كيف نتعامل مع النصوص
( أ ) المسلك الأول:
الأخذ بظواهر النصوص ويلزمنا حينئذ إما الترجيح بين أدلة الكون السفلي وأدلة الكون العلوي أو الجمع بينها.
أولا: الترجيح بين الأدلة: وبالنظر إلى أن النصوص الدالة على الكون السفلي أكثر من النصوص الأخرى فيكون الله سبحانه موجودًا في الأرض بذاته- تعالى عن ذلك- وهذا لا نقول به لمنافاته للتنزيه.
ثانيًا: الجمع بين النصوص الدالة على الكون العلوي والسفلي: فيكون الله سبحانه موجودًا بذاته في كل مكان- في أرضنا والأرض السابعة وفي السماء وفوق العرش… - كظواهر الآيات: {وهو الله في السماوات وفي الأرض}( ) سورة الأنعام، الآية 3.
،{ وَهُوَ الَّذِي في السَّمَاءِ إلَهٌ وَفي الأَرْضِ إلَهٌ }( ) سورة الزخرف، الآية 84.
{ألاَ إنَّهُ بِكُلِّ شَيءٍ مُّحِيطُ(} ( ) سورة فصلت، الآية 54.
وهذا أيضًا لا نقول به لمنافاته للتنزيه.
(ب) المسلك الثاني: التنزيه وهو مذهب أهل الحق:
وهو أن الله سبحانه منزه عن المكان والحدود والتحيز وما إلى ذلك فهو سبحانه كان موجودًا وليس ثمة عرش ولا سماء ولا أرض-قال عليه السلام: « كان الله ولا شيء غيره » أخرجه البخاري- ولم تحدث له سبحانه صفة بعد خلقها، وهو الآن على ما عليه كان.
وإذا كانت النصوص الدالة على الكون السفلي مصروفة عن ظاهرها بقرينة تنزيه الله وتعظيمه وتفسر المعية أو الأقربية المذكورة في النصوص بمعية العلم أو النصرة والتأييد وكذلك الأقربية وغيرها حسب القرائن الواردة في نفس النصوص، فكذلك النصوص الواردة في الكون العلوي: (في السماء) أو (على العرش) مصروفة والتقدير بالقرائن الواردة في نفس النصوص.
يقول الإمام شهاب الدين بن جهبل في رده على استدلال بعضهم على الفوقية الحسية بقوله تعالى: { يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ }( ) سورة النحل، الآية 50.
« الفوقية ترد لمعنيين:
أحدهما: نسبة جسم إلى جسم، بأن يكون أحدهما أعلى والآخر أسفل. بمعنى أن أسفل الأعلى من جانب رأس الأسفل. وهذا لا يقول به من لا يجسم. وبتقدير أن يكون هو المراد وأنه تعالى ليس بجسم فلم لا يجوز أن يكون (من فوقهم) صلة لـ(يخافون) ويكون تقدير الكلام: يخافون من فوقهم ربَّهم. أي أن الخوف من جهة العلو وأن العذاب يأتي من تلك الجهة.
وثانيهما: بمعنى المرتبة، كما يقال (الخليفة فوق السلطان) و(السلطان فوق الأمير) وكما يقال جلس فلان فوق فلان، والعلم فوق العمل، والصياغة فوق الدباغة. وقد وقع ذلك في قوله تعالى حيث قال:{ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَتٍ}( ) سورة الزخرف، الآية 3.
) ولم يطلع أحدهم على أكتاف الآخر، ومن ذلك قوله تعالى: { وَإنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ( }( ) سورة الأعراف، الآية 127.
) وما ركبت القبط أكتاف بني إسرائيل ولا ظهورهم ( ) الحقائق الجلية ص 54. أ.هـ
قلت: ووقع ذلك أيضًا في قوله تعالى مخاطبًا المؤمنين:{ فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُواْ إلَى السَّلْمِ وَأنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ }( ) سورة محمد، الآية 35.
ويمكن القول تعقيبا على حديث الجارية: «وأما عدم صحة الاحتجاج به في إثبات المكان له تعالى فللبراهين القائمة في تنزه الله سبحانه عن المكان له تعالى فللبراهين القائمة في تنزه الله سبحانه عن المكان والمكانيات والزمان والزمانيات. قال الله تعالى:{ قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله(} ( ) سورة الأنعام، الآية 12.
وهذا مشعر بأن المكان وكل ما فيه ملك لله تعالى. وقال تعالى:{ وَلَهُ مَا سَكَنَ في الَّيْلِ وَالنَّهَارِ(} سورة الأنعام، الآية 13.
وذلك يدل على أن الزمان وكل ما فيه ملك لله تعالى.
فهاتان الآيتان تدلان على أن المكان والمكانيات والزمان والزمانيات كلها ملك لله تعالى، وذلك يدل على تنزيه سبحانه عن المكان والزمان كما في (أساس التقديس) للفخر الرازي » أ.هـ
وقد استنبط إمام الحرمين عبد الملك الجويني تنزه الله سبحانه عن الجهة من نهيه عن تفضيله على يونس بن متى عليه السلام، ولفظ البخاري «لا يقولن أحدكم أني خير من يونس بن متى». يقول الإمام الجويني: «إن هذا الحديث يدل على أن النبي وهو عند سدرة المنتهى لم يكن بأقرب إلى الله من يونس عليه السلام وهو في بطن الحوت في قعر البحر، فدل ذلك على أنه تعالى منزه عن الجهات وإلا لما صح النهي عن التفضيل» أ.هـ وتابعه على ذلك الفهم واستحسنه الكثير من أئمة أهل الحق منهم القاضي ابن العربي والقاضي عياض والقرطبي والسبكي والكوثري