الهادى
مع الاسم الثامن والعشرين من أسماء الله الحسنى والاسم هو الهادي، والله سبحانه وتعالى، خَلَقَ ثمَّ هدى.
شققنا الطريق، ثم وضعنا الشاخصات، صنعنا الآلة وأصدرنا كُتيّب التعليمات، الله سبحانه وتعالى خلق الكون ثم نوّره.
كلمة الهادي مأخوذة من فعل هدى، والهادي اسم فاعل، ما معنى هدى ؟ إن الله عز وجل يقول:
﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)﴾
(سورة يونس)
يعني خُلِقتَ لِيُسعِدَكَ، لا سعادة تنقطع عند الموت، بل لِيُسعِدَكَ إلى الأبد، وما الحياة الدنيا إلا إعداد لهذه الحياة الأبدية، إذاً:
﴿ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾
الصراط هو الطريق، الله عز وجل أعطى الإنسان حرية الاختيار ؛ فمن شاء الهُدى هداه إلى صراط يؤدي إلى دار السلام، خُلقت لدار السلام، دار السلام هي الجنة، خُلقت لدار السلام وأنت مُخيّر، فإذا اخترت دار السلام هداك الله إلى الصراط المستقيم الذي يوصلك إلى دار السلام، آيةٌ دقيقة المعنى جداً، لا تظنوا كما يظن بعض الناس أن الله سبحانه وتعالى خلق الناس ليعذبهم، لا تظنوا أن هذه المصائب عشوائية ؛ وأن هذه المصائب مقررة من قِبَل الله عز وجل لإلجاء العباد إلى بابه قال تعالى:
﴿ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾
ما معنى الهِداية ؟ الهِداية: الإمالة، هداه أي أماله، أي وجهه نحو الحق، فالهِداية في اللغة معناها الإمالة، وتُسمى الهديةُ هديةً لأن من شأنها أن تُميل قلب المَهْدي إليه.
يقول الإمام الجنيد قال: " اهدنا الصراط المستقيم ؛ يعني يا رب مِلْ بقلوبنا إليك، وأقم هِمَمنا بين يديك، واجعل دليلنا منك عليك "، النقطة الدقيقة: هي أن الإنسان مُخيّر، ومعنى مُخيّر أمامه عِدة خيارات، قال تعالى:
﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3)﴾
(سورة الإنسان)
مَن هو الداعية ؟ هو الذي يقنعك بأن تتجه إلى طريق الحق عن طريق ماذا ؟ عن طريق الإقناع، وعن طريق الدليل، وعن طريق التبيين، وعن طريق التوضيح ؛ فربنا عز وجل هو الهادي.
وبناء عليه فكم طريقة من الطُرق يهتدي بها الإنسان ؟.. بادئ ذي بدء فالله سبحانه هدى الإنسان إليه عن طريق الخلق، وأول مخلوقاته الكون، والله قوي، وفي الكون مظاهر قوته. وهو الغني وفي الكون مظاهر الغِنى. وهو عليم وفي الكون مظاهر العِلم. وهو رحيم وفي الكون مظاهر الرحمة. يعني بإمكانك أن تقول: إنَّ الكون مظهر لأسماء الله الحُسنى ولِصفاته الفُضلى. فإذا أردت أن تفكر في الكون وصلتَ إلى الله إنه صنعته، منه تصل إلى الصانع. إنه خلقه، منه تصل إلى الخالق، إنه كونه، منه تصل إلى المكوّن. إنه تنظيمه، منه تصل إلى المُنظِّم. به ترى العِلم، به ترى الحِكمة، به ترى القُدرة، به ترى اللُطف، به ترى العطف، به ترى الرحمة، به ترى الخِبرة، كل ما في الكون يدلُّ على الله عزَّ وجل.
وقد تنظر إلى وردة فكأنَّ الله سبحانه وتعالى تجلّى عليها باسم الجميل. فإذا رأيت البحر هائجاً، تجلّى الله عز وجل على البحر باسم الجبّار. تارةً ترى اسم الجبّار، تارةً ترى اسم القهّار، تارةً ترى اسم المُنتقم، تارةً ترى اسم العليم، تارةً ترى اسم الحكيم، تارةً ترى اسم العليّ الكبير. فكُلُّ مظهر في الكون ؛ يدلُ على اسمٍ من أسمائِه ؛ أو على كل أسمائه فكيف هدانا الله ؟، الله قال:
﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)﴾
(سورة يونس)
﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24)﴾
(سورة عبس)
﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8)﴾
(سورة الطارق)
فإذا أردت أن تهتدي إلى الله فحسبُكَ الكون، وقد قال عليه الصلاة والسلام:
(( حسبكم الكون معجزة ))
هذا أول باب، ولكني أقول للقارئ الكريم: إن باب الكون أوسع أبواب الهُدى، وأقرب طُرق الهُدى ؛ لأنَّ الكون يضعُك وجهاً لِوجه أمام قُدرة الله، وأمام عظمته، وأمام حِكمته، وأمام رحمته، وأمام عِلمِه وأمام خِبرته. فالله سبحانه وتعالى هداك بخلقه ؛ إذاً الهادي اسم من أسماء أفعاله.
أيها القارئ الكريم يمكنك أن تتأمل آلة وتقول: المهندس خِبرته رفيعة المستوى. وتقول: هذه الألوان التي أعطاها للآلة لطيفة فيها ذوق رفيع. تكتشف علمه، وتكتشف ذوقه، وتكتشف خبرته، لكن أحياناً مع الآلة نشرة، الآن ربنا عز وجل يهدي الإنسان لا بخلقه فحسب بل بكلامه، قال:
﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)﴾
(سورة الحج)
﴿وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78)﴾
(سورة التوبة)
﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)﴾
(سورة النحل)
﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)﴾
(سورة البقرة)
﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14)﴾
(سورة البروج)
﴿إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)﴾
(سورة هود)
وفي الآيات التالية تبين الهدي بكلامه سبحانه وتعالى:
﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)﴾
(سورة الرعد)
﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)﴾
(سورة الشورى)
﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)﴾
(سورة هود)
﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)﴾
(سورة الروم)
﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)﴾
(سورة فصلت)
﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32)﴾
(سورة الشورى )
﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(39)﴾
(سورة فصلت )
﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)﴾
(سورة الروم )
﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)﴾
(سورة الروم)
﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20)﴾
(سورة الروم)
أول بند من بنود الهُدى خلقُه، فالهادي اسم من أسماء أفعاله.
البند الثاني: أن الهادي اسم من أسماء ذاته، لأنه المُتكلّم، فالله مُتكلّم، والقرآن كلامه.
أحياناً تنظر لشيء رائع، ويقول لك صانع هذا الشيء: هذه صنعتها لكذا وهذه لكذا، وهذه المادة الأولية من أعلى مستوى، وهذه الآلة لأجل كذا، فقد أعطاك تعليمات من عنده مباشرةً، فالله سبحانه وتعالى يهدي بكلامه، إذاً الهادي اسم من أسماء ذاته كما أننا عرفنا أنه اسم من أسماء أفعاله.
إذاً: هداك بخلقه ؛ فالهادي اسم من أسماء أفعاله، وإذا هداك بكلامه ؛ فالهادي اسم من أسماء ذاته. اقرأ القرآن. القرآن يُبيّن لكَ أصل الخليقة، حقيقة الحياة الدنيا، ما بعد الدنيا، كما بيّن لك أسماء الله عز وجل، بيّن لك صفاته، بيّن لك أنبياءه السابقين واللاحقين، بيّن لك حكمة الوجود، أَمَرَكَ بالصلاة في القرآن، أَمَرَكَ بالصوم وبالزكاة وبالحج، بيّن لك لماذا تصلي.
﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾
(الآية 45 من سورة العنكبوت)
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)﴾
(سورة البقرة)
﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)﴾
(سورة التوبة)
فالله سبحانه هو هادي، الله هداك بكلامه، فإذا أردت أن تقرأ القرآن ؛ فالقرآن باب إلى الله عزَّ وجل. والكون باب ؛ لكن(الكون)لغة عالمية، يعني يراه ويقرؤه ويفهمه المُسلم وغير المُسلم، العربي وغير العربي، إفريقي، صيني، أمريكي، أوروبي، من أي مكان، الشمس ساطعة، النجوم زاهرة، الكواكب متألّقة، الماء عذب زلال، من جعله عذباً زلالاً بعد أن كان مِلحاً أجاجاً ؟ الكون يقرؤه كل إنسان، لكن القرآن يقرأه العربي.
على كُلٍ ؛ إذا تعمّق الإنسان في معرفة الله عزَّ وجل، تعلّم العربية حُباً بالله عز وجل، وقد تجد شعوباً من غير العرب أتقنوا العربية لا لشيء إلا حُباً بالله عز وجل. كيفَ أنك اليوم إذا أردت أن تأخذ شهادة عُليا من بلدٍ أجنبي، بادئ ذي بدء تتعلم لغة ذاك البلد، يقول لك: سنتان لغة، أي تتعلم لغة البلد الأجنبي الذي قصدته لمدة سنتين.
طالب من طلابي نالَ بعثةً إلى تشيكسلوفاكيا، قال: تعلمتْ لغتهم خلال سنتين، من أجل شهادة دنيوية، من أجل حياة محدودة تعلمتَ لغة هؤلاء القوم كي تتعلم عِلمهم، لذلك إذا عرفت الله عزَّ وجل، ورأيت أن كلامه شيء ثمين جداً، فلابد إنْ كنت غير عربي، من أن تجدَ نفسك مسوقاً إلى تعلم اللغة العربية. والإخوة الأكارم الأفارقة مثلاً، الأتراك الذين وفدوا إلى هذه البلدة الطيبة، لتعلُّم أمور الدين ؛ تراهم يتقنون اللغة العربية، بل إنهم ينزعجون انزعاجاً شديداً لو تكلمنا بكلمة واحدة باللهجة العامية خلال الدرس كله لا يفهمون إلا اللغة الفصحى.
إذاً، إذا بلغ حُبُكَ لله عز وجل حداً مُعيناً ؛ ترى نفسك مسوقاً إلى تعلُم اللغة العربية. إذاً فالقرآن ؛ باب آخر من أبواب الهُدى. الكون ؛ هداك بخلقه. والقرآن ؛ هداك بكلامه. وأرجو ألا تنسوا أنَّ الله عزَّ وجل جعل الكون كله في كفة، وجعل القرآن كله في كفة، قال:
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)﴾
(سورة الأنعام)
فهذه الآية صريحة في ذكر خلق الكون.
لأنهما الكون والقرآن يدلان عليه، لأنهما يُشيران إليه، لأنهما يُظهران أسماءَه الحُسنى، وقال سبحانه في حديثه عن القرآن:
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1)﴾
(سورة الكهف)
فالكتاب ؛ هدىً بياني ؛ والكون ؛ هدىً استدلالي.
لاحظ نفسك، أحياناً تشتري آلة من دون نشرة تعليمات تنظر إليها، تُدقق، تستنبط، تُحرك بعض مفاتيحها، تُشغلها، تُحرّك هذا المفتاح، انقطع التيار، تُحرّك هذا المفتاح علا الصوت أو انخفض ؛ إذاً هذا المفتاح للصوت، تُحرّك هذا المفتاح فيصبح الصوت صافياً، إذاً هذا للتصفية، تكتشف خصائصها بالتأمل والملاحظة، لكن إذا رأيت معها نشرة باللغة العربية تقرؤها.. مفتاح رقم واحد للصوت، الثاني للتصفية.. تَطَابُق، يُمكن أن تتأمل في هذه الآلة فتصل إلى بعض خصائصها ؛ لكنك إذا قرأت التعليمات التي أصدرها الصانع تصل إلى خصائصها الكاملة. إلاّ أن هناك ملاحظة ؛ فأنت من طريق التأمل تصل إلى أشياء كثيرةٍ جداً لكن ما كل شيء تصل إليه من خلال الكون.
الكون، يَدُل على وجود الله، يَدُل على عظمته، يَدُل على أسمائه لكن الكون لا يَدُلُك على الصلاة، مهما تأملّت في الكون أين الصلاة ؟ أين ذكرُ خمس صلوات ؟ أين الفرائض ؟ أين السنن ؟ أين الزكاة ؟ أين الحج ؟ أين الصيام ؟ أين غضُ البصر ؟ هذه لابُدَّ لها من منهج أنزله الله على نبيه عليه الصلاة والسلام. من اكتفى بالكون فقد أخذ شطر الدين، لكن لابُدَّ من أن تهتدي بالكون جزئياً، ومن أن تهتدي بالقرآن كلياً.
القرآن يشتمل على أحكام، كما يشتمل على أوامر، وعلى نواهٍ وفيه منهج كامل، وفيه أخبار السابقين، وأخبار اللاحقين، فيه بيان للمستقبل البعيد، وفيه بيان عن ذات الله عزَّ وجل. لا يكفي الكون وحده بل لا بد من أن يتكامل الكون مع القرآن.
دخلتَ إلى جامعة، تأملت في قاعاتها الفسيحة، تأملت في قاعات المحاضرات الكبيرة، تأملت في حدائقها الرائعة، تأملت في بيوت طلابها، تأملت في مخبرها، تأملت في مسرحها، تأملت في مكتبتها أخذك العجب العُجاب، لكن مهما تأملت في هذه الجامعة وفي أقواسها وقاعات محاضراتها، مهما تأملت في بيوت الطلاب وفي حدائقها وفي مكتبتها، لا يُمكن أن تصل إلى نظامها الداخلي، لا يُمكن أن تصل إلى طريقة النجاح والرسوب، لا يُمكن أن تصل إلى أسماء الأساتذة، تأمل في الجدران من هم مدرسو هذه الجامعة ؟ لابُدَّ من كتاب تقرؤه في بيان الكليات، أقسام الكليات، رؤساء الأقسام، عُمداء الكليات، أسماء الأساتذة اختصاصاتهم ميزاتهم، موقع كل كلية، نِظامُها الداخلي، طريقة النجاح طريقة الرسوب طريقة الانتقال، طريقة الدرجات المقبول، امتياز، شرف، جيد، جيد جداً، هذا شيء لابُدَّ من أن تقرأه في النظام الداخلي.
أنا أقول هذا الكلام وأريد منه أنك إذا فكرت في الكون عرفت عظمة الله عزَّ وجل. أما إذا أردت أن تعرف منهجه، فلابُدَّ من قراءة القرآن. والقرآن في أساسه موجز، فيه كُليّات الدين، جاء النبي عليه الصلاة والسلام فشرحه وبيّنه، فإذا فكرت في الكون عرفت أن لِهذا الكون خالِقاً عظيماً كبيراً عليماً قديراً حكيماً لطيفاً.. الخ.
لكنك إذا أردت أن تعبده، وإذا أردت أن تتقرب إليه، وإذا أردت أن يُحبك، فماذا تفعل؟ أنت الآن بحاجة إلى تعليمات من قِبَل الخالِق يقول لك صُمْ شهرَ رمضان، أدِ زكاة مالك، غُضَ بَصَرَك أحسِن إلى أخيك، اُعفُ عنه، أنت الآن بحاجة إلى تعليمات هذا الخالِق أنت بعقلك عن طريق الكون آمنت بالخالِق، لكنك إذاً أردت أن تعرف منهج الخالِق، أمره ونهيّه، أخبار الأمم السابقة، ماذا يُريد منك، لماذا خُلقت ؟ فلابُد من أن تقرأ كتابه.
أذكّر القراء الكرام مرةً ثانية بمثال الجامعة، دخلت إلى الجامعة أطلعوك على قاعات المحاضرات، على بيوت الطلاب، على الحدائق الغنّاء، على الملاعب، على المكتبة الضخمة، أُعجِبتَ بِها ؛ مهما تأملت في هذه الجامعة، فهل تعرف عن طريق التأمل والمشاهدة كم كُليّة فيها ؛ هل تعرف نظام النجاح فيها ؛ هل تعرف نظام الإقامة في بيوت الطلاب ؟ لا تعرف، هل تعرف من هم المدرسون ؟ لا تعرف، ما أسماء الكتب المقررة ؟ لا تعرف.
إذاً الكون ؛ يَدُلُكَ على وجود الله وعلى أسمائِه الحُسنى والقرآن يَدُلُكَ على منهجه، يعني إذا أردتَ أن تؤمن به ففكّر بالكون، وإذا أردت أن تعبده فاقرأ القرآن، بالكون تعرفه، وبالقرآن تعبده، لا يُغني أحدُهما عن الآخر. إذا قرأت القرآن ولم تفكر في الواحد الديّان كأنك ما قرأت القرآن لماذا ؟ لأن القرآن يأمُرُكَ أن تُفكر، فإذا لم تُفكر فقد عطلّت آيات التفكر في القرآن. إذا فكرت في الأكوان ولم تقرأ القرآن عرفت الصانع، لكن كيف تُصلي وكيف تصوم ؟ أين أمرُه ؟ ما عباداته؟ ماذا يريد منك، فلا تعرف ذلك إلا بمطالعة منهجه المكتوب.
إذاً فالله هداك بالكون ؛ فالهادي اسم من أسماء أفعاله، وهداك بالقرآن ؛ فالهادي اسم من أسماء ذاته لأنَّ الله مُتكلم، هداك بكلامه.
ومن َثمَّ فبعدَ أن خَلَقَ الكون، والكون دلّكَ عليه، وأنزل القرآن والقرآن بيّنَ لك منهجه، وأمره، ونهيّه، وهناك حوادث، كما أن هناك تصرفات، شيء ما يحدث، أمطار تنهمر، سماء تُمطر، سماء لا تُمطر تأتي موجة صقيع:
﴿فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19)﴾
(سورة القلم)
ترى محصولاً ثمنه ألف مليون بثلاث دقائق يتلف بالصقيع ونعوذ بالله من الصقيع، إذاً له أفعال، منها صقيع، ومنها رياح عاتية وأعاصير، وفيضانات، وبراكين، وزلازل، وكذلك أمراض وبيلة وقهر، وفقر هذه أفعاله. خلقُهُ يدلُّ عليه، وكلامه يدل عليه، كما أن أفعاله تدل عليه:
﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)﴾
(سورة هود)
﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)﴾
(سورة الشورى)
فلو فرضنا أن طالباً في المرحلة الإبتدائية ضرب زميل له فشكا للمعلم فعاقبه المعلم وضربه، اثم التقى بزميله فلم يضربه فالمُعلم لا يضربه ثم في لقاء ثالث ضرب زميله فالمُعلم عاد وضربه، مع بقاء المُعلم ساكتاً ألا يَستنبط هذا الطالب من ضرب المعلم له كلما ضرب زميله ؟ أن المعلم لا يُرضيه أن يضرب طالبٌ زميله ؟ إذاً علّمك لا بكلامه، ولا بخلْقه علّمك بفعله. مَنَعَ زكاةَ مالِهِ فتَلَفَ مالُهُ بقدر زكاة ماله، هذا تعليم.
استطلت في أعراض الناس، فالناس استطالوا في عرضك هذه بتلك. تكبرت ؛ فأهانك الله. تواضعت ؛ فَرَفَعَكَ الله.أنفقت ؛ فعوّضَ الله عليك. بَخِلت، فأتلف الله مالَك. غضضت بصرك عن محارم الله، أَسعَدَكَ الله في بيتك. أطلقت بصرك، أشقاك في بيتك كُنتَ مع الناس صادقاً، وثق الناس بك. كذبت عليهم، فَضَحَ أمركَ.
دعك الآن من كتاب الله، ودعك من خلق الله، تعال إلى أفعال الله، أفعال الله وحدها تُعلِّمُكَ، مرةً ثانية ؛ المعلم ساكت لم يتكلّم ولا بكلمة حينما رآك وكزت زميلك وأنت خارج إلى الباحة ضربك على رأسك، في الساعة الثانية ما وكزته فلم يضربْك، في الساعة الثالثة، وكزته فضربك المعلم وهو ساكت، سكوته كافٍ، وفِعلُه يُعلّم، أليس كذلك. طبعاً على هذه الفكرة ينطبق آلاف الوقائع، أفعال الله وحدها تُعلِمُك. خلْقُه يُعلِمُك وكلامه يُعلِمُك، ربنا عز وجل قال:
﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69)﴾
(سورة النمل)
شخص غشَّ الناس صودرت أملاكه فلماذا صودرت ؟ دليل على أذيّته، هذا الذي نصحهم لماذا نمَّى الله ماله ؟ هذا الذي أكرمهم لماذا أكرمه الناس ؟ هذا الذي أعطاهم لماذا أعطاه الله ؟
إذاً: هو الهادي بخلقه، والهادي بكلامه، والهادي بأفعاله هداك بخلقه وهداك بكلامه وهداك بأفعاله، لا أعتقد أنَّ واحداً من الإخوة االقرّاء إلا وعلَّمَهُ الله بالأفعال.. صليتَ الصُبح في جماعة، فشَعَرتَ طَوَالَ النهار أن كلامك سديد، وأن عقلك رشيد، وأن أحوالك عالية، وأن قلبَكَ عامر، وأن الناس قد هابوك، وأن الأمور مُيّسْرَةَ.
في اليوم التالي لم تُصلَ الصبح، فاتتك صلاة الفجر، فواجهتك مشاكل كثيرة: أول مشكلة بالطريق، الثانية بالمحل، الثالثة جاءك موظف تطاول عليك، الرابعة ذهبت إلى فلان فلم تجده.
لقد عَلّمَكَ بأفعالِهِ، يوم صليت الفجر في جماعة ؛ فأنت في حفظ الله وفي ذمته، فلما فاتتك صلاة الفجر، تلاحقت المشاكل في الطريق وفي العمل وفي البيت، هذا تعليم، الله يهديك إليه بأفعاله، تصدقت جاءتك دفعة لم تكن بالحسبان. سألك إنسان سؤالاً فأعطيته رغم أنك مُضطّر للمال فتح الله عليك رِزقاً.
ذكر لي أخ كريم فقال: اتصلت بي أختي صباحاً، قالت لي أريد خمسة آلاف ليرة، قال معي المبلغ ولكني في ضيق شديد وعلي دفعات كبيرة، نشأ صراع في نفسه، ثم غلب نفسه وذهب إلى بيت أخته وأعطاها المبلغ وعاد إلى دكانه في سوق البزورية، فجاءه شخص، وقال أريد هذه السلعة وسَمّاها، قلت: ليست متوفرة لديّ، قال أين توجد ؟ قلت في المعمل الفلاني، فطلب مني أن أدله عليه، فذهبت معه ودللته عليه وعدت إلى محلي، مساءً أتاه صاحب المعمل وأعطاه مبلغاً من المال " طبعاً هذا إذا حسبه على الزبون فيه شبهة أما إذا أعطاه من ربحه لا شيء فيه " قال: أخذت ضعف ما قدمت لأختي صباحاً. ولا أعتقد أن أحداً ممن يقرأ هذا الكلام إلاّ ويلمس أن الله يوماً عامله بما يشبه معاملة ذلك الشخص، قال عليه السلام:
(( أنفق بلالُ ولا تخشَ من ذي العرش إقلالاً ))
((عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَالَ اللَّهُ أَنْفِقْ يَا ابْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْكَ ))
أجل، علّمَكَ الله عز وجل بأفعاله، هو يُعلِّمُكُ باستمرار، لذلك عندما قال:
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)﴾
(سورة البقرة)
يُعلِمُكَ بأفعالِه، لكنَّ الإنسان حينما يفهم عن ربه ما يأمر وما ينهى، وحينما تنعقد صِلةٌ مباشرة، إدراكٌ مباشر، تجد أن هذه لتلك وهذا الصنيع لذاك الفعل.
شخص له استقامته، وله انضباطه، وله ورعه، سافر في أول رحلة بالطائرة، زلت قدمه فأطلق بصره، وصل إلى البلد الآخر فركب سيارة أجرى وأعطى السائق أجرته، فأخذه السائق إلى المخفر، العملة مزوّرة، فقال أنا عضو وفدٍ ومدعوٌ إلى مؤتمر في أعلى درجة، وإذا به في قفص اتهام. قال: والله دمعت عيني وكأنني عاتبت ربي، قال: وقع في قلبي " لماذا أطلقت بصرك يا عبدي"، بالأفعال عاملك.هداك بالخلق وهداك بالقرآن والآن هداك بالأفعال، هو الهادي، إذاً الهادي اسم من أسماء أفعاله، الهادي؛ بالخلق اسم من أسماء أفعاله، والهادي ؛ بالقرآن اسم من أسماء ذاته.
عزيزي القارئ لقد صممك الله تصميماً دقيقاً، مثال ذلك في بعض المحلات التجارية، تجد على البضاعة قسيمة بالسعر، و يوجد مادة على لصاقة السعر، إذا أخرجت هذه البضاعة دون أن تؤدي ثمنها وأنت خارج تحت قوس معين يصدر صوت عالٍ، أما إذا أديت ثمنها يعطل الموظف مفعول هذه المادة بمادة أخرى، فلو رأى واحد شيئاً، قليل الحجم غالي الثمن وضعه في جيبه ولم ينتبه، وخرج من هذا المحل، هذا القوس الذي يَخرج من تحته يُصدر صوتاً مزعجاً، كأنه يقول هذا سارق خذوه ؛ هذه البضاعة مُصممة تصميماً بحيث أنك إذا أخذتها من دون أداء ثمنها تصيحُ بك هذا من صنعة الإنسان، فالله سبحانه وتعالى صَمَمَ لكَ نفساً إذا أسأت تشعُر بالضيق، تُسميه وخز ضمير، تُسميه كآبة، تسميه ضيقاً، ضيق، كآبة، وخز ضمير، ضجر، ضاقت علي الأرض بما رَحُبَتْ صحيح متضايق طبعاً، لأنَّ فِطرتك عالية، فأنتَ حينما أسأت خرجت عن قانون فِطرتِكَ، هكذا علّمَكَ بالفِطرة، علّمَكَ بخلقه وعلّمَكَ بكلامه، وعلّمَكَ بأفعاله، والآن علّمَكَ بالفطرة والدليل:
﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)﴾
(سورة الشمس)
يعني ؛ إذا فَجَرَتْ، تعرف أنها فَجَرَتْ، وإذا اتقت، ارتاحت وبعد، فإن القارئ الكريم وأنا لا أُبالغ يُحس براحة نفسية لا تُقدر بثمن لأنه مطيعٌ لله فكيف يعرف ذلك ؟، لو أنه زلّت قدمه لا سمح الله، لو أنه أطلَقَ بَصَرَهُ، لو أنه فاته فرض صلاة، لو أنه كذب في كلمة، لو أنه اغتاب، لَشَعَرَ كأنه سقط من السماء إلى الأرض، يشعُر بالضيق، يُحس بالحِجاب يُحس أنَّ الله أبعده، أنَّ الله قلاهُ، أنَّ الله لم يقبلْهُ، هذا التعليم الرابع ! هداية الفطرة، الآية الكريمة:
﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)﴾
(سورة الروم)
إقامة وجهك للدين حنيفاً ؛ هو نفسه فِطرة الله التي فَطَرَ الناس عليها، فلا ترتاح إلاّ إذا عَرَفتَ الله، لأنَكَ إذا عرفته أويت إلى رُكنٍ وثيق، إذا وجد موظف في دائرة من الدرجة الخامسة، على أساس الشهادة الثانوية، لكن المديرَ العام صهُره زوج أخته، ترى أن هذا الموظف له وضع خاص، مُطمئن، يُحس بأمن عجيب بهذه الدائرة، لا يخشى لا من رئيسه المباشر ولا ممن هو أعلى من رئيسه ولا من المدير المعاون، كلهم مرتبطون بالأعلى والأعلى يضفي عليه ظله، فهذا إنسان مع إنسان يُحس بالأمن ؛ فكيف إذا كُنتَ مع الله، إذا كُنت مع الله فمن عليك ؟ وإذا كان الله عليك فمن معك ؟ علَّمَكَ بالفِطرَة، الإنسان متى يرتاح ؟ إذا أوى إلى الله، إذا شَعَرَ أن الله يحبه، إذا شعر أنه بعين الله إذا شعر أنه بِحِفظ الله، إذا شَعَرَ أنه يُحب الخلق إكراماً لله، إذا نام مساءً ولم يؤذِ مخلوقاً ولم يكن لأحد حق في عنقه، لم يبنِ مجده على أنقاض الناس، لم يبنِ ثروته على فقر أحد، لم يبنِ أمنه على خوف الناس، لم يبنِ حياته على موت غيره، كان مِعطاءً، كان خيّراً. إذاً أنت لك فِطرة قال تعالى:
﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾
إذا فجرت تعرف.
كنتُ في حفل عقد قِران تبعني شاب كريم، سألني سؤالاً حول موضوع حاك في صدره، فهو حينما فعل هذا الشيء المنكر جاء بِمبررات غير صحيحة، لكنه حينما عاد إلى بلده، قال: والله ما أعجبتني هذه المبررات، كأنني رسبت في امتحان الله عز وجل، لم يُعلِّمُه أحد ولا سأل أحداً ولكنه أدْرَكَ من تلقاء نفِسهِ، أعني أدرك بفطرته.
إذاً: الله عز وجل هداك بخلقه، وهداك بكلامه، وهداك بأفعاله وهداك بالفٍطرة. الله عز وجل له أساليب كثيرة في الهُدى، بل أحياناً يَهديك بالإلهام قال تعالى:
﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾
( سورة القصص الآية: 7 )
هذا وحي إلهام، يقول لك: اللهُ ألهمني أن أسافر، الله ألهمني ألاّ أشتري هذه الصفقة، الله ألهمني ألاّ أشارك فلاناً، الله ألهمني ألاّ أشتري هذا البيت، ما عندي دليل، بل هو إلهام، قال تعالى:
﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ(7)﴾
مرةً في أحد أيام الأعياد، عندي فراغ ونويت أن أذهب لأزور صديقي غربي دمشق، لكني فجأة وجدت نفسي أنساق إلى بيتي بصورة لا شعورية، وبلا سبب، ولا مُبرر، فما إن وصلت إلى البيت حتى فوجئت برجلٍ يأتيني من مكان بعيد من بلد في الشمال جاء لزيارتي في فترة العيد وليس له في الشام بيت آخر يبيت فيه، كيف ؟ هذا إلهام. عندما يستسلم الإنسان لله عز وجل يُلهمه الله، وإلهامات المؤمن كلها لصالحه، بينما إلهامات الكافر، أقول إلهامات الكافر مجازاً ومثله الفاسق، المُنحرف وإنما هي وساوس شيطانية، كلها لغير صالِحِهِ، يوسوس له أن يَعقد هذه الصفقة يُفلس من خلالها. يوسوس له أن يُشارك فلاناً يَنهَبُهُ، يوسوس له أن يفتتح مصلحة أو ينشئ مشروعاً فيكون سبب دماره وخسرانه. هذا وسواس شيطاني، أنت بين إلهام الرحمن أو وسوسة الشيطان، فإذا كنت مع الرحمن ألهمك، وإذا كانَ المرء مع الشيطان وسوَس إليه، هذه طريقة أخرى في الهدى، الله يُلهمك، لذلك قال تعالى:
﴿ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40)﴾
(سورة طه)
أحياناً يُلهمك أن تزور مثلاً هذا المسجد، أنا أتكلّم عن سابق تجربة، إذ ليس من أخٍ اهتدى إلى الله عزّ وجل عن طريق هذه الدروس إلاّ وكنت أسأله سؤالاً صغيراً، أقول له كيف اهتديت إلى هذا الجامع ؟ فأسمع قصصاً عجيبةً، مثلاً دخل شخص ليصلي المغرب مصادفة فرأى جمعاً فجلس، فكان هذا أول درس يحضره وما ترك بعده درساً، هناك إنسان اهتدى عن طريق صديق، عن طريق قريب، عن طريق صاحب عن طريق موعد أحياناً، هذا إلهام.
إذاً بخلقه، بكلامه، بأفعاله، بالفطرة، بالإلهام، كل هذا من فعل (الهادي)، الآن بالرؤيا الصالحة هناك أشخاص إذا رأوا رؤيا صالحة واضحة، صارخة، بارزة، هذه الرؤيا تحمِلُهم على طاعة الله عز وجل، وهذا شيء مؤيِّد، لأنَّ النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( الرؤيا الصالحة جزءٌ من سِت وأربعين جزءاً من النبوة ))
أي أنّ الله عز وجل إذا أراد أن يُعلِمَكَ شيئاً ما بطريق مباشر، بلا اِستنباط ولا تأمّل ولا إدراك، ولا من طريق الأفعال كما في هذه الآية:
﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)﴾
(سورة الأنعام)
الكون.. تفكّروا في خلق السماوات والأرض، في الكون تفكُّر والأفعال نظر، والقرآن تدبُّر، لكن أحياناً يُريد الله عز وجل أن يُعلِمَكَ إعلاماً، مباشراً، سريعاً، حازماً، واضحاً، فقد ترى نفسك تسير في طريق الهاوية، كأن الله يُحذِّرَكَ، يعني أحياناً تتساءل عن سؤال كبير، الله عزَّ وجل يُجيبك عن هذا السؤال في الرؤيا.
كثير من الإخوة الكرام تكلّموا لي قبل أن ينام أحدهم فنشأ عنده سؤال فقال: يا رب أنت ألهمني الصواب، فرأى رؤيا صالحة كأنها إجابة لهذا السؤال، إذاً هذا هُدى عن طريق الرؤيا، لكن هُنا نقطة دقيقة جداً، أيّةُ رؤيا خالفت أوامر الشرع ؛ اسمعوا ما أقول ؛ اركِلهَا بقدمك لأنَّ الشرع هو الثابت وكل ما جاء في الرؤيا خِلاف القرآن الكريم من الشيطان، لو أن أحداً رأى رجلاً صالحاً، ويعتمُّ بعمّةٍ خضراء ووجهه يَشِعُ نوراً وقال له لا تصلِّ، نقول له هذه الرؤيا اركِلهَا بقدمك، لا تُصدق كل ذلك كلام فارغ، نحن عندنا مقياس الشرع، أيَة رؤيا تُخالف أوامر الله تُخالف شرعَ الله عزَّ وجل، لا تعبأ بها، ولا تُقِم لها قيمة، ولا تأخذ بها، ولا تحفل بها فإنها، قطعاً، من الشيطان.
لكنَّ الرؤيا التي من الرحمن لها خصائص، إذا كنت لا سَمَحَ الله مُنحرفاً، ورأيت رؤيا مُخيفة، فهذه من الرحمن قطعاً، وإذا كنت مُحسناً، ورأيت رؤيا مُبشِّرة، هذه من الرحمن قطعاً.
فإذا كُنتَ مُحسناً، ورأيت رؤيا مُخيفة ؛ هذه من الشيطان لكي تخاف، وإذا كُنتَ لا سَمَحَ الله مُسيئاً، ورأيت رؤيا مُبشِّرة ؛ هذه أيضاً من الشيطان الأصل الشرع واستقامتك، فهذه ثوابت.
بالمناسبة ؛ الرؤيا لا يُمكن أن تكون قاعدة، ولا يُمكن أن تكون دليلاً. إنها اتصال مباشر بين العبد وربه فقط، يعني شيء لا يجبر على فعلٍ ولا يُنقل أثره إلى غيره إنما هي شيء شخصي مَحضْ، هذه الرؤيا.
أحياناً يَهديك عن طريق خلقه، لا عن طريق مُخلوقاته عن طريق الأشخاص فمثلاً، يجمعك مع شخص يحكي لك موضوعاً، فحينما ألتقي مثلاً بإنسانٍ ويتكلّم هذا الإنسان، أشعر بطريقة أو بأخرى وأتساءل من الذي جمعني بهذا الإنسان ؟ هو الله، من الذي ألهمه ؟ هو الله، من الذي أنطَقَهُ ؟ هو الله، يعني حينما تكون في طريق غير صحيح، ويأتي إنسان يُبيّن لكَ الصواب، فإني اعتقد اعتقاداً صحيحاً أنَّ هذا الإنسان قد ساقَهُ الله إليك لِيُبلِّغَكَ ولِيُعّرِفَكَ، هذا أيضاً هُدى عن طريق الخلق.
وهناك هُدى من نوعٍ آخر، هذا الهُدى الانقباض والانبساط يقول لك انقبضت، أزمعت أن تسافر إلى جهة ما فشعرت بانقباض، أو شعرت بانشراح، أو الأمور تيّسرت أو تعسّرت، فالانقباض والتعسّير والانشراح والتيسّير هذا تعليم أيضاً، فإذا كان الله راضياً يكون هناك انشراح وتيسير، الله غير راضٍ وأنت مؤمن عِندَكَ حساسية وعِندَكَ إدراكٌ دقيق أنت مؤمن فأصبحَ هُناكَ انقباض وتعسير إذاً هذا شيء لا يُرضي الله عزَّ وجل.
وكخلاصة أوجز بها الموضوع أقول: أحياناً يسلُب الله سبحانه وتعالى لُبَّ عبده أي عقله ويُسيّرَهُ تسييراً سليماً في جهة ما، هذا أيضاً هُدى. فإذا قُلنا الهادي يعني هدانا بخلق الكون، وهدانا بالقرآن وهدانا بأفعاله وهدانا بالفِطرة، وهدانا بالإلهام، وهدانا بالرؤيا، وهدانا عن طريق الأشخاص، وهدانا عن طريق الانشراح والانقباض والتيسير والتعسير، ثمَّ هدانا عن طريق التسيير المباشر. هذه كلها تعني أنَّ الله هو الهادي قال تعالى:
﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5)﴾
(سورة الأعلى)
العلماء لهم تفسيرات دقيقة للهُدى الإلهي، الهُدى أربعة أنواع:
أول هُدى الهُدى العام: الله عزَّ وجل زوّدَكَ بحاسّة الشم تقول رائحة غاز. كيف هداك إلى وجود غاز وفيه خطر على البيت ؟ عن طريق الشم. أحياناً تسمع صوتاً في الغرفة الثانية، كيف هداك أن هناك حركة في البيت ؟ عن طريق السمع، أعطاك حاسة الشم، أعطاك حاسة السمع. أعطاك ملكة الاستدلال والتفكير، أعطاك عِلماً، أعطاك خِبرة أعطاك حواسَ خمساً، هذه كُلُها القدرات التي أودعها الله في المخلوقات هداهم إلى مصالحهم.
إئت بنملة ضع أصبعك أمامها تقف وتُغيّر طريقها، يعني أن الله أعطاها بصراً، أعطاها إدراكاً بأنّ هنا خطراً وهو حاجز، الله عزَّ وجل هدى كل الحيوانات ؛ عن طريق الغريزة إلى مصالحها.
أحد الأشخاص كان في بستان، فرأى قنفذاً يأكل أفعى، أكل قطعة منها ثم تركها وذهب إلى نبات وأكل منه ورقة، ثم عاد، وأكل قطعة ثانية ثم ذهب إلى هذا النبات وأكل ورقة ثانية، فهذا البستاني أمسك النبات وقلعه، وأكل القنفذ قطعة ثالثة ثم ذهب للنبات فلم يجده فمات القنفذ من هداه إلى أن هذا النبات يتناسب مع هذا الطعام ؟ الله عزَّ وجل.
مثلاً: لو أحضرنا أمهر رُبان في العالم، أعلى رُبان على وجه الأرض في علمه ومهارته يحمل شهادات عُليا وعنده ألفا ساعة قيادة سُفن، وعنده دراسات وعنده اختصاص، وعنده خِبرات، لو وضعناه على سفينة بلا بوصلة على ساحل فرنسا، وقلنا له: اتجه بها إلى مصب نهر الأمازون، لا أبُالغ إذا قلت ربما جاء البرازيلَ في جزئها الجنوبي، فلا مجال ولا بدون البوصلة إمكانية، ولو انحرف درجة في بدء مساره لانحرف في النهاية مسافة خمسمئة كيلو متر، أما سمك السلمون يتجه من سواحل الأطلسي إلى مصبات الأنهار في أمريكا، وكل سمكة وُلِدَتْ بمنبع نهر تتجه إلى مصب النهر، وهذه السمكة المتجهة ليست هي التي قدمت عند بدء الرحلة بل أمها هي التي جاءت إلى هنا، ثم وضعت بيضها وربما ماتت في مكانها الجديد، أما السمك الجديد بعد أن يخرج من البيوض يتجه نحو الشرق إلى سواحل فرنسا إلى حيث بدأت رحلة الأمهات فإذا كبرت عادت إلى مصبات الأنهار، قال تعالى:
﴿قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)﴾
(سورة طه)
هذه هِداية، فأول هِداية: هِداية عامة، هُديَ الإنسان إلى طعامه ولباسه إذ صَنَعَ نسيجاً ولَبِسْ، صَنَعَ بيتاً، طها الطعام، طهي الطعام شيء معقد جداً، تأكل الأكلة فإذا كان فيها خلل تتضايق منها، من هداك لوضع ملح وطحينة وكمون وفلفل وعصفر ؟ مَن ؟ إذاً لدينا هُدى، هُدى إلى كسب الرزق، هُدى إلى تأمين المعاش، هُدى إلى تأمين الحاجات، فهذا الهُدى الأول هِداية عامة.
الهُدى الثاني هِداية الإيمان، يهديك إليه، يهديك إلى كتابهِ يهديك إلى الحق.
الهُدى الثالث: هِداية التوفيق، قال تعالى:
﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)﴾
(سورة الكهف)
الهُدى الرابع: هِداية الجنة، قال تعالى:
﴿وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)﴾
(سورة محمد)
إذاً هناك هداية عامة، وهِداية الإيمان وهِداية التوفيق والهُدى إلى الجنة، هذا بعض ما يمكن أن يقال في موضوع اسم الهادي. لكن في ختام هذا البحث لابد من بيان قوله تعالى:
﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾
هذه الواو تفيد أن الجملة ليست شرطية، ليس اتقوا الله يعلمْكم بل:.. واتقوا الله، لماذا لا تتقونه ؟ لأنه يُعلمكم، يُعلمكُم دائماً بالخلق، وبكلامه وبأفعاله وبالفِطرة وبالإلهام، وبالرؤيا وبالخلق، وبالقلب وبالانقباض والتيسير وبالتعسير وما إلى ذلك.
﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾
ولعله صار واضحاً أنه بتقوى الله تتحقق كل مفاهيم الهداية ومقوماتها للإنسان فيهتدي إلى ربه وليسعد إلى الأبد