الأحد، 25 مارس 2012

موسوعة العقيدة - أسماء الله الحسنى : المقسط

المقسط

مع الاسم الثامن والسبعين من أسماء الله الحُسنى، والاسم هو المقسط.
 في اللغة.. أقسط فلانٌ إذا عدل، وقسط فلانٌ إذا جار.. أقسط: عدل، وقسط: ظلم وجار.. المقسط: العادل، القاسط: الظالم، قال تعالى:
﴿وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15))
(سورة الجن)
 قال بعض علماء اللغة: " المقسط هو العادل في حكمه قال تعالى: وأقيموا الوزن بالقسط: أي بالعدل، والقِسْطُ أيضاً هو النقيض "، القِسْطُ.. أقساط، أجزاء، أنصبة.
 ذكر بعض علماء اللغة أنَّ القَسْطَ: " هو أن يأخذ الإنسان قِسطَ غيره أي يظلم ".. فالقَسْط مصدر.. أي يأخذ نصيب غيره، أن يأخذ ما ليس له فهو ظالم.
 والإقساطُ أن يُعطى قسط غيره فهو عادل.. أن تعطي حقَّ الناس إلى الناس فأنت عادل، أن تأخذ ما ليس لك بحق فأنت ظالم.. أن تأخذ قِسْطَ غيرك هذا ظلم، أن تعطي الآخرين قِسْطَهم هذا عدل.. هذا الفرق بين قَسَطَ وأقْسَطَ.
 دخل رجل على الحجَّاج فسأله الحجاج من أنا ؟ فقال له الرجل: أنت قاسطٌ عادل. فظنَّ الحاضرون أنَّه يمدحه، فقال: أتدرون ماذا قال لي؟ لقد قال لي أنت ظالمٌ كافر، قالوا كيف؟ قال: أما قاسط فقد قال تعالى:
﴿ وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ﴾
 وقال أيضاً:
﴿ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾
 أي عدل عن الحقِّ إلى الباطل، وعن الجنَّة إلى النار.. في قوله تعالى:
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1))
(سورة الأنعام)
 فأحياناً كلمة "قاسط عادل" لا تعني مدحاً، بل تعني ذماً، كما قيلت للحجاج أعلاه.
 المُقسِطُ في حقِّ الله تعالى هو العادل في الأحكام، الذي يتصرَّف في العوالم بكلِّ نظام.
 ذكرت ذات مرة أنَّ إنساناً كان يطوف حول الكعبة ويقول: ربِّ اغفر لي ذنبي ولا أظُنُّك تفعل. فمشى وراءه الإمام الشافعي وقال: يا هذا ما أشدَّ يأسك من رحمة الله. قال: ذنبي عظيم. قال: ما ذنبُك ؟ قال: كنت جندياً في حملةٍ لقمع فتنة، فلما قُمِعت أُحِلَّت لنا المدينة، فدخلت أحد البيوت فرأيت فيه رجلاً وامرأةً وطفلين، قتلت الرجل وقلت للمرأةَ أعطني كلَّ ما عندك من مال، أعطتني كلَّ ما لديها، فقتلت ولدها الأول فلما رأتني جاداً في قتل الثاني أعطتني درعاً مُذْهبة - من الذهب -، أعجبتني، تأملتُها فإذا عليها بيتان من الشعر:
إذا جار الأمير وحاجباه  وقاضي الأرض أسرف في القضاء
فويلٌ ثم ويلٌ ثم ويلٌ  لقاضي الأرض من قاضي السماءِ.
***
 أحياناً يكون الظالم زوجاً يقول لنفسه: إن زوجتي ليس لها سند، ومقطوعة من الأهل.. فيظلمها أشدَّ الظُلم، ويضغط عليها أشدَّ الضغط، فنقول له:
فويلٌ ثم ويلٌ ثم ويلٌ....  لقاضي الأرض من قاضي السماءِ.
***
 أحياناً تكون بوظيفة يمكن أن تؤذي الناس من خلالها، تستخدم هذه الثقة التي مُنحت إيَّاها لحفظ مصالح الأمة في سبيل ابتزازِ أموال الأمة، فيقال لك:
فويلٌ ثم ويلٌ ثم ويلٌ  لقاضي الأرض من قاضي السماءِ.
***
 وما أكثر أنواع الظلم، والظلم ظلماتٌ يوم القيامة والله سبحانه وتعالى من أسمائه المُقسط، لذلك فالمؤمن يعُدُّ للمليون قبل أن يظلم إنساناً لأنَّه يعلم أنَّ الله أقدرُ عليه منه على هذا الإنسان.. وقد ورد هذا في نصِّ حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام عندما رأى أحد أصحابه يضرب غلاماً له فقال:
(( اعلم أبا ذر أنَّ الله أقدر عليك منك عليه.))
 وقال بعضهم:
 إذا دعتك قدرتك إلى ظلم الناس تذكَّر قدرة الله عليك.
 ذات مرَّة أراد الحجَّاج أن يحاكم إنساناً ليقتله فقال هذا الإنسان: أسألُك بالذي أنت بين يديه أذلُّ منّي بين يديك، وهو على عقابك أقدر منك على عقابي فتفكر الحجاج م عفا عنه، فالإنسان كلما ازداد علماً ازداد خوفاً من الله، إذا ظنَّ أنَّه قوي وأنَّه يفعل ما يريد فاستخدم هذه القوَّة في غير العدل فقد استوجب سخط الله عزَّ وجلَّ، وإذا سخِط الله عليه فبطشُ الله شديد كما ورد في الآية الكريمة قال تعالى:
﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13))
(سورة البروج)
 من ذكريات الماضي المقدس أنه: يوم أرسل النبيُّ الكريم عبد الله بن رواحة إلى اليهود ليأخذ منهم ما اتُفق على أن يعطوه للنبي من ثمارٍ وزروع، فأراد هؤلاء أن يرشوا عبد الله بن رواحة لعلَّه يترفَّق بهم في قِسمة الزروع بينهم وبين النبي - فقال عبد الله بن رواحة: والله لقد جئتكم من عند أحبِّ الخلق إلي - من عند رسول الله - وأنتم أبغض إليَّ من عددكم من القِردة والخنازير، ومع ذلك لا يحملني حبي لرسول الله وبغضي لكم أن أظلمكم، أو أن أفعل معكم غير الحق. فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض، وبهذا تغلبوننا، بهذا العدل تغلبوننا.. فأنا أشعر أنَّ قيمة العدل هي أخطر قيمة في المجتمع.
 يروي التاريخ المعاصر أنَّ بريطانيا عقب الحرب العالميَّة الثانية هُدِّمت كلياً، وقف أحد زعمائها في مجلس العموم يسأل وزراءه وزيراً وزيراً، كيف الصناعة عندك يا فلان ؟ يقول له المعامل مدمَّرة، كيف الزراعة عندك يا فلان ؟ يقول له: لا ثمار ولا غلال، كم في الخزينة عندك يا فلان ؟ يقول له: لا شيء خواء. فكل ما عندهم دمر.. فالتفت إلى وزير العدل وقال: كيف العدل عندك يا فلان ؟ قال: بخير. قال: كلُّنا إذاً بخير.
 يبدأ هذا العدل من داخل أسرتك لا تظلم لا تميِّز ولداً على ولد، لا تميِّز زوجةً على زوجة إن كانت لك زوجتان، لا تميِّز أخاً على أخ، السماوات والأرض لا تقومان إلا بالعدل، والعدل أساس الملك، أن تملك زمام أولادك فأساس هذا الملك العدل، أن تملك قياد الموظفين العاملين عندك فأساس هذا الملك العدل، قيمة العدل هي أفضل قيمة، يمكن أن تأكل أخشن الطعام، وأن تلبس أخشن الثياب، وأن تشعر أنَّك قد أخذت حقَّك، أما حينما يشعر الإنسان بالظلم عندئذٍ تنقلب حياته إلى جحيم من هنا قال الله عزّ‍َ وجلَّ في الحديث القدسي:
(( عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِنِّي حَرَّمْتُ عَلَى نَفْسِي الظُّلْمَ وَعَلَى عِبَادِي أَلا فَلا تَظَالَمُوا كُلُّ بَنِي آدَمَ يُخْطِئُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ثُمَّ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرُ لَهُ وَلا أُبَالِي وَقَالَ يَا بَنِي آدَمَ كُلُّكُمْ كَانَ ضَالا إِلا مَنْ هَدَيْتُ وَكُلُّكُمْ كَانَ عَارِيًا إِلا مَنْ كَسَوْتُ وَكُلُّكُمْ كَانَ جَائِعًا إِلا مَنْ أَطْعَمْتُ وَكُلُّكُمْ كَانَ ظَمْآنًا إِلا مَنْ سَقَيْتُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ وَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ وَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ وَاسْتَسْقُونِي أَسْقِكُمْ... ))
(مسند الإمام أحمد)
 الظلم ظلماتٌ يوم القيامة، الظلم مرتعه وخيم، والله عزَّ وجلَّ مقسط، الإمام الغزالي يقول: " المقسط هو الذي ينتصف للمظلوم من الظالم ".
 فقد ذكرت من قبل قصَّةٌ سابقة ولكن لا بدَّ من أن أذكرها هنا.. إنسان يركب مركبة ويسير بها في طريق المطار، وكلبٌ صغير في أيام الشتاء القارس وجد أنَّ الطريق المزفَّت أدفأ له من التراب لسواد لونه، فاللون الأسود يمتصّ الحرارة فقبع على طرف الطريق، وهذا الذي يقود المركبة عنَّ له أن يظهر براعته في القيادة أمام من إلى جواره، فاستطاع بدقَّةٍ بالغة أن يقطع يديّ الكلب دون أن يقتله وأطلق ضحكةً هيستيريَّة، يذكر لي الذي كان إلى جانبه أنه في أول أيام الأسبوع التالي وفي المكان نفسه تعطَّلت مركبته إذ أصيبت إحدى العجلات فنزل لإصلاحها، فرفع المركبة بالأداة الرافعة وأزال البراغي من العجلة وبينما هو يسحب العجلة اختلَّ توازن المركبة فوقعت فوق العجلة والعجلة فوق رُسغيه فُهُرِستا، فإلى أن وصل إلى المشفى كان قد وصل الموات إلى أطراف أصابعه، فأمر الطبيب بقطع كفَّيه من رُسُغيه، كما فعل يوم السبت الماضي بالكلب، وقال لي هذا الذي كان بجوار قائد المركبة: رأيته بعيني بعد أسبوعٍ بلا يدين.
 أيها القراء الكرام: أليس هذا جزاءً وفقاً، فالله عزَّ وجلَّ مُقْسِط.. وكلَّما عرفتَ عدله تأدَّبتَ معه، وكلَّما أكبرتَ عدالته ازددت معه أدباً.
 قال الإملم الغزالي: " المقسط هو الذي ينتصف للمظلوم من الظالم "، قد يكون المظلوم هرَّة.. فقد قال صلَّى الله عليه وسلَّم:
(( حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ مِنْ جَرَّاءِ هِرَّةٍ لَهَا أَوْ هِرٍّ رَبَطَتْهَا فَلَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلا هِيَ أَرْسَلَتْهَا تُرَمْرِمُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ حَتَّى مَاتَتْ هَزْلا))
(صحيح مسلم)
 أيدخل إنسان النار في هرَّة ؟.. نعم فدققوا النظر متأملين.. قبل أن تقتلوا حيواناً فقد قال تعالى:
﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68))
(سورة الفرقان)
 سُمِح لك أن تقتل الفأرة، وأن تقتل العقرب، أن تقتل الحيَّة، أما أي حيوان تدعسه وتدوس عليه وأنت في راحة تامة ؟ لا.. فهناك حيوانات لا يجوز أن تقتلها لأنَّها ما فعلت شيئاً.
 وكلُّكم يستمع إلى آلاف الوقائع والحوادث عن إنسان تعدَّى على حيوان.. فقد بصره، أو فقد حركته بشلل أصابه، إنسان غضب من هرَّة فألقاها من الطابق السابع، بعد حينٍ اختلَّ توازنه في المشي، وأمضى حياته كلَّها على عُكَّازين.. فالظلم ظلماتٌ يوم القيامة.
 الإمام الغزالي يقول: " المقسط هو الذي ينتصف للمظلوم من الظالم، وكماله في أن يضيف إلى إرضاءِ المظلوم إرضاءَ الظالم".
 أكمل شيء بالمُقسط.. أنَّ الله عزَّ وجلَّ ينتصر للمظلوم من الظالم، وبعد ذلك يرضي الظالم، بعدما قام بتأديبه ورجع إلى الحق يكرمه، والدليل الآية الكريمة:
﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6))
(سورة القصص)
 فإذا طغى عبدٌ على عبد، انتصر للمظلوم من الظالم، فإذا رجع الظالم عن ظلمه وتاب إلى الله أكرمه الله، فالإمام الغزالي يقول: " المقسط هو الذي ينتصف للمظلوم من الظالم، وكماله في أن يضيف إلى إرضاءِ المظلوم إرضاءَ الظالم ".
 أدقّ نقطة أنَّ الله جلَّ جلاله لا يُبغض الكافر، ولكن يُبغض عمله، فإذا قال الله عزَّ وجلَّ:
﴾فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴿
 في الآية الكريمة:
﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32))
(سورة آل عمران)
 العلماء أجمعوا على أنَّ الله عزَّ وجلَّ لا يُحبُّ عملهم، فإذا تابوا وأنابوا أحبَّهم، والمؤمن الصادق المخلص.. لو أنَّ له خصماً عنيداً كافراً فاجراً منحرفاً إلى آخر هذه الأوصاف، إذا أناب إلى الله وتاب إليه واصطلح معه فبأقل من ثانية ينقلب حاله فيكون أقرب الناس إليه، والدليل على ذلك:
 عندما جاء عمير بن وهب إلى المدينة المنوَّرة، فرآه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان عملاق الإسلام، قال: هذا عدوُّ الله عمير جاء يريدُ شراً، فأمسكه وقيَّده بحمَّالة سيفه وساقه إلى النبي وأدخل إليه صلَّى الله عليه وسلَّم، قال: يا رسول الله إنَّ عدوَّ الله عمير جاء يُريد شراً. قال: يا عمر أطلقه.. فأطلقه.. يا عمر ابتعد عنه.. فابتعد عنه. وسأله: يا عمير ما الذي جاء بك إلينا ؟ قال: جئت أفدي أخي. قال: يا عُمير وما هذا السيفُ الذي على عاتِقك؟ قال: يا محمد قاتلها الله من سيوف وهل نفعتنا يوم بدر. قال: ألم تقُل لصفوان بن أميَّة.. لولا ديونٌ ركبتني وأطفالٌ أخاف عليهم العنت لذهبت إلى محمدٍ وقتلته وأرحتكم منه فهبَّ واقفاً وقال: أشهد أنَّك رسول الله، لأنَّ هذا الذي جرى بيني وبين صفوان لا يعلمه أحدٌ إلا الله وأنت رسول الله حقاً، وأسلم.
 فاستمعوا أيها القراء الكرام إلى ما قاله عمر قال: دخل عُمير على رسول الله والخِنزيرُ أحبُّ إليَّ منه، وخرج من عنده وهو أحبُّ إليَّ من بعض أولادي.
 في ثانية... المؤمن ليس له عدو، فإن كره الكافر يكره عمله، إن كره الظالم يكره ظلمه، إن كره الفاسق يكره فسقه، إن كره المعتدي يكره عُدوانه، أما إذا عاد المعتدي إلى جادَّة الصواب، وترك الفاسق فسقه، وترك الكافر كفره.. صار أقرب الناس للمؤمن، ولقد جاء في الأثر:
(( تخلَّقوا بأخلاق الله ))
 إنَّ الله عزَّ وجلَّ لا يُبغض الكافر لذاته، بل يُبغِضُ عمله.
 قال: لا يقدر على الانتصاف من الظالم للمظلوم ثم إرضاء المظلوم والظالم إلا الله، هذا من اختصاص الله.. إليكم هذه القصَّة:
 بينما رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم جالسٌ ضَحِكَ حتى بدت ثناياه، فقال عمر: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما الذي أضحكك!؟ فقال عليه الصلاة والسلام: رجُلانِ من أمَّتي جَثَيا بين يدي ربِّ العزَّة يوم القيامة فقال أحدهما: يا ربيّ خذ مظلمتي من هذا - يوم القيامة - فقال الله عزَّ وجلَّ للظالم: رُدَّ على أخيك مظلمته. فقال: يا ربِّ لم يبقَ من حسناتي شيء. فقال عزَّ وجلَّ للمظلوم: كيف تصنع بأخيك ولم يبقَ من حسناته شيء ؟ قال: يا ربِّي ليحمل عني من أوزاري.. فالمظلوم أخذ كلَّ حسنات الظالم، ولم تفِ بحقِّه، فقال المظلوم: ليحمل عني أوزاري.. قال: ففاضت عينا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بالبكاء وقال: إنَّ ذلك ليومٍ عظيم، يوم يحتاج الناس أن يُحمل عنهم من أوزارهم قال عليه الصلاة والسلام: فيقول الله عزَّ وجلَّ للمتظلِّم ارفع بصرك فانظر في الجِنان. فقال يا ربِّي أرى مدائن من فضَّة وقصوراً من ذهبٍ مكلّلَةً باللؤلؤ لأيِّ نبيٍ هذا القصر !؟ أو لأيِّ صدِّيقٍ هذا القصر!!؟ أو لأيِّ شهيدٍ هذا !!!؟ قال الله عزَّ وجلَّ: لمن دفع الثمن. فقال المظلوم: يا ربّ ومن يملك ذلك الثمن !؟ فقال: تملكه أنت. قال: بماذا يا ربِّي !!؟ قال: بعفوك عن أخيك. إذا عفوت عنه دفعت ثمن هذا القصر. فقال: يا ربِّ لقد عفوت عنه. يقول الله عزَّ وجلَّ: خذ بيد أخيك فأدخله الجنَّة.. ثم قال عليه الصلاة والسلام:
(( اتَّقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، فإنَّ الله يعدل بين المؤمنين يوم القيامة.))
 فالله عزَّ وجلَّ مختص بهذا وحده، وهو الذي يستطيع أن ينتصر للمظلوم من الظالم، فإذا رجع الظالم عن ظلمه أرضى الظالم أيضاً وشملته رحمته.. هذه ليست لغير الله.. لأنَّ الإمام الغزالي يقول: " إنَّ أكمل درجات الإقساط، العدل أن تعامل كِلا الطرفين معاملةً يرضيان عنها ".
 حقيقة تملأ جوانحي.. المؤمن لا يحقد !! لأنَّه يرى الأمراض التي أمامه من بني البشر هي أمراض وليست سجايا، أمراض الإعراض، أعراض الإعراض، فكما أنَّ الطبيب لا يحقد على مريضٍ مصاب بمرضٍ معدٍ، كذلك ولله المثل الأعلى، فالله جلَّ جلاله يعلم أنَّ هذه الأخطاء والرُعوُنات والانحرافات هي أعراضٌ لمرضٌ واحد هي الإعراض عن الله عزَّ وجلَّ، وأكبر دليل أنَّ الإنسان عندما يقبل تراه لطيفاً ومنصفاً، وقَّافاً عند حدود الله، فسبحان من يغير ولا يتغير.
 وسرعان ما نعود إلى المُقسِط فقد ورد المعنى في بعض آيات القرآن الكريم ففي سورة المائدة قال تعالى:
﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42))
(سورة المائدة)
﴿ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾
 جاء رجل إلى النبي وهو البشير بن النعمان قال: يا رسول الله اشهد أنني نحلت ابني هذا حديقة. فقال: ألك ولدٌ غيره ؟ قال: نعم. قال: أنحلت كلاً منهم ما نحلته ؟ ولندقق ملياً الآن.. قال: لا. قال النبي عليه الصلاة والسلام للبشير: اشهِد غيري، فإنِّي لا أشهد على جَوْر.
 وقد ورد في بعض الأحاديث:
(( حَدَّثَنِي شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ وَالْمَرْأَةُ بِطَاعَةِ اللَّهِ سِتِّينَ سَنَةً ثُمَّ يَحْضُرُهُمَا الْمَوْتُ فَيُضَارَّانِ فِي الْوَصِيَّةِ فَتَجِبُ لَهُمَا النَّارُ))
(سنن الترمذي)
(( عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَارِبُوا بَيْنَ أَبْنَائِكُمْ يَعْنِي سَوُّوا بَيْنَهُمْ ))
(مسند الإمام أحمد)
 من أعجب ماسمعت أن أُسرةً توفي الأب وترك أولاداً وبنتاً وحيدة متزوِّجة، وهذه البنت الوحيدة نصيبها من الميراث ستَّة عشر مليوناً لم يُعطها إخوتها شيئاً، لأنَّها متزوِّجة، فوراً فطلَّقها زوجها فوراً، فأهلُها ظلموها، وزوجها ظلمها، أعطِ كلَّ ذي حقٍ حقَّه.. لا علاقة لك بغنيٍ أو فقير، فموضوع الحق ليس له علاقة بالغنى أو الفقر.
﴿ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾
 لو ظلمتْ ابنتك صهرك وجارت عليه، فكن عادلاً وأنصف المظلوم، وإذا بغى ابنك على صديقه فرد الباغي: كن عادلاً، وخذ بيد المظلوم.
 لكن أكثر الناس مع ابنه على حقٍ أو على باطل، ومع ابنته على حقٍ أو على باطل، ما الذي يميِّز المؤمن من الكافر ؟ العدل.. وساعة عدلٍ خيرٌ عند الله من أن تعبد الله ثمانين عاماً.
 ساعة عدل.. كلمة عدل خير من الدنيا وما فيها النبيُّ عليه الصلاة والسلام استعرض أسرى بدر فإذا صهره بين الأسرى... أُلقي عليه القبض وأسر لأنَّه كان في عِداد المحاربين يريد أن يقتل المسلمين، فلما استعرض الأسرى قال عليه الصلاة والسلام: والله ما ذممناه صهراً، فهو صهر ممتاز.. لكنه الآن مشرك وجاء ليقاتل وقد وقع أسيراً، هذه الكلمة التي أنصفه بها فعلت فيه فِعل السحر وانتهت به إلى الإيمان.
 من السهل جداً أن تُحبَّ إنساناً محبَّةً عمياء.. ومن السهل جداً أن تبغضه بغضاً أعمى، ولكنَّ الإنصاف يفرض عليك أن تحبَّه وأن تبغِضه بالعدل، أن تحبَّه منصفاً، وأن تبغضه منصفاً، معظم االناس إذا أحبّوا إنساناً ستَّروا كلَّ عيوبه، وإذا أبغضوا إنساناً ستَّروا كلَّ فضائله، فهذا ظلم.
 تعامل أحد أولادك معاملة جيدة وتسيء لأخيه هذا ظلم وتعامل إحدى بناتك بغير ما تعامل أُختها هذا ظلم، تعامل موظَّفاً في المكتب بغير ما تعامل الموظَّف الآخر فهذا ظلم.. ثم وسِّع الأمر كما شئت.
 وفي سورة الحجرات قال تعالى:
﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9))
(سورة الحجرات)
 كثير من الناس يرى أن معاملتك للكافر الفاجر الفاسق الملحد لا غبار عليها مهما أسأت إليه، فلا عليك مثلاً أن تأخذ ماله وأن تضطهده وأن تظلمه، أن تغُشَّه، هذا هو الجهل بعينه، وهذا هو الخطأُ بعينه، وهذا هو الظلم بعينه، قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8))
(سورة المائدة)
﴿ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا ﴾
 يخاطب الله المؤمنين ويحضهم على العدل: من هم أعداء المؤمنين التقليديين ؟ الكفَّار، الفجَّار، العصاة، الفاسقون، المارقون، هؤلاء الكفَّار، الفجَّار، العصاة، المارقون قال تعالى:
﴿ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا ﴾
 مع هؤلاء
﴿ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾
 إن عدلتم معهم قرَّبتموهم إلى الله، وإن عدلتم معهم قرَّبتموهم إليكم، أما إن ظلمتموهم زدّتموهم بعداً، زدّتموهم كفراً.
يسألني أخ وهو في حيرة من أمره: لي ولدان.. أحدهما فاسق والآخر طائع، أريد أن أُعطي الطائع نصيباً أوفر من أخيه. أقول له وبلا تردد: لا تفعل.. إنَّك إن ظلمت الثاني زِدّته عقوقاً، اعدل بينهما والله سبحانه وتعالى يبارك للبار بما أعطيته.
 أنا وقّاف عند كلمة "يبارك" لأنني أطرب لسماعها ويهزني معناها.. يقولون: رجل مبارك، رزق مبارك، زوجة مباركة، بيت مبارك، بارك الله لك، الله يبارك عليك، تباركنا فيك، هذه الكلمات.. تستخدم على أوسع نطاق في العالم الإسلامي، ما معنى بركة ؟ الخير الكثير، ما معنى تبارك الذي بيده الملك ؟ أي ما أعظم خيره وأكثره.
 الله عزَّ وجلَّ أحياناً يبارك لك بمالك أي ينتج لك من الشيء القليل الخير الكثير، مال يكون قليلاً فتنتفع به ببركة الله، تتزوَّج به، تأكل منه تشرب، تلبس، وهو مال قليل، وأحياناً المال الكثير يمحق الله بركته فإذا هو نقمةٌ على صاحبه..
 أما المستقيم فالله عزَّ وجلَّ يبارك له في ماله، وأحياناً يبارك لك بوقتك، في الوقت القليل تفعل الشيء الكثير.
 أحد العلماء ترك كُتُباً من تأليفه وعُدَّت صفحاتها وقسِّمت على سنيِّ حياته فكان نصيب كل يوم تأليف تسعين صفحة، وقد ورد في بعض الأحاديث: أنَّه من أخَّر الصلاة عن وقتها، أذهب الله البركة من عمره، وأنَّ أحبَّ الأعمال إلى الله الصلاة على وقتها.
 فهناك وقت مبارك.. أنت إذا صلَّيت، إذا اقتطعت من وقتك الثمين وقتاً لخدمة الخلق، وقتاً لنشر الحق، وقتاً لنصرة الضعيف، وقتاً لمواساة المسكين، هذا الوقت الذي اقتطعته من وقتك كأنَّه زكاة وقتك.. ومن أدَّى زكاة ماله حفظ الله له بقيَّة ماله.. حصِّنوا أموالكم بالزكاة، ومن أدى زكاة وقته حفِظ الله له بقيَّة وقته، تجد فيما تبقى له من وقت يفعل خلاله الشيء الكثير رغم أنه قصير.
 أحياناً تتعسَّر أمور الإنسان، يطلب أحد أصدقائه فلا يجده فيذهب وأضاع وقته.. أو بعد أن يقوم بإصلاح محرِّك لآلة فينسى أن يضع قطعة صغيرة في محلها، فيفك أجزاءه مرَّةً أخرى وقد أخذ من وقته الساعات الطوال، أحياناً الله عزَّ وجلَّ يذهب لك زبدة وقتك وخلاصته وخيره في أتفه الموضوعات، فقد ينقصك قطعة تبديل لآلة معطَّلة والعمال ينتظرون إحضارها، فتقوم باستيرادها وقد تأتي ناقصة من الخارج - وذلك بأنك ضننت بوقتك على أن تصلِّي أو على أن تحضر مجلس علم، أو أن تطلب العلم، أو أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر أذهب الله البركة من وقتك.. وضيعه سُدى بلا طائل.
 دائماً نعجب من المؤمن.. فالله يوفَّقه بأن يبارك له بوقته ؟ يفعل أشياء كثيرة في وقت قصير هذه هي البركة، ومن هنا كان دعاء القنوت: اللهمَّ اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولَّنا فيمن تولَّيت، وبارك اللهمَّ لنا فيما أعطيت.
 يعطيك دخلاً يكفيك ويغطي جميع نفقاتك، يكفي أن يكون الإنسان معافى في صحَّته، فقد خلّص نفسه من الذهاب إلى الأطباء والمشافي والتصوير الإشعاعي والطبقي المحوري والمرنان، والتحاليل، والذهاب للخارج وتبديل دسام قلبه، أو الكلية، كل ذلك بمئات الألوف، بالملايين.
 إذا استقام الإنسان على أمر الله حفظ الله له صحَّته، إذا أدَّى زكاة ماله حفظ الله له ماله، فلا حريق، ولا ضياع، ولا مصادرات، ولا مخالفات، ولا استملاك، والله ينجيه من كل ذلك.
 فقد سمعت عن رجل والشيء بالشيء يُروى.. له دكّان صغير في سوق شعبي وهو مستقيم طوال حياته، لم يأكل مالاً حراماً إطلاقاً، جاءه رجل وبتطفُّل وبأسلوب عدواني يريد شراء دكانه والرجل يرفض بيعها لأنَّها مورد رزقه. فقال له: أحببت هذا الدكان ويجب أن تبيعني إيَّاها.. فقد وقعت ء في قلبي، وإلا أحسدك، وما زال به حتى باعه إيَّاها بسبعمائة ألف. وهي في سوق شعبي في طرف دمشق، قبض الثمن منه، وبعد عشرة أيام استُملك السوق، فأعطوا الشاري الجديد سبعة آلاف ليرة تعويضاً.
 فالمالك الأول كان صادقاً طوال حياته مع الناس ولم يكذب عليهم، ولم يغشَّهم. فكافأه الله سبحانه بأن حفظ له ماله، سأجعل هذه الدكان تحلو بعين فلان.. فما زال به يلح إلى أن باعه إيَّاها بسبعمائة ألف ثم قبض الآخر تعويضاً لهذه الدكان سبعة آلاف ليرة.
 فلذلك أركِّز على البركة.. فإذا أنت اتقيت الله عزَّ وجلَّ بارك الله لك بوقتك، وبارك لك بصحَّتك، وبارك لك بمالك، وبارك لك بزوجتك.
 فقد حضرت تعزية بوفاة امرأة، وزوجها حيّ وعمره يقارب السبعين وزوجته المتوفاة في الستين، فقد بكى بكاءً غير معقول على الإطلاق.. فهو في السبعين وزوجته المتوفاة في الستين.. فلما انتهى وقت التعزية وذهب المعزَّون جرى حديث بغية وعظ الزوج عن البكاء الشديد وأن عليه أن يصبر ويحتسب. فقال: والله عِشتُ معها خمسةً وأربعين عاماً ما نِمت ليلةً واحدة وأنا غاضبٌ عليها.
 فقد بارك الله له بزوجته.. وقد تجد شخصاً يقول لك: لم أرتح يوماً واحداً معها.. فلا توسط في الزواج لنا الصدر دون العالمين أو القبر، فالزوجة إما بلاء من الله وإما أنها هي الدنيا وزينتها كما في قوله تعالى:
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201))
(سورة البقرة)
﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾
 العلماء فسَّروا حسنة الدنيا بالزوجة الصالحة، التي إن نظرت إليها سرَّتك، وإن أمرتها أطاعتك، وإن غِبت عنها حفظتك في مالك ونفسها.. وهي ستِّيرة، وإذا خلا بها بذلت له ما أراد منها، فبارك الله لك في مالك، وبارك الله لك في وقتك، وبارك الله لك في زوجتك، وبارك الله لك في أولادك..
 تجد ابناً باراً مع أبيه دائماً، فوالله أرى هذه نعمة كبرى، هوفي خدمته، وبأدب وتواضع هذا من فضل الله، فأشعر أن هنالك أسراً ناعمة البال راغدة تاعيش ببر بعضهم لبعض، ففي حياتهم بركة.
 فإذا استقام الإنسان على أمر الله ينال البركة من الله.. وإذا مُحقت البركة يصبح المال نقمة، قد يُقتل من أجل ماله، وقد تكون الزوجة شؤماً قد ينتحر من أجلها وبسببها، وقد يكون الابن شؤماً كذلك.. وهكذا تقلب له الحياة ظهر المجد.
 أيها القارئ الكريم.... أحياناً يكون لك قريب تقول عنه لا دين له، إنه لا يُصلَّي ومغموس في الملذَّات إلى قمَّة رأسه، لكنه يحترمك كثيراً، ويُكبر فيك إيمانك واستقامتك ولك مكانة عنده، فيأتي المؤمن الجاهل أحياناً يسيء إلى هذا الإنسان غير الملتزم بدعوى أنَّه غير ملتزم فاستمع إلى هذه الآية قال تعالى:
﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8))
(سورة الممتحنة)
 هو لا يعارضك ولا يحاربك، ولا يطعن بك، ولا يذُمُّك بليقدِّر فيك استقامتك وإيمانك وصلاتك وهو مقصِّر وغارق في الشهوات، هذا الإنسان ينبغي أن يرى منك كلَّ استقامة وكلَّ بِر وكلَّ إقساط كما في الآية السابقة.
 وهأنذا أؤكِّد أنَّ آلاف الحالات.. حالات التوبة أساسها عمل ذكي بسبب إحسان بادر به مؤمن، فعندما قال الله عزَّ وجلَّ:
﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ(40))
(سورة الشورى)
 يسألني أحياناً أحدهم: هل أستطيع أن أعطي زكاة مالي لقريب لا دين له ؟ فأقول: إن غلب على ظنِّك أنَّ إعطاءه هذا المال يقرِّبه منك ومن الدين فافعل.. أما إذا كان هذا المال يزيده بعداً عنك وعن الدينفلا تفعل.. فالضابط المنظِّم لهذا العمل هو: ما إذا غلب على ظنِّك أنَّ إحسانك إليه يزيده قرباً من الله.
 فدائماً وأبداً.. العدل العدل، فقد قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم:
(( عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّه عَنْهممَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ ))
(صحيح البخاري)
 الأبلغ من ذلك.. أنَّك إذا ظلمت مسلماً، المسلم أبغضك أي أبغض ذاتك، أما إذا ظلمت غير مسلم فإن المظلوم يبغض دينك، ويقول: الإسلام ظلمني.. ينسى الإنسان ويتَّهم الدين كلَّه بالظلم لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
(( أنت على ثغرةٍ من ثُغر الإسلام فلا يؤتَيَنَّ من قبلك ))
 الآية الرابعة في المقسط قال تعالى:
﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47))
(سورة الأنبياء)
 قال: أوفر الناس حظاً من هذا الاسم من ينتصف من نفسه، فلو أخطأت وأنت القوي جداً مع إنسان ضعيف جداً وظلمته فقل له: أنا أخطأت معك وسامحني. فهذا أرقى ما يتصف به أحد بالعدل، أن تنتصف لنفسك ممن هو أضعف منك، أن تنتصف من نفسك وليس لنفسك، أن تنتصر لمن هو أضعف منك.
 أحياناً يكون الزوج في البيت هو كل شيء وعنده زوجة ضعيفة إذا أخطأ قال لها: أنا أخطأت وهذا خطئي.. فهذا أعلى درجات الإنصاف.
 وقد يكون عندك صانع يعمل لديك في الدكان، وهو شاب وإخراجه من ممكن المحل بكلمة واحدة: اذهب ولا تعد.. وأخطأت معه والصانع خاف منك، فعليك أن تقول أنا أخطأت وهذا الخطأ خطئي ؟ هذه أعلى درجة من أنواع الكمال والإنصاف.. ألم يرد في الأثر وكرره العلماء كثيراً:
(( تخلَّقوا بأخلاق الله ))
 والإمام الغزالي يقول: " إنَّ أوفر الناس حظاً من هذا الاسم من ينتصف أولاً من نفسه ".
 فقد يكون الإنسان بموقع لا أحد يستطيع محاسبته، فكماله أن ينتصف من نفسه، وأن يعترف بخطئه.
 سمعت عن طبيب في مصر، وصف دواء لطفل صغير الجرعة منه تعطى لكبير، وبحسب علمه لو تناول هذه الجرعة لمات الطفل من فوره، فماذا يفعل؟ لا يوجد عنده عنوانه وهو في مستوصف عام فاتصل بوسائل الإعلام وقال أرجو أن تبلغوا المواطنين أن رجلاً وابنه دخلا إلى المستوصف الفلاني وقد أعطيتهما وصفة فليمتنعا عن أخذ الوصفة وإلا يموت الطفل، فهو إذا سكت لا أحد يعلم وقد يموت الطفل دون أن يكون مداناً لكنه أعلن على الملأ أمام خمسين مليون أنني أخطأت والشيء الذي لا يصدق أن الذي أخذ هذا الدواء وصله الخبر قبل أن يعطي لإبنه الدواء، فالذي حصل عكس ماتصور الطبيب، فإنه اكتسب سمعة وشهرة تفوق حد الخيال.
 الإمام الغزالي يقول: " إن أوفر الناس حظاً من هذا الاسم من ينتصف أولاً من نفسه ثم ينتصف من غيره نعم، أولاً من نفسه ثم من غيره ".
 وقال بعض العارفين: " متى أكثر العبد من ذكر اسم المقسط أشرق عليه نوره، فسرى في جوارحه، فعدل فيها ".
 يهودي دخل على سيدنا عمر يشكو سيدنا علياً، فقال له: قم يا أبا الحسن فقف إلى جانب الرجل.. فأصبح على خصماً في قاعة القضاء وهو من المقربين لعمر.. فوقف، وتغيَّر لون سيدنا علي، فلما حكم له وانصرف اليهودي قال له: أوجدت عليَّ يا أبا الحسن ؟ فقال: نعم. فقال له: لِمَ ؟ فقال: لأنك قلت لي يا أبا الحسن ولم تقل لي يا علي، لقد ميَّزتني عليه..... ما هذه النزاهة ؟‍ لِمَ لم تقل لي قم يا على فقف إلى جانب الرجل قلت لي قم يا أبا الحسن ؟ بهذا قامت السماوات والأرض، نعم قامت بالعدل.
 أُعيد على مسامع القراء قصةً ذكرتها في أول البحث ليكون عوداً على بدء عندما أرسل سيدنا رسول الله إلى بني النضير عبد الله بن رواحة ليأخذ ما اتفقوا عليه من ثمارهم وزروعهم، أرادوا أن يرشوه ليترفَّق بهم، فعلم ذلك فقال: لقد جئتكم من عند أحبِّ الخلق إليّ، ولأنتم أبغض خلق الله إلي من عددكم من القردة والخنازير، ومع ذلك لا يحملني حبي لمحمد عليه الصلاة والسلام ولا بغضي لكم إلا أن أعطيكم حقكم وأن آخذ حقي فقال اليهود: بهذا قامت السماوات والأرض، وبهذا تغلبوننا.
 وأنت تقوم وتقوى بالعدل، وتسقط بالظلم.. ألا ترون معي أنَّ العالم كله يَئنُّ من أن الظلام يكيلون بمكيالين، ومن أنهم يقيسون بمقياسين، يشددون التنكير على من يُهتمَّ بقتل إنسان ولا ولا يحاسبون من يتهمون بقتل شعب، ألا يشعر بالظلم كلُّ العالم اليوم.
 لذلك كما قال سيدنا رسول الله:
(( عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُمْلأُ الأَرْضُ جَوْرًا وَظُلْمًا فَيَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ عِتْرَتِي يَمْلِكُ سَبْعًا أَوْ تِسْعًا فَيَمْلأُ الأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلا ))
(مسند الإمام أحمد)
 هذا الاسم من أخطر الأسماء في دنيا الناس.. بهذا قامت السماوات والأرض، لاتصلح سواء أكنت زوجاً، أو تاجراً، أو موظفاً إلا بالعدل، والعدل أساس الملُك، والعدل يزيدك قوةً، والعدل أن تنتصف من نفسك قبل أن تنتصف من غيرك، أن تقول أخطأت على الملأ فهذا الذي يرفعك عند الله عزَّ وجلَّ.
 من أدعية هذا الاسم: إلهي أنت المقسط في الأحكام، المتفضِّل بالإسلام، عدلت في أقدارك الأزلية، وتفضَّلت في حِكَمِك العلية