حد الحرابة
تعريفها:
الحرابة - وتسمى أيضا قطع الطريق - هي خروج طائفة مسلحة في دار الإسلام، لاحداث الفوضى، وسفك الدماء، وسلب الأموال، وهتك الاعراض، وإهلاك الحرث والنسل، متحدية بذلك الدين والاخلاق والنظام والقانون.
ولا فرق بين أن تكون هذه الطائفة من المسلمين، أو الذميين، أو المعاهدين أو الحربيين، مادام ذلك في دار الإسلام، وما دام عدوانها على كل محقون الدم، قبل الحرابة من المسلمين والذميين.
وكما تتحقق الحرابة بخروج جماعة من الجماعات، فإنها تتحقق كذلك بخروج فرد من الافراد.
فلو كان لفرد من الافراد فضل جبروت وبطش، ومزيد قوة وقدرة يغلب بها الجماعة على النفس والمال، والعرض، فهو محارب وقاطع طريق.
ويدخل في مفهوم الحرابة العصابات المختلفة، كعصابة القتل، وعصابة خطف الاطفال، وعصابة اللصوص للسطو على البيوت، والبنوك، وعصابة خطف البنات والعذارى للفجور بهن، وعصابة اغتيال الحكام ابتغاء الفتنة واضطراب الأمن، وعصابة إتلاف الزروع وقتل المواشي والدواب.
وكلمة الحرابة مأخوذة من الحرب، لأن هذه الطائفة الخارجة على النظام تعتبر محاربة للجماعة من جانب ومحاربة للتعاليم الإسلامية التي جاءت لتحقق أمن الجماعة وسلامتها بالحفاظ على حقوقها، من جانب آخر.
فخروج هذه الجماعة على هذا النحو يعتبر محاربة، ومن ذلك أخذت كلمة الحرابة، وكما يسمى هذا الخروج على الجماعة وعلى دينها حرابة، فإنه يسمى أيضا قطع طريق، لأن الناس ينقطعون بخروج هذه الجماعة عن الطريق، فلا يمرون فيه، خشية أن تسفك دماؤهم، أو تسلب أموالهم، أو تهتك أعراضهم أو يتعرضون لما لا قدرة لهم على مواجهته، ويسميها بعض الفقهاء بالسرقة الكبرى.
.الحرابة جريمة كبرى:
والحرابة - أو قطع الطريق - تعتبر من كبريات الجرائم، ومن ثم أطلق القرآن الكريم على المتورطين في ارتكابها أقصى عبارة فجعلهم محاربين لله ورسوله، وساعين في الأرض بالفساد وغلظ عقوبتهم تغليظا لم يجعله لجريمة أخرى.
يقول الله سبحانه: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الاخرة عذاب عظيم} ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعلن أن من يرتكب هذه الجناية ليس له شرف الانتساب إلى الإسلام، فيقول: «من حمل علينا السلاح فليس منا» رواه البخاري، ومسلم من حديث ابن عمر.
وإذا لم يكن له هذا الشرف وهو حي، فليس له هذا الشرف بعد الوفاة، فإن الناس يموتون على ما عاشوا عليه، كما يبعثون على ما ماتوا عليه.
وروى أبو هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من خرج على الطاعة، وفارق الجماعة ومات، فميتته جاهلية». أخرجه مسلم.
.شروط الحرابة:
ولا بد من توافر شروط معينة في المحاربين حتى يستحقوا العقوبة المقررة لهذه الجريمة: وجملة هذه الشروط هي:
1- التكليف.
2- وجود السلاح.
3- البعد عن العمران.
4- المجاهرة.
ولم يتفق الفقهاء على هذه الشروط، وإنما لهم فيها مناقشات نجملها فيما يلي:
.1- شرط التكليف:
يشترط في المحاربين: العقل، والبلوغ، لأنهما شرطا التكليف الذي هو شرط في إقامة الحدود.
فالصبي والمجنون لا يعتبر الواحد منهما محاربا، مهما اشترك في أعمال المحاربة، لعدم تكليف واحد منهما شرعا، ولم يختلف في ذلك الفقهاء، ولكن اختلفوا فيما إذا اشترك في الحرابة صبيان أو مجانين.
فهل يسقط الحد عمن اشتركوا فيها بسقوطه عن هؤلاء الصبيان أو المجانين؟ قالت الأحناف: نعم يسقط الحد، لأنه إذا سقط عن البعض، فإن هذا السقوط يسري إلى الكل باعتبار أنهم جميعا متضامنون في المسؤولية، وإذا سقط حد الحرابة نظر في الاعمال التي ارتكبت على أنها جرائم عادية يعاقب عليها بالعقوبات المقررة لها.
فإن كانت الجريمة قتلا رجع الأمر إلى ولي الدم، فله أن يعفو، وله أن يقتص وهكذا في بقية الجرائم.
ومقتضى المذهب المالكي، والمذهب الظاهري وغيرهما إنه إذا سقط حد الحرابة عن الصبيان والمجانين، فإنه لا يسقط عن غيرهم ممن اشتركوا في الاثم والعدوان، لأن هذا الحد هو حق لله تعالى، وهذا الحق لا ينظر فيه إلى الافراد.
ولا تشترط الذكورة ولا الحرية، لأنه ليس للانوثة ولا للرق تأثير على جريمة الحرابة، فقد يكون للمرأة والعبد من القوة مثل ما لغيرهما، من التدبير وحمل السلاح والمشاركة في التمرد والعصيان، فيجري عليهما ما يجري على غيرهما من أحكام الحرابة.
.2- شرط حمل السلاح:
ويشترط في المحاربين أن يكون معهم سلاح، لأن قوتهم التي يعتمدون عليها في الحرابة: إنما هي قوة السلاح، فإن لم يكن معهم سلاح فليسوا بمحاربين، لأنهم لا يمنعون من يقصدهم، وإذا تسلحوا بالعصي والحجارة، فهل يعتبرون محاربين؟ اختلف الفقهاء في ذلك.
فقال الشافعي، ومالك، والحنابلة، وأبو يوسف، وأبو ثور، وابن حزم:
وإنهم يعتبرون محاربين لأنه لا عبرة بنوع السلاح، ولا بكثرته، وإنما العبرة بقطع الطريق.
وقال أبو حنيفة: ليسوا بمحاربين.
.3- شرط الصحراء والبعد عن العمران:
واشترط بعض الفقهاء أن يكون ذلك في الصحراء، فإن فعلوا ذلك في البنيان لم يكونوا محاربين، ولان الواجب يسمى حد قطاع الطريق، وقطع الطريق إنما هو في الصحراء، ولان في المصر يلحق الغوث غالبا فتذهب شوكة المعتدين، ويكونون مختلسين، والمختلس ليس بقاطع، ولا حد عليه.
وهو قول أبي حنيفة، والثوري، وإسحاق، وأكثر فقهاء الشيعة.
وقول الخرقي من الحنابلة، وجزم به في الوجيز.
وذهب فريق آخر إلى أن حكمهم في المصر والصحراء واحد، لأن الآية بعمومها تتناول كل محارب.
ولأنه في المصر أعظم ضررا، فكان أولى.
ويدخل في هذا العصابات التي تتفق على العمل الجنائي من السلب، والنهب، والقتل.
وهذا مذهب الشافعي، والحنابلة، وأبي ثور.
وبه قال الاوزاعي والليث والمالكية، والظاهرية.
والظاهر أن هذا الاختلاف يتبع اختلاف الأمصار.
فمن راعى شرط الصحراء نظر إلى الحال الغالبة، أو أخذه من حال زمنه الذي لم يقع فيه مثل ذلك في مصره، وعلى العكس من ذلك من لم يشترط هذا الشرط.
ولذا يقول الشافعي: إن السلطان إذا ضعف ووجدت المغالبة في المصر كانت محاربة.
وأما غير ذلك فهو اختلاس عنده.
.4- شرط المجاهرة:
ومن شروط الحرابة المجاهرة بأن يأخذوا المال جهرا، فإن أخذوه مختفين فهم سراق، وإن اختطفوه وهربوا، فهم منتهبون، لا قطع عليهم، وكذلك إن خرج الواحد والاثنان على آخر قافلة، فسلبوا منها شيئا، لأنه لا يرجعون إلى منعة وقوة، وإن خرجوا على عدد يسير فقهروهم، فهم قطاع طريق.
وهذا مذهب الأحناف والشافعية والحنابلة.
وخالف في ذلك المالكية والظاهرية.
قال ابن العربي المالكي: والذي نختاره أن الحرابة عامة في المصر والقفر، وإن كان بعضها أفحش من بعض، ولكن اسم الحرابة يتناولها، ومعنى الحرابة موجود فيها، ولو خرج بعضا في المصر يقتل بالسيف ويؤخذ فيه بأشد من ذلك لا بأيسره.
فإنه سلب غيلة، وفعل الغيلة أقبح من فعل المجاهرة، ولذلك دخل العفو في قتل المجاهرة فكان قصاصا، ولم يدخل في قتل الغيلة، فكان حرابة، فتحرر أن قطع السبيل موجب للقتل.
وقال: لقد كنت أيام تولية القضاء قد رفع إلي أمر قوم خرجوا محاربين في رفقة، فأخذوا منهم امرأة - مغالبة على نفسها من زوجها، ومن جملة المسلمين معه - فاختلوا بها، ثم جد فيهم الطلب، فأخذوا وجئ بهم، فسألت من كان ابتلاني الله به من المفتين، فقالوا: ليسوا محاربين، لأن الحرابة إنما تكون في الأموال لا في الفروج فقلت لهم: إنا لله وإنا إليه راجعون ألم تعلموا أن الحرابة في الفروج أفحش منها في الأموال، وإن الناس ليرضون أن تذهب أموالهم وتحرب بين أيديهم، ولا يرضون أن يحرب المرء في زوجته وبنته؟ ولو كان فوق ما قال الله عقوبة لكانت لمن يسلب الفروج، وحسبكم من بلاء صحبة الجهال، وخصوصا في الفتيا والقضاء.
وقال القرطبي: والمغتال كالمحارب، وهو أن يحتال في قتل إنسان على أخذ ماله، وإن لم يشهر السلاح، ولكن دخل عليه بيته أو صحبه في سفر، فأطعمه سما فقتله، فيقتل حدا لا قودا، وقريب من هذا القول رأي ابن حزم حيث يقول: إن المحارب هو المكابر، المخيف لأهل الطريق، المفسد في سبل الأرض، سواء بسلاح أم بلا سلاح أصلا سواء ليلا أم نهارا، في مصر أم فلاة، أم في قصر الخليفة، أم في الجامع سواء، وسواء فعل ذلك بجند أم بغير جند، منقطعين في الصحراء أم أهل قرية، سكانا في دورهم أم أهل حصن كذلك، أم أهل مدينة عظيمة أم غير عظيمة، كذلك واحد أم أكثر، كل من حارب المارة وأخاف السبيل بقتل نفس أو أخذ مال، أو لجراحة، أو لانتهاك عرض، فهو محارب عليه وعليهم، كثروا أو قلوا.
ومن ثم يتبين أن مذهب ابن حزم وأسع المذاهب بالنسبة للحرابة، ومثله في ذلك المالكية، لأن كل من أخاف السبيل على أي نحو من الانحاء، وبأي صورة من الصور، يعتبر محاربا مستحقا لعقوبة الحرابة.
عقوبة الحرابة: أنزل الله سبحانه في جريمة الحرابة قوله: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الاخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم}.
فهذه الآية نزلت فيمن خرج من المسلمين يقطع السبيل ويسعى في الأرض بالفساد، لقوله سبحانه: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم}.
وقد أجمع العلماء على أن أهل الشرك إذا وقعوا في أيدي المسلمين، فأسلموا فإن الإسلام يعصم دماءهم وأموالهم وإن كانوا قد ارتكبوا من المعاصي قبل الإسلام ما يستوجب العقوبة: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} فدل ذلك على أن الآية نزلت في أهل الإسلام، ومعنى يحاربون الله ورسوله، أي يحاربون المسلمين بما يحدثونه من اضطراب، وفوضى وخوف وقلق، ويحاربون الإسلام بخروجهم عن تعاليمه وعصيانهم لها.
فإضافة الحرب إلى الله ورسوله إيذان بأن حرب المسلمين كأنها حرب الله تعالى ولرسوله، كقوله تعالى: {يخادعون الله والذين آمنوا} فالمحاربة هنا مجازية.
قال القرطبي: يحاربون الله ورسوله، إستعارة، ومجاز، إذ الله سبحانه وتعالى لا يحارب ولا يغالب لما هو عليه من صفات الكمال، ولما وجب له من التنزيه عن الاضداد والانداد والمعنى يحاربون أولياء الله.
فعبر بنفسه العزيزة عن أوليائه إكبارا لاذيتهم كما عبر بنفسه عن الفقراء والضعفاء في قوله تعالى: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا}.
حثا على الاستعطاف عليهم، ومثله في صحيح السنة: «استطعمتك فلم تطعمني» اه.
سبب نزول هذه الآية: قال الجمهور في سبب نزول هذه الآية: إن العرنيين قدموا المدينة فأسلموا، واستوخموها، وسقمت أجسامهم، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج إلى إبل الصدقة، فخرجوا، وأمر لهم بلقاح ليشربوا من ألبانها فانطلقوا، فلما صحوا قتلوا الراعي وارتدوا عن الإسلام وساقوا الإبل فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم، فما ارتفع النهار حتى جئ بهم فأمر بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وتسمل أعينهم، وتركهم في الحرة يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا.
قال أبو قلابة: فهؤلاء قوم سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله، فأنزل الله عزوجل: {إنما الذين يحاربون الله ورسوله} الآية.
.العقوبات التي قررتها الآية الكريمة:
والعقوبة التي قررتها هذه الآية للذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا هي إحدى عقوبات أربع:
1- القتل.
2- أو الصلب.
3- أو تقطيع الايدي والارجل من خلاف.
4- أو النفي من الأرض.
وهذه العقوبات جاءت في الآية معطوفة بحرف أو، فقال بعض العلماء: إن العطف بها يفيد التخيير، ومعنى هذا أن للحاكم أن يتخير عقوبة من هذه العقوبات، حسب ما يراه من المصلحة، بصرف النظر عن الجريمة التي ارتكبها المحاربون.
وقال أكثر العلماء: إن أو لنا للتنويع لا للتخيير ومقتضاه أن تتنوع العقوبة حسب الجريمة، وأن هذه العقوبات على ترتيب الجرائم لا على التخيير.
.حجة القائلين بأن أو للتخيير:
قال الفريق الأول: إن هذا ما تقتضيه اللغة، ويتمشى مع نظم الآية، ولم يثبت من السنة ما يصرف ما دلت عليه من هذا المعنى.
فكل من حارب الله ورسوله وسعى في الأرض بالفساد، فإن عقوبته إما القتل، أو الصلب، أو القطع، أو النفي من الأرض حسب ما يكون من المصلحة التي يراها الحاكم في تنفيذ إحدى هذه العقوبات، سواء قتلوا أم لم يقتاوا، وسواء أخذوا المال أم لم يأخذوا، وسواء ارتكبوا جريمة واحدة أم أكثر.
وليس في الآية ما يدل على أن للحاكم أن يجمع أكثر من عقوبة واحدة أو يترك المحاربين دون عقاب.
قال القرطبي: قال أبو ثور: الإمام مخير على ظاهر الآية، وكذلك قال مالك، وهو مروي عن ابن عباس، وهو قول سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز، ومجاهد، والضحاك، والنخعي، كلهم قال: الإمام مخير في الحكم على المحاربين، يحكم عليهم بأي الاحكام التي أوجبها الله تعالى من: القتل، أو الصلب، أو القطع، أو النفي بظاهر الآية.
قال ابن عباس: ما كان في القرآن أو فصاحبه بالخيار.
وهذا قول أشعر بظاهر الآية.
قال ابن كثير: إن ظاهر - أو - للتخيير، كما في نظائر ذلك من القرآن كقوله تعالى في جزاء الصيد: {فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما}.
وكقوله في كفارة الفدية: {فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك}.
وكقوله في كفارة اليمين: {فإطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة}.
هذه كلها على التخيير، فكذلك فلتكن هذه الآية.
حجة القائلين بأن أو للتنويع:
أما الفريق الثاني فقد استدل بما روي عن ابن عباس، وهو من أعلم الناس باللغة وأفقههم في القرآن الكريم، فقد روى الشافعي في مسنده عنه رضي الله عنه قال: إذا قتلوا وأخذوا الأموال صلبوا. وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا. وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف. وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا نفوا من الأرض.
قال ابن كثير ويشهد لهذا التفصيل الحديث الذي رواه ابن جرير في تفسيره - إن سنده - قال: حدثنا علي بن سهل، حدثنا الوليد بن مسلم، عن يزيد بن حبيب: أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الآية، فكتب إليه يخبره أنها نزلت في أولئك النفر العرنيين، وهم من بجيلة، قال أنس: فارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي، واستاقوا الإبل، وأخافوا السبيل، وأصابوا الفرج الحرام.
قال أنس: فسأل الرسول صلى الله عليه وسلم جبرائيل عليه السلام عن القضاء فيمن حارب فقال: «من سرق مالا وأخاف السبيل فاقطع يده بسرقته ورجله بإخافته، ومن قتل اقتله، ومن قتل وأخاف السبيل واستحل الفرج الحرام فاصلبه».
وقالوا: إن الذي يرجح أن الآية لتفصيل العقوبات، لا للتخيير هو أن الله جعل لهذا الافساد درجات من العقاب لأن إفسادهم متفاوت، منه القتل، ومنه السلب والنهب، ومنه هتك العرض، ومنه إهلاك الحرث والنسل.
ومن قطاع الطرق من يجمع بين جريمتين أو أكثر من هذه، فليس الحاكم مخيرا في عقاب من شاء منهم بما شاء، بل عليه أن يعاقب كلا منهم بقدر جرمه ودرجة إفساده، وهذا هو العدل: {وجزاء سيئة سيئة مثلها}.
وهذا مذهب الشافعي، وأحمد في أصح الروايات عنه، وقول أبي حنيفة على تفصيل في ذلك - وقد ناقش الكاساني في البدائع رأي القائلين بأن أو للتخيير نقاشا علميا، فقال: إن التخيير الوارد في الاحكام المختلفة من حيث الصورة بحرف التخيير، إنما يجري ظاهره إذا كان سبب الوجوب واحد، كما في كفارة اليمين، وكفارة جزاء الصيد.
أما إذا كان مختلفا فيخرج مخرج بيان الحكم لكل في نفسه، كما في قوله تعالى: {قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا}.
إن ذلك ليس للتخيير بين المذكورين، بل لبيان الحكم لكل في نفسه، لاختلاف سبب الوجوب.
وتأويله: إما أن تعذب من ظلم، أو تتخذ الحسن فيمن آمن وعمل صالحا.
ألا ترى إلى قوله تعالى: {قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى}.
وقطع الطريق متنوع في نفسه وإن كان متحدا من حيث الاصل، فقد يكون بأخذ المال وحده، وقد يكون بالقتل لا غير، وقد يكون بالجمع بين الأمرين، وقد يكون بالتخويف لا غير، فكان سبب الوجوب مختلفا فلا يحمل على التخيير، بل على بيان الحكم لكل نوع، أو يحتمل هذا ويحتمل ما ذكر فلا يكون حجة مع الاحتمال.
وإذا لم يمكن صرف الآية الشريفة إلى ظاهر التخيير في مطلق المحارب.
فإما أن يحمل على الترتيب ويضمر في كل حكم مذكور نوع من أنواع قطع الطريق، كأنه سبحانه وتعالى قال: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا} إن قتلوا، أو يصلبوا، إن أخذوا المال وقتلوا، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، إن أخذوا المال لا غير، أو ينفوا من الأرض، إن أخافوا، هكذا ذكر جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما قطع أبو بردة الاسلمي بأصحابه الطريق على أناس جاؤوا يريدون الإسلام.
فقد قال عليه السلام: «إن من قتل قتل، ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف، ومن قتل وأخذ المال صلب، ومن جاء مسلما هدم الإسلام ما كان قبله من الشرك».
.بسط رأي القائلين بتنوع العقوبة إذا اختلفت الجريمة:
قلنا إن جمهور الفقهاء يرى أن العقوبة تتنوع حسب نوع الجريمة، وإن ذلك ينقسم إلى أقسام:
.1- أن تكون الحرابة مقصورة على إخافة المارة وقطع الطريق:
ولم يرتكب المحاربون شيئا وراء ذلك، فهؤلاء ينفون من الأرض، والنفي من الأرض معناه إخراج المحاربين من البلد الذي أفسدوا فيه إلى غيره من بلاد الإسلام. إلا إذا كانوا كفارا فيجوز إخراجهم إلى بلاد الكفر.
وحكمة ذلك أن يذوق هؤلاء وبال أمرهم بالابتعاد والنفي، وأن تطهر المنطقة التي عاثوا فيها فسادا من شرورهم ومفاسدهم، وأن ينسى الناس ما كان منهم من أثر سئ وذكرى أليمة.
وروي عن مالك أن النفي معناه الاخراج إلى بلد آخر، ليسجنوا فيه حتى تظهر توبتهم، واختاره ابن جرير.
ويرى الأحناف أن النفي هو الجسن ويبقون في السجن حتى يظهر صلاحم لأن السجن خروج من سعة الدنيا إلى ضيقتها، فصار من سجن كأنه نفي من الأرض إلا من موضع سجنه، واحتجوا بقول بعض أهل السجون في ذلك:
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها ** فلسنا من الأموات فيها ولا الاحيا إذا جاءنا السجان يوما لحاجة ** عجبنا وقلنا: جاء هذا من الدنيا!.
.2- أن تكون الحرابة بأخذ المال من غير قتل:
وعقوبة ذلك قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، لأن هذه الجناية زادت على السرقة بالحرابة، وما يقطع منهما يحسم في الحال، بكي العضو المقطوع بالنار أو بالزيت المغلي أو بأية طريقة أخرى، حتى لا يستنزف دمه فيموت.
وإنما كان القطع من خلاف حتى لا تفوت جنس المنفعة فتبقى له يد يسرى ورجل يمنى ينتفع بهما، فإن عاد هذا المقطوع إلى قطع الطريق مرة أخرى قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى، وقد اشترط جمهور الفقهاء أن يكون مبلغ المال المسروق نصابا، وأن يكون من حرز، لأن السرقة جريمة لها عقوبة مقررة، فإذا وقعت الجريمة تعبها جزاؤها، سواء أكان مرتكبها فردا أم جماعة.
فإن لم يبلغ المال نصابا ولم يكن من حرز فلا قطع، فإن كانوا جماعة، فهل يشترط أن تبلغ حصة كل واحد منهم نصابا أو لا؟ أجاب عن ذلك ابن قدامة فقال: وإذا أخذوا ما يبلغ نصابا ولا تبلغ حصة كل واحد منهم نصابا قطعوا، قياسا على قولنا في السرقة.
وقياس قول الشافعي وأصحاب الرأي أنه لا يجب القطع حتى تبلغ حصة كل واحد منهم نصابا.
ويشترط ألا تكون لهم شبهة.
ولم يوافق مالك ولا الظاهرية على هذا الرأي، فلم يشترطوا في المال المسروق بلوغ النصاب ولا كونه محرزا، لأن الحرابة نفسها جريمة تستوجب العقوبة بقطع النظر عن النصاب والحرز.
فجريمة الحرابة غير جريمة السرقة، وعقوبة كل منهما مختلفة، لأن الله تعالى قدر للسرقة نصابا، ولم يقدر في الحرابة شيئا، بل ذكر جزاء المحارب فاقتضى ذلك توفية الجزاء لهم على المحاربة.
وإذا كان في الجناة من هو ذو رحم محرم ممن سرقت أموالهم فإنه لاقطع عليه، ويقطع الباقون الذين شاركوه من الجناة عند الحنابلة وأحد قولي الشافعي.
وقال الأحناف: لا يقطع واحد منهم لوجود الشبهة بالنسبة للقريب، والجناة متضامنون فإذا سقط الحد عن القريب سقط عن الجميع.
ورجح ابن قدامة رأي الشافعية والحنابلة فقال: إنها شبهة اختص بها واحد، فلا يسقط الحد عن الباقين ومعنى هذا أن شبهة الاسقاط لا تتجاوز ذا الرحم، فلا يقاوم عليه الحد وحده، لأن الشبهة لا تتجاوزه. اهـ.
.3- أن تكون الحرابة بالقتل دون أخذ للمال:
وهذا يستوجب القتل متى قدر الحاكم عليهم، ويقتل جميع المحاربين وإن كان القاتل واحدا، كما يقتل الردء - وهو الطليعة - لأنهم شركاء في المحاربة والافساد في الأرض.
ولاعبرة بعفو ولي الدم أو رضاه بالدية، لأن عفو ولي الدم أو رضاه بالدية في القصاص لافي الحرابة.
.4- أن تكون الحرابة بالقتل وأخذ المال:
وفي هذا القتل والصلب أي أن عقوبتهم أن يصلبوا أحياء ليموتوا، فيربط الشخص على خشبة أو عمود أو نحوهما منتصب القامة. ممدود اليدين، ثم يطعن حتى يموت.
ومن الفقهاء من قال: إنه يقتل أولا ثم يصلب للعبرة والعظة.
ومنهم من قال: إنه لا يبقى على الخشبة أكثر من ثلاثة أيام.
وكل ما تقدم فإنه اجتهاد من الائمة.
وهوفي نطاق تفسير الآية الكريمة،
وكل إمام له وجهة نظر صحيحة، فمن رأى تخيير الحاكم في اختيار إحدى العقوبات المقررة فوجهته ما دل عليه العطف بحرف - أو - وأن الأمر متروك للحاكم يختار منها ما تدرأ به المفسدة وتتحقق به المصلحة. وأن من رأى أن لكل جريمة عقوبة محددة في الآية، فوجهه تحقيق العدالة مع رعاية ما تندرئ به المفاسد وتقوم بهالمصالح، فالكل مجمع على تحقيق غاية الشريعة من درء المفاسد وتحقيق المصالح.
وهذا الاجتهاد يسهل على أولياء الأمور فهم النصوص وييسر طريق الاجتهاد، ويعين طالب العلم على الوصول إلى الحقيقة.
ولا شك أن أعمالا كثيرة تحدث من المحاربين المفسدين غير هذه الاعمال التي أشار إليها الفقهاء.
ويمكن استنباط أحكام لها مناسبة في ضوء ما استنبطه الفقهاء من الآية الكريمة من أحكام جزئية.
رد اعتراض ودفع إشكال:
قال في المنار: روى عبد بن حميد، وابن جرير عن مجاهد أن الفساد هنا: الزنا، والسرقة، وقتل النساء، وإهلاك الحرث والنسل، وكل هذه الاعمال من الفساد في الأرض.
واستشكل بعض الفقهاء قول مجاهد: بأن هذه الذنوب والمفاسد لها عقوبات في الشرع غير ما في الآية، فللزنا والسرقة والقتل، حدود، وإهلاك الحرث والنسل يقدر بقدره ويضمنه الفاعل ويعزره الحاكم بما يؤديه إليه اجتهاده.
وفات هؤلاء المعترضين أن العقاب المنصوص في الآية خاص بالمحاربين من المفسدين الذين يكاثرون أولي الأمر، ولا يذعنون لحكم الشرع، وتلك الحدود إنما هي للسارقين، والزناة أفرادا، الخاضعين لحكم الشرع فعلا.
وقد ذكر حكمهم في الكتاب العزيز بصيغة اسم الفاعل المفرد كقوله، سبحانه {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما}، وقال: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} وهم يستخفون بأفعالهم، ولا يجهرون بالفساد حتى ينتشر بسوء القدوة بهم ولا يؤلفون له العصائب ليمنعوا أنفسهم من الشرع بالقوة فلهذا لا يصدق عليهم أنهم محاربو الله ورسوله ومفسدون، والحكم هنا منوط بالوصفين معا.
وإذا أطلق الفقهاء لفظ المحاربين فإنما يعنون به المحاربين المفسدين، لأن الوصفين متلازمان انتهى واجب الحاكم والأمة حيال الحرابة: والحاكم والأمة معا مسئولون عن حماية النظام وإقرار الأمن وصيانة حقوق الافراد في المحافظة على دمائهم وأموالهم وأعراضهم، فإذا شذت طائفة، فأخلوا السبيل، وقطعوا الطريق، وعرضوا حياة الناس للفوضى والاضطراب.
وجب على الحاكم قتال هؤلاء، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع العرنيين، وكما فعل خلفاؤه من بعده، ووجب على المسلمين كذلك أن يتعاونوا مع الحاكم على استئصال شأفتهم وقطع دابرهم، حتى ينعم الناس بالأمن والطمأنينة، ويحسوا بلذة السلام والاستقرار وينصرف كل إلى عمله مجاهدا في سبيل الخير لنفسه، ولاسرته، ولامته، فإن انهزم هؤلاء في ميدان القتال، وتفرقوا هنا وهناك، وانكسرت شوكتهم، لم يتبع مدبرهم، ولم يجهز على جريحهم إلا إذا كانوا قد ارتكبوا جناية القتل، وأخذوا المال، فإنهم يطاردون حتى يظفروا بهم ويقام عليهم حد الحرابة.
توبة المحاربين قبل القدرة عليهم: إذا تاب المحاربون المفسدون في الأرض قبل القدرة عليهم، وتمكن الحاكم من القبض عليهم، فإن الله يغفر لهم ما سلف، ويرفع عنهم العقوبة الخاصة بالحرابة لقول الله سبحانه:
{ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم}.
وإنما كان ذلك كذلك، لأن التوبة قبل القدرة عليهم والتمكن منهم دليل على يقظة الضمير والعزم على استئناف حياة نظيفة بعيدة عن الافساد والمحاربة لله ولرسوله، ولهذا شملهم عفو الله وأسقط عنهم كل حق من حقوقه إن كانوا قد ارتكبوا ما يستوجب العقوبة، أما حقوق العباد فإنها لا تسقط عنهم، وتكون العقوبة حينئذ ليست من قبيل الحرابة، وإنما تكون من باب القصاص.
والأمر في ذلك يرجع إلى المجني عليهم لا إلى الحاكم، فإن كانوا قد قتلوا سقط عنهم تحتم القتل، ولولي الدم العفو أو القصاص، وإن كانوا قد قتلوا وأخذوا المال، سقط الصلب وتحتم القتل وبقي القصاص وضمان المال.
وإن كانوا قد أخذوا المال سقط القطع وأخذت الأموال منهم إن كانت بأيديهم، وضمنوا قيمة ما استهلكوا، لأن ذلك غصب فلا يجوز ملكه لهم، ويصرف إلى أربابه أو يجعله الحاكم عنده حتى يعلم صاحبه لأن توبتهم لا تصح إلا إذا أعادوا الأموال المسلوبة إلى أربابها.
فإذا أرى أولو الأمر إسقاط حق مالي عن المفسدين من أجل المصلحة العامة، وجب أن يضمنوه من بيت المال.
ولقد لخص ابن رشد في بداية المجتهد أقوال العلماء في هذه المسألة فقال: وأما ما تسقطه عنه التوبة فاختلفوا في ذلك على أربعة أقوال:
1- أحدها أن التوبة إنما تسقط حد الحرابة فقط، ويؤخذ، بما سوى ذلك من حقوق الله وحقوق الآدميين وهو قول مالك.
2- والقول الثاني أنها تسقط عنه حد الحرابة وجميع حقوق الله من الزنا، والشراب، والقطع في السرقة، ولا تسقط حقوق الناس من الأموال، والدماء إلا أن يعفو أولياء المقتول.
3- والقول الثالث: أن التوبة ترفع جميع حقوق الله، ويؤخذ في الدماء وفي الأموال بما وجد بعينه.
4- والقول الرابع: أن التوبة تسقط جميع حقوق الآدميين من مال، ودم، إلا ما كان من الأموال قائما بعينه.
شروط التوبة: للتوبة ظاهر وباطن، ونظر الفقه إلى الظاهر دون الباطن الذي لا يعلمه إلا الله، فإذا تاب المحارب قبل القدرة عليه، قبلت توبته وترتبت عليها آثارها، واشترط بعض العلماء - في التائب - أن يستأمن الحاكم فيؤمنه، وقيل: لا يشترط ذلك، ويجب على الإمام أن يقبل كل تائب.
وقيل: يكتفي بإلقاء السلاح والبعد عن مواطن الجريمة وتأمين الناس بدون حاجة إلى الرجوع إلى الإمام.
ذكر ابن جرير قال: حدثني علي، حدثنا الوليد بن مسلم.
قال: قال الليث وكذلك حدثني موسي المدني - وهو الأمير عندنا - أن عليا الاسدي حارب، وأخاف السبيل وأصاب الدم والمال، فطلبه الائمة والعامة، فامتنع ولم يقدروا عليه حتى جاء تائبا وذلك أنه سمع رجلا يقرأ هذه الآية: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم} فوقف عليه فقال يا عبد الله: أعد قراءتها فأعادها عليه فغمد سيفه، ثم جاء تائبا حتى قدم المدينة من السحر فاغتسل، ثم أتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الصبح، ثم قعد إلى أبي هريرة في أغمار أصحابه فلما أسفروا عرفه الناس، فقاموا إليه، فقال: لا سبيل لكم علي، جئت تائبا من قبل أن تقدروا علي فقال أبو هريرة: صدق، وأخذ بيده حتى أتى مروان بن الحكم - وهو أمير على المدينة في زمن معاوية - فقال: هذا علي جاء تائبا ولا سبيل لكم عليه ولا قتل، فترك من ذلك كله.
قال وخرج علي تائبا مجاهدا في سبيل الله في البحر، فلقوا الروم فقرنوا سفينة إلى سفينة من سفنهم فاقتحم علي الروم في سفينتهم فهربوا منه إلى شقها الآخر فمالت به وبهم، فغرقوا جميعا.
سقوط الحدود بالتوبة قبل رفع الجناة إلى الحاكم:
تقدم أن حد الحرابة يسقط عن المحاربين إذا تابوا قبل القدرة عليهم لقول الله سبحانه: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم}.
وليس هذا الحكم مقصورا على حد الحرابة، بل هو حكم عام ينتظم جميع الحدود، فمن ارتكب جريمة تستوجب الحد ثم تاب منها قبل أن يرفع إلى الإمام سقط عنه الحد، لأنه إذا سقط الحد عن هؤلاء فأولى أن يسقط عن غيرهم، وهم أخف جرما منهم، وقد رجح ذلك ابن تيمية فقال: ومن تاب من الزنا، والسرقة، وشرب الخمر قبل أن يرفع إلى الإمام، فالصحيح أن الحد يسقط عنه.
كما يسقط عن المحاربين إجماعا إذا تابوا قبل القدرة عليهم.
وقال القرطبي فأما الشراب، والزناة، والسراق، إذا تابوا وأصلحوا.
وعرف ذلك منهم، ثم رفعوا إلى الإمام، فلا ينبغي أن يحدوا.
وإن رفعوا إليه فقالوا: تبنا لم يتركوا وهم في هذه الحال كالمحاربين إذا غلبوا.
وفصل الخلاف في ذلك ابن قدامة فقال: وإن تاب من عليه حد من غير المحاربين وأصلح ففيه روايتان: إحداهما: يسقط عنه لقول الله تعالى: {واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما}.
وذكر حد السارق ثم قال: {فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله غفور رحيم}.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «التائب من الذنب كمن لاذنب له» ومن لا ذنب له لاحد عليه، وقال في ماعز لما أخبر بهربه «هلاتركتموه يتوب فيتوب الله عليه»؟! ولأنه خالص حق الله تعالى فيسقط بالتوبة كحد المحارب.
ثانيتهما لا يسقط، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي لقوله سبحانه: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} وهذا عام في التائبين وغيرهم.
وقال تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} ولان النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا والغامدية وقطع الذي أقر بالسرقة وقد جاءوا تائبين يطلبون التطهير بإقامة الحد وقد سمى الرسول صلى الله عليه وسلم فعلهم توبة، فقال في حق المرأة: «لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لو سعتهم».
وجاء عمرو بن سمرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني سرقت جملا لبني فلان فطهرني، فأقام الرسول الحد عليه.
ولان الحد كفارة فلم يسقط بالتوبة ككفارة اليمين والقتل، ولأنه مقدور عليه فلم يسقط عنه الحد بالتوبة كالمحارب بعد القدرة عليه فإن قلنا بسقوط الحد بالتوبة فهل يسقط بمجرد التوبة أو بها مع إصلاح العمل؟ فيه وجهان: أحدهما يسقط بمجردها وهو ظاهر قول أصحابنا لأنها توبة مسقطة للحد فأشبهت توبة المحارب قبل القدرة عليه.
وثانيهما: يعتبر إصلاح العمل لقوله سبحانه: {فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما} وقال: {فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله غفور رحيم}.
فعلى هذا القول يعتبر مضي مدة يعلم بها صدق توبته وصلاح نيته.
وليست مقدرة بمدة معلومة.
وقال بعض أصحاب الشافعي: مدة ذلك سنة وهذا توقيت بغير توقيت فلا يجوز.
دفاع الإنسان عن نفسه وعن غيره: إذا اعتدى على الإنسان معتد يريد قتله، أو أخذ ماله أو هتك عرض حريمه، فمن حقه أن يقاتل هذا المعتدي دفاعا عن نفسه وماله وعرضه ويدفع بالاسهل فالاسهل، فيبدأ بالكلام أو الصياح أو الاستعانة بالناس إن أمكن دفع الظالم بذلك فإن لم يندفع إلا بالضرب فليضربه فإن لم يندفع إلا بقتله فليقتله ولا قصاص على القاتل ولا كفارة عليه، ولادية للمقتول لأنه ظالم معتد، والظالم المعتدي حلال الدم لا يجب ضمانه.
فإن قتل المعتدى عليه وهوفي حالة دفاعه عن نفسه وماله وعرضه فهو شهيد.
1- يقول الله تعالى: {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل}.
2- وعن أبي هريرة قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: فلا تعطه مالك قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: فقاتله قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد قال: فإن قتلته؟ قال: هو في النار».
3- وروى البخاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون عرضه فهو شهيد».
4- وروي: أن امرأة خرجت تحتطب، فتبعها رجل يراودها عن نفسها، فرمته بفهر فقتلته، فرفع ذلك لعمر رضي الله عنه فقال: قتيل الله، والله لا يؤدى هذا أبدا.
وكما يجب أن يدافع الإنسان عن نفسه وماله وعرضه يجب عليه كذلك الدفاع عن غيره إذا تعرض للقتل أو أخذ المال، أو هتك العرض، ولكن بشرط أن يأمن على نفسه من الهلاك.
لان الدفاع عن الغير من باب تغيير المنكر والمحافظة على الحقوق، يقول لرسول صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الايمان».
وهذا من باب تغيير المنكر.