الثلاثاء، 10 أبريل 2012

موسوعة علوم الحديث : مقدمة فى علم تخريج الحديث


مقدمة فى علم تخريج الحديث


        التخريج لغة :

        هو من أصل "خَرَجَ يَخْرُجُ خُرُوجاً" – فعل لازم – نقيض الدخول. والمتعدى منه : التخريج والإخراج .

        التخريج اصطلاحا :

        الأول : رواية المحدِّثِ الأحاديث فى كتابه بأسانيده. ومنه قول المحدثين مثلاً : "خرَّجه، أو أخرجه البخارى فى صحيحه" أى رواه فيه بسنده.

        الثانى : عَزْوُ الحديث إلى من رواه من الأئمة فى كتابه، مع ذكر درجته منه قول المحدثين : "خَرَّجَ فلانُ أحاديث كتاب كذا" أى عزاها ونسبها إلى من رواها من الأئمة فى كتابه باسناده، مع بيان درجاتها من حيث القبول والرد. مثل عمل الزيلعى (ت762 هـ) فى نصب الراية لأحاديث الهداية"، وغيره.

        والتخريج بالمعنى الثانى كأنه تحقيق كامل للحديث، ودارسة شاملة له من جميع جوانبه. أو بلفظ آخر : أنه تطبيق عملى لكافة علوم الحديث، حيث إنه يُكلّف المخرِّج بالبحث عن الحديث فى مصادره، والاطلاع على ألفاظه المختلفة، وأسانيده المتنوعة، والوقوف على أقوال أئمة الحديث فيه، وفى رجاله، ودراسته سنداً ومتناً، ثم محاولة الوصول إلى نتيجة صالحة حول ذلك الحديث.

        المناسبة بين المعنى الاصطلاحى والمعنى اللغوى :

        تكمن المناسبة بين المعنى الاصطلاحى والمعنى اللغوى للتخريج فى أن المخرِّج عندما يأتى إلى تخريج حديث فيلاحظ – مثلاً – أن الحديث : لا يُعرَف مصدره ولا درجته، أو يُعرَف مصدره ولا تُعرّف درجته، أو تُعرَف درجته ولا يُعرَف مصدره. فيرى أن الحديث إذا تُرِك على إحدى هذه الحالات الثلاث فسيبقى مختفياً مستوراً عن الناس، ومتروك التعامل معه، فحينئذ يُشمَّر المخرِّج عن ساعد الجَدِّ لإخراجه عن هذا الطور، وإبرازه للناس محقَّقاً مدروساً، واضح السمات، ظاهر الصفات.

        موضوع علم تخريج الحديث :

        حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم سنداً ومتناً، تعليماً لطرق تخريجه، وأسرعها وصولاً بالمخرِّج على طريقة الحصول على درجته

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشأة علم التخريج
        نشأة علم تخريج الحديث :

        إن التخريج بالمعنى الثانى(1) الذى استقر عليه اليوم لم يكن وليد الصدفة، ولا جديد الفكرة، وإنما هو امتداد لحاجة السنة إلى إثباتها وتوثيقها عبر أدوارها المختلفة، ظهر على أفق السنة إثر ظروف صاحبتها من وقت لآخر.

        فالسنة قبل تدوينها الشامل كانت فقط فى حاجة إلى ذكرها بالسند الموصول إلى النبي صلى الله عليه وسلم دون تمحيص وتدقيق فى رجالها، لِمَا كان الناس حديثى العهد بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولِمَا طُبِعُوا عليه من صفاء النفوس، ونقاء السريرة، حتى ما كانوا يعرفون ما الكذب؟ يقول أنس بن مالك رضى الله عنه (ت90هـ أو 92هـ): "والله ما كنا نكذب، ولا ندرى ما الكذب"(2). ويقول "والله ما كل ما نحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعناه منه، ولكن لم يكن يكذب بعضنا بعضاً"(3).

        ويقول البراء بن عازب رضى الله عنه (ت72هـ) : "ليس كلنا كان يسمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت لنا ضَيْعة وأشغال، ولكن الناس لم يكونوا يكذبون يومئذ، فيحدث الشاهد الغائب"(4).

        ولكن كلما بَعُدَ بها الزمن عن النبى صلى الله عليه وسلم وعصره اشتدت الحاجة إلى ذكر رواتها بالكامل، وتمحيصهم والتدقيق فى حالهم، لِيُنْظر هل أنهم من أهل الصدق والأمانة فيؤخذ حديثهم، وإلا فيترك حديثهم .

        وذلك عقب ظروف تمخضت عنها فتنة مقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضى الله عنه (ت35هـ)، والتى كادت أن تهدم السنة لولا أن قيَض الله لها حراساص من أعلام هذه الأمة من الصحابة والتابعين، قال التابعى الجليل محمد بن سيرين (ت110هـ) : "لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا : سمُوا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم"(5).

        ثم واجهت السنة ظروفاً لا تقل أهمية عن سابقتها، من خوف ذهابها واندثارها بذهاب حامليها وحفاظها، بجانب ظهور الكثرة الكائرة من الأحاديث الموضوعة، أو غير المعروفة لدى علمائها وحفاظها، فألقى الله تعالى فى قلب الخليفة الأموى عمر بن عبد العزيز (ت101هـ) أن يتحرك لحفظ السنة من الذهاب والاندثار، وصيانة وجهها مما يغطيه من الغبار، فوجَّه أمره السامى بجمع السنة وتدوينها إلى أمراء البلدان، وعلماء الأمصار(6).

        فنهضوا لتدوين السنة تدويناً شاملاً، فجُمعت أحاديث كل بلد من البلدان الإسلامية فى الأجزاء الحديثة، والموضوعات المفردة المختلفة، والموطآت، والمصنفات، والمسانيد، والجوامع، والسنن(7)، وبذلك اكتمل جمع السنة على وجه التقريب فى القرنين الثانى والثالث الذين يعُتبران – بحق – العصر الذهبى لتدوين السنة وجمعها.

        مراحل تطور علم التخريج :

        المرحلة الأولى :

        لقد رأينا فيما سبق أن تخريج الحديث فى القرون الثلاثة الأولى لم يعد عن مدلول : "ذكر المحدث حديثه بسنده إلى النبى صلى الله عليه وسلم بالقلم فى كتابه، أو باللسان فى مجلسه"، ثم أخذ فى التطور خطوة خطوة بالاتجاه إلى المعنى الذى هو عليه اليوم، حيث خرج عن طور التأسيس إلى طور التأكيد والتأييد.

        فبدأ يستعمل فى معنى : "أن يأتى المحدث إلى كتاب حديث – صحيح مسلم مثلاً – فيخرج أحاديثه – حديثاً حديثاً – بسنده هو(8)، فيلتقى مع صاحب ذلك الكتاب فى شيخه، أو فيمن فوقه، ولو فى الصحابى"(9)، وذلك طلباً لعلو الإسناد، أو طمعاً فى تقوية الحديث بتعدد طرقه وكثرتها، أو رغبة فى العثور فى بعض طرقه على زيادة كلمة أو كلمات تساعد على فهم المراد من نص الحديث، وهو الذى يعرف ب"الاستخراج" فى اصطلاح المحدثين.

        وأول من استعمله لذلك المعنى هو :

        1- رفيق الإمام مسلم، أبو الفضل أحمد بن سلمة البزار النيسابوري (ت286هـ).

        2- أبو بكر محمد بن محمد بن رداء الإسفراييني النيسابوري (ت286هـ أيضاً). حيث إنهما خرّجا أحاديث مسلم فى كتابين لهما، وسمياهما بـ"المستخرج على صحيح مسلم". ثم ظهرت مستخرجات أخرى عليه، أو على صحيح البخارى. أو عليهما معاً، أو على غيرهما، وهى كثيرة نذكرها وفقاً لتقدم ووفاة مؤلفيها :

        3- أبو جعفر أحمد بن حمدان الحيري النيسابوري (ت311هـ) خرج على مسلم.

        4- أبو على الحسن بن على بن نصر الطوسي الخراساني (ت312هـ)، خرج على جامع الترمذى.

        5- أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الإسفراييني (ت316هـ)، خرج على مسلم.

        وغيرهم كثير .

        المرحلة الثانية :

        بقى التخريج على معنى الاستخراج على كتاب – بجانب المعنى السابق له– فترة قرن كامل تقريباً، ولم يطرأ عليه أى جديد، حتى ظهر له على يدى الإمام الدارقطني (ت385هـ) معنى آخر تقدم به التخريج خطوة أخرى إلى المعنى الذى هو عليه الآن، حيث استعمله الدارقطنى لمعنى : "جمع أحاديث شيخ من شيوخه، ثم سوقها فى مروياته، ثم عزوها إلى أحد من الأئمة السابقين كأصحاب الكتب الستة"، وذلك لتوثيقها ودعمها بموافقة الأئمة السابقين المعتد بهم .

        كأن الأمر فى عصره وصل إلى حد أن مجرد رواية الحديث بالإسناد لم تعد كافية لثبوته وقبوله، ما لم يكن مدعماً برواية أحد الأئمة السابقين له أيضاً.

        وهذا الذى ظهرت بوادره فى عصر الإمام الدارقطني وصل إلى قمته فى عصر الإمام البيهقي (ت458هـ) حيث قال : "فمن جاء اليوم بحديث لا يوجد عند جميعهم لم يقبل منه، ومن جاء بحديث معروف عندهم فالذى يرويه لا ينفرد بروايته، والحجة قائمة بحديث برواية غيره، والقصد من روايته والسماع منه أن يصير الحديث مسلسلاً بـ(حدثنا) و(أخبرنا) وتبقى هذه الكرامة التى خصت بها هذه الأمة شرفاً لنبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم"(10)، ولعل هذا الشعور هو الذى حمل البيهقي على عزو أحاديث سننه الكبرى إلى أحد الأئمة السابقين، خاصة الشيخين منهم بعد روايتها بإسناده.

        وممن قاموا بمثل هذا التخريج هم :

        1- أبو الحسن على بن عمر الدارقطني (ت385هـ) : تخريج حديث بن أبى إسحاق إبراهيم بن محمد المزكى النيسابوري (ت362هـ)، وتخريج فوائد أبى بكر الشافعي (ت354هـ).

        2- أبو الفتح محمد بن أحمد، ابن أبى الفوارس البغدادي (ت412هـ) : تخريج فوائد أبى طاهر المخلّص (ت393هـ).

        3- أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي (ت458هـ) : تخريج الأجزاء الكنجروذيات من حديث أبى سعيد محمد بن عبد الرحمن الكنجروذي (ت453هـ)، وتخريج أحاديث الأم للإمام الشافعي (ت204هـ).

        4- أبو سعيد على بن موسى النيسابوري السكري (ت465هـ) : تخريج الأجزاء الكنجروذيات (السابقة).

        وغيرهم كثير .

        المرحلة الثالثة :

        ثم تطور التخريج قليلاً، وقفز قفزته الأخيرة ليستقر على مكانه الذى هو عليه الآن، فأصبح عبارة عن :

        "عزو حديث ما إلى كتاب أو كتب الأئمة السابقين الذين يووا فيها الأحاديث بأسانيدهم، مع منحه الدرجة المناسبة لحال رجاله ومتنه، سواء كان ذلك الحديث بالسند، أو بدون السند" .

        أى خرج التخريج فى هذه المرحلة عن طور الرواية إلى طور العزو فقط، وذلك لأن الحديث ابتعد عن زمن النبي صلى الله عليه وسلم بعداً كبيراً، وتم تدوينه إلى حد ما، فلو روي بعده أيضاً بالسند ليطول بشكل يصعب الاطلاع على أحوال جميع رواته، وليفقد الحديث قوته وحيويته، لاسيما وقد قام العلماء الأقدمون بغربلة الصحيح من الضعيف، فلم يعد للمتأخرين غير أن يذكروا مصدراً أو مصدرين له من كتب أولئك الأقدمين، وحسب.

        وممن قام بهذا التخريج كثيرون، نذكرهم حسب تقدم تاريخ وفاتهم، وكتبهم لهذا المعنى هى التى عرفت الآن بـ"كتب التخاريج" :

        1- أبو بكر أحمد بن على بن ثابت الخطيب البغدادي (ت463هـ) تخريج الفوائد المنتخبة الصحاح والغرائب للشريف أبى القاسم الحسيني، وتخريج الفوائد المنتخبة الصحاح الغرائب لأبى القاسم المهرواني، وتخريج جزء فيه أحاديث مالك العوالي، وتخريج الفوائد المنتخبة الصحاح العوالي لجعفر بن أحمد بن الحسين السراج القارئ، وغيرها.

        2- أبو بكر محمد بن موسى الحازمي الهمداني (ت ببغداد 584هـ) : "تخريج أحاديث المهذب لأبى إسحاق إبراهيم بن على الشيرازي (ت476هـ) لكنه لم يتمه).

        3-شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد الهادى المقدسى (ت744هـ) : "تخريج أحاديث المختصر الكبير فى الأصول لابن الحاجب (عثمان بن عمر، المعروف بابن الحاجب ت646هـ).

        وغيرهم كثير .

----------------
(1) وهو "عزو الحديث إلى من ذكره من أئمة الحديث في كتابه بسنده "كما تقدم في تعريف "التخريج".
(2) رواه ابن عدي في "الكامل": 1/166 والطبري في تفسيره: 7/37 والبزار في المجمع للهيثمي: 5/52.
(3) رواه الطبري في المعجم الكبير: 1/246 رقم 699، وابن أبي عاصم في السنة: 2/388، وابن مندة في الإيمان: 2/843 رقم 874، وابن عدي في الكامل: 1/164. صححه الهيثمي في المجمع: 1/153.
(4) رواه الرامهزمزي في المحدث الفاصل: ص32، والحاكم في معرفة علوم الحديث: ص14، والخطيب في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: 1/17 رقم 99.
(5) مسلم: رواه في مقدمة صحيحه: 1/151، والدرامي: مقدمة سنته، باب في الحديث عن الثقات: 1/123 رقم 416.
(6) ينظر لذلك: سنن الدرامي: 1/126، وطبقات ابن سعد: 2/387، وتقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: ص21، وفتح الباري لابن حجر: 1/204، والرسالة المستطرفة للكتاني: 3-4.
(7) سوف يأتي تعريف كل هذه الأنواع من المصنفات في الحديث في مكانها إن شاء الله.
(8) لا بطريق صاحب الكتاب المخرج عليه، أي لا يروي عنه، ولا عن الراوي عنه.
(9) الكتاني: الرسالة المستطرفة: ص31.
(10) ابن الصلاح: علوم الحديث: ص108.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

        فوائد علم التخريج :

        إن الفوائد التى نجتنيها من التخريج هى كثيرة متنوعة، بعضها يتعلق بالسند، وبعضها يتعلق بالمتن، وبعضها يتعلق بهما معاً، ومن أهمها ما يلى :

        أولا : فوائده للسند :

        1-الوقوف على عدد كبير من أسانيد الحديث، وطرقه فى مصادره المختلفة، مما يكشف عن أحوال السند : من الاتصال، والانقطاع، والإعضال، والرفع، والوقف. وعن أنه متواتر، أو آحاد، ثم أنه غريب، أو عزيز، أو مشهور. أو غيرها.

        2-تقوية سند الحديث : وذلك بأن يكون لدينا – مثلاً – حديث بسند ضعيف، فخرجناه من كتب الحديث، فاطلعنا له على أسانيد أخرى أحسن حالاً منه، مما أكسبه قوة، فرقّاه من الضعيف الخفيف الضعف إلى الحسن لغيره، أو من الحسن لذاته إلى الصحيح لغيره.

        3-معرفة درجة الحديث : وذلك لأن الحديث المطلوب تخريجه إذا وُجد فى الصحيحين، أو فى أحدهما، أو فى كتاب التزم صاحبه برواية الحديث الصحيح فيه مثل صحيح ابن خزيمة وأمثاله، أو فى كتاب يحكم صاحبه على الحديث بالصحة، أو الحسن، أو الضعف مثل جامع الترمذى، والمستدرك للحاكم، وشرح السنة للبغوى، وغيرهم من أئمة الحديث، فنعرف به درجة ذلك الحديث دون عناء كبير.

        4-تمييز المهمل(1) من الرواة : مثل إذا جاء فى سند الحديث (عن الوليد)، أو (عن محمد)، أو (عن سفيان) مثلاً، فإذا خرّجناه من مصادر أخرى فربما نقف على إسناد آخر له جاءت فيه هذه الأسماء المهملة مع نسبها، أو نسبتها، أو لقبها، أو كنيتها، أو غير ذلك من المميزات، فبذلك يتميز ذلك المهمل عن سمَيّه.

        5- تعيين المبهم(2) من الرواة : مثل إذا جاء فى سند الحديث : (حدثنى ثقة)، أو (عن رجل)، أو (عن شيخ) مثلاً، فلربما بتخريجه من مصادر أخرى نطلع على طريق له جاء فيه ذلك الراوى معنياً.

        6- زوال احتمال التدليس فى عنعنة المدلس(3) : وذلك بأن نحصل على بالتخريج على طريق آخر له صرح فيه ذلك المدلس ما يفيد السماع مثل أن قال : "حدثنا"، أو "أخبرنا"، أو "سمعت"، أو نحو ذلك.

        7- زوال احتمال وهم الشيخ المختلط(4) فى روايته للتلميذ الذى سمعته منه بعد اختلاطه : ويتم ذلك بواسطة تخريج ذلك الحديث، فإنه ربما يُطَّلَع على متابع لذلك الراوى، سمع من المختلط قبل اختلاطه، مثل أبى إسحاق السبيعى فإنه شيخ اختلط فى آخر عمره، سمع منه أبو الأحوص بعد اختلاطه، وسمع منه شعبة وسفيان الثورى قبل ذلك، فإذا روى عنه أبو الأحوص حديثاً تابعه علية شعبة، أو سفيان، أو كلاهما، فهذا يعنى أن أبا إسحاق السبيعى لم يَهِم فى روايته هذا الحديث لأبى الأحوص.

        ثانيا : فوائده للمتن :

        1- معرفة المقصود الذى سبق لأجله الحديث : وهذا لا يتأتى بالنظر إلى حديث واحد فى الموضوع فقط، لعدم اشتماله على ما يفيد الحكم المقصود – مثلاً -، بل يجب أن يخرّج الحديث من كتب أخرى، ويجمع ألفاظه المختلفة، فربما يجد فى بعضها زيادة أو زيادات تفيد الحكم المقصود لدى الشارع، أو توضح معنى الحديث.

        2- ومعرفة سبب ورود الحديث، أو الظروف التى قيل فيها : من الأحاديث ما يبدو عاماً ودائماً، غير مبنى على سبب، أو غير مرتبط بعلة، أو غير مرعية فيه ظروف زمانية أو مكانية، ولكننا إذا جمعنا طرقه المختلفة، وألفاظه فربما نقف على سبب له أو علة، أو ظروف وملابسات فى مصدر من المصادر، فيتحدد به المراد من الحديث بدقة، ولا يتعرض لشطحات الظنون، أو الجرى وراء ظاهر غير مقصود(5).

        ثالثا : فوائده للسنن والمتن معاً :

        1- معرفة المصدر أو مصادر الحديث : وذلك لأن البحث عن ذلك الحديث فى كتب الحديث، وتخريجه منها سيتيح له معرفة مصدره، أو مصادر لذلك الحديث، وأماكنه فيها.

        2- معرفة علة قادحة فى السند أو المتن : يُعرَف ذلك من خلال تخريج الحديث من كتب أخرى، والاطلاع على أسانيده وألفاظه المختلفة.

        3- معرفة الخلل فى سند الحديث أو متنه من التحريف أو التصحيف بالتخريج، ثم بالرجوع إلى كتب الأنساب والمؤتلف والمختلف وكتب الغريب وغيرها.
----------------
(1) المهمل من الرواة: هو من ذُكِرَ اسمه دون ما يُمَيِّزه عن سَمِيّه من نَسَبٍ، أو نِسْبَة، أو كنية، أو لقب، أو غير ذلك من المميزات.
(2) المبهم من الرواة: هو من لم يذكر اسمه، أو ما اشتهر به من لقب، أو نسب، أو نسبة، أو كنية، أو غير ذلك من المعرّفات.
(3) المدلّس: هو من ثبت سماعه من شيخ، فيروي عنه ما لم يسمعه منه، بلفظ محتمل لسماعه منه ذلك الحديث، ومحتمل لعدم سماعه منه ذلك، مثل أن يقول: "عن فلان"، أو "أن فلاناً قال"، أو "قال فلان". ومن المقرر أن عنعة المدلس وما شابهها غير مقبولة، إلا إذا صرح في طريق آخر بما يفيد السماع فتقبل. انظر: تدريب الراوي للسيوطي:1/223.
(4) الاختلاط: فساد عقل الراوي وضعف ذاكرته بحيث لا تنتظم أقواله وأفعاله، إما بخرف، أو ضرر، أو مرض، أو عرض من موت ابن، أو من سرقة مال، أو ذهاب كتب، أو احترافها. وحكم راوية المختلط أن يُقبل من حديثه ما رواه مَن سمع منه قبل الاختلاط وتغيُّره، ولا يُقبل حديث من أخذ عنه بعده، أو أُشْكِل أمرُه، فلم يُعْلَم هل أنه أخذ عنه قبل الاختلاط أم بعده. أنظر: فتح المغيث للسخاوي: 3/331-332، وتدريب الراوي للسيوطي: 2/371-372.
(5) أنظر: الدكتور يوسف القرضاوي: كيف نتعامل مع السنة: ص127 (بتصرف قليل).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

        أهمية علم التخريج :

        تكمن أهمية علم تخريج الحديث فى أنه يخدم الحديث النبوى الشريف الذى هو تفسير للقرآن الكريم، وبيان لمراده، وحجة فيما يهم المسلم فى حياته من العقائد، والعبادات، والمعاملات، والآداب والأخلاق، ومصدر للعلم والمعرفة، مما أضفى عليه قدسية، وأكسبه احتراماً فى قلوب المسلمين، وفرض على كل مشتغل بالشريعة وعلومها من المحدثين، والفقهاء، والأصوليين، والدعاة، وأصحاب السيرة النبوية، والمدافعين عن بيضة الإسلام أن يكون لديهم إلمام بعلم تخريج الحديث، لأنه يهديهم إلى مواضع الحديث فى مظانه الأصلية، ويُعرِّفهم بدرجة الحديث الذى يستشهدون به من حيث السند، ومن حيث المتن على السواء.

        و يوقفهم على الوجوه المختلفة لرواية الحديث من تقديم وتأخير، واختصار وزيادات فى النص مما يوفر لهم الإحاطة الشاملة بالموضوع. ويكشف لهم عن أحوال السند من الاتصال والانقطاع، والإرسال والإعضال، والرفع والوقف، وتدليس الراوى واختلاطه، ويطلعهم على سبب ورود الحديث، وأبعاده الزمانية والمكانية، وظروفه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، مما يساعدهم على فهم مراد الحديث على الطبيعة.

        وعليه فالتخريج مطلب كل مشتغل بالشريعة وضرورتهم، ولم تكن أهميته خافية على علماء الأمة قديماً وحديثاً، فهذا الخطيب البغدادى (ت463هـ) يحكى عن بعض مشايخه قوله : "من أراد الفائدة فليكسر قلم النسخ، وليأخذ قلم التخرج"(1).

        ويقول أيضاً : "قلما يتمهُر فى علم الحديث، ويقف على غوامضه، ويستثير الخفى من فوائده، إلا من جمع متفرّقه، وألف مشتته وضم بعضه إلى بعض، واشتغل بتصنيف أبوابه، وترتيب أصنافه، فإن ذلك الفعل مما يقوى النفس، ويثبت الحفظ، ويشح الطبع، ويبسط اللسان، ويجيد البيان، ويُكَشَّف المشتبه، ويوضح الملتبس، ويُكسب أيضاً – جميل الذكر، ويخلده إلى آخر الدهر، كما قال الشاعر :

        يموت قوم فيحيى العلم ذكرهم         والجهل يلحق أمواتاً بأموات"(2)
-----------------
المراجع :
1- الخطيب: الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: 2/282.
2- المصدر السابق: 2/28.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

        شروط المخرّج :

        لا يخفى على أحد أن عمل التخريج ليس عملاً سهلاً، حتى يتسنى لكل أحد القيام به، بل هو عمل له شروطه، يجب توفرها فمن يتصدى للتخريج. وهى ما يلى :

        أولاً : أن يكون للمخرج نصيب مقبول فى اللغة العربية، لأن الحديث ومصادره كلها باللغة العربية.

        ثانياً : أن يكون له نصيب كاف فى المعرفة بمصطلحات الحديث، مثل : الصحيح، والحسن، والضعيف، والموضوع، وغيرها، وإلا فلا يستفيد الباحث من تخريجه استفادة مرجوة مطلوبة.

        ثالثاً : أن يكون له اطلاع معقول على كتب الحديث ومناهج تأليفها وطبقاتها، وما هى مصادره الأصلية، وشبه الأصلية، وغير الأصلية، وإلا فيضل فى هذا الكم الهائل لها، ولا يكون تخريجه تخريجاً علمياً موثوقاً به.

        رابعاً : أن يكون له شئ من الإلمام بطرقى تخريج الحديث ومزاياها وعيوبها، وكتب كل طريقة من طرقه، وإلا فيصعب له الوصول إلى مبتغاه.

        خامساً: أن يتحلى بالصبر فى عملية التخريج، فلا يَكَلّ، ولا يَمَلّ، وإلا فلا يكون عمله متقناً، والإتقان مطلوب فى كل عمل. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فى حديث حسن بتعدد الطرق : "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه" رواه ابن سعد وأبو يعلى وغيرهما (مجمع الزوائد 4/98).
========
المصدر :
تخريج الحديث - نشأته ومنهجه د/ محمد أبو الليث الخير آبادي
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ