الأحد، 11 مارس 2012

موسوعة الفقه - باب الحدود : الشبهات ومشروعية التستر فى الحدود


الشبهات وأقسامها

.سقوط الحدود بالشبهات:

الحد عقوبة من العقوبات التي توقع ضررا في جسد الجاني وسمعته، ولا يحل استباحة حرمة أحد، أو إيلامه إلا بالحق، ولا يثبت هذا الحق إلا بالدليل الذي لا يتطرق إليه الشك، فإذا تطرق إليه الشك كان ذلك مانعا من اليقين الذي تنبني عليه الاحكام.
ومن أجل هذا كانت التهم والشكوك لا عبرة لها ولا اعتداد بها، لأنها مظنة الخطأ.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعا» رواه ابن ماجه.
وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أدرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خير له من أن يخطئ في العقوبة» رواه الترمذي، وذكر أنه قد روي موقوفا، وأن الوقف أصح، قال: وقد روي عن غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم أنهم قالوا مثل ذلك.

.الشبهات وأقسامها:

تحدت الأحناف والشافعية عن الشبهات، ولكل منهما رأي نجمله فيما يأتي:
.رأي الشافعية:
يرى الشافعية أن الشبهة تنقسم أقساما ثلاثة:
1- شبهة في المحل:
أي محل الفعل - مثل: وطء الزوج الزوجة الحائض أو الصائمة، أو إتيان الزوجة في دبرها، فالشبهة هنا قائمة في محل الفعل المحرم.
إذ أن المحل مملوك للزوج، ومن حقه أن يباشر الزوجة، وإذا لم يكن له أن يباشرها وهي حائض أو صائمة أو أن يأتيها في الدبر، إلا أن ملك الزوج للمحل وحقه عليه يورث شبهة.
وقيام هذه الشبهة يقتضي درء الحد، سواء اعتقد الفاعل بحل الفعل أو بحرمته، لأن أساس الشبهة ليس الاعتقاد والظن، وإنما أساسها محل الفعل وتسلط الفاعل شرعا عليه.

.2- شبهة في الفاعل:
كمن يطأ امرأة زفت إليه على أنها زوجته، ثم تبين له أنها ليست زوجته.
وأساس الشبهة ظن الفاعل واعتقاده بحيث يأتي الفعل وهو يعتقد أنه لا يأتي محرما، فقيام هذا الظن عند الفاعل يورث شبهة يترتب عليها درأ الحد - أما إذا أتى الفاعل الفعل وهو عالم بأنه محرم فلا شبهة.

.3- شبهة في الجبهة:
ويقصد من هذا الاشتباه في حل الفعل وحرمته، وأساس هذه الشبهة الاختلاف بين الفقهاء على الفعل، فكل ما اختلفوا على حله أو جوازه كان الاختلاف فيه شبهة يدرأ بها الحد، فمثلا يجيز أبو حنيفة الزواج بلا ولي ويجيزه مالك بلا شهود، ولا يجيز جمهور الفقهاء هذا الزواج، ونتيجة هذا الزواج أنه لا حد على الوطء في هذا الزواج المختلف في صحته، لأن الخلاف يقوم شبهة تدرأ الحد، ولو كان الفاعل يعتقد بحرمة الفعل، لأن هذا الاعتقاد في ذاته ليس له أثر ما دام الفقهاء مختلفين على الحل والحرمة.

.رأي الأحناف:
أما الأحناف فإنهم يرون أن الشبهة تنقسم قسمين:

.1- شبهة في الفعل:
وهي شبهة في حق من اشتبه عليه الفعل دون من لم يشتبه عليه.
وتثبت هذه الشبهة في حق من اشتبه عليه الحل والحرمة، ولم يكن ثمت دليل سمعي يفيد الحل، بل ظن غير الدليل دليلا، كمن يطء زوجته المطلقة ثلاثا أو بائنا على مال في عدتها، وتعليل ذلك، أن النكاح إذا كان قد زال في حق الحل أصلا لوجود المعطل لحل المحلية، وهو الطلاق، فإن النكاح قد بقي في حق الفراش، والحرمة على الازواج فقط، ومثل هذا الوطء حرام، فهو زنا يوجب الحد - إلا إذا ادعى الواطئ الاشتباه وظن الحل - لأنه بنى ظنه على نوع دليل، وهو بقاء النكاح في حق الفراش وحرمة الازواج، فظن أنه بقي في حق الحل أيضا - وهذا وإن لم يصلح دليلا على الحقيقة، لكنه لما ظنه دليلا اعتبر في حقه درءا لما يندرئ بالشبهات.
ويشترط - لقيام الشبهة في الفعل - ألا يكون هناك دليل على التحريم أصلا، وأن يعتقد الجاني الحل، فإذا كان هناك دليل على التحريم، أو لم يكن الاعتقاد بالحل ثابتا، فلا شبهة أصلا.
وإذا ثبت أن الجاني كان يعلم بحرمة الفعل وجب عليه الحد.

.2- الشبهة في المحل:
ويسمونها الشبهة الحكمية، أو شبهة الملك: وتقوم هذه الشبهة على الاشتباه في حكم الشرع بحل المحل، فيشترط في هذه وتقوم هذه الشبهة على الاشتباه في حكم الشرع بحل المحل، فيشترط في هذه الشبهة أن تكون ناشئة عن حكم من أحكام الشريعة - وهي تتحقق بقيام دليل شرعي ينفي الحرمة - ولا عبرة بظن الفاعل، فيستوي أن يعتقد الفاعل الحل، أو يعلم الحرمة، لأن الشبهة ثابتة بقيام الدليل الشرعي، لا بالعلم وعدمه.
من يقيم الحدود؟: اتفق الفقهاء على أن الحاكم أو من ينيبه عنه هو الذي يقيم الحدود.
وأنه ليس للافراد أن يتولوا هذا العمل من تلقاء أنفسهم.
روى الطحاوي عن مسلم بن يسار أنه قال: كان رجل من الصحابة يقول:
الزكاة، والحدود، والفئ، والجمعة إلى السلطان.
قال الطحاوي: لا نعلم له مخالفا من الصحابة.
وروى البيهقي عن خارجة بن زيد، عن أبيه، وأخرجه أيضا عن أبي الزناد عن أبيه عن الفقهاء الذين ينتهى إلى أقوالهم من أهل المدينة أنهم كانوا يقولون: لا ينبغي لاحد أن يقيم شيئا من الحدود دون السلطان، إلا أن للرجل أن يقيم حد الزنا على عبده أو أمته.
وذهب جماعة من السلف، منهم الشافعي، إلى أن السيد يقيم الحد على مملوكه، واستدلوا بما روي عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أن خادمة النبي صلى الله عليه وسلم أحدثت، فأمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أقيم عليها الحد، فأتيتها فوجدتها لم تجف من دمها فأتيته فأخبرته، فقال: إذا جفت من دمها فأقم عليها الحد، أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم رواه أحمد وأبو داود، ومسلم، والبيهقي، والحاكم.
وقال أبو حنيفة يرفعه المولى للسلطان ولا يقيمه هو بنفسه.

.مشروعية التستر في الحدود:

قد يكون ستر العصاة علاجا ناجعا للذين تورطوا في الجرائم واقترفوا المآثم، وقد ينهضون بعد ارتكابها فيتوبون توبة نصوحا، ويستأنفون حياة نظيفة.
لهذا شرع الإسلام التستر على المتورطين في الاثام، وعدم التعجيل بكشف أمرهم.
عن سعيد بن المسيب قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل من أسلم يقال له هزال، وقد جاء يشكو رجلا بالزنا، وذلك قبل أن ينزل قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} «يا هزال لو سترته بردائك كان خيرا لك».

قال يحيى بن سعيد: فحدثت بهذا الحديث في مجلس فيه يزيد بن نعيم بن هزال الاسلمي، فقال يزيد: «هزال جدي، هذا الحديث حق».
وروى ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه كشف الله عورته حتى يفضحه في بيته».
وإذا كان الستر مندوبا، ينبغي أن تكون الشهادة به خلاف الأولى التي مرجعها إلى كراهة التنزيه، لأنها في رتبة الندب في جانب الفعل، وكراهة التنزيه في جانب الترك، وهذا يجب أن يكون بالنسبة إلى من لم يعتد الزنا ولم يتهتك به.
أما إذا وصل الحال إلى إشاعته والتهتك به، فيجب كون الشهادة به أولى من تركها، لأن مطلوب الشارع إخلاء الأرض من المعاصي والفواحش وذلك يتحقق بالتوبة من الفاعلين، وبالزجر لهم، فإذا ظهر حال الشره في الزنا وعدم المبالاة به وإشاعته، فإخلاء الأرض المطلوب حينئذ بالتوبة، احتمال يقابله ظهور عدمها، فمن اتصف بذلك فيجب تحقيق السبب الاخر للاخلاء، وهو الحدود، بخلاف من زنا مرة أو مرارا، مستترا متخوفا متندما عليه فإنه محل استحباب ستر الشاهد.
ستر المسلم نفسه:
بل على المسلم أن يستر نفسه ولا يفضحها بالحديث عما يصدر عنه، من إثم أو إقرار أمام الحاكم لينفذ فيه العقوبة.
روى الإمام مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا أيها الناس: قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله...من أصاب شيئا من هذه القاذورة فليستتر بستر الله، فإنه من يبد لنا صفحته، نقم عليه كتاب الله».