصة ، فإن الله يقبل ذلك التولي ، كما أنه لو اعتقد أن كل جهة يتولى إليها ما فيها وجه الله لكان كافرا وجاهلا ، ومع هذا فلا يجوز له أن يتعدي بالأعمال حيث شرعها الله ، ولهذا اختلفت الشرائع : فما كان محرما في شرع ما ، حلله الله في شرع آخر ، ونسخ ذلك الحكم الأول في ذلك المحكوم علبيه بحكم آخر في عين ذلك المحكوم عليه، قال الله تعالي : {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} [ المائدة 48] ، فما نسخ من شرع واتبعه من اتبعه بعد نسخه فذلك المسمي هوي النفس الذي قال الله فيه لخليفته داود
       { إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق } يعني الحق الي أنزلته إليك ، { ولا تتبع الهوى} وهو ما خالف شرعك { فيضلك عن سبيل الله } [ ص ً26] ، وهو ما شرعه الله لك على الخصوص ، فإذا علمت هذا وتقرر لديك ، علمت أن الله إله واحد في كل شرع عينا ، وكثير صورة وكونا، فإن الأدلة العقلية تكثره باختلافها فيه ، وكلها حق ومدلولها صدق ، والتجلي في الصورة كثيرة أيضا لاختلافها ، والعين واحدة ، فإذا كان الأمر هكذا فما تصنع ؟ أو كيف يصح لي أن أخطئ قائلا ؟ ولهذا لا يصح خطأ من أحد فيه ، وإنما الخطأ في إثبات الغير وهو القول بالشريك ، فهذا القول بالعدم : لأن الشريك ليس ثم ، وذلك لا يغفره الله ، لأن الغفر الستر ، ولا يستر إلا من له وجود ، والشريك عدم فلا يستر 00 فهي كلمة تحقيق { إن الله لا يغفر أن يشرك به } [ النساء 116] لأنه لا يجده 0 فلو وجده لصح وكان للمغفرة عين تتعلق بها ، وما في الوجود من يقبل الأضداد ، وما هي إلا أحكام عين الممكنات في عين الوجود التي بظهورها علمت الأسماء الإلهية المتضادة وأمثالها 00) اهـ
 
 
ابن عربي: شيخ هذه الطريقة (في التفسير)
       نستطيع أن نعتبر الأستاذ الأكبر محيي الدين بن عربي شيخ هذه الطريقة في التفسير ، إذ أنه أظهر من خب فيها ووضع ، وأكثر أصحابه معالجة للقرآن على طريقة التصوف النظري ، وإن كان له من التفسير الإشاري ما يجعله في عداد المفسرين الإشاريين إن لم يكن شيخهم أيضا 0
تأثر ابن عربي بالنظريات الفلسفية :
       نقرا لابن عربي في الكتب التي يشك في نسبتها إليه ، كالتفسير المشهور باسمه ، وفي الكتب التي تنسب إليه علي الحقيقة كالفتوحات المكية، والفصوص ،فنراه يطبق كثيرا من الآيات القرآنية على نظرياته الصوفية الفلسفية 0
       فمثلا يفسر بعض الآيات بما يتفق والنظريات الفلسفية الكونية ، فعند قوله تعالي في الآية (57) من سورة مريم في شأن إدريس عليه السلام : {ورفعناه مكانا عليا} نجده يقول : ( وأعلي الأمكنة المكان الذي تدور عليه رحي عالم الأفلاك ، وهو فلك الشمس ، وفيه مقام روحانية إدريس ، وتحته سبعة أفلاك ، وفوقه سبعة أفلاك ، وهو الخامس عشر ) 000 ثم ذكر الأفلاك التي تحته ، والتي فوقه ، ثم قال : ( وأما علو المكانة فهو لنا أعني المحمديين كما قال تعالي : { وأنتم الأعلون والله معكم } [ محمد 35] في هذا العلو ، وهو يتعالي عن المكان لا عن المكانة 0
       وعند قوله تعالي في الآية (87) وما بعدها من سورة البقرة : { ولقد آتينا موسي الكتاب وقفينا من بعده بالرسل 000 ـ إلى قوله ـ 00 كأنهم لا يعلمون } يقول : ( 000 والظاهر أن جبرائيل هو العقل الفعال ، وميكائيل هو روح الفلك السادس وعقله المفيض للنفس النباتية الكلية الموكلة بأرزاق العباد ، وإسرافيل هو روح الفلك الرابع وعقله المفيض للنفس الحيوانية الكلية الموكلة بالحيوانات ، وعزرائيل هو روح الفلك السابع الموكل بالأرواح الإنسانية كلها يقبضها بنفسه أو بالوسائط التي هي أعوانه ويسلمها إلى الله تعالي ) (1).
       وعند قوله تعالي في الآيتين (19 ، 20) من سورة الرحمن { مرج البحرين يلتقيان 0 بينهما برزخ لا يبغيان } يقول : { مرج البحرين} يجر الهيولي الجسمانية الذي هو الملح الأجاج ، وبحر الر وح المجرد الذي هو العذب الفرات {يلتقيان} في الوجود الإنساني { بينهما برزخ} هو النفس الحيوانية التي ليست في صفاء الروح المجردة ولطافتها ، ولا في كثرة الأجساد الهيولانية وكثافتها { لا يبغيان } لا يتجاوز أحدهما حده فيغلب على الآخر بخاصيته ، فلا الروح يجرد البدن ويخرج به ويجعله من جنسه ، ولا البدن يجسد الروح ويجعله ماديا 000 سبحان خالق الخلق القادر على ما يشاء ) اهـ (2).
تأثره في تفسيره بنظرية وحدة الوجود :
       كذلك نري ابن عربي يتأثر في تفسيره للقرآن بنظرية وحدة الوجود ، التي هي أهم النظريات التي بنا عليها تصوفه ، فنراه في كثير من الأحيان يشرح الآيات على وفق هذه النظرية ، حتى إنه ليخرج بالآية عن مدلولها الذي أرده الله تعالي 0
       فمثلا عندما تعرض لقوله تعالي في أول سورة النساء { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة 00 الآية } نجده يقول : { اتقوا ربكم} اجعلوا ما ظهر منكم وقاية لربكم ، واجعلوا ما بطن منكم ـ وهو ربكم ـ وقاية لكم ؛ فإن الأمر ذم وحمد ، فكونوا وقايته في الذم ، واجعلوه وقايتكم في الحمد تكونوا أدباء عالمين ) (3).
       وفي تفسيره لقوله تعالي في الآيتين (29 ، 30) من سورة الفجر {00 فادخلي في عبادي 0 وادخلي جنتي } يقول : ( 000 وادخلي جنتي التي هي ستري ، وليست جنتي سواك ، فأنت تسترني بذاتك الإنسانية فلا أعرف إلا بك ، كما أنك لا تكون إلا بي فمن عرفك عرفني ، وأنا لا أعرف فأنت لا تعرف ، فإذا دخلت جنته دخلت نفسك ، فتعرف نفسك معرفة أخري، غير المعرفة التي عرفتها حين عرفت ربك بمعرفتك إياها ، فتكون صاحب معرفتين : معرفة به من حيث أنت ، ومعرفة به بك من حيث هو لا من حيث أنت ، فأنت عبد رأيت ربا ، وأنت رب لمن له فيه أنت عبد ، وأنت رب وأنت عبد لمن له في الخطاب عهد 00 الخ ) (4).
       وفي سورة آل عمران عند قوله تعالي في الآية (191) { 000 ربنا ما خلقت هذا باطلا } أي شيئا غيرك ؛ فإن غير الحق هو الباطل ، بل جعلته أسماءك ومظاهر صفاتك { سبحانك } ننزهك أن يوجد غيرك 0 أي يقارن شئ فردانيتك أو يثني وحدانيتك 000) (5).
       ومثلا عند قوله تعالي في الآيتين (9 ، 10) من سورة الشمس { قد أفلح من زكاها 0 وقد خاب من دساها } يقول : ( تحقيق هذا الذكر أن النفس لا تزكوا إلا بربها ، فيه تشريف وتعظيم في ذاتها ، لأن الزكاة ربو ، فمن كان الحق سمعه وبصره وجيمع قواه ، والصورة في الشاهد صورة خلق ، فقد زكت نفس من هذا نعته ، وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ، كالأسماء الإلهية لله 0 والخلق كله بهذا النعت في نفس الأمر ، ولولا أنه هكذا في نفس الأمر ما صح بصورة الخلق ظهور ولا وجود ، ولذلك خاب من دساها ؛ لأنه جهل ذلك فتخيل أنه دسها في هذا النعت ، وما علم أن هذا النعت لنفسه نعت ذاتي لا ينفك عنه ويستحيل زواله 0 لذلك وصفه بالخيبة حيث لم يعلم هذا ، ولذلك قال { قد أفلح } ففرض له البقاء ، والبقاء ليس إلا لله ، أو لما كان عند الله ، وما ثم إلا الله ، أو ما هو عنده ، فخزائنه غير نافذة ، فليس إلا صور تعقب صورا 000) اهـ (6).
       00 وغير هذا كثير من قسر الآيات وإخضاعها لنظرية وحدة الوجود التي يدين بها ابن عربي 0
قياسة الغائب على الشاهد :
       كذلك نجد ابن عربي يفهم بعض النصوص القرآنية فهما خياليا منتزعا من المشاهد المحسوسة ، فمثلا عند تفسيره لقوله تعالي في أول سورة الرحمن : { الرحمن 0 علم القرآن 0 خلق الإنسان 0 علمه البيان 0 الشمس والقمر بحسبان 0 والنجم والشجر يسجدان 0 والسماء رفعها ووضع الميزان 0 ألا تطغوا في الميزان 0 واقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان 0 } يقول ما نصه : ( { 0: الرحمن 0 علم القرآن }على أي قلب نزل { خلق الإنسان } فعين له الصنف المنزل عليه { علمه البيان } أي نزل له البيان فأبان عن المراد الذي في الغيب { الشمس والقمر بحسبان} ميزان حركات الأفلاك { والنجم والشجر يسجدان} لهذا الميزان ، أي من أجل هذا الميزان ، فمنه ذو ساق وهو الشجر 0 ومنه ما لا طاق له وهو النجم ، فاختلفت السجدتان 0 { والسماء رفعها } وهي قبة الميزان { ووضع الميزان} ليزن به الثقلالن { ألا تطغوا في الميزان} بالإفراط والتفريط من أجل الخسران { وأقيموا الوزن بالقسط } مثل اعتدال نشأة الإنسان " إذ الإنسان لسان الميزان { ولا تخسروا الميزان } أي لا تفرطوا بترجيح إحدي الكفتين إلا بالفضل 0 وقال تعالي { ونضع الموازين القسط } [ الأنبياء 47] فاعلم أنه ما من صنعة ولا مرتبة ولا حال ولا مقام إلا والوزن حاكم عليه علما وعملا ، فالمعاني ميزان بيد العقل يسمي المنطق ، يحتوي على كفتين تسمي المقدمتين ، وللكلام ميزان يسمي النحو يوزن به الألفاظ لتحقيق المعاني التي تدل عليه ألفاظ ذلك اللسان ، ولكل ذي لسان ميزان وهو المقدار المعلوم الذي قرنه الله بإنزال الأرزاق فقال : { وما ننزله إلا بقدر معلوم} [الحجرات 21] { ولكن ينزل بقدر ما يشاء } [ الشوري 27] وقد خلق جسد الإنسان على صورة الميزان ، وجعل كفتيه : يمينه وشماله ، وجعل لسانه : قائمة ذاته 0 فهو لأي جانب مال ، وقرن الله السعادة باليمين ، وقرن الشقاء بالشمال ، وجعل الميزان اليذي يوزن بالأعمال علىشكل القبان ، ولهذا وصف بالثقل والخفة ؛ ليجمع بن الميزان العددي وهو قوله تعالي {بحسبان} وبين ما يوزن بالرطل ، وذلك لا يكون إلا في القبان ، فلذلك لم يعين الكفتين ، بل قال : فأما من ثقلت موازينه 000 في حق السعداء ، وأما من خفت موازينه 00 في حق الأشقياء ، ولو كان ميزان الكفتين لقال : وأما من ثقلت كفة حسناته فهو كذا ، وأما من ثقلت كفة سيئاته فهو كذا 0 وإنما جعل ميزان الثقل هو عين ميزان الخفة كصورة القبان ، ولو كان ذا كفتين لوصف كفة السيئات بالثقل أيضا إذا رجحت على الحسنات ، وما وصفها قط إلا بالخفة فعرفنا أن الميزان على شكل القبان 000 ) اهـ (7).
إخضاعه قواعد النحو لنظراته الصوفية :
       وكذلك يخضع ابن عربي التفسير الصوفي النظري إلى القواعد النحوية أحيانا ، ولكنه خضوع يكيفه الصوفي على حسب ما يرضي روحه ويوافق ذوقه ، فنجد ابن عربي مثلا عند تفسيره لقوله تعالي في الآية (30) من سورة الحج { ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه } يقول : (000 وقوله " عند ربه " العامل في هذا الظرف في طريقنا : قوله : " ومن يعظم " أي من يعظمها عند ربه ، أي في ذلك الموطن ، فلتبحث في المواطن التي تكون فيها عند ربك ما هي ؟ 000 كالصلاة مثلا ، فإن المصلي يناجي ربه ، فإذا عظم حرمة الله في هذا الموطن كان خيرا له 000 والمؤمن إذا نام على طهارة فروحه عند ربه ، فيعظم هناك حرمة الله ، فيكون الخير الذي له في مثل هذا الموطن المبشرة التي تحصل له في نومه أو يراها له غيره 0 والمواطن التي يكون العبد فيها عند ربه كثيرة فيعظم فيها حرمات الله على الشهود 000) اهـ (8).
=======
1- تفسير ابن عربي - 10/51.
2- تفسير ابن عربي - 20/280.
3- الفصوص - 1/50.
4- الفصوص - 1/191 ، 192.
5- تفسير ابن عربي - 10/141.
6- الفتوحات - 4/119.
7- الفتوحات - 3/6.
8- الفتوحات - 4/115.