مشاهد القيامة بين العقل والنقل
إننا حين نثبت أن الحياة بعد الموت أمر ممكن، وليس ممتنعاً في العقل حصوله، وأن الشرع قد أوجب هذا بالإخبار عنه، الأمر الذي أجمله العلماء بقولهم، إن البعث أمر ممكن عقلاً واجب شرعاً، إننا حين نصل إلى هذا القدر يجب أن لا نتوغل فيما وراءه بالعقل، كأن نحاول أن نبحث عن الكيفيات والمهايا، وعن التفاصيل والجزئيات، فإن ذلك لا يجوز لنا أن نفعله، لأنه فوق طاقة العقل كما سبق لنا أن ذكرنا مراراً، وأنه من جهة أخرى مجال للشرع الذي اختص به، وأخبرنا ببعض ما سيقع فيه، على سبيل الحقيقة، أو على سبيل التقريب.
على سبيل الحقيقة فيما نفهم، وعلى سبيل التقريب فيما لا نستطيع أن ندركه.
فهو على سبيل المثال قد فصل تفصيلاً كاملاً فيما يتعلق بموضوع الشفاعة، لأنها مسألة في طاقة العقل إدراكها، فبين أنها واقعة، ولكن وضع الفروق التي تميز بينها، وبين نظام الشفاعة الذي نجده الآن بيننا كنظام اجتماعي، فالشفاعة الأخروية كشئ سيقع يوم القيامة، لا يشبه الشفاعة التي نمارسها الآن بيننا كنظام اجتماعي.
وتفاصيل هذه المسألة، وبيان الفروق التي تميز بينها، وبين ما يقع في الدنيا، قد استقصتها كتب السنة والآيات القرآنية.
وعلى الناحية الأخرى : فإن النصوص الشرعية قد تحدثت عن أمور لا طاقة للعقل البشري بالوقوف على حقيقتها، ولكنه يستطيع أن يتصورها بعض التصور، فتأتي النصوص الشرعية لتعينه على هذا التصور بطريقة شرعية معقولة، من غير أن يترك العقل يضرب في الأوهام، يستسلم للخيال (1).
ففي الجنة طعام وشراب، وأنهار من ماء ولبن وخمر، وأنهار من عسل مصفى، لكن هذه الأشياء وإن كانت تشارك ما وقع أمام الإنسان في الدنيا في الاسم، إلا أنها توشك أن تخالفه في الماهية.
ولم يحدد القرآن ماهية هذه الأشياء هنا، كما استكمل مثلاً عناصر ماهية الشفاعة في الآخرة التي نميزها عن غيرها من ألوان الشفاعات الاجتماعية في الدنيا، لأن العقل يستطيع أن يتصور عناصر الشفاعة الأخروية مع تميزها، ولكنه قد لا يستطيع أن يتصور مهايا الأشياء المادية التي أعدت له في دار الجزاء، حيث إن الأخيرة قد تحتاج إلى لون من التجربة المادية.
ومن ناحية أخرى فإن تصور ماهية الشفاعة مثلاً أمر لابد منه لتعلقه بالله عز وجل، وببعض صفاته، ولو تركت من غير بيان ربما يضل بعض الناس في بعض صفات الباري جل في علاه، وهذا المحذور هنا ليس في الأمثلة الأخرى المادية محذور آخر يماثله، فناسب أن يحدد الماهية بوضوح فيما فيه حذر، أو احتمال لضلال أو إضلال دون الآخر، الذي لا يتأتى فيه هذا الاحتمال.
وهذه الطريقة التي سلكناها في مشاهد القيامة هي أقرب الطرق للسلامة، وأدناها من العقل، وأكثرها مبعثاً على الراحة والطمأنينة.
أما الطرق الأخرى، فهي تخلق مجالاً للجدل، ومناخاً للمراء، وجواً لاستعراض العضلات، واستعداداً للانطلاق في طرق طويلة من السياحة الذهنية، والترف العقلي التي تؤدي في النهاية إلى الشك والقلق، بغير أن يكون هناك مبرر لشك أو قلق.
ولله الحمد في الأولى والآخرة.
* * *
======= ==============================
(1) تطلق كلمة الواجب ـ بالاشتراك اللفظي على : ( أ ) الواجب العقــلي. ( ب ) الواجب الفقهي. ( ج ) الواجب الخلقي وقد ميز بين هذه المفاهيم كثير من العلماء ـ راجع د/ محمد عبد الله دراز ـ دستور الأخلاق في القرآن ، والمؤلف في " الأخلاق في إطار النظرة التطورية " ج 2 .
(1) ورد مرفوعاً عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحاديث متعددة منها ما ينسب صراحة إلى الله عز وجل " حديث قدسي" ومنها ما يكون تعبيراً للنبي نفسه كلها تؤكد أن ما في الجنة من متاع لا يشارك ما في الدنيا إلا في الاسم ، ويتميز عنه تميزاً كاملاً في الماهية أو من ذلك ما أخرجه البخاري في صحيحه من كتاب التوحيد قال في حديث بسنده إلى أبي هريرة ـ رضى الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : [ قال الله أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ] وراجع : مسلم كتاب الإيمان ـ والترمذي ك التفسير ـ سورة الواقعة 5/400 ط الحلبي.
وهذه الصورة التقريبية ليست في أحوال الجنة وحدها ، وإنما نجد صورة أخرى تقريبية تحيط بكيفية عذاب أهل النار.
على أن حقيقة هذا العذاب تجري على سنن ونواميس تختلف عن تلك السنن والنوامس التي تقر في حياتنا الدنيا ، مع النار تنبت بعض الأشجار وهو أمر غير معهود = = لنا : " أذلك خير نزلاً أم شجرة الزقوم إنا جعلناها فتنة للظالمين، إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم ، طلعها كأنه رءوس الشياطين " الصافات آية 62 ـ 65.
ولكن يمنعه ولسان تتحدث به إلى غير ذلك مما تضمنه الحديث الذي أخرجه الترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة ـ رضى الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : " تخرج عنق من النار يوم القيامة لها عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق يقول : إني ركلت بثلاثة : بكل جبار عنيد ، وبكل من دعا مع الله إلها آخر وبالمصورين " الترمذي كتاب : صفة جهنم باب : ما جاء في صفة النار 4/701 وقال حسن غريب صحيح.
والنار هذه في المعهود عندنا أنها جماد وعنصر من العناصر اللطيفة لا إحساس فيه ولا حركة ، أما نار الآخرة فقد أعطيت صفات أدق من الصفات التي أعطيها الإنسان ففيها شعور مرهف : " تكاد تميز من الغيظ " الملك آية : 8 ولها ما للكائن الحي من شهيق وغيره : " إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقاً وهي تفور " الملك : آية 7.
وأهل الموقف ممن اختصوا بدخول النار يسمعون نداء النار لهم تدعوهم إليها : "كلا إنها لظى * نزاعة للشوى * تدعو من أدبر وتولى " المعارج : آية 15 ـ 17.
والمعذبون في النار تتبدل صفاته المعهودة فهم يعيشون في النار جلودهم ـ وهي مناطق الإحساس المباشر في الإنسان تتبدل وتتغير كلما احتاج الأمر إلى ذلك لاستدامة شعورهم بالعذاب : " إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزاً حكيماً " النساء : آية 56.
والجلود المبدلة لها سمك غير معهود : أخرج الترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة ـ رضى الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : " إن غلظ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعا وإن ضربه مثل أحد ، وإن مجلسه من جهنم كما بين مكة والمدينة " للترمذي كتاب صفة جهنم باب ما جاء في عظم أهل النار 4/703 قال حسن صحيح غريب ولهم صفات أخرى مقاربة لهذه الصفات بعيدة عن المألوف ككونهم يمشون على وجوهههم " ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيراً " الإسراء : آية 97.
أخرج الأئمة أحمد والبخاري ومسلم عن أنس بن مالك ـ رضى الله عنه ـ يقول : "قيل يا رسول الله كيف يحشر الناس " وجوهكم ؟ قال : الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم " مسند الإمام أحمد 3/167 ، والبخاري كتاب التفسير ، سورة الفرقان ، ومسلم كتاب صفة القيامة والجنة والنار باب يحشر الكافر على وجهه 8/135 والله أعلم.
لعل الصورة قد اتضحت أمامك الآن بما يدفع اللبس.عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق يقول : إني ركلت بثلاثة : بكل جبار عنيد ، وبكل من دعا مع الله إلها آخر وبالمصورين " الترمذي كتاب : صفة جهنم باب : ما جاء في صفة النار 4/701 وقال حسن غريب صحيح.
والنار هذه في المعهود عندنا أنها جماد وعنصر من العناصر اللطيفة لا إحساس فيه ولا حركة ، أما نار الآخرة فقد أعطيت صفات أدق من الصفات التي أعطيها الإنسان ففيها شعور مرهف : " تكاد تميز من الغيظ " الملك آية : 8 ولها ما للكائن الحي من شهيق وغيره : " إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقاً وهي تفور " الملك : آية 7.
وأهل الموقف ممن اختصوا بدخول النار يسمعون نداء النار لهم تدعوهم إليها : "كلا إنها لظى * نزاعة للشوى * تدعو من أدبر وتولى " المعارج : آية 15 ـ 17.
والمعذبون في النار تتبدل صفاته المعهودة فهم يعيشون في النار جلودهم ـ وهي مناطق الإحساس المباشر في الإنسان تتبدل وتتغير كلما احتاج الأمر إلى ذلك لاستدامة شعورهم بالعذاب : " إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزاً حكيماً " النساء : آية 56.
والجلود المبدلة لها سمك غير معهود : أخرج الترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة ـ رضى الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : " إن غلظ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعا وإن ضربه مثل أحد ، وإن مجلسه من جهنم كما بين مكة والمدينة " للترمذي كتاب صفة جهنم باب ما جاء في عظم أهل النار 4/703 قال حسن صحيح غريب ولهم صفات أخرى مقاربة لهذه الصفات بعيدة عن المألوف ككونهم يمشون على وجوهههم " ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيراً " الإسراء : آية 97.
أخرج الأئمة أحمد والبخاري ومسلم عن أنس بن مالك ـ رضى الله عنه ـ يقول : "قيل يا رسول الله كيف يحشر الناس " وجوهكم ؟ قال : الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم " مسند الإمام أحمد 3/167 ، والبخاري كتاب التفسير ، سورة الفرقان ، ومسلم كتاب صفة القيامة والجنة والنار باب يحشر الكافر على وجهه 8/135 والله أعلم.
لعل الصورة قد اتضحت أمامك الآن بما يدفع اللبس.