الجمعة، 9 مارس 2012

موسوعة الفقه - باب الحج والعمرة : السعى بين الصفا والمروة


السعى بين الصفا والمروة


أصل مشروعيته:
روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء إبراهيم عليه السلام بهاجر وبابنها إسماعيل عليه السلام، وهي ترضعه، حتى وضعهما عند البيت، عند دوحة فوق زمزم، فوضعهما تحتها وليس بمكة يومئذ من أحد، وليس بها ماء، ووضع عندهما جرابا فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقا، فتبعته أم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس به أنيس ولا شئ؟ فقالت له ذلك مرارا، فجعل لا يلتفت إليها، فقالت: الله أمرك بهذا؟..قال: نعم.
قالت: إذن لا يضيعنا.
وفي رواية: فقالت له: إلى من تتركنا؟ قال: إلى الله.
فقالت: قد رضيت. ثم رجعت.
فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات، رفع يديه وقال: {ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا لصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون} وقعدت أم إسماعيل تحت الدوحة، ووضعت ابنها إلى جنبها وعلقت شنها تشرب منه، وترضع ابنها، حتى فني ما في شنها، فانقطع درها، واشتد جوع ابنها حتى نظرت إليه يتشحط، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فقامت على الصفا - وهو أقرب جبل يليها - ثم استقبلت الوادي تنظر، هل ترى أحدا؟..فلم تر أحدا، فهبطت من الصفا.
حتى إذا بلغت الوادي، رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي إنسان مجهود، حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة، فقامت عليها ونظرت، هل ترى أحدا؟ فلم تر أحدا، ففعلت ذلك سبع مرات.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فلذلك سعى الناس بينهما».

.حكمه:
اختلف العلماء في حكم السعي بين الصفا والمروة، إلى آراء ثلاثة: أ- فذهب ابن عمر، وجابر، وعائشة من الصحابة رضي الله عنهم، ومالك، والشافعي، وأحمد - في إحدى الروايتين عنه - إلى أن السعي ركن من أركان الحج.
بحيث لو ترك الحاج السعي بين الصفا والمروة، بطل حجه ولا يجبر بدم، ولا غيره.
واستدلوا لمذهبهم بهذه الادلة:
1- روى البخاري عن الزهري قال عروة: سألت عائشة رضي الله عنها فقلت لها: أرأيت قول الله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة.
قالت: بئسما قلت يا ابن أخي: إن هذه لو كانت كما أولتها عليه، كانت لا جناح عليه أن لا يطوف بهما.
ولكنها أنزلت في الانصار: كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل، فكان من أهل يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة. فلما أسلموا، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
قالوا: يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بى الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} الآية.
قالت عائشة رضي الله عنها: وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، فليس لاحد أن يترك الطواف بينهما.
2- وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاف المسلمون - يعني بين الصفا والمروة - فكانت سنة، ولعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة.
3- وعن حبيبة بنت أبي تجراه - إحد نساء بني عبدالدار - قالت: دخلت مع نسوة من قريش دارآل أبي حسين ننظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يسعى بين الصفا والمروة وإن مئزره ليدور في وسطه من شدة سعيه، حتى إني لاقول: إني لارى ركبتيه، وسمعته يقول: «اسعوا، فإن الله كتب عليكم السعي» رواه ابن ماجه، وأحمد، والشافعي.
4- ولأنه نسك في الحج والعمرة، فكان ركنا فيهما، كالطواف بالبيت.
ب- وذهب ابن عباس، وأنس، وابن الزبير، وابن سيرين، ورواية عن أحمد: أنه سنة، لا يجب بتركه شئ.
1- استدلوا بقوله تعالى: {فلا جناح عليه أن يطوف بهما}.
ونفى الحرج عن فاعله: دليل على عدم وجوبه، فإن هذا رتبة المباح.
وإنما تثبت سنيته بقوله: {من شعائر الله}.
وروى في مصحف أبي، وابن مسعود: {فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما}.
وهذا، وإن لم يكن قرآنا، فلا ينحط عن رتبة الخبر، فيكون تفسيرا.
2- ولأنه نسك ذو عدد، لا يتعلق بالبيت، فلم يكن ركنا، كالرمي.
ج- وذهب أبو حنيفة، والثوري، والحسن: إلى أنه واجب، وليس بركن، لا يبطل الحج أو العمرة بتركه، وأنه إذا تركه وجب عليه دم.
ورجح صاحب المغني هذا الرأي فقال:
1- وهو أولى، لأن دليل من أوجبه، دل على مطلق الوجوب، لاعلى كونه لا يتم الواجب إلا به.
2- وقول عائشة رضي الله عنها في ذلك معارض بقول من خالفها من الصحابة.
3- وحديث بنت أبي تجراه، قال ابن المنذر يرويه عبد الله بن المؤمل، وقد تكلموا في حديثه. وهو يدل على أنه مكتوب، وهو الواجب.
4- وأما الآية فإنها نزلت لما تحرج ناس من السعي في الإسلام، لما كانوا يطوفون بينهما في الجاهلية، لاجل صنمين، كانا على الصفا والمروة.
.شروطه:
يشترط لصحة السعي أمور:
1- أن يكون بعد طواف.
2- وأن يكون سبعة أشواط.
3- وأن يبدأ بالصفا ويختم بالمروة.
4- وأن يكون السعي في المسعى، وهو الطريق الممتد بين الصفا والمروة.
لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، مع قوله: «خذوا عني مناسككم».
فلو سعى قبل الطواف، أو بدأ بالمروة وختم بالصفا، أو سعى في غير المسعى، بطل سعيه.

.الصعود على الصفا:
ولا يشترط لصحة السعي أن يرقى على الصفا والمروة. ولكن يجب عليه أن يستوعب ما بينهما، فليصق قدمه بهما في الذهاب والاياب، فإن ترك شيئا لم يستوعبه، لم يجزئه حتى يأتي.

.الموالاة في السعي:
ولا تشترط الموالاة في السعي.
فلو عرض له عارض يمنعه من مواصلة الاشواط، أو أقيمت الصلاة، فله أن يقطع السعي لذلك، فإذا فرغ مما عرض له، بني عليه وأكمله.
فعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه كان يطوف بين الصفا والمروة، فأعجله البول، فتنحى ودعا بماء فتوضأ، ثم قام، فأتم على ما مضى. رواه سعيد بن منصور.
كما لا تشترط الموالاة بين الطواف والسعي.
قال في المغني: قال أحمد: لا بأس أن يؤخر السعي حتى يستريح، أو إلى العشي.
وكان عطاء والحسن لا يريان بأسا - لمن طاف بالبيت أول النهار - أن يؤخر الصفا والمروة إلى العشي.
وفعله القاسم وسعيد بن جبير، لأن الموالاة إذا لم تجب في نفس السعي، ففيما بينه وبين الطواف أولى.
وروى سعيد بن منصور: أن سودة زوج عروة بن الزبير سعت بين الصفا والمروة، فقضت طوافها في ثلاثة أيام، وكانت ضخمة.

.الطهارة للسعي:
ذهب أكثر أهل العلم: إلى أنه لا تشترط الطهارة للسعي بين الصفا والمروة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة - حين حاضت -: «فاقضي ما يقضي الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي» رواه مسلم.
وقالت عائشة وأم سلمة: إذا طافت المرأة بالبيت وصلت ركعتين، ثم حاضت، فلتطف بالصفا والمروة رواه سعيد بن منصور.
وإن كان المستحب أن يكون المرء على طهارة في جميع مناسكه فإن الطهارة أمر مرغوب شرعا.

.المشي والركوب فيه:
يجوز السعي راكبا وماشيا، والمشي أفضل.
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما ما يفيد أنه صلى الله عليه وسلم مشى، فلما كثر عليه الناس وغشوه ركب ليروه ويسألوه.
قال أبو الطفيل لابن عباس رضي الله عنهما: أخبرني عن الطواف بين الصفا والمروة راكبا، أسنة هو؟ فإن قومك يزعمون أنه سنة.
قال: صدقوا وكذبوا.
قال: قلت: وما قولك: صدقوا وكذبوا؟...قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثر عليه الناس يقولون هذا محمد، هذا محمد، حتى خرج العواتق من البيوت قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يضرب الناس بين يديه، فلما كثر عليه الناس ركب. والمشي والسعي أفضل رواه مسلم، وغيره.
والركوب، وإن كان جائزا، إلا أنه مكروه.
قال الترمذي: وقدكره قوم من أهل العلم أن يطوف الرجل بالبيت وبين الصفا والمروة راكبا إلا من عذر، وهو قول الشافعي.
وعند المالكية: أن من سعى راكبا من غير عذر أعاد، إن لم يفت الوقت، وإن فات فعليه دم، لأن المشي عند القدرة عليه واجب.
وكذا يقول أبو حنيفة.
وعللوا ركوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بكثرة الناس وازدحامهم عليه، وغشيانهم له.
وهذا عذر يقتضي الركوب.

.استحباب السعي بين الميلين:
يندب المشي بين الصفا والمروة، فيما عدا ما بين الميلين، فإنه يندب الرمل بينهما، وقد تقدم حديث بنت أبي تجراه وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم سعى، حتى إن مئزره ليدور من شدة السعي.
وفي حديث ابن عباس المتقدم: والمشي والسعي أفضل.
أي السعي في بطن الوادي بين الميلين، والمشي فيما سواه.
فإن مشى دون أن يسعى جاز.
فعن سعيد بن جبير رضي الله عنه قال: رأيت ابن عمر رضي الله عنهما يمشي بين الصفا والمروة.
ثم قال: إن مشيت، فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي.
وإن سعيت، فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى، فأنا شيخ كبير رواه أبو داود الترمذي.
وهذا الندب في حق الرجل.
أما المرأة فإنه لا يندب لها السعي، بل تمشي مشيا عاديا.
روى الشافعي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت - وقد رأت نساء يسعين -: أما لكن فينا أسوة؟...ليس عليكن سعي.

.استحباب الرقي على الصفا والمروة والدعاء عليهما مع استقبال البيت:
يستحب الرقي على الصفا والمروة، والدعاء عليهما بما شاء من أمر الدين والدنيا، مع استقبال البيت.
فالمعروف من فعل النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه خرج من باب الصفا فلما دنا من الصفا قرأ: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} أبدأ بما بدأ الله به فبدأ بالصفا فرقي عليه، حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره ثلاثا، وحمده وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الاحزاب وحده ثم دعا بين ذلك، وقال مثل هذا، ثلاث مرات ثم نزل ما شيا إلى المروة، حتى أتاها، فرقي عليها، حتى نظر إلى البيت، ففعل على المروة، كما فعل على الصفا».
وعن نافع قال: سمعت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما - وهو على الصفا يدعو - يقول: اللهم إنك قلت: {ادعوني أستحب لكم} وإنك لاتخلف الميعاد، وإني أسألك - كما هديتني للاسلام - أن لا تنزعه مني حتى تتوفاني وأنا مسلم.

.الدعاء بين الصفا والمروة:
يستحب الدعاء بين الصفا والمروة، وذكر الله تعالى، وقراءة القرآن.
وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في سعيه «رب اغفر وارحم واهدني السبيل الاقوم».
وروي عنه: «رب اغفر وارحم، إنك أنت الاعز الاكرم».
وبالطواف والسعي تنتهي أعمال العمرة.
ويحل المحرم من إحرامه بالحلق أو التقصير إن كان متمتعا، ويبقى على إحرامه إن كان قارنا.
ولا يحل إلا يوم النحر، ويكفيه هذا السعي عن السعي بعد طواف الفرض، إن كان قارنا.
ويسعى مرة أخرى، بعد طواف الافاضة إن كان متمتعا.
ويبقى بمكة حتى يوم التروية