الدية وأحكامها
.تعريفها:
الدية هي المال الذي يجب بسبب الجناية، وتؤدى إلى المجني عليه، أو وليه.
يقال: وديت القتيل: أي أعطيت ديته.
وهي تنتظم ما فيه القصاص، وما لا قصاص فيه.
وتسمى الدية، بالعقل وأصل ذلك: أن القاتل كان إذا قتل قتيلا، جمع الدية من الإبل.
فعقلها بفناء أولياء المقتول: أي شدها بعقالها ليسلمها إليهم.
يقال: عقلت عن فلان إذا غرمت عنه دية جنايته.
وقد كان النظام الدية معمولا به عند العرب، فأبقاه الإسلام.
وأصل ذلك قول الله سبحانه: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما}.
وروى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانماية دينار، أو ثمانية آلاف درهم.
ودية أهل الكتاب يومئذ النصف من دية المسلمين.
قال: فكان ذلك كذلك.
حتى استخلف عمر رحمه الله، فقام خطيبا فقال: ألا إن الإبل قد غلت.
قال: ففرضها عمر على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثنا عشر ألفا.
وعلى أهل البقر مائتي بقرة.
وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة.
قال: وترك دية أهل الذمة لم يرفعها فيما رفعه من الدية.
قال الشافعي بمصر: لا يؤخذ من أهل الذهب ولامن أهل الورق إلا قيمة الإبل بالغة ما بلغت.
والمرجح أنه لم يثبت بطريق لا شك فيه تقدير الرسول الدية بغير الإبل، فيكون عمر قد زاد في أجناسها، وذلك لعلة جدت واستوجبت ذلك.
.حكمتها:
والمقصود منها: الزجر، والردع، وحماية الأنفس.
ولهذا يجب أن تكون بحيث يقاسي من أدائها المكلفون بها، ويجدون منها حرجا وألما ومشقة، ولا يجدون هذا الالم ويشعرون به، إلا إذا كان مالا كثيرا ينقص من أموالهم، ويضيقون بأدائه ودفعه إلى المجني عليه أو ورثته، فهي جزاء يجمع بين العقوبة والتعويض.
3- قدرها: الدية فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدرها فجعل دية الرجل الحر المسلم: مائة من الإبل على أهل الإبل، ومائتي بقرة على أهل البقر، وألفي شاة على أهل الشاء، وألف دينار على أهل الذهب، واثني عشر ألف درهم على أهل الفضة، ومائتي حلة على أهل الحلل.
فأيها أحضر من تلزمه الدية لزم الولي قبولها، سواء أكان ولي الجناية من أهل ذلك النوع أو لم يكن، لأنه أتى بالاصل في الواجب عليه.
القتل الذي تجب فيه: ومن المتفق عليه بين العلماء أنها تجب في القتل الخطأ وفي شبه العمد، وفي العمد الذي وقع ممن فقد شرطا من شروط التكليف، مثل الصغير والمجنون.
وفي العمد الذي تكون فيه حرمة المقتول ناقصة عن حرمة القاتل، مثل الحر إذا قتل العبد.
كما تجب على النائم الذي انقلب في نومه على آخر فقتله.
وعلى من سقط على غيره فقتله، كما تجب على من حفر حفرة فتردى فيها شخص فمات، وعلى من قتل بسبب الزحام.
وجاء في ذلك عن حنش بن المعتمر، عن علي رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فانتهينا إلى قوم قد بنو زبية للاسد، فبينما هم كذلك يتدافعون إذ سقط رجل فتعلق بآخر، ثم تعلق الرجل بآخر، حتى صاروا فيها أربعة، فجرحهم الاسد، فانتدب له رجل بحربة فقتله، وماتوا من جراحهم كلهم، فقام أولياء الأول إلى أولياء الآخر، فأخرجوا السلاح ليقتتلوا، فأتاهم علي رضي الله عنه على تفئة ذلك، فقال: تريدون أن تقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي إني أقضي بينكم قضاء، إن رضيتم به فهو القضاء، وإلا حجر بعضكم على بعض حتى تأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون هو الذي يقضي بينكم فمن عدا ذلك فلا حق له اجمعوا من قبائل الذين حفروا البئر: ربع الدية.
وثلث الدية، ونصف الدية، والدية كاملة.
فللأول: ربع الدية، لأنه هلك من فوق ثلاثة.
وللثاني: ثلث الدية.
وللثالث: نصف الدية.
وللرابع: الدية كاملة.
فأبوا إلا أن يمضوا، وأتو النبي صلى الله عليه وسلم وهو عند مقام إبراهيم، فقصوا عليه القصة، فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه أحمد، ورواه بلفظ آخر نحو هذا، وجعل الدية على قبائل الذين ازدحموا.
وعن علي بن رباح اللخمي أن أعمى كان ينشد في الموسم في خلافة عمر ابن الخطاب، وهو يقول:
يا أيها الناس لقيت منكرا
هل يعقل الأعمى الصحيح المبصرا
جرا معا كلاهما تكسرا
وذلك أن أعمى كان يقوده بصير، فوقعا في بئر فوقع الاعمى على البصير فمات البصير، فقضى عمر بعقل البصير على الأعمى رواه الدارقطني.
وفي الحديث أن رجلا أتى أهل أبيات فاستسقاهم فلم يسقوه حتى مات، فأغرمهم عمر رضي الله عنه الدية.
حكاه أحمد في رواية ابن منصور، وقال: أقول به.
ومن صاح على آخر فجأة، فمات من صيحته تجب ديته.
ولو غير صورته وخوف صبيا فجن الصبي فإنه يضمن.
الدية مغلظة ومخففة:
والدية تكون مغلظة ومخففة، فالمخففة تجب في قتل الخطأ، والمغلظة تجب في قتل شبه العمد.
وأمادية قتل العمد إذا عفا ولي الدم فإن الشافعي والحنابلة يرون أنه يجب في هذه الحال دية مغلظة.
وأما أبو حنيفة فإنه يرى أنه لادية في العمد، وإنما الواجب فيه ما اصطلح الطرفان عليه.
وما اصطلحوا عليه حال، غير مؤجل.
والدية المغلظة مائة من الإبل في بطون أربعين منها أولادها.
لما رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه عن قبة بن أوس،
عن رجل من الصحابة أنه صلى الله عليه وسلم، قال: «ألا إن قتل خطأ العمد بالسوط، والعصا، والحجر فيه دية مغلظة: مائة من الإبل، منها أربعون من ثنية إلى بازل عامها، كلهن خلفة».
والتغليظ لا يعتبر إلا في الإبل خاصة دون غيرها، لأن الشارع ورد بذلك، وهذا سبيله التوقيف والسماع الذي لا مدخل للرأي فيه، لأنه من بات المقدرات.
تغليظ الدية في الشهر الحرام والبلد الحرام وفي الجناية على القريب: ويرى الشافعي وغيره: أن الدية تغلظ في النفس والجراح بالجناية في البلد الحرام، وفي الشهر الحرام، وفي الجناية على ذي الرحم المحرم، لأن الشرع عظم هذه الحرمات، فتعظم الدية بعظم الجناية.
وروي عن عمر، والقاسم بن محمد، وابن شهاب: أن يزاد في الدية مثل ثلثها.
وذهب أبو حنيفة ومالك: إلى أن الدية لا تغلظ لهذه الاسباب، لأنه لا دليل على التغليظ، إذ أن الديات يتوقف فيها على الشارع، والتغليظ فيما وقع خطأ بعيد عن أصول الشرع.
.على من تجب:
الدية الواجبة على القاتل نوعان:
1- نوع يجب على الجاني في ماله، وهو القتل العمد، إذا سقط القصاص.
يقول ابن عباس: لاتحمل العاقلة عمدا، ولا اعترافا، ولا صلحا في عمد. ولا مخالف له من الصحابة.
وروى مالك عن ابن شهاب قال: مضت السنة في العمد حين يعفوا أولياء المقتول أن الدية تكون على القاتل في ماله خاصة، إلا أن تعينه العاقلة عن طيب نفس منها.
وإنما لا تعقل العاقلة واحدا من هذه الثلاثة: أي لا يعقل العمد، ولا الاقرار، ولا الصلح، لأن العمد يوجب العقوبة، فلا يستحق التخفيف عنه بتحمل العاقلة عنه شيئا من الدية، ولا تعقل الاقرار لأن الدية وجبت بالاقرار بالقتل لا بالقتل نفسه، والاقرار حجة قاصرة: أي أنه حجة في حق المقر، فلا يتعدى إلى العاقلة.
ولا تعقل العاقلة الاقرار بالصلح، لأن بدل الصلح لم يجب بالقتل، بل وجب بعقد الصلح، ولان الجاني يتحمل مسئولية جنايته، وبدل المتلف يجب على متلفه.
2- ونوع يجب على القاتل، وتتحمله عنه العاقلة، إذا كانت له عاقلة بطريق التعاون، وهو قتل شبه العمد وقتل الخطأ.
والقاتل كأحد أفراد العاقلة، لأنه هو القاتل، فلا معنى لاخراجه.
وقال الشافعي: لا يحب على القاتل شيء من الدية لأنه معذور.
والعاقلة: مأخوذ من العقل، لأنها تعقل الدماء: أي تمسكها من أن تسفك: يقال عقل البعير عقلا: أي شده بالعقال.
ومنه العقل، لأنه يمنع من التورط في القبائح.
والعاقلة هي الجماعة الذين يعقلون العقل، وهي الدية، يقال عقلت القتيل: أي أعطيت ديته، وعقلت عن القاتل.
أديت ما لزمه من الدية.
والعاقلة هم عصبة الرجل: أي قرابته الذكور البالغون -من قبل الأب- الموسرون العقلاء، ويدخل فيهم: الأعمى، والزمن، والهرم، إن كانوا أغنياء لا يدخل في العاقلة: أنثى، ولا فقير، ولا صغير، ولا مجنون، ولا مخالف لدين الجاني، لأن مبنى هذا الأمر على النصرة، وهؤلاء ليسوا من أهلها.
وأصل وجوب الدية على العاقلة: ما ثبت من أن امرأتين من هزيل إقتتلتا، فرمت إحداهما الاخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية المرأة على عاقلتها رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة.
وكانت العاقلة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قبيلة الجاني، وبقيت كذلك حتى جاء عهد عمر رضي الله عنه، فلما نظم الجيوش، ودون الدواوين جعل العاقلة هم أهل الديوان، خلافا لما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد أجاب السرخسي عن هذا الذي وضعه عمر.
فقال: إن قيل: كيف يظن بالصحابة الاجماع على خلاف ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: هذا اجتماع على وفاق ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإنهم علموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به على العشيرة باعتبار النصرة، وكانت قوة المرء ونصرته يومئذ بعشيرته.
ثم لما دون عمر رضي الله عنه الدواوين صارت القوة والنصرة للديوان، فقد كان المرء يقاتل قبيلته عن ديوانه اه.
وإذا كان الأحناف قد ارتضوا هذا، فإن المالكية والشافعية قد رفضوه، لأنه لانسخ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس من حق أحد أن يغير ما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والدية التي تجب على العاقلة مؤجلة في ثلاث سنين باتفاق العلماء وأما التي تجب على القاتل في ماله، فإنها تكون حالة عند الشافعي رضي الله عنه، لأن التأجيل للتخفيف عن العاقلة، فلا يلتحق به العمد المحض.
ويرى الأحناف أنها مؤجلة في ثلاث سنين، مثل دية قتل الخطأ.
وإيجاب دية قتل شبه العمد، والخطأ على العاقلة استثناء من القاعدة العامة في الإسلام.
وهي: أن الإنسان مسؤول عن نفسه ومحاسب على تصرفاته، لقول الله عزوجل: {لاتزر وازرة وزر أخرى}.
ولقول الرسول الكريم: «لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه، ولا بجريرة أخيه». رواه النسائي عن ابن مسعود رضي الله عنه.
وإنما جعل الإسلام اشتراك العاقلة في تحمل الدية في هذه الحالة، من أجل مواساة الجاني، ومعاونته في جناية صدرت عنه من غير قصد منه.
وكان ذلك إقرارا لنظام عربي، اقتضاه ما كان بين القبائل من التعاون والتآزر والتناصر.
وفي ذلك حكمة بينة، وهي أن القبيلة إذا علمت أنها ستشارك في تحمل الدية، فإنها تعمل من جانبها على كف المنتسبين إليها عن ارتكاب الجرائم، وتوجههم إلى السلوك القويم الذي يجنبهم الوقوع في الخطأ.
ويرى جمهور الفقهاء أن العاقلة لاتحمل من دية الخطأ إلا ما جاوز الثلث، وما دون الثلث في مال الجاني.
ويرى مالك وأحمد رضي الله عنهما، أنه لا يجب على واحد من العصبة قدر معين من الدية، ويجتهد الحاكم في تحميل كل واحد منهم ما يسهل عليه، ويبدأ بالاقرب فالاقرب.
أما الشافعي رضي الله عنه، فيرى أنه يجب على الغني دينار، وعلى الفقير نصف دينار.
والدية عنده مرتبة على القرابة بحسب قربهم، فالاقرب من بني أبيه ثم بني جده، ثم من بني بني أبيه، قال: فإن لم يكن للقاتل عصبة نسبا ولا ولاء، فالدية في بيت المال. لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا ولي من لا ولي له». وكذلك إذا كان فقيرا وعاقلته فقيرة، لا تستطيع تحمل الدية، فإن بيت المال هو الذي يتحملها.
وإذا قتل المسلمون رجلا في المعركة - ظنا أنه كافر - ثم تبين أنه مسلم فإن ديته في بيت المال.
فقد روى الشافعي رضي الله عنه، وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بدية اليمان - والد حذيفة - وكان قد قتله المسلمون يوم أحد، ولا يعرفونه، وكذلك من مات من الزحام تجب ديته في بيت المال، لأنه مسلم مات بفعل قوم مسلمين، فتجب ديته في بيت المال.
روى مسدد: أن رجلا زحم يوم الجمعة فمات، فوداه علي كرم الله وجهه، من بيت مال المسلمين.
والمفهوم من كلام الأحناف أن الدية في هذه الازمان في مال الجاني، ففي كتاب الدرر المختار: إن التناصر أصل هذا الباب، فمتى وجد وجدت العاقلة، وإلا فلا.
وحيث لاقبيلة، ولا تناصر، فالدية في بيت المال فإن عدم بيت المال أو لم يكن منتظما فالدية في مال الجاني.
وقال ابن تيمية: وتؤخذ الدية من الجاني خطأ عند تعذر العاقلة في أصح قولي العلماء.
.دية الاعضاء:
يوجد في الإنسان من الاعضاء ما منه عضو واحد: كالانف، واللسان، والذكر.
ويوجد فيه ما منه عضوان: كالعينين، والاذنين، والشفتين، واللحيين واليدين، والرجلين، والخصيتين، وثديي المرأة، وثندوتي الرجل، والاليتين، وشفري المرأة.
ويوجد ما هو أكثر من ذلك.
فإذا أتلف إنسان من إنسان آخر هذا العضو الواحد أو هذين العضوين، وجبت الدية كاملة، وإذا أتلف أحد العضوين وجب نصف الدية.
فتجب الدية كاملة في الانف، لأن منفعته في تجميع الروائح في قصبته، وارتفاعها إلى الدماغ، وذلك يفوت بقطع المارن.
وكذلك تجب الدية في قطع اللسان، لفوات النطق، الذي يتميز به الآدمي عن الحيوان الاعجم.
والنطق منفعة مقصودة يقوت بفواتها مصالح الإنسان، من إفهام غيره أغراضه، والابانة عن مقاصده.
وكذلك تجب الدية بقطع بعضه، إذا عجز عن الكلام جملة لفوات المنفعة نفسها التي تفوت بقطعه كله.
فإذا عجز عن النطق ببعض الحروف، وقدر على بعض منها، فإن الدية تقسم على عدد الحروف.
وقد روي عن علي، كرم الله وجهه: أنه قسم الدية على الحروف، فما قدر عليه من الحروف أسقط بحسابه من الدية.
وما لم يقدر عليه ألزمه بحسابه منها.
وتجب الدية في قطع الذكر، ولو كان المقطوع منه الحشفة فقط، لأن فيه منفعة الوطء، واستمساك البول.
وكذلك تجب الدية إذا ضرب الصلب فعجز عن المشي، وتجب الدية كاملة في العينين، وفي العين الواحدة نصفها، وفي الجفنين كما لها، وفي جفني إحدى العينين نصفها وفي واحدة منها ربعها، وفي الاذنين كمال الدية،
وفي الواحدة نصفها، وفي الشفتين كمال الدية، وفي الواحدة نصفها، يستوي فيهما العليا والسفلى.
وفي اليدين كمال الدية، وفي اليد الواحدة نصفها، وفي الرجلين كمال الدية، وفي الرجل الواحدة نصفها، وفي أصابع اليدين والرجلين الدية كاملة، وفي كل أصبع عشر من الإبل، والاصابع سواء، لا فرق بين خنصر وإبهام، وفي كل أنملة من أصابع اليدين أو الرجلين ثلث عشر الدية، في كل أصبع ثلاث مفاصل، والابهام فيه مفصلان، وفي كل مفصل منهما نصف عشر الدية، وفي الخصيتين كمال الدية، وفي إحداهما نصفها، ومثل ذلك في الاليتين، وشفري المرأة وثدييها وثندوني الرجل ففيهما الدية كاملة، وفي إحداهما نصفها.
وفي الاسنان كمال الدية، وفي كل سن خمس من الإبل، والاسنان سواء من غير ضرس وثنية.
وإذا أصيبت السن ففيها ديتها، وكذلك إن طرحت بعد أن تسود.
دية منافع الاعضاء وتجب الدية كاملة إذا ضرب إنسان إنسانا فذهب عقله، لأن العقل هو الذي يميز الإنسان عن الحيوان، وكذلك إذا ذهبت حاسة من حواسه: كسمعه، أو بصره، أوشمه، أو ذوقه، أو كلامه بجميع حروفه لأن في كل حاسة من هذه الحواس منفعة مقصودة، بها جماله وكمال حياته، وقد قضى عمر رضي الله عنه في رجل ضرب رجلا، فذهب سمعه، وبصره، ونكاحه، وعقله، بأربع ديات والرجل حي.
وإذا ذهب بصر إحدى العينين، أو سمع إحدى الاذنين، ففيه نصف الدية، سواء كانت الاخرى صحيحة أم غير صحيحة.
وفي حلمتي ثديي المرأة ديتها، وفي إحداهما نصفها.
وفي شفريها ديتها، وفي أحدهما نصفها.
وإذا فقئت عين الاعور الصحيحة، يجب فيها كمال الدية، قضى بذلك عمر، وعثمان، وعلي، وابن عمر.
ولم يعرف لهم مخالف من الصحابة، لأن ذهاب عين الاعور ذهاب البصر كله، إذ أنه يحصل بها ما يحصل بالعينين.
وفي كل واحد من الشعور الأربعة كمال الدية. وهي:
1- شعر الرأس.
2- شعر اللحية.
3- شعر الحاجبين.
4- أهداب العينين وفي الحاجب نصف الدية. وفي الهدب ربعها. وفي الشارب يترك فيه الأمر لتقدير القاضي.
.دية الشجاج:
الشجاج: هو الاصابات التي تقع بالرأس والوجه.
وأنواعه عشرة، وهي كلها لا قصاص فيها، إلا الموضحة إذا كانت عمدا، لأنه لا يمكن مراعاة المماثلة فيها والشجاج بيانه كما يأتي:
1- الخارصة: وهي التي تشق الجلد قليلا.
2- الباضعة: وهي التي تشق اللحم بعد الجلد.
3- الدامية أو الدامغة: وهي التي تنزل الدم.
4- المتلاحمة: وهي التي تغوص في اللحم.
5- السمحاق: وهي التي يبقى بينها وبين العظم جلدة رقيقة.
6- الموضحة: وهي التي تكشف عن العظم.
7- الهاشمة: وهي التي تكسر العظم وتهشمه.
8- المنقلة: وهي التي توضح وتهشم العظم حتى ينتقل منها العظام.
9- المأمومة، أو الآمة: وهي التي تصل إلى جلدة الرأس.
10- الجائفة: وهي التي تصل الجوف.
ويجب فيما دون الموضحة حكومة عدل، وقيل أجرة الطبيب، وأما الموضحة، ففيها القصاص إذا كانت عمدا كما قلنا، ونصف عشر الدية إذا كانت خطأ، سواء كانت كبيرة أم صغيرة، وهي خمس من الإبل، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابه لعمرو بن حزم.
ولو كانت مواضح متفرقة، يجب في كل واحدة منها خمس من الإبل.
والموضحة في غير الوجه والرأس توجب حكومة.
وفي الهاشمة عشر الدية، وهي عشر من الإبل، وهو مروي عن زيد ابن ثابت، ولا مخالف له من الصحابة.
وفي المنقلة عشر الدية، ونصف العشر: أي خمسة عشر من الإبل.
وفي الآمة: ثلث الدية بالاجماع.
وفي الجائفة: ثلث الدية بالاجماع، فإن نفذت فهما جائفتان، ففيهما ثلثا الدية.
.دية المرأة:
ودية المرأة إذا قتلت خطأ: نصف دية الرجل، وكذلك دية أطرافها، وجراحاتها على النصف من دية الرجل وجراحاته، وإلى هذا ذهب أكثر أهل العلم.
فقد روي عن عمر رضي الله عنه، وعلي كرم الله وجهه، وابن مسعود رضي الله عنه، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم أجمعين: أنهم قالوا في دية المرأة: إنها على النصف من دية الرجل، ولم ينقل أنه أنكر عليهم أحد، فيكون إجماعا، ولان المرأة في ميراثها وشهادتها على النصف من الرجل.
وقيل: يستوي الرجل والمرأة في العقل إلى الثلث، ثم النصف فيما بقي.
فقد أخرج النسائي، والدارقطني، وصححه ابن خزيمة عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديته».
وأخرج مالك في الموطأ، والبيهقي عن ربيعة بن عبد الرحمن أنه قال: سألت سعيد بن المسيب: كم في إصبع المرأة؟ قال: عشر من الإبل، قلت: فكم في الاصبعين؟ قال: عشرون من الإبل.
قلت: فكم في ثلاث؟ قال: ثلاثون من الإبل.
قلت: فكم في أربع؟ قال: عشرون من الإبل.
قلت: حين عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقص عقلها! فقال سعيد: أعراقي أنت؟ فقلت: بل عالم متثبت، أو جاهل متعلم.
فقال سعيد: هي السنة يا ابن أخي.
وقد ناقش الإمام الشافعي هذا الرأي، وبين أن المقصود من السنة، هو سنة زيد بن ثابت رضي الله عنه الذي قال بهذا الرأي، لا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الشافعي رضي الله عنه:
السنة إذا أطلقت يراد بها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروي أن كبار الصحابة - رضي الله عنهم - أفتوا بخلافه، ولو كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خالفوه.
وقوله: سنة، محمول على أنه سنة زيد، لأنه لم يرو إلا عنه موقوفا، ولان هذا يؤدي إلى المحال، وهو ما إذا كان ألمها أشد، ومصابها أكثر أن يقل أرشها، وحكمة الشارع تنشأ من ذلك.
ولايجوز نسبته إليه، لأن من المحال أن تكون الجناية لا توجب شيئا شرعا.
وأقبح أن تسقط ما وجب بغيره.
.دية أهل الكتاب:
ودية أهل الكتاب إذا قتلوا خطأ نصف دية المسلم، فدية الذكر منهم نصف دية المسلم، ودية المرأة من نسائهم نصف دية المرأة المسلمة.
لما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بأن عقل أهل الكتاب نصف عقل المسلم رواه أحمد رضي الله عنه.
وكما تكون دية النفس على النصف من دية المسلم، تكون دية الجراح كذلك على النصف.
وإلى هذا ذهب مالك، وعمر بن عبد العزيز.
وذهب أبو حنيفة، والثوري، وهو المروي عن عمر، وعثمان، وابن مسعود رضي الله عنهم، إلى أن ديتهم مثل دية المسلمين، لقول الله تعالى: {وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة}.
قال الزهري: دية اليهودي، والنصراني، وكل ذمي مثل دية المسلم.
قال: وكانت كذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم، حتى كان معاوية، فجعل في بيت المال نصفها، وأعطى المقتول نصفها.
ثم قضى عمر بن عبد العزيز بنصف الدية، وألغى الذي جعله معاوية لبيت المال.
قال الزهري: فلم يقض لي أن أذكر بذلك عمر بن عبد العزيز، فأخبره أن الدية كانت تامة لاهل الذمة.
وذهب الشافعي رضي الله عنه إلى أن دبتهم: ثلث دية المسلم، ودية الوثني والمجوسي المعاهد أو المستأمن: ثلثا عشر دية المسلم.
وحجتهم أن ذلك أقل ما قيل في ذلك، والذمة بريئة ألا بيقين، أو حجة.
وهو بحساب ثمانماية درهم من اثني عشر الفا.
وروي عن عمر، وعثمان، وابن مسعود: ونساؤهم على النصف.
وهل تجب الكفارة مع الدية في قتل الذمي والمعاهد؟ قاله ابن عباس، والشعبي، والنخعي، والشافعي واختاره الطبري.
دية الجنين إذا مات الجنين بسبب الجناية على أمه عمدا أو خطأ، ولم تمت أمه، وجب فيه غرة سواء انفصل عن أمه وخرج ميتا، أم مات في بطنها. وسواء أكان ذكرا أم أنثى.
فأما إذا خرج حيا، ثم مات، ففيه الدية كاملة، فإن كان ذكرا وجبت مائة بعير.
وإن كان أنثى: خمسون.
وتعرف الحياة بالعطاس، أو التنفس، أو البكاء، أو الصياح، أو الحركة، ونحو ذلك.
واشترط الشافعي في حالة ما إذا مات في بطن أمه، أن يعلم بأنه قد تخلق وجرى فيه الروح.
وفسره بما ظهر فيه صورة الآدمي: من يد، وأصبع.
وأما مالك، فإنه لم يشترط هذا الشرط، وقال: كل ما طرحته المرأة من مضغة، أو علقة، مما يعلم أنه ولد ففيه لغرة.
ويرجح رأي الشافعي، بأن الاصل براءة الذمة وعدم وجوب الغرة، فإذالم يعلم تخلقه، فإنه لا يجب شئ.
قدر الغرة: والغرة: خمسماية درهم، كما قال الشعبي والأحناف، أو ماية شاة، كما في حديث أبي يريدة عند أبي داود، والنسائي.
وقيل: خمس من الإبل.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قضى أن دية الجنين غرة: عبد أو وليدة».
وروى مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في الجنين يقتل في بطن أمه: بغرة: عبد، أو وليدة.
فقال الذي قضى عليه: كيف أغرم ما لاشرب، ولا أكل، ولا نطق، ولا استهل، ومثل ذلك يطل.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن هذا من إخوان الكهان».
هذا بالنسبة لجنين المسلمة، أما جنين الذمية، فقد قال صاحب بداية المجتهد: قال مالك والشافعي وأبو حنيفة: فيه عشر دية أمه، لكن أبو حنيفة على أصله، في أن دية الذمي دية المسلم.
والشافعي على أصله، في أن دية الذمي ثلث دية المسلم.
ومالك على أصله، في أن دية الذمي نصف دية المسلم.
على من تجب: قال مالك وأصحابه، والحسن البصري والبصريون: تجب في مال الجاني.
وذهبت الحنفية والشافعية، والكوفيون، إلى أنها تجب على العاقلة لأنها جناية خطأ فوجبت على العاقلة.
وروي عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل في الجنين غرة على عاقلة الضارب: وبدأ بزوجها وولدها.
وأما مالك، والحسن: فقد شبهاها بدية العمد إذا كان الضرب عمدا والأول أصح.
.لمن تجب:
ذهبت المالكية، والشافعية، وغيرهم: إلى أن دية الجنين تجب لورثته على مواريثهم الشرعية، وحكمها حكم الدية في كونها موروثة، وقيل: هي للام، لأن الجنين كعضو من أعضائها، فتكون ديته لها خاصة.
وجوب الكفارة: اتفق العلماء على أن الجنين إذا خرج حيا ثم مات، ففيه الكفارة مع الدية.
وهل تجب الكفارة مع الغرة إذا خرج ميتا أو لا تجب؟ قال الشافعي وغيره: تجب، لأن الكفارة عنده تجب في الخطأ والعمد.
وقال أبو حنيفة: لا تجب، لأنه غلب عليهحكم العمد.
والكفارة لا تجب فيه عنده.
واستحبها مالك، لأنه متردد بين الخطأ والعمد.
لادية الا بعد البرء قال مالك: إن الأمر المجمع عليه عندنا في الخطأ، أنه لا يعقل حتى يبرأ المجروح ويصح، وأنه إن كسر عظما من الإنسان: يدا أو رجلا، وغير ذلك من الجسد خطأ، فبرأ، وصح، وعاد لهيئته، فليس فيه عقل، فإن نقص، أو كان فيه عثل نقص، ففيه من عقله بحساب ما نقص.
قال: فإن كان ذلك العظم مما جاء فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، عقل مسمى، فبحساب ما فرض فيه النبي صلى الله عليه وسلم، عقل.
وما كان مما لم يأت فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم عقل مسمى، ولم تمض فيه سنة، ولاعقل مسمى، فإنه يجتهد فيه.
.وجود قتيل بين قوم متشاجرين:
إذا تشاجر قوم، فوجد بينهم قتيل، لا يدرى من قاتله، ويعمى أمره فلا يبين - ففيه الدية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود: «من قتل في عميا في رميا، يكون بينهم بحجارة أو بالسياط أو ضرب بعصا، فهو خطأ، وعقله عقل الخطأ، ومن قتل عمدا فهو قود، ومن حال دونه، فعليه لعنة الله وغضبه، لا يقبل منه صرف ولاعدل» واختلف العلماء فيمن تلزمه الدية.
فقال أبو حنيفة: هي على عاقلة القبيلة التي وجد فيها إذا لم يدع أولياء القتيل على غيرهم.
وقال مالك: ديته على الذين نازعوهم.
وقال الشافعي: هي قسامة، إن ادعوه على رجل بعينه، أو طائفة بعينها وإلا فلا عقل ولا قود.
وقال أحمد: هي على عواقل الآخرين، إلا أن يدعوا على رجل بعينه، فيكون قسامة.
وقال ابن أبي ليلى، وأبو يوسف: ديته على الفريقين الذين اقتتلا معا.
وقال الاوزاعي: ديته على الفريقين جميعا، إلا أن تقوم بينة من غير الفريقين: أن فلانا قتله، فعليه القصاص والدية.
.القتل بعد أخذ الدية:
وإذا أخذ ولي الدم الدية، فلا يحل له بعد أن يقتل القاتل.
وروى أبو داود، عن الحسن، عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «لا أعفى من قتل بعد أخذ الدية».
وروى الدارقطني، عن أبي شريح الخزاعي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أصيب بدم أو خبل، فهو بالخيار بين إحدى ثلاث، فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه: بين أن يقتص، أو يعفو، أو يأخذ العقل، فإن قبل شيئا من ذلك ثم عدا بعد ذلك فله النار خالدا فيها مخلدا».
فإذا قتله، فمن العلماء من قال: هو كمن قتل ابتداءا، إن شاء الولي قتله وإن شاء عفا عنه، وعذابه في الآخرة.
ومنهم من قال: يقتل ولا بد، ولا يمكن الحاكم الولي من العفو.
وقيل: أمره إلى الإمام يصنع فيه ما يرى.
اصطدام الفارسين:
ذهب أبو حنيفة ومالك: إلى أنه إذا اصطدم فارسان فمات كل واحد منهما، فعلى كل منهما دية الآخر، وتتحملها العاقلة.
وقال الشافعي: على كل واحد منهما نصف دية صاحبه، لأن كل واحد منهما مات من فعل نفسه وفعل صاحبه.
.ضمان صاحب الدابة:
إذا أصابت الدابة بيدها، أو رجلها، أو فمها شيئا، ضمن صاحبها، عند الشافعي، وابن أبي ليلى، وابن شبرمه.
وقال مالك، والليث، والاوزاعي: لا يضمن إذا لم يكن من جهة راكبها، أو قائدها، أو سائقها، بسبب من همز، أو ضرب، فلو كان ثمة سبب، كأن حملها أحدهم على شيء فأتلفته، لزمه حكم المتلف.
فإن كان جناية مضمونة بالقصاص، وكان الحمل عمدا، كان فيه القصاص، لأن الدابة في هذه الحال كالآلة.
وإن كان الحمل من غير قصد، كانت فيه الدية على العاقلة، وإن كان المتلف مالا كانت الغرامة في مال الجاني.
وقال أبو حنيفة: إذا رمحت دابة إنسان - وهو راكبها - إنسانا آخر، فإن كان الرمح برجلها فهو هدر، وإن كانت نفحته بيدها، فهو ضامن، لأنه يملك تصريفها من الإمام، ولا يملك منها ما ورائها.
وقال: وإذا ساق دابة، فوقع السرج أو اللجام أو أي شيء مما يحمل عليها، فأصاب إنسانا، ضمن السائق ما أصاب من ذلك.
ولو انفلتت دابة فأصابت مالا، أو آدميا، ليلا أو نهارا، فإنه لا ضمان على صاحبها، لأنه غير متعمد.
ومن ركب دابة فضربها رجل أو نخسها، فنفحت إنسانا، أو ضربته بيدها، أو نفرت فصدمته فقتلته ضمن الناخس دون الراكب.
وإن نفحت الناخس كان دمه هدرا، لأنه هو المتسبب.
فإن ألقت الراكب فقتلته كانت ديته على عاقلة الناخس.
وإذا بالت الدابة أو راثت في الطريق وهي تسير فعطب به إنسان لم يضمن، وكذا إذا أوقفها لذلك.
.ضمان القائد والراكب والسائق:
إذا كان للدابة قائد، أو راكب، أو سائق، فأصابت شيئا، وأوقعت به ضررا، فإنه يضمن ما أصابته من ذلك.
فقد قضى عمر، رضي الله عنه، بالدية على الذي أجرى فرسه فوطئ آخر.
ويرى أهل الظاهر أنه لا ضمان على واحد من هؤلاء، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «جرح العجماء جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس».
وما استدل به الظاهرية محمول على ما إذا لم يكن للدابة راكب، ولا سائق، ولا قائد فإنه لا ضمان على ما أتلفته في هذه الحال بالاجماع.
.الدابة الموقوفة:
وأما الدابة الموقوفة إذا أصابت شيئا، فعند أبي حنيفة: يضمن ما أصابته ولا يعفيه من الضمان أن يربطها بموضع يجوز له أن يربطها فيه.
فعن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من وقف دابة في سبيل من سبل المسلمين، أو في سوق من أسواقهم، فأوطأت بيد أو رجل فهو ضامن» رواه الدارقطني.
وقال الشافعي: إن أوقفها بحيث ينبغي له أن يوقفها لم يضمن، وإن لم يوقفها بحيث ينبغي له أن يوقفها ضمن.
.ضمان ما أتلفته المواشي من الزروع والثمار وغيرها:
ذهب جمهور العلماء - منهم: مالك، والشافعي، وأكبر فقهاء الحجاز - إلى أن ما أفسدت الماشية بالنهار من: نفس، أو مال، للغير، فلاضمان على صاحبها، لأن في عرف الناس، أن أصحاب الحوائط، والبساتين، يحفظونها بالنهار، وأصحاب المواشي يسرحونها بالنهار، ويردونهما بالليل إلى المراح، فمن خالف هذه العادة، كان خارجا عن رسوم الحفظ إلى التضييع.
هذا إذا لم يكن معها مالكها، وإن كان معها فعليه ضمان ما أتلفته، سواء كان راكبها أو سائقها، أو قائدها، أو كانت واقفة عنده، وسواء أتلفت بيدها أو رجلها أو فمها.
واستدلوا لمذهبهم هذا، بما رواه مالك، عن ابن شهاب عن حرام بن سعيد بن المحيصة: أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائط رجل فأفسدت فيه، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها.
قال أبو عمر بن عبد البر: وهذا الحديث وإن كان مرسلا فهو حديث مشهور، أرسله الائمة، وحدث به الثقات، واستعمله فقهاء الحجاز، وتلقوه بالقبول، وجرى في المدينة العمل به. وحسبك باستعمال أهل المدينة وسائر أهل الحجاز لهذا الحديث.
ويرى سحنون - من المالكية - أن هذا الحديث، إنما جاز في أمثال المدينة التي هي حيطان محدقة.
وأما البلاد التي هي زروع متصلة، غير محظرة، وبساتين كذلك، فيضمن أرباب النعم ما أفسدت من ليل أو نهار.
وذهبت الأحناف: إلى أنه إذا لم يكن معها مالكها فلا ضمان عليه، ليلا كان أو نهارا، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «جرح العجماء جبار».
فالأحناف يقيسون جميع أعمالها على جرحها.
وإن كان معها مالكها: فإن كان يسوقها فعليه ضمان ما أتلفت بكل حال، وإن كان قائدها أو راكبها فعليه ضمان ما أتلفت بفمها أو يدها، ولا يجب ضمان ما أتلفت برجلها.
وأجاب الجمهور، بأن الحديث الذي استدل به الأحناف عام، خصصه حديث البراء، هذا فيما يتصل بالزروع والثمار، أما غيرها فقد قال ابن قدامة في المغني: وإن أتلفت البهيمة غير الزرع، لم يضمن مالكها ما أتلفته، ليلا كان أو نهارا، ما لم تكن يده عليها.
وحكي عن شريح: أنه قضى - في شاة وقعت في غزل حائط ليلا - بالضمان على صاحبها.
وقرأ شريح: إذ نفشت فيه غنم القوم.
قال: والنفش لا يكون إلا بالليل.
وعن الثوري: يضمن وإن كان نهارا، لأنه مفرط بإرسالها.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «العجماء جرحها جبار» متفق عليه، أي هدر.
وأما الآية فإن النفش هو الرعي ليلا، وكان هذا في الحرث الذي تفسده البهائم طبعا بالرعي وتدعوها نفسها إلى أكله بخلاف غيره، فلا يصح قياس غيره عليه. انتهى.
.ضمان ما أتلفته الطيور:
يرى بعض العلماء: أن النحل، والحمام، والاوز، والدجاج والطيور كالماشية، وأنه إذا اقتناها وأرسلها نهارا فلقطت حبا، لم يضمن، لأن العادة إرسالها.
ويرى البعض الآخر: أن فيها الضمان، فمن أطلقها، فأتلفت شيئا، ضمنه.
وكذلك، إن كان له طير جارح، كالصقر، والبازي، فأفسد طيور الناس وحيواناتهم، ضمن.
وهذا الرأي هو الصحيح.
.ضمان ما أصابه الكلب أو الهر:
في المغني: ومن اقتنى كلبا عقورا، فأطلقه، فعقر إنسانا، أو دابة، ليلا أو نهارا، أو خرق ثوب إنسان، فعلى صاحبه ضمان ما أتلفه، لأنه مفرط باقتنائه.
إلا أن يدخل إنسان داره بغير إذنه، فلاضمان فيه، لأنه متعد بالدخول متسبب بعدوانه، إلى عقر الكلب له، وإن دخل بإذن المالك فعليه ضمانه، لأنه تسبب في إتلافه، وإن أتلف الكلب بغير العقر، مثل: أو ولغ في إناء إنسان، أو بال، لم يضمنه مقتنيه: لأن هذا لا يختص به الكلب العقور.
قال القاضي: وإن اقتنى سنورا، يأكل أفراخ الناس ضمن ما أتلفه، كما يضمن ما يتلفه الكلب العقور، ولافرق بين الليل والنهار، وإن لم يكن له عادة بذلك لم يضمن صاحبه جنايته، كالكلب إذا لم يكن عقورا.
ولو أن الكلب العقور أو السنور حصل عند إنسان من غير اقتنائه ولا اختياره، فأفسد لم يضمنه، لأنه يحصل الاتلاف بسببه.
ما يقتل من الحيوان وما لا يقتل:
ولا يقتل من الحيوان إلا ما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتله.
وهو: الغراب، والحدأة، والفأرة، والحية، والعقرب، والكلب العقور، والوزغ.
ويلحق بها ما أشبهها في الضرر، مثل: الزنبور المؤذي، والنمر، والفهد والاسد، فإنها تقتل ولو لم يصل واحد منها.
قالت عائشة رضي الله عنها: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل خمسة فواسق في الحل والحرم: الغراب، والحدأة والعقرب، والفأر، والكلب العقور» رواه البخاري ومسلم.
وفي الصحيحين من حديث أم شريك، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الاوزاغ وسماه فويسقة.
وإذا قتلت فإنه لا ضمان في قتلها، ولاقتل غيرها من السباع والحشرات، وإن تأهلت بالاجماع، إلا الهر فتضمن قيمته، إلا إذا وقع منه اعتداء.
ولا يقتل الهدهد، ولا النملة، ولا النحلة، ولا الخطاف، ولا الصرد، ولا الضفدع، إذ لا ضرر فيها.
وقد روي النسائي، عن ابن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «ما من إنسان يقتل عصفورا، فما فوقها بغير حقها إلا سأله الله يوم القيامة عنها، قيل يا رسول الله: وما حقها؟ قال: يذبحها ويأكلها، ولا يقطع رأسها ويرمي بها».
وإذا قتلها فعليه أن يتوب إلى الله، ولا ضمان عليه.
وعن ابن عباس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أربعة من الدواب: النملة، والنحلة، والهدهد، والصرد.
.ما لا ضمان فيه:
إذا كانت الجناية بسبب من الظالم المعتدي، فهي هدر: أي لا قصاص فيها، ولادية لها.
ومن أمثلة ذلك:
.1- سقوط أسنان العاض:
فإذا عض الإنسان غيره، فانتزع المعضوض ما عض منه من فم العاض، فسقطت أسنانه، أو انفكت لحيته، فإنه لا مسؤولية على الجاني، لأنه غير متعد.
روى البخاري ومسلم، عن عمران بن حصين، أن رجلا عض يد رجل، فنزع يده من فمه فسقطت ثنيتاه، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «يعض أحدكم يد أخيه كما يعض الفحل..لادية لك».
وقال مالك: يضمن، والحديث حجة عليه.
.2- النظر في بيت غيره بدون إذنه:
ومن نظر في بيت إنسان، من ثقب أو شق باب، أو نحو ذلك، فإن لم يتعمد النظر فلا حرج عليه.
روى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن نظرة الفجأة؟ فقال: «اصرف بصرك».
وروى أبو داود والترمذي: أنه صلى الله عليه وسلم، قال لعلي: «لاتتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى، وليست لك الثانية».
فإن تعمد النظر بدون إذن من صاحب البيت فلصاحب البيت أن يفقأ عينه، ولاضمان عليه.
روى أحمد والنسائي، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم، ففقأوا عينه فلادية له، ولا قصاص».
وروى البخاري ومسلم عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن رجلا اطلع عليك بغير إذن، فخذفته بحصاة ففقأت عينه، ما كان عليك جناح».
وعن سهل بن سعد: أن رجلا اطلع في حجر باب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومع رسول الله مدرى يرجل بها رأسه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «لو أعلم أنك تنظر، لطعنت بها في عينك، إنما جعل الاذن من أجل النظر».
وبهذا أخذت الشافعية والحنابلة.
وخالف فيه الأحناف والمالكية، فقالوا: من نظر بدون إذن من صاحب البيت، فرماه بحصاة، أو طعنه بخشبة، فأصاب منه، فهو ضامن، لأن الرجل إذا دخل البيت ونظر فيه وباشر امرأة صاحبه فيما دون الفرج فإنه لا يجوز أن يفقأ عينه، أو يحدث به عاهة، لأن ارتكاب مثل هذا الذنب لا يقابل بمثل هذه العقوبة، وهذا مخالف للاحاديث الصحيحة التي تقدم ذكرها.
وقد رجح الرأي الأول ابن قيم الجوزية فقال:
فَرُدَّتْ هذه السنن بأنها خلاف الاصول، فإن الله إنما أباح قلع العين بالعين، لا بجناية النظر، ولهذا لو جنى عليه بلسانه لم يقطع، ولو استمع عليه بأذنه لم يجز أن تقطع أذنه، فيقال: بل هذه السنن من أعظم الاصول، فما خالفها فهو خلاف الاصول وقولكم: إنما شرع الله سبحانه أخذ العين بالعين، فهذا حق في القصاص، وأما العضو الجاني المتعدي لا يمكن دفع ضرره وعدوانه إلا برميه، فإن الآية لا تتناوله نفيا ولا إثباتا، والسنة جاءت ببيان حكمه بيانا ابتدائيا لما سكت عنه القرآن، لا مخالفا لما حكم به القرآن.
وهذا اسم آخر غير فقء العين قصاصا، وغير دفع الصائل الذي يدفع بالاسهل فالاسهل، إذ المقصود دفع ضرر حياله، فإذا اندفع بالعصا لم يدفع بالسيف، وأما هذا المتعدي بالنظر إلى المحرم، الذي لا يمكن الاحتراز منه، فإنه إنما يقع على وجه الاختفاء والختل.
فهو قسم آخر غير الجاني وغير الصائل الذي لم يتحقق عدوانه، ولا يقع هذا غالبا إلا على وجه الاختفاء، وعدم مشاهدة غير الناظر إليه، فلو كلف المنظور إليه إقامة البينة على جنايته لتعذرت عليه، ولو أمر بدفعه بالاسهل فالاسهل ذهبت جناية عدوانه بالنظر إليه وإلى جريمه هدرا.
والشريعة الكاملة تأبى هذا وهذا، فكان أحسن ما يمكن وأصلحه وأكفه لناوللجاني، ما جاءت به السنة التي لا معارض لها، ولا دافع لصحتها من خذف ما هنال ك، وإن لم يكن هناك بصر عاد لم يضر خذف الحصاة وإن كان هناك بصر عاد لا يلومن إلا نفسه، فهو الذي عرضه صاحبه للتلف، فأدناه إلى الهلاك، والخاذف ليس بظالم له.
والناظر خائن ظالم، والشريعة أكمل وأجل من أن تضيع حق هذا الذي هتكت حرمته وتحيله في الانتصار على التعزير بعد إقامة البينة، فحكم الله بما شرعه على رسوله، ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون. اهـ.
.3- القتل دفاعا عن النفس أو المال أو العرض:
ومن قتل شخصا، أو حيوانا، دفاعا عن نفسه، أو عن نفس غيره، أو عن ماله، أو مال غيره، أو عن العرض، فإنه لاشئ عليه، لأن دفع الضرر عن النفس، والمال واجب، فإن لم يندفع إلا بالقتل فله قتله، ولاشئ على القاتل.
روى مسلم، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أن يأخذ مالي؟ قال: فلا تعطه مالك قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار».
قال ابن حزم: فمن أراد أخذ مال إنسان ظلما من لص أو غيره، فإن تيسر له طرده منه ومنعه، فلا يحل له قتله، فإن قتله حينئذ فعليه القود، وإن توقع أقل توقع أن بعاجله اللص فليقتله، ولاشئ عليه، لأنه مدافع عن نفسه.
.ادعاء القتل دفاعا:
إذا ادعى القاتل أنه قتل المجني عليه، دفاعا عن نفسه، أو عرضه، أو ماله، فإن أقام بينة على دعواه قبل قوله وسقط عنه القصاص والدية، وإن لم يقم البينة على دعواه، لم يقبل قوله، وأمره إلى ولي الدم: إن شاء عفا عنه وإن شاء اقتص منه، لأن الاصل البراءة حتى تثبت الادانة.
وقد سئل الإمام علي، رضي الله عنه، عمن وجد مع امرأته رجلا فقتلهما؟ فقال: «إن لم يأت بأربعة شهداء فليعط برمته».
فإن لم يقم القاتل البينة، واعترف ولي الدم بأن القتل كان دفاعا، انتفت عنه المسؤولية، وسقط عنه القصاص والدية.
روى سعيد بن منصور في سننه عن عمر رضي الله عنه: أنه كان يوما يتغذى، إذ جاءه رجل يعدو، وفي يده سيف ملطخ بالدم، ووراءه قوم يعدون خلفه، فجاء حتى جلس مع عمر، فجاء الآخرون.
فقالوا يا أمير المؤمنين إن هذا قتل صاحبنا.
فقال له عمر: ما يقولون؟ فقال: يا أمير المؤمنين إني ضربت فخذي امرأتي، فإن كان بينهما أحد فقد قتلته.
فقال عمر: ما يقول؟ قالوا: يا أمير المؤمنين إنه ضرب بالسيف فوقع في وسط الرجل، وفخذي المرأة.
فأخذ عمر سيفه فهزه، ثم دفعه إليه وقال: إن عادوا فعد.
وروي عن الزبير: أنه كان يوما قد تخلف عن الجيش، ومعه جارية له، فأتاه رجلان فقالا: أعطنا شيئا فألقى اليهما طعاما كان معه.
فقالا: خل عن الجارية فضربهما بسيفه فقطعهما بضربة واحدة.
قال ابن تيمية: فإن ادعى القاتل أنه صال عليه، وأنكر أولياء المقتول:
فإن كان المقتول معروفا بالبر، وقتله في محل لاريبة فيه، لم يقبل قول القاتل.
وإن كان معروفا بالفجور والقاتل معروفا بالبر، فالقول قول القاتل مع يمينه.
لا سيما إذا كان معروفا بالتعرض له قبل ذلك.
.ضمان ما أتلفته النار:
من أوقد نارا في داره كالمعتاد، فهبت الريح فأطارت شرارة، أحرقت نفسا أو مالا، فلاضمان عليه.
ذكر وكيع، عن عبد العزيز بن حصين، عن يحيى بن يحيى الغساني، قال: أوقد رجل نارا لنفسه، فخرجت شرارة من نار، حتى أحرقت شيئا لجاره، قال: فكتب فيه إلى عبد العزيز بن حصين، فكتب إليه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «العجماء جبار» وأرى أن النار جبار.
.إفساد زرع الغير:
ولو سقى أرضه سقيا زائدا على المعتاد، فأفسد زرع غيره، ضمن، فإذا انصب الماء من موضع لا علم له به، لم يضمن، حيث لم يحدث منه تعد.
.غرق السفينة:
من كان له سفينة يعبر بها الناس ودوابهم، فغرقت بدون سبب مباشر منه، فلا ضمان عليه فيما تلف بها. فإن كان غرقها بسبب منه ضمن.
.ضمن الطبيب:
لم يختلف العلماء في أن الإنسان إذا لم تكن له دراية بالطب، فعالج مريضا فأصابته من ذلك العلاج عاهة، فإنه يكون مسؤولا عن جنايته، وضامنا بقدر ما أحدث من ضرر، لأنه يعتبر بعمله هذا متعديا، ويكون الضمان في ماله.
لما رواه عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «من تطبب، ولم يعلم منه قبل ذلك الطب، فهو ضامن» رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه.
وقال عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز: حدثني بعض الوفد الذين قدموا على أبي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيما طبيب تطبب على قوم لا يعرف له تطبب قبل ذلك فأعنت فهو ضامن». رواه أبو داود.
أما إذا أخطأ الطبيب، وهو عالم بالطب، فرأي الفقهاء أنه تلزمه الدية، وتكون على عاقلته عند أكثرهم.
وقيل: هي في ماله.
وفي تقرير الضمان الحفاظ على الارواح، وتنبيه الاطباء إلى واجبهم، واتخاذ الحيطة اللازمة في أعمالهم المتعلقة بحياة الناس.
ويروى عن مالك: أنه لا شيء عليه.
.الرجل يفضي زوجته:
وإذا وطئ الرجل زوجته فأفضاها، فإن كانت كبيرة بحيث يوطأ مثلها، فإنه لا يضمن، وإن كانت صغيرة لا يوطأ مثلها، فعليه الدية.
والافضاء مأخوذ من الفضاء، وهو المكان الواسع، ويكون بمعنى الجماع ومنه قول الله سبحانه: {وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض}.
ويكون بمعنى اللمس، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره، فليتوضأ».
والمراد به هنا: إزالة الحاجز الذي بين الفرج والدبر.
.الحائط يقع على شخص فيقتله:
إذا مال حائط إلى الطريق، أو إلى ملك غيره، ثم وقع على شخص فقتله، فإن كان قد سبق أن طولب صاحبه بنقضه، ولم ينقضه مع التمكن منه، ضمن ما تلف بسببه، وإلا فلا يضمن.
ورواية أشهب عن مالك: أنه إذا بلغ من شدة الخوف إلى ما لا يؤمن معه الاتلاف، ضمن ما تلف به، سواء تقدم إليه في نقضه، أم لم يتقدم، أو أشهد عليه، أم لم يشهد عليه.
وأشهر الروايات عن أحمد، وأظهر الوجوه عند الشافعية أنه لا يضمن.
.ضمان حافر البئر:
إذا حفر إنسان بئرا، فوقع فيه إنسان، فإن حفر في أرض يملكها، أو في أرض لا يملكها، واستأذن المالك فلا ضمان عليه، وإن حفر فيما لا يملك، وبلا إذن صاحب الأرض، ضمن، ولا ضمان إذا كان في ملكه أو إذن المالك، أو كان في موات، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البئر جبار»، أي أن من تردى فيه في هذه الحالة فهلك، فهدر لا دية له.
وقال مالك: إن حفر في موضع جرت العادة بالحفر في مثله، لم يضمن وإن تعدى في الحفر ضمن.
ومن أمر شخصا مكلفا أن ينزل بئرا، أو أن يصعد شجرة ففعل، فهلك بنزوله البئر، أو صعوده الشجرة، لم يضمنه الأمر لعدم إكراهه له.
ومثل ذلك الحاكم إذا استأجر شخصا لذلك فهلك، فلا ضمان، لعدم الجناية والتعدي منه.
ولو سلم إنسان نفسه أو ولده، إلى سابح يحسن السباحة فغرق، فلا ضمان عليه.
الإذن في أخذ الطعام وغيره:
ذهب جمهور العلماء: إلى أنه لا يجوز لاحد أن يحلب ماشية غيره إلا بإذنه، فإن اضطر في مخمصة، ومالكها غير حاضر، فله أن يحلبها، ويشرب لبنها، ويضمن لمالكها.
وكذلك سائر الاطعمة والثمار المعلقة في الشجر، لأن الاضطرار لا يبطل حق الغير.
روى مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحتلبن أحد ماشية أحد بغير إذنه، أيحب أحدكم أن يؤتى مشربته فتكسر خزانته، فينتقل منها طعامه، وإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعماتهم، فلا يحتلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه».
وقال الشافعي: لا يضمن، لأن المسؤولية تسقط بالاضطرار، لوجود الاذن من الشارع، ولا يجتمع إذن وضمان.
.القسامة:
القسامة: تستعمل بمعنى الحسن والجمال.
والمقصود بها هنا: الايمان، مأخوذة من: أقسم، يقسم، إقساما، وقسامة.
فهي مصدر مشتق من القسم، كاشتقاق الجماعة من الجمع.
وصورتها: أن يوجد قتيل لا يعرف قاتله، فتجري القسامة على الجماعة التي يمكن أن يكون القاتل محصورا فيهم، بشرط أن يكون عليهم لوث ظاهر، بأن يوجد القتيل بين قوم من الاعداء، ولا يخالطهم غيرهم، أو اجتمع جماعة في بيت أو صحراء، وتفرقوا عن قتيل، أو وجد في ناحية، وهناك رجل مختضب بدمه.
فإذا كان القتيل في بلدة، أو في طريق من طرقها، أو قريبا منها أجريت القسامة على أهل البلدة.
وإن وجدت جثته بين بلدين، أجريت القسامة على أقربها مسافة من مكان جثته.
وكيفية القسامة، هي: أن يختار ولي المقتول خمسين رجلا من هذه البلدة ليحلفوا بالله أنهم ما قتلوه، ولا علموا له قاتلا.
فإن حلفوا سقطت عنهم الدية، وإن أبوا، وجبت ديته على أهل البلدة جميعا.
وإن التبس الأمر كانت ديته من بيت المال.
النظام العربي الذي أقره الإسلام وكانت القسامة معمولا بها في الجاهلية، فأقرها الإسلام على ما كانت عليه.
وحكمة إقرار الإسلام لها، أنها مظهر من مظاهر حماية الأنفس، وحتى لا يذهب دم القتيل هدرا.
أخرج البخاري، والنسائي، عن ابن عباس، رضي الله عنهما: أن أول قسامة كانت في الجاهلية: كان رجل من بني هاشم، استأجره رجل من قريش من فخذ أخرى فانطلق معه في إبله، فمر به رجل من بني هاشم قد انقطعت عروة جوالقه، فقال: أغثني بعقال أشد به عروة جوالقي، لا تنفر الإبل، فأعطاه عقالا فشد به عروة جوالقه.
فلما نزلوا، عقلت الإبل إلا بعيرا واحدا، فقال الذي استأجره: ما بال هذا البعير لم يعقل من بين الإبل؟ قال: ليس له عقال قال: فأين عقاله؟ فحذفه بعصا كان فيه أجله، فمر به رجل من أهل اليمن فقال له: أتشهد الموسم؟ قال: ما أشهده، وربما شهدته قال: هل أنت مبلغ عني رسالة، مرة من الدهر؟ قال: نعم قال: فإذا شهدت، فناد: يا قريش، فإذا أجابوك فناد: يا آل بني هاشم، فإن أجابوك، فسل: عن أبي طالب، وأخبره أن فلانا قتلني في عقال ومات المستأجر فلما قدم الذي استأجره أتاه أبو طالب فقال: ما فعل صاحبنا؟ قال: مرض فأحسنت القيام عليه ووليت دفنه قال: قد كان أهل ذاك منك فمكث حينا، ثم إن الرجل الذي أوصى إليه، أن يبلغ عنه، وافى الموسم فقال: يا قريش قالوا: هذه قريش قال: يا آل بني هاشم قالوا: هذه بنو هاشم قال: أين أبو طالب؟ قالوا: هذا أبو طالب قال: أمرني فلان أن أبلغك رسالة، أن فلانا قتله في عقال فأتاه أبو طالب، فقال: اختر منا إحدى ثلاث: إن شئت أن تؤدي مائة من الإبل، فإنك قتلت صاحبنا، وإن شئت، حلف خمسون من قومك أنك لم تقتله، فإن أبيت قتلناك به فأتى قومه فأخبرهم.
فقالوا: نحلف فأتته امرأة من بني هاشم، كانت تحت رجل منهم، كانت قد ولدت منه فقالت: يا أبا طالب أحب أن يجبر إبني هذا برجل من الخمسين ولا تصبر يمينه حيث تصبر الأيمان ففعل فأتاه رجل منهم، فقال: يا أبا طالب، أردت خمسين رجلا أن يحلفوا مكان مائة من الإبل، فيصيب كل رجل منهم بعيران، هذان البعيران فاقبلهما مني ولا تصبر يميني، حيث تصبر الايمان، فقبلهما.
وجاء ثمانية وأربعون فحلفوا قال ابن عباس رضي الله عنهما: فوالذي نفسي بيده ما حال الحول، ومن الثمانية والأربعين عين تطرف!.
.الاختلاف في الحكم بالقسامة:
اختلف العلماء في وجوب الحكم بالقسامة.
فقال جمهور الفقهاء: بوجوب الحكم بها.
وقالت طائفة من العلماء: لا يجوز الحكم بها.
قال ابن رشد في بداية المجتهد: وأما وجوب الحكم بها على الجملة، فقال به جمهور فقهاء الأمصار: مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وأحمد، وسفيان، وداود، وأصحابهم، وغير ذلك من فقهاء الأمصار.
وقالت طائفة من العلماء: سالم بن عبد الله، وأبو قلابة، وعمر بن عبد العزيز، وابن علية: لا يجوز الحكم بها.
عمدة الجمهور ما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام، من حديث حويصة ومحيصة، وهو حديث متفق على صحته من أهل الحديث، إلا أنهم مختلفون في ألفاظه.
وعمدة الفريق الثاني لعدم جواز الحكم بها: أن القسامة مخالفة لاصول الشرع المجمع على صحتها، فمنها: أن الاصل في الشرع أن لا يحلف أحد إلا على ما علم قطعا، أو شاهد حسا، وإذا كان ذلك كذلك فكيف يقسم أولياء الدم، وهم لم يشاهدوا القتيل، بل قد يكونون في بلد، والقتل في بلد آخر.
ولذلك روى البخاري عن أبي قلابة: أن عمر بن عبد العزيز أبرز سريره يوما للناس، ثم أذن لهم فدخلوا عليه، فقال: ما تقولون في القسامة؟ فأضب القوم، وقالوا: نقول: إن القسامة القود بها حق، قد أقاد بها الخلفاء.
فقال: ما تقول يا أبا قلابة؟ ونصبني للناس.
فقلت: يا أمير المؤمنين، عندك أشراف العرب، ورؤساء الاجناد.
أرأيت لو أن خمسين رجلا شهدوا على رجل، أنه زنا بدمشق، ولم يروه، أكنت ترجمه؟ قال: لا.
قلت: أفرأيت لو أن خمسين رجلا شهدوا على رجل أنه سرق بحمص، ولم يروه، أكنت تقطعه؟ قال: لا.
وفي بعض الروايات: قلت: فما بالهم إذا شهدوا أنه قتله بأرض كذا، وهم عندك، أقدت بشهادتهم.
قال: فكتب عمر بن عبد العزيز، في القسامة، أنهم إن أقاموا شاهدي عدل: أن فلانا قتله، فأقده، ولا يقتل بشهادة الخمسين الذين أقسموا.
قالوا: ومنها: أن من الاصول، أن الايمان ليس لها تأثير في إشاطة الدماء.
ومنها: أن من الاصول: أن البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر.
ومن حجتهم: أنهم لم يرو في تلك الأحاديث، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بالقسامة، وإنما كانت حكما جاهليا، فتلطف لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليريهم كيف لا يلزم الحكم بها، على أصول الإسلام، ولذلك قال لهم: أتحلفون خمسين يمينا أعني لولاة الدم، وهم الانصار -؟ قالوا: كيف نحلف، ولم نشاهد؟ قال: فيحلف لكم اليهود.
قالوا: كيف نقبل أيمان قوم كفار؟ قالوا: فلو كانت السنة أن يحلفوا وإن لم يشهدوا لقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي السنة.
قال: إذا كانت هذه الاثار غير نص في القضاء بالقسامة، والتأويل يتطرق إليها، فصرفها بالتأويل إلى الاصول أولى.
وأما القائلون بها، وبخاصة مالك، فرأى أن سنة القسامة، سنة منفردة بنفسها، مخصصة للاصول، كسائر السنن المخصصة، وزعم أن العلة في ذلك حوطة الدماء، وذلك أن القتل لما كان يكثر، وكان يقل قيام الشهادة عليه، لكون القاتل إنما يتحرى بالقتل مواضع الخلوات، جعلت هذه السنة حفظا للدماء، لكن هذه العلة تدخل عليه في قطاع الطريق، والسراق، وذلك أن السارق تعسر الشهادة عليه، وكذلك قاطع الطريق.
فلهذا أجاز مالك شهادة المسلوبين على السالبين، مع مخالفة ذلك للاصول، وذلك أن المسلوبين مدعون على سلبهم انتهى.