الأحد، 11 مارس 2012

موسوعة الفقه - باب الحدود : مقدمة عن الحدود وأنواعها


مقدمة عن الحدود مع بيان أنواعها

.تعريفها:
الحدود جمع حد، والحد في الاصل: الشئ الحاجز بين شيئين.
ويقال: ما ميز الشئ عن غيره.
ومنه: حدود الدار، وحدود الأرض.
وهو في اللغة بمعنى المنع.
وسميت عقوبات المعاصي حدودا، لأنها في الغالب تمنع العاصي من العود إلى تلك المعصية التي حد لاجلها.
ويطلق الحد على نفس المعصية ومنه:
{تلك حدود الله فلا تقربوها}.
والحد في الشرع عقوبة مقررة لأجل حق الله.
فيخرج التعزير لعدم تقديره إذ أن تقديره مفوض لرأي الحاكم.
ويخرج القصاص لأنه حق الادمي.

.جرائم الحدود:
وقد قرر الكتاب والسنة عقوبات محددة لجرائم معينة تسمى جرائم الحدود وهذه الجرائم هي: الزنا، والقذف، والسرقة، والسكر، والمحاربة، والردة، والبغي.
فعلى من ارتكب جريمة من هذه الجرائم عقوبة محددة قررها الشارع.
فعقوبة جريمة الزنا، الجلد للبكر والرجم للثيب.
يقول الله سبحانه: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا}.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة، والرجم».
وعقوبة جريمة القذف ثمانون جلدة.
يقول الله سبحانه: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون} وعقوبة جريمة السرقة، قطع اليد.
يقول الله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم}.
وعقوبة جريمة الفساد في الأرض: القتل، أو الصلب، أو النفي، أو تقطيع الايدي والارجل من خلاف، يقول الله سبحانه: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الاخرة عذاب عظيم}.
وعقوبة جريمة السكر، ثمانون جلدة، أو أربعون على ما سيأتي مفصلا في موضعه.
وعقوبة الردة القتل، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «من بدل دينه فاقتلوه».
وعقوبة جريمة البغي: القتل.
لقول الله سبحانه: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الاخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين}.
ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه ستكون بعدي هنات وهنات فمن أراد أن يفرق أمر المسلمين وهم جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان».

.عدالة هذه العقوبات:
وهذه العقوبات - بجانب كونها محققة للمصالح العامة وحافظة للامن العام فهي عقوبات عادلة غاية العدل.
إذ أن الزنا جريمة من أفحش الجرائم وأبشعها.
وعدوان على الخلق والشرف والكرامة.
ومقوض لنظام الاسر والبيوت.
ومروج للكثير من الشرور والمفاسد التي تقضي على مقومات الافراد والجماعات، وتذهب بكيان الأمة، ومع ذلك فقد احتاط الإسلام في اثبات هذه الجريمة، فاشترط شروطا يكاد يكون من المستحيل توفرها.
فعقوبة الزنا عقوبة قصد بها الزجر والردع والارهاب أكثر مما قصد بها التنفيذ والفعل.
وقذف المحصنين والمحصنات من الجرائم التي تحل روابط الاسرة وتفرق بين الرجل وزوجه، وتهدم أركان البيت، والبيت هو الخلية الأولى في بنية المجتمع، فبصلاحها يصلح، وبفسادها يفسد.
فتقرير جلد مقترف هذه الجريمة ثمانين جلدة بعد عجزه عن الاتيان بأربعة شهداء يؤيدونه فيما يقذف به، غاية في الحكمة وفي رعاية المصلحة، كيلا تخدش كرامة إنسان أو يجرح في سمعته.
والسرقة ما هي إلا اعتداء على أموال الناس وعبث بها.
والأموال أحب الاشياء إلى النفوس.
فتقرير عقوبة القطع لمرتكب هذه الجريمة حتى يكف غيره عن اقتراف جريمة السرقة، فيأمن كل فرد على ماله، ويطمئن على أحب الاشياء لديه وأعزها على نفسه، مما يعد من مفاخر هذه الشريعة.
وقد ظهر أثر الاخذ بهذا التشريع في البلاد التي تطبقه واضحا في استتباب الأمن وحماية الأموال وصيانتها من أيدي العابثين، والخارجين على الشريعة والقانون.
وقد اضطر الاتحاد السوفيتي أخيرا إلى تشديد عقوبة السرقة بعد أن تبين له أن عقوبة السجن لم تخفف من كثرة ارتكاب هذه الجريمة، فقرر إعدام السارق رميا بالرصاص وهي أقسى عقوبة ممكنة.
والمحاربون الساعون في الأرض بالفساد المضربون لنيران الفتن، المزعجون للامن، المثيرون للاضطرابات، العاملون على قلب النظم القائمة، لا أقل من أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أو ينفوا من الأرض.
والخمر تفقد الشارف عقله ورشده، وإذا فقد الإنسان رشده وعقله ارتكب كل حماقة وفحش، فإذا جلد كان جلده مانعا له من المعاودة من جانب، ورادعا لغيره من اقتراف مثل جريرته من جانب آخر.
وجوب إقامة الحدود: إقامة الحدود فيها نفع للناس، لأنها تمنع الجرائم، وتردع؟؟ اة، وتكف من تحدثه نفسه بانتهاك الحرمات، وتحقق الأمن لكل فرد، على نفسه، وعرضه وماله، وسمعته، وحريته، وكرامته، وقد روى النسائي وابن ماجه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حد يعمل به في الأرض خير لاهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحا».
وكل عمل من شأنه أن يعطل إقامة.
الحدود فهو تعطيل لاحكام الله، ومحاربة له، لأن ذلك من شأنه إقرار المنكر وإشاعة الشر.
روى أحمد، وأبو داود، والحاكم وصححه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فهو مضاد الله في أمره».
وقد يحدث أن يغفل المرء عن الجناية التي يرتكبها الجاني وينظر إلى العقوبة الواقعة عليه، فيرق قلبه له ويعطف عليه، فيقرر القرآن أن ذلك مما يتنافى مع الايمان، لأن الايمان يقتضي الطهر والتنزه عن الجرائم والسمو بالفرد والجماعة إلى الأدب العالي والخلق المتين.
يقول الله سبحانه: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين}.
إن الرحمة بالمجتمع أهم بكثير من الرحمة بالفرد.
فقسا ليزدجروا، ومن يك حازما فليقس أحيانا على من يرحم الشفاعة في الحدود: يحرم أن يشفع أحد أو يعمل على أن يعطل حدا من حدود الله، لأن في ذلك تفويتا لمصلحة محققة، وإغراء بارتكاب الجنايات، ورضا بإفلات المجرم من تبعات جرمه.
وهذا بعد أن يصل الأمر إلى الحاكم، لأن الشفاعة حينئذ تصرف الحاكم عن وظيفته الأولى، وتفتح الباب لتعطيل الحدود.
أما قبل الوصول إلى الحاكم، فلا بأس من التستر على الجاني، والشفاعة عنده.
أخرج أبو داود، والنسائي، والحاكم وصححه من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب».
وأخرج أحمد، وأهل السنن، وصححه الحاكم من حديث صفوان بن أمية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما أراد أن يقطع الذي سرق رداءه فشفع فيه: «هلا كان قبل أن تأتيني به»؟! وعن عائشة قالت: كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها، فأتى أهلها أسامة بن زيد فكلموه.
فكلم النبي صلى الله عليه وسلم فيها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أسامة، لا أراك تشفع في حد من حدود الله عز وجل».
ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا.
فقال: «إنما هلك من كان قبلكم بأنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوا والذي نفسي بيده، لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها.» فقطع يد المخزومية، رواه أحمد، ومسلم، والنسائي.

الحدود كفارة للآثام:
يرى أكثر العلماء أن الحدود إذا أقيمت كانت مكفرة لما اقترف من آثام، وأنه لا يعذب في الاخر.
لما رواه البخاري ومسلم عن عبادة بن الضامت قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس فقال: «تبايعوني على أن تشركوا بالله شيئا، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب شيئا من ذلك فعوقب به فهو كفارة له ومن أصاب شيئا من ذلك فستره الله عليه، فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه».
وإقامة الحد وإن كانت مكفرة للاثام، فإنها مع ذلك زاجرة عن اقترافها.
فهي جوابر وزواجر معا.