الأحد، 25 مارس 2012

موسوعة العقيدة - أسماء الله الحسنى : التواب

التواب


 مع الاسم السابع والعشرين من أسماء الله الحسنى والاسم المقرر: التواب.
 أخي القارئ الكريم: ما من عبد إلا وله خِبرة - إن صحَّ التعبير - مع هذا الاسم، خبرة لا حدود لها.
 قبل أن نتحدث عن معنى الاسم لغوياً، وعن صيغته، وعن تصريفاته، وعن معانيه المتعددة، وعن بعض الآيات التي ذكر فيها، قبل أن نفعل ذلك ؛ لا بد من عدة مقدمات تُلقي ضوءاً على حقيقة هذا الاسم.
 مثلاً يمكن أن تُفتح ثانوية وتكون أنت مديرها، وأن يُسجل الطلاب فيها، وأن يوضع لهذه الثانوية نظام داخلي دقيق جداً، وأن تستقبل الطلاب، وأن تُلقى المحاضرات، وأن تُجرى المذاكرات، وأن تعين مواعيد الفحوص، وأن تُجرى الفحوص، وأن ينجح من يستحق النجاح ويرسب من يستحق الرسوب، وأنت في أعلى درجات العدل ؛ فإذا طلبت علامات الطلاب من مدرسيهم بعدَ شهر من بدء العام، وتابعت المُقصّر وجئت به ونصحته فلم يرعَوِ؛ فهددته، وأحضرت وليه، وضغطت عليه إلى أن غيّر خطته، وضاعف جهوده فإذا هو من الناجحين ؛ لكنك لو أهملت هذا الطالب وعاملته وفق النظام الداخلي، فأنت في أعلى درجات العدل، أما إذا تتبعت أحواله وقبل فوات الأوان، ووجّهته ونصحته وضغطت عليه حتى غيّر أسلوبه، وضاعف جهوده فاستحق النجاح فأنت الآن في أعلى درجات الرحمة.
 إن طبقت عليه الأنظمة العادلة، فأنت في أعلى درجات العدل، لكنك إذا تتبعت أحواله، وذكّرته تارة، وهددته تارة، وشجعته تارة وكافأته تارة، وعاقبته تارة حتى استقام أمره وحتى استحق النجاح فنجح ؛ فأنت بهذه الطريقة عاملته بأعلى درجات الرحمة.
 يُمكن أن تُرسل ابنك إلى بلدٍ غربي، وأن تُعطيه المبلغ الذي يلزمه، وأن تُهمل أخباره، ثم بعد خمس سنوات فوجئت بأنه قد ضيّع هذا المال على شهواته وأنه لم يدرس إطلاقاً، وعاد بخُفيّ حُنين. فتقول له: يا بني أنا بذلت من أجلك كل شيء وقدمت لك هذا المبلغ الضخم وضيّعتَه، فأنت في أعلى درجات العدل. ولكنك إذا تتبعت أخباره، وذهبت إليه تارةً واستقدمته تارةً، وقللّت المصروف تارةً وهددته تارةً، ورغّبته تارةً، وشجعته تارةً، حتى عاد إليك بعد أربع سنوات وهو يحمل درجة الإجازة فقد عاملته فضلاً عن العدل بأعلى درجات الرحمة.
 قَد تعيِّن موظفاً تحت التدريب مدة ستة أ شهر، فيمكن أن تراقبه فقط فكلما أخطأ سجلتها عليه خطيئته، حتى أصبح حجم أخطائه لا يحتمل ففصلته وأنت في بحبوحة لأن هذا الفصل كان ضمن الستة أشهر، فأنت ماذا فعلت ؟ عاملته وفق قيم العدل، فالعقد: ستة أشهر، تحت المراقبة والتجريب ؛ ولكنك إذا أردت أن تعامل هذا الموظف بالرحمة، فكلما أخطأ تقول له: لا، هذا لا يصح وهذا هو الصحيح، فإذا هو يستقيم شيئاً فشيئاً، وبعد حين يعجبك وتتمسك به، شتان بين أن تعامل من حولك بالعدل، وبين أن تعاملهم فوق العدل بالرحمة.
 فالله سبحانه وتعالى خلق الإنسان ومنحه العقل، وجعل الكون نعمةً، كلُّ ما فيه يدل على أسمائه الحسنى، وأعطاه العقل، وركّب فيه الفطرة، وزوّده بالشرع، وخيّره وأودع فيه الشهوات، وأعطاه قوة فيما يبدو، وتركه إلى أن يأتيه أجَلُهُ، فإذا هو من أهل النار. فالله عز وجل عامله بالعدل، لكنه لما كان في مقتبل حياته لو أنه اتجه إلى أن يسرق فأدبه الله عز وجل وخَوّفَهُ تارةً وأدبّه تارةً وضيّق عليه تارةً وجمعهُ مع أهل الحق تارةً وقبضه تارةً وشرح صدره تارةً إلى أن صلح هذا الإنسان وصار من أهل الجِنان، بماذا عامله الله عز وجل ؟ بالرحمة.
 إذاً: اسم التواب من أين نفهمه ؟ من رحمة الله عز وجل فقد أعطانا العقل، وأعطانا الاختيار، وأودعَ فينا الشهوات، وخلقَ الكون دالاً على أسمائِه وصفاتهِ، مَنَحَنا قوةً فيما يبدو، وركّبَ فينا فِطرةً عالية وأرسل الرسل ومعهم الشرع:
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)﴾
(سورة فصلت)
 هذا هو العدل ؛ لكن الرحمة بالمتابعة، الله معك في كل خطراتك، معك في كل حركاتك، معك في كل تصوراتك، معك في كل طموحاتك، معك في سرِّك، معك في جهرك، معك في خلوتك، معك في جلوتك، معك في كل حال من أحوالك، وكل شأن أنت فيه هو معك وله شأن، كل شأن أنت فيه فلله معك شأن يقابله ؛ إن كان شأنك الإعراض فشأنه التأديب، وإن كان شأنك الإقبال، فشأنه التجلّي، وإن كان شأنك العدوان، فشأنه العِقاب ؛ وإن كان شأنُك الإحسان ؛ فشأنه الإكرام. يعني المتابعة، فأنتَ لن تكون رحيماً إلا إذا تابعت من حولك المتابعة اليومية حتى في الدعوة إلى الله عزّ وجل فهناك عالِم وهناك مربٍ، فالعالِم يُلقي الدرس وانتهى الأمر لا يعنيه المجتهد ولا مَنْ يفهم، ولا من استوعب ولا من لم يستوعب، ولا من طبّق ولا من لم يُطبق، ولا من تقدّم ولا من تأخر ولا من حضر ولا من غاب، ألقى الدرس وانتهى الأمر، فهذا اسمه في عالم التدريس معلم. لكنَّ المُربي هو الذي يُتابع، وذات يومٍ سألني سائل: فقال إنك تحدثنا عن علم الشريعة وعن علم الطريقة، وعن علم الحقيقة، فالأمر واضح تماماً عندي بين علم الشريعة وعلم الطريقة، ولكن ليس لدي الوضوح الكامل بين علم الطريقة وعلم الحقيقة ؟
 أردت أن أشرح له فشعرت أن الموضوع دقيق جداً، فُألهمتُ مثلاً طَرِبَ له، قلت: جبل شامخ فيه تِلال ووديان ومسارب ومداخل وفي قمته قصر مُنيف فيه كل شيء تشتهيه النفس. هناك علماء ثلاثة: عالم يُبيّن لك أن في هذا القصر ثلاثمائة غرفة وفيه أبهاء مُدَفَّأَةَ تدفئة مركزية وفيه تكييف، وفيه من أنواع الطعام ما لذّ وطاب، وفيه حدائق وغرف نوم وثيرة، فهذا العالِم يُبيّن لكَ ما في القصر فهذا عالِم الشريعة، وقد قال لك: القصر مُدفأ وأنت تشعر بالبرد فيه طعام نفيس وأنت جائع، والقصر فيه راحة تامة وأنت مُتعب.
 أما عالِم الطريقة فهو يعرف طريقاً لِهذا القصر من أين تذهب وفي أي مركبة تركب ؟ وكيف تُقدّم الوثائق عِندَ الحواجز وكيف تصل إلى هذا القصر ؟ يُبيّن لكَ طريق الوصول إليه وأنت واقف في مكانك، لكنَّ عالِم الحقيقة هو الذي يأخذ بيدك ويُدخلك إلى القصر.
 كلُّ النعيم وكلُّ الدفء، وكلُّ الطعام الطيب، وكلُّ الفرش الوثيرة، وكلُّ الأمن، وكلُّ المناظر الجميلة، وكلُّ النباتات الرائعة، وكلُّ الفواكه الطيبة، كلها في هذا القصر. والذي يأخُذ بيدك ويدخلك إلى هذا القصر، هو عالِم الحقيقة. والذي يَصِفُ لكَ الطريق إليه، هو عالِم الطريقة. والذي يَصِف لكَ القصر وما فيه وأنت في مكانك ؛ هو عالِم الشريعة. فإذا أردنا أن نبقى في مُصطلحات الإسلام فهناك إسلام، وهناك إيمان، وهناك إحسان.
 الإحسان أن تدخل لهذا القصر وأن تستمع بما فيه، وفي الحقيقة هو الهدف الأخير وهو المعول عليه. فالله عزَّ وجل خلقنا للجنة وخلقنا لسعادة أبدية:
﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾
(الآية 119 من سورة هود)
﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾
(سورة الذاريات)
 هذا هو الهدف، فمن المُمكن أن تُخلق للجنة وأن يُعطيك الله العقل والفطِرة والاختيار والشهوة والكون والقوة والتشريع وانتهى الأمر. أنت تُلاحظ إنساناً يمشي في طريق متعرّج، في طريق العدوان في طريق الانغماس في الملذات متنكراً المنهج الإلهي، فهذا ينتهي به المصير إلى جهنم، لكن ما الذي يحصل ؟ أنَّ ربنا عز وجل لا يدعه هكذا ؛ بل يتدخل، يلفت نظره ويُسمعه الحق، فإن لم يستجب يَسوق له بعض الشدائد فيما بينه وبينه، فإن لم يستجب يرفع مستوى الشِدَّة، وسماه الله عذاباً صُعدَاً.
 والطبيب أحيانا يصف دواءً عيار 250، فإن لم يستفد المريض يغيره إلى عيار خمسمائة، فإن لم يستفد تصبح سبعمائة وخمسين، ثم تصبح ألفاً. كلما كان تأثير الدواء ضعيفاً رفع الطبيب مستواه.
 فما سبق بيانه كان ضرورياً قبل أن أشرح معنى التواب فالقضية قضية الرحمة، قضية أن الله عزَّ وجل يُمكن أن يُعاملنا بعدلِه فنستحق النار، ولكنه إن عاملنا برحمته فإنّما يؤهِّلَنا لدخول الجنة، هذا هو التواب. يعني لم يترِككَ ولكن تابعك وراقبك فأنت تحت سمعه وبصره يُحاسِبُكَ على كل حركةٍ، وعلى كل سكنةٍ، وعلى كل خاطر أكلت مالاً حراماً، مَحَقَ لك من مالك عشرة أمثال، أدَّبك. اعتديت على أعراض المسلمين فساقَ لك مُشكلة بغير حل فبقيت سنوات وأنت في ضيقٍ شديد ثم ألقى في روعك أن هذه المشكلة يا عبدي من هذا الذنب الوبيل فالموضوع موضوع التوبة وهو أنَّ الله عزَّ وجل يُربي عباده ليستحقوا الإكرام في الدنيا حتى إذا كان يوم القيامة كانوا من أهل الجِنان.
 مُنطلق اسم التواب يبدأ من أنَّ الله عزَّ وجل يُعامل عِباده بالرحمة ؛ لو عاملهم بالعدل، لاستحقوا الهلاك. ولا أدري إذا كانت الأمثلة واضحة فأعود وأوجزها ثانية: يمكن أن أرسل ابني إلى بلدٍ أجنبي وأُهمله ولي عليه حجة، يا بني أعطيتك كذا وكذا وأنت أهملت فماذا أفعل من أجلك.
 يُمكن أن تُعيّن موظفاً تحت التدريب والتجريب لمدة ستة أشهر من دون أن تُراقِبَهُ، فإذا لم يعجبك صرفته، لكنك إذا كنت رحيماً ؛ كلما وقع في خطأ صححته له، وبعد شهرين أصبح يُرضيك فتمسكت به.
 يُمكن أن تُنشيء ثانوية، وتضع لها نِظاماً داخلياً دقيقاً، وأن تُهمل الطلاب، هذا نجح، وهذا رسب، لكنك إذا استقدمت الكسول، وسألته عن تقصيره، ووجهته، ووبخته، وكلفته أن يُصحح، وأن يُضاعف جهوده، حتى استحق النجاح ؛ فأنت عاملته بالإحسان. هذه الأمثلة من أجل أن يتضّح معنى اسم التواب.
 أيها القراء الكرام: كُلُكُم يعلم أنَّ التواب على وزن فعال وهي صيغة مبالغة اسم الفاعل، تقول مثلا: تائب مرة واحدة، تواب كثير التوبة. إذا ذكرنا أحد أسماء الله عز وجل بصيغة المبالغة فالمقصود أن الله عز وجل كثير التوبة على عباده أو أنه يتوب على عبده مهما كَبُرَ ذنبه، إمّا كمّاً أو نوعاً وهو شيء معروف عندكم.
 واسم تواب من فعل تاب. تاب يتوب توبة وتوباً بمعنى رجع وآبَ بمعنى رجع، وأنابَ بمعنى رجع، وثابَ بمعنى رجع. تقول: ثابَ إلى رُشدِه. أيّ رجع إلى رُشدِه، وأنابَ إلى ربه وتابَ أي رجع، وآبَ أيّ رجع، تابَ وثابَ وآبَ وأنابَ كلُّ هذه الأفعال بمعنى رجع، إذا قُلنا: الله تواب، أي يعود على عباده بالخيرات، ويعود على عباده بالإحسان يعود على عباده بالرحمة وبالغُفران، هذا معنى أنَّ الله عزَّ وجل تواب وهو معنى من معاني تواب، ولكنَّ المعنى الدقيق مُستنبط من قوله تعالى:
﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)﴾
(سورة التوبة)
 فما معنى تابَ عليهم ؟ تابَ عليهم يعني أنه ساقَ لهم من الشدائد كي يَحمِلَهُم على التوبة، لو تركهم هملاً، وأمدّهُم بصحةٍ جيدة وبأموالٍ كثيرة وأمطارٍ غزيرة وبلادٍ جميلة وهم غارقون في شهواتهم، في ملاهيهم في أفراحهم، في نواديهم، في سُكرهم وانحرافهم في كل الملذّات، فلو أن الله عزَّ وجل تركهم هكذا ليس تواباً، ولكن يسوق لهم من الشدائد ليتوب عليهم.
 أعرف رجلاً رَبِحَ أرباحاً طائلة وأراد أن يُمتّع نفسه فأزمعَ السفر إلى أمريكا وكأنه يتمنى أن يفعل فيها ما يشتهيه وأن يغرق في بحر المعاصي، وهناك شعر بألم شديد في ظهره فتوجه إلى مستشفى، وصور عموده الفقري، فكانت نتيجة التشخيص ؛ ورمٌ خبيثٌ في النخاع الشوكي سمعت من أخيه تتمة الخبر بأنه لم تستطع قدماه على حمله حينما سمع الخبر، قطع رحلته وعاد إلى الشام ومن مسجد إلى مسجد ومن مجلس علم إلى مجلس إلى أن تاب إلى الله توبةً نصوحاً..
 هذا الذي ساقه الله إليه حمله على التوبة فلو أنه تركه هكذا بصحة جيدة وقوة ومال وغِنى وعاد من نزهته الجميلة بعد شهرين أو ثلاثة ليُتابع عمله التجاري وليُعيد الكرّة في العام القادم إلى أوربا وهكذا، فليس الله تواباً.
 أعرف رجلاً ذكياً جداً لكنه يتفنن بالسُخريّة من الدين ومن رجال الدين، يَعُد الدين كله خُرافة، فابتلى فجأة بحالةٍ مرضية، وهو أستاذ فلسفة، وفجأة رأيته في حالة على غير ما أعرفه بها وهي حالة إنابة فلما سألته عن حاله قال: أنا وزوجتي منذ سنة تُبنا إلى الله توبةً نصوحاً وتحجبّت زوجتي، واستقمْنا على أمر الله، وأنا أحضر عندك في المسجد مجالس العلم منذ ستة أشهر، فرحت له وبه فرحاً شديداً، ثم سألته ما السبب ؟ فقال: لي ابنة أصيبت بمرض خبيث في دمها وكنت أحبها حباً جماً وما زلت أعالجها في هذا البلد وذاك البلد حتى اضطررت إلى بيع بيتي، وفي نهاية المطاف راودني خاطر: أنك لو تبت إلى الله أنت وزوجتك لعلَّ الله يشفيها، فتابا إلى الله وشفاها الله عزَّ وجل، وقبل سنة دُعيت إلى حفل عقد قِران وألقيُت كلمة في هذا الحفل وقلت له: أهي هي ؟ قال: هي هي.
 والله أيها الإخوة القراء: كل حادثة أو واقعة أسمعها أحِسُّ أنَّ رحمة الله عزَّ وجل لا حدود لها، فلو ترك العباد على معاصيهم وانحرافاتهم وشرودهم عن الله عزَّ وجل وانغماسهم في الملذّات وأكلِهم المال الحرام وتطاولهم على الحق، فلو تركهم هكذا لاستحقوا النار ولأُدخلوها ولكنه يرحمهم. ومعنى ذلك أنّهُ يتوب عليهم أي يسوق لهم من الشدائد ما يحمِلُهُم بها على التوبة.
 هُناك رجل همُّه الوحيد أن يُفسد عقائد المؤمنين، وهو يُؤمن في كل كُريّة في دمه أنه(لا إله)،وأن كل شيء متعلّق بالدين خُرافة بِخُرافة وهو يجهد في إفساد عقيدة كل مؤمن، جاءته بنت صغيرة وأحبها حباً لا حدود له فارتفعت حرارتها، أخذها إلى الطبيب ووصف لها الدواء وبقيت حرارتها مرتفعة، ومن طبيب إلى طبيب إلى طبيب إلى أن قال له أحد الأطباء الكبار: حالة ابنتك نادرة جداً في المئة ألف من الأطفال الصغار لا تشبه حالتهن حالة ابنتك، هذا مرض مستمر حتى الموت حرارتها أربعون بشكل مستمر وهو يؤمن أنه(لا إله)،فما استطاع تحُمّلِ هذه الصدمة وبكى وتألّم، وبعد حين اختل توازنه وصار يأتي بها إلى دائرته وهو شيء غير مقبول لكونه موظفاً، فخاف أن تموت في غيابه فلم يحتمل، تقول زوجته: بعد شهرين أو ثلاثة من استمرار حالتها المتردية قال لها: أريد أن أغتسل. ويبدو أنه يغتسل لأول مرة في حياته اغتسل وقام ليصلي وهكذا قال حسب رواية زوجته، قال: يقولون إنكَ موجود فإن كنت موجوداً فإما أن تشفي ابنتي وإما أن تميتها وإما أن تميتني وقام وصلى ركعتين، بكى فيهما بكاء شديداً وهُما أول ركعتين في حياته وما إن سلّم من صلاته، حتى انخفضت حرارة ابنته، وشفاها الله.
 من هذه الأحداث الواقعية الشيء الكثير ؛ فمرةً بعد انتهاء درس المساء قال لي شاب: أريد أن أُقابلك، فحدثني وقال: والله يا أستاذ ما من معصية تعرفها إلا وأنا أقترفها على وجه الإطلاق فأيّة معصية تخطر ببالك إلاّ وقد أقترفها، نشأت جاهلاً وعند رجل أَكَدَ لي أنه(لا إله)،سَوّل له أن افعل ما شئت، ثم حدثني عن نجاحه في التجارة وعن أرباحه الطائلة وانحرافه وانحطاطه وسفرياته وقصته قصة طويلة معقّدة إلى أن عاجلته ضربة من الله عز وجل فحطمته فجأة فغدا بلا دخل، واعترته أمراض وبيلة أصابته وأولاده وزوجته، فلم يعد يملك ثمن الطعام ولا ثمن الدواء وتابع وصف ظروفه: والله كأنَّ مطرقة تطرُقُ رأسي كلَّ دقيقة إلى أن مررت بأحد المساجد وسمعت المؤذن يؤذن فدخلت المسجد وصليت لأول مرة في حياتي وبكيت بُكاء شديداً وعاهدت الله على التوبة. فهذه أحداث ووقائع وصلت إلى مسامعي خلاصتها أن الإنسان يجب أن يعلم أنه ما من رجل في الأرض إلا وله مع الله أوضاع وأحوال تنتهي بالإنابة وهذا معنى تواب " إن تابوا فأنا حبيبهم وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من الذنوب والمعايب "... أعرف كيف أداويهم.
 وكثير من رواد المسجد سببُ مجيئهم إليه مشكلة كبيرة ساقَهَا الله إليهم ففزعوا وأنابوا وارتجعوا وتابوا فقَبِلَهُم الله عزَّ وجل وتجلّى عليهم. وهناك أشخاص أصابهم مرضٌ عُضال، أحدهم خاطب الله عزَّ وجل ضارعاً متوسلاً، وهو في غرفة العمليات لاستئصال الورم الخبيث قال: يا رب أعاهدك إن شفيتني من هذا المرض ألاَّ أعصيك ما حييت. وشفاه الله من هذا المرض فبقي ثابتاً على عهده. فلولا هذا الورم الذي ساقه الله له ما كان ليتوب. صدقوني أيها القراء الكرام أنّ عشرات بل مئات بل آلاف الحكايات التي انتهت إلى سمعي مصادفة فكيف لو أنني تتبعت الأمر.0 هذا معنى التواب. يعني..
﴿تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا﴾
 هيَ من أجمل آيات البحث. يعني ساق لهم من الشدائد ما يَحمِلُهُم بها على التوبة فَمَنْ هو البطل ؟ الذي يأتيه طوعاً والذي يأتيه وهو في الرخاء ؟ هذه هي البطولة ولتكن إذاً بطلاً.
 وطبعاً بعد المصيبة فالتوبة مقبولة وجيدة وبارك الله لكلِّ من تاب بعد مصيبة، ولكن الأكمل والأقوى أن تعرفه في الرخاء لا في الشِدة، أن تعرفه وأنت غني وأنت قوي.
 إذاً فالمعنى الثاني: تواب: أيّ يسوق لعباده من الشدائد ما يحملهم على التوبة وأجمل الآيات:
﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)﴾
(سورة البقرة)
 وهذه آيةٌ ثانية:
﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ﴾
 يعني إذا جاءت توبة الله قبل توبة العبد فتعني الشدائد التي يسوقها للعبد وإذا جاءت توبة الله بعد توبة العبد فتعني قبول التوبة. يحملك على التوبة ثم يقبل توبتك وأنت بين دافع إلى التوبة وبين قبول لهذهِ التوبة.
 أنا أتمنى على كل أخ كريم أن يُجري مناقشة منطقية ويسأل نفسه فمثلاً شخص عمره ثمانون سنة لُيحاسب نفسه وليتذكر أنه ما قرَّ يوماً هناك بتقصيرٍ أو انحرافٍ إلا وساقَ الله له شدة وأعاده إليه بعدها، فما بال أحدنا إذاً ينتظر الشدة أن تقع، إذاً فليُعدْ إلى الله بلا شدة وبلا تأديب وبلا مشكلة وبلا مصيبة وبلا تضييق، هذا هو الذكاء، وهذا هو العقل، وهذه هي الحِكمة. هذا كان من ابن الثمانين، أما الشباب فليأخذ العبرة من غيره، مما يقرأ ومما يسمع.
 هُناكَ شيٌء آخر: قالوا: الله عزَّ وجل يتوب على عبده ابتداء أي يسوق له من الشدائد ما يحمله على التوبة وأما تمام التوبة أن يقبَلُهَا منه وأن يُثبّته عليها، فمثلاً: لو قال عبد: يا رب أنا تُبتُ إليك، فهذا الذنب لا أقع فيه مرة ثانية، ولم يقل: يا رب ثبتني اللهم يا مثبّت القلوب ثبّت قلبي على دينك، ثبت قلبي على طاعتك. فلو قال أنا تبت واكتفى بمقاله هذا. وقال: لم يبق عليه شيء بعد ذلك ؟ فهذا الذي ينسب التوبة إلى نفسه ويعتدُّ بإرادته وبقدرته على متابعة التوبة ربما ضَعّفَ الله مقاومته، فوقع في الذنب مرةً أخرى. لذلك تمام التوبة قبولها والثبات عليها لأنَّ الإنسان إذا تاب من ذنب ثم عاد إليه يختل توازنه وينهار، فلو فعلت هذا الذنب للمرة الألف قبل التوبة أهون من أن تفعله مرة واحدة بعد التوبة، دققوا، لأنك إذا فعلته بعد التوبة انهارت معنوياتك وشعرتَ كأنَّ الطريق إلى الله عزَّ وجل غير سالك. أما الشيء الذي يُلفت النظر قوله سبحانه وتعالى:
﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27)﴾
(سورة النساء)
 " لَله أفرح بتوبة عبده من الضال الواجد ومن العقيم الوالد ومن الظمآن الوارد" أعرابي ركب ناقة عليها طعامه وشرابه، ثم جلس ليستريح فشردت عنه فأيقن بالهلاك فجلس يبكي حتى نام ثم أفاق فرأى الناقة عند رأسه فمن شدة فرحه اختل توازنه فقال: يا رب أنا ربك وأنت عبدي.: يقول عليه الصلاة والسلام:
(( لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من هذا البدوي بناقته ))
 واللُه عزَّ وجل يريد أن يتوب عليكم، إذا رَجَعَ العبدُ العاصي إلى الله نادى منادٍ في السماوات والأرض أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله. " وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا "
 جالسْ أهل الدنيا، جالسْ مع أهل الشهوات، جالسْ أهل الفجور هذا الفاجر وهذا العاصي يتمنى أن يَجُرَّكَ إليه حتى إنه يقول له: ضعها برقبتي ومَنْ أنت حتى أضع خطيئتي برقبتك ؟ ثم يقول: الله تواب رحيم وغفور رحيم ولا تُدقق فالله لا يدقق فما هذا الكلام ! هذا ما يقوله الضال لمن يضل، فاسمع وله تعالى:
﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27)﴾
 يجب أن تُقدّس هذه الإرادة الإلهية، فالله عز وجل يُريد لكَ الخير، كما يريد لك السعادة الأبدية.
 هذا الإنسان بعد حين سوف يُعذّب عذاباً لا يُحتمل، بينما هو الآن يركب مرحاً وفرحاً سيارة، وهناك إنسان بعد حين سينال أعلى مرتبة وهو الآن يمشي على قدميه ؛ التقيا في الطريق فمن هو الفائز؟ حسب الظاهر، الذي يركب المركبة الفاخرة، لكن الفائز بعين العقل هو الذي يمشي على قدميه. تصوروا بيتاً فخماً جداً ثمنه مئة مليون فيه كل دواعي الترف وله طريق وعلى هذا الطريق إنسان يمشي على قدميه ليتملك هذا البيت، وإنسان آخر يركب مركبة فارهة باتجاه أن يُشنق في ساحة عامة. التقى هذا الذي يركب المركبة مع هذا الذي يمشي إلى هذا البيت على قدميه في الطريق فهنيئا لمن ؟ لمن يمشي على قدميه، بعيون رؤوسنا، فالتهنئة لراكب السيارة، أما بعيون عقولنا فالتهنئة لمن يمشي على قدميه، فالأمور بخواتيمها.
﴿قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)﴾
(سورة إإبراهيم)
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آَمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(126)﴾
(سورة البقرة)
﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)﴾
(سورة آل عمران)
﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77)﴾
(سورة النساء)
﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)﴾
(سورة القصص)
﴿مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)﴾
(سورة القلم)
﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ (18)﴾
(سورة السجدة)
﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35)﴾
(سورة القلم)
﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾
(سورة الجاثية)
 كلام واضح كالشمس.
 عزيزي القارئ: معنى الله تواب يعني يعود بالخير على عباده فالأمطار من التواب عاد بها علينا، والهواء الذي نستنشقه من التواب عاد به علينا، وهذه الأجهزة التي تعمل بانتظام من التواب عاد بها علينا وكل ما أنعم الله به علينا من التواب فهذا العنى الأول.
 المعنى الثاني: تواب قبل التوبة بمعنى يسوق لعباده الشدائد:
﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)﴾
(سورة الأنعام)
 انظروا إلى الآية ما أروعها بياناً ومعنىً وما أدقّها، ما معنى هذه الرحمة ؟ قال:
﴿ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ﴾
 هذه رحمته رحمته تقتضي ألا يَردَ بأسه عن القوم المجرمين، تصوّر ابناً ذكياً وأبوه عالم، فالابن مقصّر فضربه وضيّق عليه، حاسبه، زجره إلى أن نجح، تابع عليه المراقبة إلى أن صار طبيباً ونالَ أعلى الشهادات، وجلس في عيادته، وثلاثون زبوناً في الخارج وتصوير ومعانيات ودخلّ يومي من خمسين إلى ستين ألف، فيقول: جزى الله والدي كل خير على الضرب الذي ضربني إياه في الصِغَر فلولاه لما كنت اليوم طبيباً. فلو قال الابن: لا أريد الدراسة، فلم يزجره أبوه، بل تركه لأصبح يلهث وراء الناس فيقول: لماذا لم يضربني أبي، ولماذا لم يُضيّق عليّ، أو ينصحني، أو يطردني من البيت لماذا ؟ رحمة أبيه الساذجة ؛ مع جهل الابن في صغره تجعله يحقد عليه، وشدة والده الواعية ؛ تجعل الابن يذوب حباً له.
 أمثلة بسيطة لو فرضنا أنَّ إنساناً كان منحرفاً فضيّق الله عزَّ وجل عليه وخوّفه وأرسل له شدائد إلى أن استقام على أمر الله، فذاقَ طعم القُرب ومعنى الهِداية، وشَعَرَ بعمة الاستقامة فإنه يقول: يا رب لك الحمد على أن سُقت إليَّ هذه الشدائد، والله إني ليسعدني أن أقول لكل مْن ابتلاهم الله ببعض المصائب: ثقوا بالله بلا حدود أنه سيأتي وقت يكشف لك الله فيه عن سر هذه المصائب. فإن لم تذب كالشمعة حباً لله عز وجل ؛ فهذا الكلام هراء لكن ما شاء لله أن نتَقّول، وإنما الأحداث تتكلم، واقرؤوا عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي أخبارهم وعقابيلها الُمثُلُ الواضحة.
 فالإنسان يجب أن يعرف أن الله عزَّ وجل تواب، ومعنى تواب يعني يحبنا، ودائماً نحن في العناية المشددة، في غرفة العناية المشددة تخطيط دائم، يرى فيه عدد النبض، والموجات بشكل مستمر، أنت في العناية المشددة، وأحوال القلب والأعراض على الشاشة، فمثلاً: إنسان يسير في الطريق تفكيره مضطرب، فيُصطدم بعمود، إلى أين تسير يا عبدي ؟ يكون ماشياً بشكل خطأ، أو نظر إلى امرأة لا تَحِلُ له فجأة تأتيه الصدمة، ويُشجُّ رأسه، فالله عزَّ وجل تواب، أكلَ مبلغاً بالحرام فيُضيّع الله له عشرة أمثاله ويُربيه، عامل أَصلَحَ عُطلاً في سيارة وأخذ من الزبون عشرة أمثال والزبون لا يعرف، فعاتبه جاره فأجابه: هكذا العمل وفي اليوم الثالث دخلت في عين ابنه نثرة بُرادة فتكلّفَ له ستة عشر ألف ليرة في الجامعة الأمريكية. فذهب الحادث بربحه الحرام وبالإضافة إلى التأديب.
 أحد تجار الجملة جاءه شخص يريد شراء حاجات من عنده فطلب ست قطع فقط من ألبسة معينة، ولما كان هذا من شأنه أنه يبيع بالجملة فرآها إهانة له، وقال: أنا لا أبيع بالمُفرَق: فأقسم بالله من بعدها أنه مضى عليه ثلاثة وعشرون يوماً ولم يدخل إلى محله أو معمله إنسان. فالله عزَّ وجل تواب.
 انظر إلى النحاس كم هو جميل، من كثرة الطرق أصبح جميلاً وهكذا المؤمن كلما ازداد عليه الطرق يُصبح أديباً وكلامه يصير مضبوطاً وليسَ عِندَهُ كِبْرْ ولا تطاول، هذا معنى التأديب الإلهي وهو معنى التواب أي يُعالجك حتى تُصبح نقياً كالمَلَكِ تماماً.
(( وعزتي وجلالي لا أ قبض عبدي المؤمن وأنا أحب أن أرحمه إلا ابتليته بكل سيئة كان عملها سقماً في جسده، أو إقتاراً في رزقه، أو مصيبة في ماله، أو ولده حتى أبلغ منه مثل الذر ؛ فاذا بقي عليه شيء، شددت عليه سكرات الموت حتى يلقاني كيوم ولدته أمه ))
 أيها القراء الكرام: أرجو أن أكون موضع ثقتكم من أنني لكم ناصحٌ، وأمين إن شاء الله، وأقول وأكرر إن دعوتي مُلخّصة بكلمتين: إما أن تأتيه راكضاً أو أن يأتي بك ركضاً. ويعلم الله كيف يأتي بك، ويعلم كيف يخوفك ويعرف كيف يجعل ركبتيك ترتجفان، ويعلم كيف تسمع الخبر وتقع مغشيّاً عليك، فأقبل على الله طائعاً منيباً فهو الأجدى والأسلم.
 أعرف رجلاً أسرَفَ على نفسه كثيراً وله جارٌ صالح نصحه فلم يرعوِ، ومات على معاصيه، ثم رؤي في المنام يرتدي ثياباً خشنة قميئة مهترئة ويدور حول بحرة ويقول: نصحني فُلان ما انتصحت يا ليتني انتصحت، لو أنه نصحكم فاسمعوا نصيحته، فالإنسان ما دام قلبه ينبض فيقول لك: التخطيط سليم فالتوبة مفتوحة، وما دام القلب ينبض فالباب مفتوح فأدرك بنفسك رحمة الله فهي قريبة.
 قال لي صاحب معمل: قبل عشر سنوات كنت أفقد مالاً، أضع ألفين مثلاً في جيبي ثم لا أجد شيئاً، فهناك عامل يسرقني وبقيت شهراً أراقب والسرقة مستمرة بالمال والبضاعة، ثم توقفت السرقة، وبعد عشر سنوات طرق بابي شاب ملتحٍ قال: أنا فلان هل عرفتني ؟ فقلت: نعم كنت عندنا في المعمل قال: كنت أسرق منك وتبت الى الله عزَّ وجل، وها أنا بين يديك جئت لأردّ لك كل الذي أخذته منك. فقال له: والله نظير هذه التوبة وهذه الأوبة سامحتك ولك مكان في معملي إذا شئت أن ترجع.
 ما دامَ القلب يَنبِضْ، فالحل سهل وكله يستدرك ويصحح فممكن أن تؤدي الذِمم المُترتبة عليك سابقاً، ومُمكن أن تُعيد الحاجات لأصحابِها، ومُمكن أن تستسمح من اغتبته. كله مُمكن فإما أن تأتيه راغماً وإما أن يحملك على أن تأتيه راغماً فالأولى أرقى وأشرف وأجمل وأحلى.
 فالتوبة الأولى:
﴿ ثم تاب عليهم ليتوبوا ﴾
 يحمل على التوبة والثانية:
﴿ تابوا فتاب الله عليهم ﴾
 يعني قَبِلَ توبتهم، وإذا قَبِلَ توبتهم يعني ثبتّهم عليها.
 خبر مسند أنه صلى الله عليه وسلم دعا لأمته عشية عرفة: واستغفر اللهَ لهم فأوحى الله إليه أني قد غفرت لهم ما بيني وبينهم ولم أغفر لهم ظلم بعضهم لبعض. ما بيننا مغفور لكن ما بينكم وبين العباد لا بد من أن يُصحح وهذا معنى قوله تعالى:
﴿يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ﴾
( سورة الأحقاف الآية: 31)
﴿يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ﴾
(سورة نوح الآية: 4)
 يعني بعض ذنوبكم.
 أتمنى أن يكون لديّ متسع لنوسع هذا الموضوع بحثاً لكن يبدو لى أن الموقف العملي من قبل القارئ الكريم أبلغ من التفصيلات... وليحاسب كل إنسان نفسه حِساباً دقيقاً، وأسعد إنسان من التزم منهج الله في كُل أحواله، وأسعد إنسان من أطاع الله حقاً، وإن لنا في قوله تعالى ما يريح النفس ويشفيها.
﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً (71)﴾
(سورة الأحزاب)
 كذلك ففي قوله تعالى التكريم والإكرام
﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)﴾
(سورة الحجرات)
 ألا يكفي المظلوم أن يكون ظالمه في معصية الله.
 أيها القراء الكرام: معنى تواب أي لا يعاملك بالعدل فحسب بل إن الله يتابع عبده إلى أن يكنفه برحمته، فالأب الرحيم كل يوم ينادي ابنه ويسأله عن أعماله المدرسية وماذا كتب وحفظ ؟ أمّا أن يتركه حتى يرسب ويقول قدمت الذي علي فيجيبُهُ الابن: صحيح لكنك لم تكن رحيماً بل كنت عادلاً أمّا الرحيم الذي يُتابع.
 ربنا عزَّ وجل هو التواب حَمَّلَك الأمانة إذ حملتها وكلّفك بالأمانة، ومنحك عقلاً وسخر لك كوناً وأعطاك اختياراً وأعطاك شهواتٍ وفِطرةً وشرعاً، ومع ذلك يُتابع أحوالك بالنصح مثلاً:
 حدثني أخ كريم أنه كان بحاجة إلى مبلغ من المال، إذ وجد بيتاً ثمنه مغرٍ جداً بقيمة "35000 ل. س " والموضوع قديم، وهو معروض عليه بـ " 25000 ل.س" ومعه عشرة آلآف ويلزمه خمسة عشر ألفاً ومعه سندات مصرفية فذهب إلى المصرف ليحسم هذه السندات، والحسم رباً معكوس ومدير البنك ليس مسلماً بل ذميّاً. فقال له: يا أبا فلان، أنت مسلم وهذه حرام في دينكم، ابقَ نظيفاً. فقال: صرت أبكي، أنا أتلقى نصيحة من إنسان غير مسلم في أمر ديني. فقال: يا رب أعاهدك ألا أشتري هذا البيت ولا أعصيك، فقال لي: ثم توجهت من المصرف إلى محلي التجاري فوجدت صديقاً قديماً ينتظرني فقلت: خيراً فقال: أريد السفر لأحد بلدان الخليج ومعي ستون ألفاً لست بحاجة إليها، وأريد أن أودعها عندك لمدة سنتين وأُناشُدكَ الله أن تستعملها إن احتجت، أقسم بالله أنه بعد نصف ساعة من عودته من المصرف وقراره ألاّ يعصي الله. كان صديقه عنده وكان المبلغ بين يديه ليستخدمه حلالاً.
 فالله سبحانه وتعالى حكيم فإن كان المرء يأتي بإشارة فلا ضرورةً لكلمة، وإن كان يأتي بكلمة فلا حاجة للضرب، كلما كان للإنسان حساسية فهو يفهم بالإشارة. وأحيانا يُحِس الإنسان بإنقباض فيقول: هناك في الأمر شيء. وهناك من الناس من يحتاج إلى تأديب علني أو عذاب مهين أوعذاب عظيم أوعذاب أليم فكلما ارتقت مكانة الإنسان عِندَ الله تكفيه الإشارة، فالحُر تكفيه الإشارة.
 تواب: أي أنه لن يتركنا بل يُريدنا، نحن مطلوبون إليه خلقنا ليرحمنا، خلقنا ليُسعدنا في الدنيا والآخرة. فافهم أنَّ الحُر تكفيه الإشارة، فإذا قصّرت يأتي بِكَ، وأُحِسُّ أحيانا أن كثيرين قد تركوا مجالس العلم ثم لم يمض إلا أشهر حتى عادوا فلعله حدثت لهم مشكلة فيهرول أحدهم مسرعاً. فابقَ ثابتاً لأنَّ الله يدعوك إليه ولا تكن كالقارب الصغير شأنه اضطراب باضطراب ولكن كالسفينة الراسخة:
﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)﴾
(سورة الأحزاب)
 انتهى الأمر وغدا جلياً واضحاً فأنت عاهدت خالق الكون فإذا عاهدت الله على الطاعة وعلى تلقي العلم وخدمة الناس فابقَ ثابتاً. فأنا أقول لكل شخص: إذا امتحنك الله بالنزول فظهرت كَرَّاتك جيدة فإننا نريد أن نراك بالصعود ارتقاءً إلى الله، فبادر.
 هذا معنى اسم التواب، وأرجو الله سبحانه وتعالى أن يتوب علينا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:
(( إذا رجع العبد العاصي إلى الله نادى منادٍ في السماوات والأرض أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله ))