الأربعاء، 21 مارس 2012

موسوعة العقيدة - الإلهيات : صفات المعانى مع شرح لكل صفة

صفات المعانى

1ـ صفة العلم
ـ
لحظات تأمل : ـ
يبهرنا ما وصلت إليه أوربا وأمريكا هذه الأيام من تقدم علمي هائل في مجال الصناعة والتكنولوجيا ، وفي مجال التسليح وغزو الفضاء ، وفي مجال الطب والتشخيص والعلاج ، وفي مجال الزراعة ، والثروة الحيوانية ، وعالم الغذاء .
وها هي ذي اليابان والصين تدخلان حلبة السباق في مجال الصناعات الدقيقة والثقيلة ، وفي مجال الإلكترونيات ، والسيارات ، والمنسوجات.
وتقفز إلى الساحة كل من : كوريا ، وتايوان ، وماليزيا وغيرها.
والجميع يحاول كشف أسرار الكون في الأنفس والآفاق.
ومن قبل ذلك كانت الحضارة الإسلامية هي الرائدة في كافة المجالات ، وعنها أخذت أوربا في جامعات : قرطبة ، وطليطلة ، وصقلية ، وغيرها من جزر البحر الأبيض المتوسط التي كانت محل الالتقاء.
فأفادت أوربا مما قدمه للبشرية أساتذة العلم المسلمون من أمثال : جابر بن حيان في الكيمياء ، والخازن والحسن بن الهيثم في الفيزياء ، وابن سينا وأبي القاسم الزهراني في الطب ، والبيروني ، واليوزجاني، والخوارزمي ، وعباس بن فرناس في الفلك والرياضيات.
ما أعظم ما وصلت إليه البشرية من علوم خلال تاريخها الطويل ! وما أكثر ما اكتشفه الإنسان من معارف في رحلاته للبحث عن المجهول!
كم هائل من العلوم ! وقدر ضخم من المعارف !
فإذا ما انتقل الفكر من التأمل في علم الإنسان إلى التفكر في العلم الإلهي ، نجد الحق سبحانه يقول : { وما أوتيتم من العلم إلا قليلا (85)} [الإسراء] إنه خطاب للبشرية جميعها في كل عصورها . أما علمه هو جل في علاه . فإنه يقول عنه : { إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شئ علما (98) } [ طه ] ويقول : { إن الله لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء (5)} [ آل عمران ] .
تعريف صفة العلم : ـ
علم الله تعالى : صفة وجودية أزلية قائمة بذاته تعالى بها تنكشف له جميع الأمور سواء كانت واجبة ، أو جائزة ، أو مستحيلة ، وسواء كانت ماضية ، أو حاضرة ، أو مستقبلة ، انكشافا تاما ، لا يسبقه خفاء أو جهل .
فالعلم صفة من الصفات الوجودية التي تدل على معنى زائد على ذات الله تعالى هو كمال يجب أن يتصف به أزلا وأبدا.
والله تعالى يعلم الواجبات . فهو يعلم ذاته وصفاته ، ويعلم الجائزات وهي المخلوقات ، بل يعلم المستحيل كما قال سبحانه : { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } [ الأنعام /28] فهو يعلم أنهم لا يردون إلى الدنيا مرة أخرى ، ولكن أخبر أنهم لو ردوا لعادوا إلى الكفر.
وقال كذلك : { ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون (23) } [ الأنفال] .
والله تعالى يعلم ما كان ، وما يكون ، وما لا يكون لو كان كيف يكون.
ولا يتغير علمه سبحانه بتغير الشئ المعلوم.
وهذا العلم الإلهي لا يسبقه جهل أو خفاء ، ولا يعتريه ذهول أو نسيان.
ويطلق ( العلم ) على البشر . كما قال تعالى : { يرفع الله الذين ءامنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } [ المجادلة /11] وقال : { ولوطا ءاتيناه حكما وعلما } [ الأنبياء /74] وقال : { ولقد ءاتينا داود وسليمان علما } [ النمل /15].
وقال للمصطفى صلى الله عليه وسلم : { وقل رب زدني علما (114)} [ طه ].
هكذا يطلق العلم على البشر ، ولكن الاشتراك في اللفظ فقط ، وليس المسمى كالمسمى.
فعلمنا نحن حادث مستفاد من الحواس أو من التفكير العقلي ، وعلم الله قديم أزلي.
وعلمنا محدود وقاصر ، وعلم الله كامل محيط إحاطة تامة بالكليات والجزئيات.
وعلمنا يحدث بعد حصول الشئ ، وعلم الله سابق.
وعلمنا يعتريه النسيان والزوال ، وعلم الله ليس كذلك .
وعلمنا بشئ يشغلنا عن علمنا بغيره ، والله لا يشغله علم عن علم.
صفة العلم في القرآن والسنة : ـ
أثبت القرآن الكريم هذه الصفة لله تعالى فقال :
• { ولا يحيطونه بشئ من علمه إلا بما شاء } [ البقرة /255].
• { لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه } [ النساء/166].
• { وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه }[ فاطر /11وفصلت/47]
• { فاعلموا أنما أنزل بعلم الله } [ هود /14].
ورد أنه تعالى : { عالم الغيب والشهادة } وأنه : { علام الغيوب } ومن أسمائه الحسنى : (العليم ) قال تعالى : { ذلك تقدير العزيز العليم (38)} [ يس ] وهو الذي لا يخفى عليه خافية ؛ ولا يعزب عن علمه قاسية ولا دانية .
ولم يرد وصفه تعالى بـ ( العلامة ) في الكتاب أو السنة ، فلا يجوز إطلاقه عليه ، فهذه اللفظة تستعمل لمن ترقى في العلم من القلة والنقصان إلى الكثرة والكمال البشري ببذل غاية الجهد في طلب العلم .
ولم يكتف القرآن الكريم بإثبات ( العلم ) لله تعالى بهذه الصيغ ، بل نفى عن الله تعالى أضداد العلم :
• فنفى عنه النسيان فقال : { وما كان ربك نسيا } وقال:{ فما بال القرون الأولى (51) قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى(52)} [ طه ] .
• ونفى عنه الجهل فقال : { لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض } [ سبا / 3 ]
• ونفى عنه النوم فقال : { لا تأخذه سنة ولا نوم } [ البقرة /255].
ومن أسمائه الحسنى التي لها صلة بالعلم : ـ
1ـ اسمه ( الحفيظ ) وللحفظ معنيان :
( أ ) أحدهما ضد التضييع . فهو حافظ السموات والأرض { ولا يؤده حفظهما } [ البقرة /255].
( ب) والآخر ضد السهو والنسيان . وهذا يرجع معناه إلى صفة العلم .
2ـ اسمه ( الخبير ) ومن معانيه : العالم بكنه الشئ المطلع على حقيقته . قال تعالى : { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير (14) [الملك].
3ـ اسمه ( الشهيد ) ومن معانيه : العالم . فهو عالم الغيب والشهادة ، والغيب عبارة عن بطن ، والشهادة عبارة عما ظهر . فإذا اعتبر العلم مطلقا ، فهو العليم ، وإذا أضيف إلى الغيبة والأمور الباطنة ، فهو الخبير ، وإذا أضيف إلى الأمور الحاضرة ، فهو الشهيد . قال تعالى : {وكفى بالله شهيدا (79) } [ النساء ] .
وتدبر هذه المواضع القرآنية الأربعة التي تعرض لنا نماذج من علمه تعالى : ـ
الموضع الأول ـ قال تعالى : { الم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شئ عليم (7) } [ المجادلة ] .
الموضع الثاني ـ قال سبحانه : { وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين (59) } [الأنعام].
الموضع الثالث ـ قال عز وجل : { الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شئ عنده بمقدار (8) عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال (9) سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف باليل وسارب بالنهار(10) [ الرعد] .
الموضع الرابع : قال تعالى : { إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير (34)} [ لقمان].
أما السنة المطهرة ، فيقول صلى الله عليه وسلم : ـ
• ( اللهم بعلمك الغيب ، وقدرتك على الخلق ، أحيني ما كانت الحياة خيرا لي ، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي ).
• ( اللهم إني أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم ، فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم ، وأنت علام الغيوب ).
• وجاء في حديثه صلى الله عليه وسلم عن موسى والخضر قوله : (وجاء عصفور حتى وقع على حرف السفينة ، ثم نقر في البحر . فقال له الخضر : ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من البحر ) !!
الأدلة العقلية على اتصافه تعالى بصفة العلم : ـ
1ـ إن الله تعالى خالق للعالم خلقا متقنا محكما . يدل على كمال علمه جل في علاه.
وتأمل في نفسك ، وفيما حولك لترى العجب العجاب من الإبداع ، والنظام ، والإتقان ، والإحكام . وهو دليل العلم ، ويستحيل أن يكون المخلوق أكمل من الخالق.
وإذا ما رأيت مملكة النحل ، أو بيت العنكبوت ، فاعلم أن الذي ألهمها ذلك الصنع هو العليم الخبير { الذي خلق فسوى (2) والذي قدر فهدى (3) } [ الأعلى ] .
2ـ كما أنه ثبت أن الله خلق العالم باختياره ، وقصده ، وإرادته ، وهذا يدل على أنه عالم ، إذ يستحيل أن يتوجه اختياره ، وقصده ، وإرادته إلى شئ ليس معلوما له .

2ـ صفة الإرادة
ـ
لحظات تأمل : ـ
جلس في الاستراحة المجاورة لحجرة الولادة ، ينتظر البشرى السارة بميلاد أول أبنائه ، فقد كان في علمه تعالى أن يهبه الذرية. وتحقق ما علمه الله ، فحملت زوجه ، واقترب موعد الوضع.
ولكن : أيكون ذكرا أم أنثى ؟ أيشبه أباه وأعمامه ، أم أمه وأخواله؟ أيكون صالحا تقيا بارا بوالديه . أم غير ذلك ؟ وهل حان موعد وصوله إلى الدنيا ؟ وفي هذا المكان من أرض الله ؟ .
احتمالات كثيرة ، وافتراضات عديدة .
وقطع أفكاره صوت يخبره بأن الولادة ليست قبل ساعة من الزمان . فنزل إلى حديقة المستشفى يتجول ويتأمل.
أزهار وأشجار،ورود وثمار. جميلة المنظر ، طيبة الرائحة، متباينة الأنواع ، متعددة الألوان ، مختلفة الأحجام ، متفاضلة في الأكل !
سبحان الله ! الحديقة واحدة ، والتربة واحدة ، والجو واحد ، وكلها يسقى بماء واحد !
وصعد إلى هناك مرة أخرى ، ليجد الخبر السار ، وليسجد شكرا لله.
ما أعظم إرادة الله !!
تعريف صفة الإرادة الإلهية : ـ
هي صفة وجودية أزلية قائمة بذاته تعالى يخصص بها الممكنات ببعض ما يجوز عليها من الأمور المتقابلة . والإرادة والمشيئة بمعنى واحد.
فهي من نوع الصفات الوجودية الذاتية القديمة التي تقوم بذات الحق سبحانه ، وتدل على معنى زائد على معنى ذاته تعالى .
وإذا كان علم الله تعالى صفة انكشاف ، فإن إرادته صفة تخصيص ، فهي تخصص الممكن ـ وهذا مجال عملها ـ بالوجود أو العدم ، وبالصفات المعينة الخاصة به،وبالزمن المحدد له. وبالمكان المخصص له ، وبالجهة المحددة له ، وبالمقدار المعين الذي سيوجد عليه.
وهكذا كل ما وجد في العالم من مخلوقات ،وما يوجد الآن ، وما سيوجد بعد ذلك .
فالإرادة الإلهية هي التي ترجح الاحتمال الذي سيوجد عليه المخلوق من بين سائر الاحتمالات الأخرى التي يتصور أن يوجد عليها من الأمور المتقابلة التي جمعها أحدهم في قوله :
الممكنات المتقابلات وجودنا والعدم والصفات
أزمنة أمكنة جهات كذا المقادير روى الثقات
ولا شأن للإرادة بالأمر الواجب ، أو الأمر الممتنع . وبيان ذلك :
1ـ لو تعلقت بالأمر الواجب عقلا ، فإما لترجيح وجوده ، أو لترجيح عدمه ، أما ترجيح وجوده ، فهو محال ؛ لأنه موجود بالفعل ، فكيف ترجح وجوده ؟ إنه تحصيل حاصل . وأما ترجيح عدمه ، فالواجب العقلي غير قابل للعدم.
2ـ كذلك لا تتعلق إرادته تعالى بالأمر الممتنع عقلا ؛ لأنها لو تعلقت به، فإما لترجيح وجوده ، وهو غير قابل للوجود ، وإما لترجيح عدمه ، وعدمه حاصل.
إذن لا تتعلق الإرادة بالواجب ، ولا بالمستحيل ، بل بالأمر الممكن الوجود فقط .
ومعنى الإرادة الإلهية يختلف عن معنى الإرادة البشرية ، فإن معنى إرادتنا للشئ : القصد ، والعزم ، والتصميم على فعله ، وهذا المعنى حادث لا يتناسب مع الله جل في علاه.
كما أن إرادته تعالى وفعله متلازمان . بمعنى أنه تعالى إذا أراد أن يفعل فعل ، وما فعله فقد أراده ، بخلاف العبد ، فإنه يريد ما لا يفعل ، وقد يفعل ما لا يريده ، فلا يوجد فعال لما يريد إلا الله وحده .
إرادته تعالى تشمل الخير والشر : ـ
أولا : مذهب أهل السنة : إن إرادة الله عامة تشمل الخير والشر ، والطاعة والمعصية .
واستدلوا على ذلك بما يلي : ـ
1ـ الآيات القرآنية تصرح بذلك . ومنها :
• { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } [ الأنبياء /35].
• { إن الإنسان خلق هلوعا (19) إذا مسه الشر جزوعا (20) وإذا مسه الخير منوعا (21) } [ المعارج ].
• { وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شئ قدير (17) } [ الأنعام].
• { قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا} [ الفتح /11].
2ـ إننا نرى الشر موجودا في العالم ، فإذا لم يكن الله هو الذي أراد وقوعه ، فمن الذي أراد وقوعه ؟ هل هناك إله غير الله ؟ .
3ـ يلزم أن يكون وجود الشر في العالم بطريق القصر والإكراه بالنسبة لله تعالى ، وأنه عاجز عن دفعه وإزالته ، وهذا محال.
ومن أدب المسلم أن ينسب الخير إلى الله ، والشر إلى نفسه . ولنتأمل قوله تعالى : { أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا (78) } [ النساء ] .
{ كل من عند الله } هذا هو الحق . ولكن من حيث الأدب الذي ينبغي مع الله ، فإننا ننسب الخير إلى الله ، والشر إلى النفس . ولذلك جاءت الآية التي بعدها لبيان هذا : { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } [ النساء /79].
والشر نوعان : ـ
1ـ شر محض لا خير فيه بوجه من الوجوه : وهذا النوع لا يخلقه الله تعالى ؛ لأنه عبث ، وهو منزه عنه . وهو المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم : " لبيك وسعديك ، والخير كله في يديك ، والشر ليس إليك . أنا بك وإليك ، تباركت وتعاليت استغفرك وأتوب إليك"(1).
أي الشر الكلي المطلق ليس إلى الله .
2ـ شر جزئي أو إضافي : وهذا يخلقه الله لحكمة يعلمها ، فإن كان في الشئ شر من وجه ، ففيه خير من وجوه . كنزول الأمطار التي ربما هدمت بعض البيوت ، لكن فيها حياة للناس ، وللحيوان ، وللنبات، وكحرارة الشمس التي ربما آذت إنسانا ، لكنها ضرورية للوجود (2).
وهذا النوع من الشر إذا أردنا نسبته إلى الله تعالى . فإما أن :
1ـ ندخله في عموم المخلوقات : كقوله تعالى:{ الله خالق كل شئ} ولا نقول : الله خالق القردة ، والكلاب ، والخنازير.
2ـ أو ننسبه إلى سببه المباشر : كما في قوله تعالى : { من شر ما خلق }.
3ـ أو نحذف الفاعل ، ونبني الفعل للمجهول : كما في قوله سبحانه : { وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا} [الجن] فمع الشر قال : ( أريد ) ومع الخير والرشد ذكر الفاعل فقال : { أراد بهم ربهم رشدا } .
ثانيا : مذهب المعتزلة : يرون أن الله لا يريد الشر : ولا الكفر ، ولا المعاصي، واستدلوا على ذلك بما يلي : ـ
1ـ الشرور والمعاصي غير مأمور بها،فلا تكون مرادة لله ، فالإرادة والأمر شئ واحد.
2ـ لو كانت الشرور مرادة ، لكان الكافر مطيعا بكفره ، والعاصي مطيعا بمعصيته . لأن الطاعة تحصيل مراد المطاع.
3ـ لو كانت الشرور مرادة . لوجب الرضا بها ، والرضا بالكفر كفر.
رد أهل السنة على هذه الأدلة : ـ
1ـ هذا الدليل مبني على أن الإرادة والأمر شئ واحد . وهو غير صحيح ، كما سنذكره في فقرة قادمة .
2ـ الطاعة هي تحصيل ما أمر به المطاع ، لا تحصيل ما أراده .
3ـ لا يلزم من وجود الشرور وجوب الرضا بها . فنحن مأمورون بأن نرضى بما يحب الله ، ونسخط ما يسخطه . وهناك فرق بين الإرادة والرضا كما سنذكره إن شاء الله .
وفيما يلي مواقف تدل على فساد رأي المعتزلة : ـ
1ـ حكة أن القاضي عبد الجبار المعتزلي دخل على الصاحب ابن عباد ، وعنده الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني ، وهو أحد علماء أهل السنة . فلما رأى الأستاذ قال : سبحان من تنزه عن الفحشاء .
فقال الأستاذ : سبحان من لا يجري في ملكه إلا ما يشاء .
فقال عبد الجبار : أفيريد ربنا أن يعصى ؟
فقال الأستاذ : أفيعصى ربنا كرها ؟
فقال عبد الجبار : أرأيت إن منعني الهدى ، وقضى على بالردى . أحسن إلى أم أساء ؟
فقال الأستاذ: إن منعك ما هو لك ، فقد أساء ، وإن منعك ما هو له . فهو يخص برحمته من يشاء .
2ـ وقف أعرابي على حلقة فيها ( عمرو بن عبيد ) أحد كبار المعتزلة. فقال : يا هؤلاء ، إن ناقتي سرقت ، فادعو الله أن يردها على.
فقال عمرو بن عبيد : اللهم إنك لم ترد أن تسرق ناقته فسرقت ، فارددها عليه .
فقال الأعرابي : لا حاجة لي في دعائك .
قال : ولم ؟
قال : أخاف ـ كما أراد أن لا تسرق فسرقت ـ أن يريد ردها فلا ترد
3ـ تناظر ( عمرو بن عبيد ) مع مجوسي على سفينة فقال له عمرو : لم لا تسلم ؟
قال : لأن الله لم يرد إسلامي . فإذا أراد الله إسلامي أسلمت.
قال عمرو : إن الله يريد إسلامك ، ولكن الشياطين لا يتركونك.
فقال المجوسي : فأنا أكون مع الشريك الأغلب
الأدلة السمعية والعقلية على صفة الإرادة : ـ
أولا : الأدلة السمعية : ـ
1ـ من القرآن الكريم : يقول الله تعالى :
• { وهو الغفور الودود (14) ذو العرش المجيد (15) فعال لما يريد(16) } [ البروج ]
• { وربك يخلق ما يشاء ويختار } [ القصص /68].
• { لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور (49) أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير(50)} [ الشورى ] .
• { قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء } [ آل عمران /26].
2ـ ومن السنة المطهرة : ـ
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يقل أحدكم : اللهم اغفر لي إن شئت ، ارجمني إن شئت ، ارزقني إن شئت ، ليعزم مسألته ، إنه يفعل ما يشاء ، لا مكره له " (3).
وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع قال : " اللهم ربنا لك الحمد ، ملء السموات وملء الأرض ، وما بينهما ، وملء ما شئت من شئ بعد . أهل الثناء والمجد ، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت،ولا ينفع ذا الجد منك الجد"(4).
ثانيا : الأدلة العقلية : ـ
1ـ إذا نظرنا إلى مخلوقات الله ، نجد أن بعضها متقدم ، وبعضها متأخر ، ويجوز عقلا تقدم ما هو متأخر . وتأخر ما هو متقدم . فاختصاص بعضها بالتقدم ، وبعضها بالتأخر لابد أن يكون بتخصيص مخصص ، وإرادة فاعل مختار.
2ـ وإذا تأملنا هذه الكائنات ، رأينا مظاهر التنوع بادية فيها ، والتنوع مظهر الإرادة الحرة .
تدبر هذه المواضع القرآنية التي تشير إلى ظاهرة التنوع : ـ
• { والله خالق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شئ قدير (45)} [ النور].
• { وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لأيات لقوم يعقلون (4) } [ الرعد].
• { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود(27) ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماؤا إن الله عزيز غفور (29) [فاطر].
تعلقات الإرادة : لها تعلقان : ـ
1ـ تعلق صلوحي قديم : وهو صلاحيتها في الأزل لتخصيص كل ممكن بأي أمر من الأمور.
2ـ تعلق تنجيزي قديم : وهو تخصيصها في الأزل الممكن الذي سيوجد بأحد الأمور بعينه .
أنواع الإرادة : ـ
إرادته سبحانه وتعالى نوعان :
1ـ إرادة قدرية كونية خلقية : وهي المشيئة الشاملة لجميع الموجودات كما في قوله تعالى :
• { ولكن الله يفعل ما يريد (253) } [ البقرة ].
• { ولو شاء ربك لأمن من في الأرض كلهم جميعا } [ يونس/91].
• { إنما قولنا لشئ ءاذا أردناه أن نقول له كن فيكون (40)} [النحل].
2ـ إرادة دينية أمرية شرعية : وهي المتضمنة للمحبة والرضا . كقوله تعالى :
• { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } [ البقرة /185].
• { يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم (26) والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما (27) يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا (28) [ النساء] .
• { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم } [ المائدة /6].
والفرق بين الإرادتين : أن الكونية يلزم فيها وقوع المراد ، ولا يلزم أن يكون محبوبا لله ، وأما الشرعية ، فيلزم أن يكون المراد فيها محبوبا لله ، ولا يلزم وقوعه .
الإرادة والأمر : ـ
يختلف معنى الإرادة عن معنى الأمر ، فإذا كانت الإرادة هي الصفة التي تختار للمخلوق أوصافه التي سيكون عليها ، فإن الأمر طلب حصول الفعل. فهما متغايران :
1ـ فقد يريد الله شيئا ، ويأمر به ، كإيمان أبي بكر الصديق ، فإيمانه أمر الله به ، وأراده بدليل وقوعه ، فإنه لا يقع في ملك الله إلا ما أراده . وهنا اجتمعت الإرادة الكونية والشرعية .
2 وقد يريد الله شيئا ، ولا يأمر به . مثل كفر أبي لهب ، فقد أراده الله بدليل وقوعه ، ولكنه تعالى لم يأمر أبا لهب بالكفر ، وهنا وجدت الإرادة الكونية ، وانتفت الشرعية .
3ـ وقد يأمر الله بشئ ، ولا يريده ، كإيمان أبي جهل ، فإيمانه أمر الله به ، ولم يرده منه بدليل عدم وقوعه ، وهنا وجدت الإرادة الشرعية ، وانتفت الكونية.
4ـ وقد لا يأمر الله بشئ ، ولا يريده ، مثل كفر الأنبياء ، عليهم السلام ، فانتفت الإرادتان .
وهناك فرق بين إرادة المريد أن يفعل ، وبين إرادته من غيره أن يفعل ، فإذا أراد الفاعل أن يفعل شيئا ، فهذه الإرادة تتعلق بفعله هو ، أما إذا أراد من غيره أن يفعل شيئا . فهذه الإرادة تتعلق بفعل غيره . والإرادة الأولى لا تحتاج إلى الأمر ، بينما تحتاج الإرادة الثانية إلى الأمر.
والله تعالى إذا أمر العباد بأمر ، فقد يريد إعانة المأمور على ما أمره به ، وقد لا يريد إعانته ، وإن كان مريدا منه الفعل.
فالله قد أمر الخلق بطاعته ، ولكن منهم من أراد أن يخلق فعله ، ومنهم من لم يرد ، فجهة خلقه سبحانه لأفعال العباد غير جهة أمره ، فهو قد أمر فرعون وأبا لهب بالإيمان ولكن لا يلزم من أمره أن يعينهم على تحقيق الفعل ، فهو يخلق ما يخلق لحكمة .
ومثال ذلك الذي جاء من أقصى المدينة يسعى . وقال لموسى عليه السلام : { إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين (20)} [ القصص ]
فهذا مصلحته في أن يأمر موسى بالخروج ، لا في أن يعينه على ذلك ، إذ لو أعانه لضره قومه . فلا يلزم من أن يكون في الأمر حكمة أن يكون في الإعانة على فعل المأمور به حكمة ، بل قد تكون الحكمة في عدم الإعانة .
الإرادة والرضا : ـ
الرضا معناه : قبول الشئ ، واستحسانه ، ومحبته ، وترك الاعتراض عليه ، فمعناه مختلف عن معنى الإرادة .
1ـ فقد يريد الله شيئا ، ويرضى عنه : كإيمان المؤمنين ، وتوبة التائبين.
2ـ وقد يريد الله شيئا ، ولا يرضى عنه ، ولا يحبه : كمعاصي المؤمنين ، وكفر الكافرين . فهي بإرادته تعالى ، ومع ذلك لا يحبها ، ولا يرضى عنها .
كما قال : { ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم } [الزمر/7] وإن كان الكفر واقعا بمشيئته تعالى .
وكما قال : { لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم } [النساء/148]
وقال : { يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول } [ النساء /108] أي البهتان ، وشهادة الزور، وبراءة الجاني، ورمي البرئ.
وأخبر في كتابه أنه لا يحب المعتدين ، ولا الظالمين . ولا الكافرين ، ولا المفسدين ، ولا المسرفين ، ولا الخائنين ، ولا المستكبرين ، ولا من كان مختالا فخورا .
فإن قيل : كيف يريد الله أمرا ، ولا يرضاه ، ولا يحبه ؟ وكيف تجتمع إرادته لشئ وبغضه وكراهيته له ؟
فالجواب : أن المراد نوعان : مراد لنفسه ، وراد لغيره .
1ـ فالمراد لنفسه : محبوب لذاته ، ولما فيه من الخير ، فهو مراد إرادة الغايات والمقاصد.
2ـ والمراد لغيره : قد لا يكون مقصودا للمريد ، ولا فيه مصلحة له بالنظر إلى ذاته ، وإن كان وسيلة إلى مقصوده ومراده ، فهو مكروه له من حيث نفسه وذاته ، مراد له من حيث إيصاله إلى مراده ، فيجتمع فيه الأمران : بغضه وإرادته ولا يتنافيان لاختلاف متعلقهما.
وذلك مثل الدواء الكريه إذا علم المريض أن فيه شفاءه ، وكقطع العضو المتآكل إذا علم أن في قطعه بقاء جسده ، وكقطع المسافة الشاقة ، إذا علم أنها توصل إلى محبوبه .
فهو سبحانه يكره الشئ ، ومع ذلك يريده ، لأنه سبب إلى أمر أحب إليه .
فقد أراد الله خلق إبليس وهو أصل الشر والفساد ، ومع ذلك هو وسيلة إلى محاب كثيرة للرب ، ترتبت على خلقه ، ووجودها أ؛ب إليه من عدمها . من ذلك :
1ـ أن يظهر للعباد قدرة الرب على خلق المتضادات المتقابلات : فقد خلق شر الخلق إبليس ، كما خلق خير الخلق سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم ، كما خلق الليل والنهار ، والداء والدواء ، والحياة والموت ، والحر والبرد ، والذكر والإنثى . فهذا من أدل الدلائل على كمال قدرته عز وجل.
2ـ ظهور آثار أسمائه القهرية : كالقهار ، والمنتقم ، والعدل ، والضار ، والشديد العقاب ، والخافض ، والمذل . فهذه الأسماء كمال لله ، ولابد من وجود متعلقها ، ولو كان الخلق جميعا في طبيعة الملائكة ، لم تظهر آثار هذه الأسماء .
3ـ ظهور آثار أسمائه المتضمنة لحلمه وعفوه ، ومغفرته وستره ، وتجاوزه عن حقه ، وعتقه لمن شاء من عبيده . فلولا خلق ما يكرهه ، ما ظهرت آثار هذه الأسماء المباركة . وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا بقوله : " والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا ، لذهب الله بكم ، ولجاء بقوم يذنبون ، فيستغفرون الله ، فيغفر لهم " (5).
4ـ ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة ، فإنه سبحانه الحكيم الخبير الذي يضع الأشياء مواضعها ، وينزلها منازلها اللائقة بها ، فلا يضع الحرمان والمنع مكان العطاء والفضل ، ولا الفضل والعطاء موضع الحرمان والمنع ، ولا الثواب موضع العقاب ، ولا العقاب موضع الثواب، ولا العز مكان الذل ، ولا الذل مكان العز .
فلو قدر عدم الأسباب المكروهة ، لتعطلت حكم كثيرة ، ولفاتت مصالح عديدة ، ولو عطلت تلك الأسباب لما فيها من الشر ، لتعطل الخير الذي هو أعظم من الخير الذي في تلك الأسباب . وهذا كالشمس ، والمطر ، والرياح التي فيها من المصالح ما هو أضعاف أضعاف ما يحصل من الشر . كما سبق أن أشرنا .
5ـ حصول أنواع مختلفة من العبودية لله ، لولا خلق إبليس لما حصلت . مثل عبودية الجهاد ، ولو كان الناس كلهم مؤمنين ، لتعطلت هذه العبودية ، وتوابعها من الموالاة لله ، والمعاداة فيه .
ومثل عبودية الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر.
وعبودية الصبر ، ومخالفة الهوى ، وإيثار محاب الله على محاب النفس.
وعبودية التوبة ، والاستغفار ، والاستعاذة بالله أن يجيره من عدوه ، ويعصمه من كيده وآذاه . إلى غير ذلك من الحكم التي تعجز العقول عن إدراكها .
فإن قيل : هل كان يمكن وجود تلك الحكم بدون هذه الأسباب ؟
فهذا سؤال فاسد ، وهو فرض وجود الملزوم بدون لازمه ، كفرض وجود الابن بدون الأب ، والحركة بدون المتحرك ، والتوبة بدون التائب .
فإن قيل : كيف يرضى لعبده شيئا ، ولا يعينه عليه ؟
قلنا : لأن إعانته عليه تستلزم فوات محبوب له أعظم من حصول تلك الطاعة التي رضيها له ، وقد يكون وقوع تلك الطاعة منه يتضمن مفسدة هي أكره إليه سبحانه من محبته لتلك الطاعة .
وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله : { ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين (46) لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين (47)} [ التوبة ] .
فأخبر سبحانه أنه كره انبعاثهم وخروجهم إلى الغزو مع رسوله ـ وهو طاعة ـ فلما كرهه منهم ، ثبطهم عنه ، ثم ذكر سبحانه بعض المفاسد التي كانت تترتب على خروجهم مع رسوله : { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا } أي فسادا وشرا { ولأوضعوا خلالكم} أي سعوا بينكم بالفساد والشر { يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم} أي قابلون منهم ، مستجيبون لهم ، فيتولد من سعى هؤلاء ، وقبول هؤلاء من الشر ما هو أعظم من مصلحة خروجهم ، فاقتضت الحكمة والرحمة أن أقعدهم . فهذا مثال يقاس عليه (6).


2ـ صفة القدرة
لحظات تأمل : ـ
سافرت فوق سلسلة جبال ( السروات ) ساعات طويلة ، وهالني منظر الوديان الخضر ، والجبال الشم المختلفة في ارتفاعها ، وأشكالها ، وألوانها : بيض ، وحمر ، وغرابيب سود . سبحان الله !!
ونزلنا لنستريح ، واستلقيت على ظهري ، وعيناي تجول في السماء ، وقد دخل الليل ، وبدت النجوم ، ترى ما عدد نجوم السماء ؟ تذكرت ما أجاب به أحد علماء الفلك عن هذا السؤال : عددها عدد حبات الرمال الموجودة على شواطئ بحار العالم !! سبحان الله !!
وداعبني النوم . وما أحلى النوم بعد التعب ! إنه آية عظيمة، ونعمة جليلة.
وانتبهت على صوت رفيقي : هيا لنتعشى . أتأكل من السمك أم من الدجاج؟
قلت : سمك ودجاج وسط الصحراء ؟
سبحان الله !! ما أعظم قدرة الله !!
سل الواحة الخضراء والماء جاريا وهذي الصحاري والجبال الرواسيا
سل الروض مزدانا. سل الزهر والندا سل الليل والإصباح والطير شاديا
وسل هذه الأنسام والأرض والسما وسل كل شئ تسمع الحمد ساريا
فلو جن هذا الليل وامتد سرمدا فمن غير ربي يرجع الصبح ثانيا
تعريف صفة القدرة : ـ
هي صفة وجودية أزلية قائمة بذاته تعالى ، يتأتى بها إيجاد الممكنات وإعدامها على وفق علمه تعالى وإرادته.
فإذا كان علم الله صفة انكشاف ، وإرادته صفة تخصيص ، فإن قدرته صفة تأثير وتنفيذ لما علمه وأراده من الممكنات. فإذا علم الله تعالى أن سيكون لك غلام واختارت الإرادة الإلهية ، ورجحت الصفات التي سيكون عليها الغلام ، فإن القدرة الإلهية هي التي ستبرز هذا الغلام إلى الوجود.
فبالقدرة يكون الإيجاد ، وبالقدرة يكون الإعدام ، وبالقدرة يكون الخلق، وبالقدرة يكون الرزق ، وبالقدرة كانت الأرض مهادا، والجبال أوتادا ، وبالقدرة كان النوم سباتا ، والليل لباسا ، والنهار معاشا ، وبالقدرة يكون إرسال الرياح ، وإنزال مياه الأمطار، وإنبات الزروع والثمار والأشجار
والقدرة كالإرادة لا تتعلق بالأمر الواجب ؛ لأنها لو تعلقت به لإيجاده يكون تحصيل حاصل ، ولو تعلقت به لإعدامه ، كان قلبا للحقائق . لأنه لا يقبل العدم.
كذلك لا تتعلق القدرة بالأمر المستحيل . لأنها لو تعلقت به لإيجاد ، كان قلبا للحقائق ، لأنه غير قابل للوجود ، ولو تعلقت به لإعدامه ، كان تحصيل حاصل.
فقوله تعالى : { والله على كل شئ قدير } أي كل شئ ممكن قابل للوجود والعدم . أما المحال لذاته مثل كون الشئ موجودا معدوما في حال واحدة ، فلا تتعلق به القدرة .
وعموم لفظ ( كل ) في كل موضع بحسبه . ويعرف ذلك بالقرائن:
فقوله تعالى عن الريح التي أرسلها على عاد : { تدمر كل شئ بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم } [ الأحقاف/25] أي تدمر كل شئ يقبل التدمير ويستحقه . فمساكنهم ـ وإن كانت شيئا ـ لم تدخل في عموم : (كل).
وقوله تعالى عن بلقيس : { وأوتيت من كل شئ } [ النمل/23] أي من كل شئ يحتاج إليه الملوك . وهكذا.
وقدرة الله تختلف عن قدرة العبد . لأن قدرة العبد حادثة ومحدودة ومحال أن يوصف غير الله بالقدرة المطلقة ، وإذا قلنا : فلان من الخلق قادر ، فعلى سبيل التقييد . أي قادر على كذا . ولا يقال : قادر مطلقا .
ولذلك فإنه لا يوصف أحد غير الله بالقدرة من وجه إلا ويصح أن يوصف بالعجز من وجه آخر ، بل من وجوه أخرى . والله تعالى هو الذي ينتفي عنه العجز من كل الوجوه.
وقدرته تعالى تعمل وفق النواميس الطبيعية التي أودعها في هذا الكون ، وحسب قانون الأسباب والمسببات الذي بنى عليه هذا الوجود. فقد جرت العادة أن توجد القدرة الإلهية الشئ عقب حدوث سببه . ومع ذلك قد يخرق الله هذه العادة إذا شاء فلا يأتي بالمسبب عقب السبب. كتخلف الإحراق عن النار ، كما فعله مع خليله إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام . أو يأتي بالمسببات بدون هذه الأسباب المعتادة . كما خلق عيسى بن مريم من غير أن يمسها بشر ليبين طلاقة قدرته تعالى، وأنها تفعل بسبب وبدون سبب ، ولعل في قوله تعالى { فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده (52)} [ المائدة/52] إشارة إلى ذلك ، فالفتح يكون بالأخذ بالأسباب ، وأما الأمر الذي من عنده ، فيكون بكن فيكون.
وفعل الله تعالى نوعان :
1ـ نوع أبدعه كاملا ، لا يزيد ولا ينقص ، إلى أن يشاء فناءه أو تبديله كالسموات .
2ـ ونوع جعل أصوله موجودة بالفعل ، وأجزاءه موجودة بالقوة. وقدره على وجه لا يتأتى منه غير ما قدره فيه . كتقديره في بذور القمح أن ينبت منها القمح دون غيره من النباتات ، وتقديره لمني الإنسان أن يكون منه الإنسان دون سائر الحيوانات .
نسبة الفعل بين الرب والعبد :
نلاحظ أن الآيات القرآنية ، والأحاديث النبوية ، قد تنسب بعض الأفعال التي نعلم يقينا أنها من فعل الله تعالى ، ومن مظاهر قدرته عز وجل . تنسبها إلى العبد. وذلك باعتبار أنه كان سببا فيها ، وباشر إيجادها . من أمثلة ذلك :
1ـ نعلم أن الذي يهب الذرية هو الله تعالى . قال سبحانه : { لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور(49)أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير(50) } [ الشورى] .
ونرى أن القرآن الكريم ينسب ذلك إلى جبريل عليه السلام . قال سبحانه :
{ واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا (16) فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا(17) قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا (18* قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا (19) } [ مريم ] .
2ـ نعلم أن الذي يدبر الأمر هو الله جل في علاه .
ونرى القرآن الكريم ينسب ذلك إلى بعض الملائكة . قال سبحانه : {والنازعات غرقا (1) والناشطات نشطا(2) والسابحات سبحا(3) فالسابقات سبقا (4) فالمدبرات أمرا (5) } [ النازعات ] .
3ـ نعلم أن الله تعالى هو الذي يرزق عباده .
ومع ذلك نراه ينسب الرزق إلى الخلق . قال سبحانه : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا (5) } [ النساء ].
وقال عز وجل : { وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا (8) } [النساء].
4ـ نعلم أن الله تعالى هو المغني . ومع ذلك يسند هذا إلى رسوله ويشركه معه بواو العطف في الإغناء . قال تعالى : { وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله } [ التوبة /74].
5ـ والذي يفرج الكرب هو الله تعالى ، والذي ييسر الأمور هو الله تعالى ، والذي يستر العباد هو الله تعالى .
ومع ذلك نجد الرسول صلى الله عليه وسلم ينسب ذلك إلى العباد . فيقول في الحديث الصحيح : " من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن يسر على معسر ، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ، ومن ستر مسلما ، ستره الله في الدنيا والآخرة" (7).
6ـ والذي يغيث الملهوف هو الله تعالى .
ونجد الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " من أغاث ملهوفا ، كتب الله له ثلاثا وسبعين مغفرة " (8).
7ـ والذي يفزع إليه في الحوائج هو الله تعالى .
ونجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن لله تعالى عبادا اختصهم بحوائج الناس ، يفزع الناس إليهم في حوائجهم . أولئك الآمنون من عذاب الله " (9).
وهكذا ينسب الفعل إلى الله نسبة حقيقية .
وينسب إلى العبد نسبة سببية .
صفة القدرة في القرآن الكريم : ـ
لم ترد لفظة (القدرة) كما جاءت صفة (العلم) ولكن ورد وصفه تعالى بأنه : (قدير) قال سبحانه : { تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شئ قدير(1) } [ الملك ] .
والقدير هو الفاعل لما يشاء على قدر ما تقتضي الحكمة بلا زيادة ولا نقصان .
ومن أسمائه الحسنى : ( القادر) قال تعالى : { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون (65)} [ الأنعام].
وقال سبحانه : { فقدرنا فنعم القادرون (23) } [ المرسلات ].
وورد أنه تعالى ( المقتدر) قال سبحانه : { وكان الله على كل شئ مقتدرا (45) } [ الكهف ].
وقال : { إن المتقين في جنات ونهر (54) في مقعد صدق عند مليك مقتدر(55) } [ القمر ].
وورد أنه { ذو القوة المتين (58)} [ الذاريات ] .
فالقوة كمال القدرة ، والمتانة كمال القوة ، وكون الشئ يؤثر في غيره يسمى قوة ، وكونه لا يتأثر بغيره يسمى أيضا قوة.
فالإنسان الذي يقوى على أن يصرع الناس يسمى قويا ، والإنسان الذي لا ينصرع من أحد يسمى أيضا قويا .
وبهذا التفسير يسمى الحجر والحديد قويا شديدا.
إذا تأملنا هذا ، علمنا أن القوي على الحقيقة ليس إلا الله جل في علاه .
ولم يكتف القرآن الكريم بإثبات صفة القدرة لله تعالى فقط ، بل أكد ذلك بأمور :
1ـ إنه منزه عن التعب والنصب : { ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب } [ ق ] .
2ـ إن قدرته لا تحتاج إلى آلات ، أو أدوات ، أو مواد : { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (82) } [ يس ].
3ـ إنه لا تفاوت في قدرته بين فعل الكثير والقليل : { وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شئ قدير (77)} [النحل].
ومن حديث القرآن الكريم عن مظاهر قدرته تعالى نختار موضعين:
الموضع الأول ـ قال الله تعالى ك
{ ومن ءاياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون (20) ومن ءاياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم موجة ورحمة إن في ذلك لأيات لقوم يتفكرون (21) ومن ءاياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لأيات للعالمين (22) ومن ءاياته منامكم باليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لأيات لقوم يسمعون (23) ومن ءاياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لأيات لقوم يعقلون(24) ومن ءاياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم من الأرض إذا أنتم تخرجون (25) وله من في السموات والأرض كل له قانتون (26) وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم (27) } [ الروم ].
الموضع الثاني ـ قال سبحانه :
{ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه } [ الزمر /21].
فبقدرة الله تبخر الشمس مياه البحار والمحيطات ، فتصعد إلى السماء ماء عذبا ، لأن التبخير يخلصه من الأملاح التي تضر الإنسان ، والحيوان ، والنبات.
قال تعالى : { أفرءيتم الماء الذي تشربون (68) ءأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون(69) لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون(70)}
[ الواقعة ].
لكن لو ظل هذا الماء يرتفع في الفضاء لتبدد،ولم ينتفع به، فاقتضت حكمته وقدرته أن يتكثف بالبرودة ، ولكن كيف ذلك ؟
كان الظاهر أن تزداد الحرارة كلما ارتفعنا إلى أعلى ، لأننا نقترب بالارتفاع من الشمس، وهي مصدر الحرارة ، ومعنى هذا أن يزداد بخار الماء حرارة ، كلما ارتفع إلى أعلى، فيخف وزنه،فيرتفع أكثر في السماء، فلا ينزل أبدا إلى الأرض.
هذا هو الظاهر لنا ، لكن الله قضى بعكس ما نظن لأول وهلة . فقد قضى سبحانه أن تنخفض الحرارة كلما ارتفعنا إلى أعلى حتى نصل إلى مسافة ثمانية أميال فوق سطح البحر ، وهذه هي منطقة تكون السحاب ، وهي فوق أعلى الجبال .
وبعد هذه المنطقة نجد منطقة ثانية ، تثبت فيها درجة الحرارة ولا تتغير ، حتى ارتفاع ثلاثين ميلا فوق سطح الأرض ، بعدها تبدأ منطقة ثالثة تبدأ درجة الحرارة فيها في الارتفاع الشديد ، تليها منطقة أخرى فيها تنخفض درجة الحرارة !
تأمل مظهر القدرة الإلهية في التصميم المحكم لطبقات الجو مما يضمن ارتفاع ماء البحر العذب فوق مستوى الجبال ، ثم وقوه وتكثفه بالبرودة الموجودة في الطبقة الأولى ، حتى لا يغادر الأرض . قال تعالى:
{ وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون (18) [ المؤمنون]
ولما كان بخار الماء خفيفا لا يرى ، فقد اقتضت حكمته تعالى وقدرته أن يرسل الرياح محملة بذرات الدخان ، والأتربة ، وحبوب اللقاح ، فتتلقح جزئيات بخار الماء بها ، فتثيرها وتحركها ، وتتجمع حتى تصير سحابا ثقيلا . لا يغادر غلاف الأرض.
تدبر قوله تعالى : { الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون (48) } [ الروم ].
كسفا : قطعا . الودق : المطر.
ويأمر الله الرياح بنقل هذا الماء من البحار إلى أعماق القارات . قال تعالى : { وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات } [الأعراف/57].
وتأمل توزيع الماء العذب في عروق الأرض ، وكيف أن الأرض تحفظه من التعفن ، وكيف تحفظه قريبا من سطحها ، حتى يمكن الانتفاع به في شكل عيون وآبار ، تحتها صخور المياه الجوفية ، حتى لا تغور في أعماق الأرض.
اقرأ قوله تعالى : { قل أرءيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين (30) } [ الملك].
صفة القدرة في السنة المطهرة :
1ـ قال صلى الله عليه وسلم : " اللهم إني أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم ، فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم ، وأنت علام الغيوب " (10).
2ـ وقال صلى الله عليه وسلم للمريض : " ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل : باسم الله ثلاثا ، وقل سبع مرات : أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر " (11).
3ـ وقال صلى الله عليه وسلم : " إذا أراد الله خلق شئ ، لم يمنعه شئ " (12).
4ـ وعن أنس بن مالك أن رجلا قال : يا رسول الله ، كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة ؟ قال : " أليس الذي أمشاه على رجليه في الدنيا قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة " قال قتادة : بلى وعزة ربنا (13).
5ـ وكان صلى الله عليه وسلم يقول خلف الصلاة : " لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد " (14).
6ـ وعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : { كل يوم هو في شأن } قال : " من شأنه أن يغفر ذنبا ، ويفرج كربا ، ويرفع قوما ، ويخفض آخرين " (15).
الدليل العقلي على صفة القدرة : ـ
لو لم يكن الله تعالى قادرا ، لكان عاجزا ، ولو كان عاجزا ما وجد شئ من هذه الموجودات ، وعدم وجودها باطل بالمشاهدة ، فبطل ما أدى إليه ، وهو اتصافه بالعجز ، ووجب اتصافه بالقدرة.
تعلقات صفة القدرة : ـ
لهذه الصفة المباركة تعلقان إجمالا وهما : ـ
1ـ تعلق صلوحي قديم : وهو صلاحيتها في الأزل للإيجاد والإعدام فيما لا يزال.
2ـ تعلق تنجيزي حادث : وهو تأثيرها وإيجادها للأشياء بالفعل.
وأما تفصيلا ، فيمكن أن تتصور تعلقات القدرة هكذا :
أولا : التعلق الصلوحي القديم المذكور.
ثانيا : كون الممكن فيما لا يزال قبل وجوده في قبضة القدرة : إن شاء أبقاه الله على عدمه ، وإن شاء أوجده بها .
ثالثا : إيجاد الله تعالى المخلوق بها فيما لا يزال.
رابعا : كون الممكن حال وجوده في قبضة القدرة : إن شاء أبقاه الله على وجوده ، وإن شاء أعدمه بها .
خامسا : إعدام الله الشئ بالفعل عندما يحين وقت عدمه.
سادسا : كون الممكو حالة عدمه في قبضتها : إن شاء أبقاه على عدمه ، وإن شاء أوجده بها .
سابعا : إيجاد الله تعالى بها المخلوقات يوم البعث.

4 ـ صفة الحياة
ـ
صفة الحياة : صفة وجودية أزلية قائمة بذاته تعالى ، تصحح اتصافه بالعلم ، والإرادة والقدرة ، ونحو ذلك من الصفات التي تستلزم حياة المتصف بها .
وحياة الله تعالى تختلف عن معنى حياة مخلوقاته ، وليس في إمكان البشر أن يصلوا إلى حقيقة معنى حياته تعالى . بل إن البشر يقفون عاجزين عن فهم معنى الحياة بالنسبة للمخلوقات.
إننا لا نفهم من معنى حياة النباتات إلا النمو .
ولا نفهم من معنى حياة الحيوانات إلا النمو ، والإحساس ، والحركة الإرادية .
ولا نفهم من معنى حياة الإنسان إلا النمو والإحساس . والحركة، والتفكير.
أما حقيقة معنى الحياة ، فهذا شئ صعب المنال . فما بالك بإدراك حقيقة حياته عز وجل !!
وقد وردت الأدلة النقلية تثبت تلك الصفة :
• { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } [ البقرة /255].
• { وعنت الوجوه للحي القيوم } [ طه/111].
• { وتوكل على الحي الذي لا يموت } [ الفرقان /58].
فحياته تعالى لا يلحقها فناء ، ولا عدم ، ولا موت .
حكى أنه مات ابن لرجل : فبكى حتى عمى ، فقيل له : الذنب لك ، حيث أحببت حيا يموت ، هلا أحببت الحي الذي لا يموت.
وكما أنه تعالى (حي) فهو ( محيي) فيحيي الإنسان والحيوان بخلق الروح في الجسد ، ويحيي الأرض بإنزال الغيث عليها.
وكما أنه المحيي ، فهو ( المميت ) قال تعالى : { الذي خلق الموت والحياة } [ الملك /2].
وإنما تمدح بالإماتة ؛ ليعلم الخلق أنه قادر على التصرف في الأشياء كيف شاء.
والفرق بين صفة ( الحياة ) و ( المحيي ) أن الصفة الأولى ذاتية ، والثانية فعلية ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه : " يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث " (16).
أما الدليل العقلي على اتصافه تعالى بصفة الحياة فهو : أنه تعالى ثبت أنه متصف بالعلم ، والإرادة ، والقدرة ، وكل من اتصف بهذه الصفات فهو حي . فمن المسلم عقلا أن الميت لا يكون عالما قادرا.
ومن أين هذه الحياة التي نراها في العالم إن لم تكن هبة من الحي الذي لا يموت ؟

5ـ صفة السمع
ـ
سمع الله صفة من صفاته الوجودية الأزلية القائمة بذاته تعالى ، تنكشف بها له جميع الأصوات الموجودة ، ليست بأذن أو ألة ، كسمع المخلوقات تعالى الله عن ذلك .
إنه يسمع كل شئ في هذا الوجود.
إنه يسمع دبيب النملة السوداء ، على الصخرة الملساء ، في الليلة الظلماء.
إنه يسمع دعوات عباده ، وتضرعهم إليه ، ولا يشغله نداء عن نداء ، ولا تمنعه إجابة دعاء عن دعاء ، وتأمل ما يكون يوم عرفة قبيل الغروب من ضيوف الرحمن ، وما يكون حول بيت الله الحرام .
وصفة السمع غير صفة العلم . قال تعالى : { وهو السميع العليم} فلو كان السمع هو العلم ، لكان تكرارا ، لا فائدة فيه .
وعندما أرسل الله موسى وهارون قال لهما : { إنني معكما أسمع وأرى (46)} [ طه ].
وقال عن المشركين الذين يكيدون لحبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم : { أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون } [ الزخرف] .
وعندما جاءت (خولة بنت ثعلبة ) تجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنها نزل قوله تعالى : { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير(1)} [المجادلة].
قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : " الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات . لقد جاءت المجادلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جانب البيت تحدثه ، ما أسمع ما تقول " ولكن الله سمع قولها.
ولما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه يرفعون أصواتهم بالتكبير ، أشفق عليهم ،ودنا منهم وقال : " أربعوا على أنفسكم . إنكم ليس تدعون أصم ، ولا غائبا . إنكم تدعون سميعا قريبا " (17).
لا تسألن بني آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب
الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب
والدليل العقلي على اتصافه بالسمع : أنه لو لم يتصف بالسمع ، اتصف بضده، وهو الصمم ، والصمم نقص ، وهو على الإله محال.
كما أن في المخلوقات نعمة السمع ، وهي هبة من الله تعالى ، ولا يعقل أن يكون واهبها فاقدا لها . فلو لم يكن سميعا ، لكان في المخلوقات ما هو أكمل من خالقها . وهذا محال.



6ـ صفة البصر
ـ
هي صفة وجودية أزلية قائمة بذاته تعالى تنكشف بها له جميع المشاهدات الموجودة . وهي ليست بجارحة وحاسة ، كبصر المخلوقات ؛ لأن الله منزه عن ذلك .
وهي صفة تعم جميع الموجودات ، ولذلك قيل : إذا عصيت مولاك ، فاعصه في موضع لا يراك.
ومن أسمائه الحسنى : ( البصير) وهو الذي يشاهد ويرى ، حتى لا يغيب عنه ما تحت الثرى.
قال تعالى : { إن الله سميع بصير } .
وقال سبحانه : { أرءيت الذي ينهى (9) عبدا إذا صلى (10) أرءيت إن كان على الهدى (11) أو أمر بالتقوى (12) أرءيت إن كذب وتولى (13) ألم يعلم بأن الله يرى (14) } [ العلق].
وقال صلى الله عليه وسلم : "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه . فإنه يراك " .
وقد عاب خليل الله إبراهيم على الأصنام أنها لا تسمع ولا تبصر، فلا تصلح للعبادة ، ولا للألوهية . فقال لأبيه : { يأبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا (42) } [ مريم] ، وقال لقومه عباد الأصنام : { هل يسمعونكم إذ تدعون (72) أو ينفعونكم أو يضرون (73) } [ الشعراء].
الدليل العقلي : أنه تعالى لو لم يتصف بالبصر ، لاتصف بضده ، وهو العمى ، وهو نقص على الله محال . والبصر كمال ، وكل كمال الله أولى أن يتصف به ، ولا يعقل أن يكون واهب البصر للمخلوقات فاقدا له ، وإلا كان المخلوق أكمل من الخالق وهو محال.
وأجمعت الأمة على اتصافه تعالى بصفتي السمع والبصر.
يا من يرى مد البعوض جناحه في ظلمة الليل البهيم الأليل
ويرى نباط عروقها في نحرها والمخ في تلك العظام النحل
ويرى ويسمع ما يرى ما دونها في قاع بحر زاخر متجندل





7ـ صفة الكلام
ـ
لحظات تأمل : ـ
إن الله تعالى خلق الأرض { ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين (11)} [ فصلت].
وعهد إلى ملائكته المدبرات أمرا بالقيام على شئون خلقه من : إحياء ، وإماتة ، وخلق ، ورزق ، وغيث ، وخسف ، ورفع ، وخفض ، وغير ذلك .
وعهد إلى رسله من البشر بتبليغ رسالاته إلى خلقه .
كل ذلك كان . ويكون بهذه الصفة المباركة : صفة الكلام .
إن الإنسان منا كم يستخدم من الكلمات والألفاظ أثناء حديثه ، وكتابته وقراءته !!
بل كم لغة تتكلم بها مخلوقات الله !!
فما ظنك بكلام الله تعالى الخالق لهذه الكائنات ، العالم بكلماتها وألفاظها . والمدبر لشئونها !!
ألا يكون كلامه من الكثرة والعظمة على النحو الذي يشير إليه قوله : { ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله } [ لقمان /27].
ويشير إليه قوله : { قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا (109)} [ الكهف] .
تعريف صفة الكلام والمذاهب فيها : ـ
صفة الكلام صفة يكون بها الدلالة والإفهام .
وأجمعت الأمة على أنه تعالى متكلم . هذا ليس محل خلاف . لكنهم عندما فكروا في المسألة عقليا ، وجدوا دليلين متعارضين :
الأول ـ أن كلامه تعالى صفة له ، وكل صفاته قديمة ، فكلامه قديم.
الثاني ـ أن كلامه مكون من أجزاء متعاقبة في الوجود حسب القراءة أو الكتابة ، وكل ما كان كذلك فهو حادث مخلوق ، فكلامه حادث مخلوق.
فافترقت الأمة إلى أربع فرق :
ذهبت فرقتان إلى صحة الدليل الأول . وهما : الحنابلة والأشعرية.
وذهبت فرقتان إلى صحة الدليل الثاني. وهما : الكرامية والمعتزلة.
(1) فالحنابلة : قالوا : كلامه تعالى حروف وأصوات . تقوم بذاته . وهو قديم . ولكن .. كيف يكون قديما قائما بذاته،وكل حرف يحصل بعد انقضاء سابقه ؟
(2) والأشعرية : قالوا : كلامه نوعان : نفسي ولفظي .
أ ـ فالكلام النفسي : هو المعاني التي تكون في النفس . وهو غير العلم ؛ لأن العلم صفة انكشاف ، وغير الإرادة ؛ لأنها صفة تخصيص . وهذا الكلام النفسي هو القديم.
ب ـ والكلام اللفظي : وهو العبارات التي تدل على ما في النفس ، وهذا النوع حادث.
(3) والكرامية : قالوا : كلامه حروف وأصوات حادثة تقوم بذاته.
ولكن .. كيف يكون الله محلا للحوادث ؟
(4) والمعتزلة : قالوا : كلامه حروف وأصوات ، لكنها ليست قائمة بذاته تعالى ، بل يخلقها في غير ذاته . كاللوح المحفوظ ، أو جبريل، أو النبي مثلا.
ولكن .. كيف يكون الله متكلما بكلام لا يقوم بذاته ؟ وهل تعتبر أنت متكلما إذا قام الكلام بزميلك ؟
ثم قامت المعارك الحامية بين الفرق ، وتصارعت الأدلة ، وازدادت الهجمات ضراوة على كل فريق ، مما سودت به الصفحات الضخمة ، وضيع فيه وقت المسلمين في محاولة التعرف على حقيقة وكنه (كلام الله) حتى سمى علم التوحيد بـ ( علم الكلام ) كما سبق .
ولا أريد أن أعرض لمذهب كل فرقة وأدلتها ، فهذا أمر يطول جدا ، ويرهق إلى أقصى درجة ؛ لكني أريد أن أنبه إلى أمر هام بعد أن أيقنا بثبوت هذه الصفة لله ، وهو ضرورة التفرقة بين ما يقوم بذاته تعالى من هذه الصفة ، وبين ما يقوم بذواتنا نحن .
إننا عندما نقرأ أو نكتب أو نسمع كلام الله لابد أن نفرق بين هذين الأمرين .
وقد أشرنا في المقدمة إلى دور أعداء الإسلام في ظهور مشكلة خلق القرآن في البيئة الإسلامية . وقد تورط فيها بعض الخلفاء ، وما كان ينبغي لهم أن يفرضوا رأيا فكريا على جميع العلماء والمفكرين ، ولا أن يمتحنوهم للتأكد من موقفهم من هذه القضية التي ما أثارها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه رضى الله عنهم .
وبسبب هذا البلاء خرج الإمام البخاري فارا . وقال : اللهم اقبضني إليك غير مفتون . فمات بعد أربعة أيام .
وسجن ( عيسى بن دينار) ت 212 هـ فقيه الأندلس في عصره عشرين سنة.
وسئل الإمام ( الشعبي) ت 103هـ فقال : أما التوراة ، والإنجيل ، والزبور ، والفرقان ، فهذه الأربعة حادثة . وأشار إلى أصابعه ، فكانت سبب نجاته.
واشتهر هذا الجواب عن الإمام الشافعي رضى الله عنه.
وحبس الإمام ( أحمد بن حنبل ) وضرب بالسياط حتى غشى عليه .
ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للإمام الشافعي في المنام بشر أحمد بالجنة على بلوى تصيبه في خلق القرآن ، فأرسل له كتابا ببغداد . فلما قرأه بكى . ودفع للرسول قميصه الذي يلي جسده ، وكان عليه قميصان ، فلما وصل إلى الشافعي غسله ، وادهن بمائه . تبركا به ، وطلبا للشفاء من الله .
وقد قال الإمام البيضاوي ـ وهو من هو ـ عن صفة الكلام : "والإطناب في ذلك قليل الجدوى ؛ فإن كنه ذاته وصفاته محجوب عن نظر العقول" (18).
ويكفينا أن نثبت لله تعالى هذه الصفة المباركة صفة الكلام ؛ لأنها صفة كمال. لا يمكن أن يخلو عنها الإله الحق ، ألا ترى أنه رد على عباد العجل بأنه لا يتكلم ، وهذا نقص . فلا يصلح أن يكون إلها . قال تعالى :
{ واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا } [ الأعراف/148] وقال : {أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا (89)} [طه] .

المراجع والهوامش
ـ
1ـ رواه مسلم في صلاة المسافرين 1/535
2ـ انظر تفصيل ذلك عند ابن القيم في ( شفاء العليل ) الباب الحادي والعشرين والخامس والعشرين .
3ـ رواه البخاري في ك التوحيد ب في المشيئة والإرادة ـ الفتح13/456.
4ـ رواه مسلم في ك الصلاة ب ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع 1/347
5ـ رواه مسلم في ك التوبة ب سقوط الذنوب بالاستغفار 4/2106
6ـ انظر تفصيل ذلك عند ابن القيم في ( مدارك السالكين ) 1/251 ـ 256 ، 2/192 ـ 198.
7ـ رواه مسلم في ك الذكر والدعاء . ب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر 4/2074
8ـ رواه البخاري في التاريخ ، والبيهقي في شعب الإيمان عن أنس ـ جامع الأحاديث 6/109
9ـ رواه الطبراني عن ابن عمر ـ جامع الأحاديث 2/448
10ـ رواه البخاري في ك التوحيد ب قول الله تعالى:{ قل هو القادر} الفتح 13/387.
11ـ رواه مسلم في ك السلام ت استحباب وضع يده على موضع الألم مع الدعاء 4/1728
12ـ رواه مسلم في ك النكاح ب حكم العزل 2/1064
13ـ رواه مسلم في ك صفات المنافقين ب يحشر الكافر على وجهه 4/2161.
14ـ رواه البخاري في ك القدر ب لا مانع لما أعطى الله ـ الفتح 11/521.
15ـ رواه ابن ماجه في المقدمة 1/73.
16ـ الترغيب والترهيب 1/457.
17ـ رواه مسلم في الذكر والدعاء 4/2076
18ـ متن الطوالع ص 79
***

من كتاب : الدكتور / محمد ربيع الجوهرى