الأحد، 12 فبراير 2012

شخصيات تاريخية - مسلمون - أبو جعفر المنصور


أبو جعفر المنصور

عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، أبو جعفر، عباسي هاشمي قرشي، لُقب بالمنصور، ثاني الخلفاء العباسيين. ولد في الحميمة من أرض الشراة قرب معان، من أم أَمَة بربرية تُدعى سلامة.
نشأ المنصور في الحميمة وتربى فيها تربية إسلامية علمية بين كبار رجال من جلة بني هاشم، فنشأ أديباً فصيحاً ملماً بسير الملوك، عارفاً بالفقه والأدب مقدماً في الفلسفة والفلك، كثير الجد والتفكير. اشتهر في بلاطه بتمسكه بالدين، فلم يعرف عنه ميل إلى اللهو والعبث، بل كان ميالاً إلى النظام والتنسيق في أعماله. وكان من ذوي الآراء الصائبة، والتدبيرات السديدة، شديد الوقار، حسن الخلق في الخلوة، فإذا لبس ثيابه وخرج إلى المجلس العام تغير لونه، واحمرّت عيناه، وانقلبت جميع أوصافه. وكان يَعْرِف ذلك في شخصيته؛ ولذلك قال لابنه: يا بني إذا رأيتني قد لبست ثيابي، أو رجعت من مجلسي، فلايَدْنُوَن أحد منكم مخافة أن أعره بشيء.
وصف المنصور بالبخل ولقب بأبي الدوانيق، وحقيقة الأمر أنه كان يعطي بسخاء إذا وجد أن ذلك لمصلحة الخلافة، ويمنع اليسير إذ وجد أن في ذلك تضييعاً وتبذيراً للمال، وقد وضح ذلك بقوله: «لولا أن الأموال حصن السلطان، ودعامة للدين والدنيا وعزهما وزينتهما، ما بِتّ ُ ليلة وأنا أحرز منه ديناراً ولادرهماً، لِما أَجِدُ لبذل المال من اللذاذة، ولما أعلم في إعطائه من جزيل المثوبة».
هاجر أبو جعفر المنصور من الحميمة إلى الكوفة مع أخيه أبي العباس السفاح وبقية أفراد أسرته، وذلك بأمر من أخيهما الإمام إبراهيم حين انكشف أمره من قبل الخليفة الأموي مروان بن محمد، فقبض عليه وأسره في حران، إلى أن توفي سنة 130هـ/747م.
كان المنصور ساعد أخيه أبي العباس الأيمن، فقد ساعده على تأصيل الدولة، وضبطها، ورتب معه قواعدها. كما تولى المنصور لأخيه أبي العباس الجزيرة الفراتية [ر] وأرمينيا  وأذربيجان  ، وساعد على قتال زياد ابن عبد الله بن يزيد بن معاوية المعروف بالسفياني في حلب 
لما توفي أبو العباس السفاح تولى الخلافة بعده المنصور بعهد منه في هاشمية الكوفة في ذي الحجة سنة 136هـ/أيار 754م. والمنصور والد الخلفاء العباسيين جميعاً. تحرج موقف الخلافة في عهده، وتأزمت الأوضاع، ولكنه تمكن من الخروج من هذه المواقف، وسار بالخلافة قدماً إلى الأمام. بدا ذلك واضحاً حين ثار عليه عمه عبد الله بن علي، وطالب بأحقيته بالخلافة وذلك سنة 137هـ/755م، فأرسل جيشاً بقيادة أبي مسلم الخراساني لقتاله، فتمكن من الانتصار عليه، وفرّ عبد الله ملتجئاً إلى البصرة، ثم تخلص المنصور منه فيما بعد، كما عمل على القضاء على أبي مسلم الخراساني  في السنة نفسها، ذلك لأنه بدر منه عدة أعمال تدل على طمعه بالخلافة، وكانت خطة قتله بمنتهى الجرأة، ونجم عن قتله عدة ثورات.
ومما حدث في خلافة المنصور تَمَكُّن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك  من الوصول إلى الأندلس سنة 138هـ/755 ـ 756م، وتأسيس الإمارة الأموية فيها. وحاول المنصور التخلص منه باستعمال بعض الطرق الدبلوماسية، فلم ينجح. كما عمل بعدها على إثارة الفتن حوله فأخفق.
ثار الجراجمة في لبنان في خلافة المنصور بتشجيع من البيزنطيين الذين أمدوهم بالمساعدات عن طريق البحر، فهددوا المناطق المحيطة بهم بالغزو حتى حمص  وحماة  وثاروا في لبنان سنة 142ـ 143هـ/759 ـ 760م في المنيطرة القريبة من أفقا بقيادة شخص اسمه بندار، تلقب بالملك، فقتلوا عدداً كبيراً من جيش العباسيين ورجالهم، فقاتلهم المنصور حتى انتصر عليهم. واتخذ بعد ذلك إجراءً إدارياً مهماً بإخراج الجراجمة من الجبال وتفريقهم في بلاد الشام وكورها، من دون التعرض لديانتهم، وأسكن قبيلة لخم العربية المسلمة في هذه المنطقة لتعريبها ونشر الإسلام فيها، وأنعم عليهم بإقطاعات فيها.
ثار الراوندية في عهد المنصور سنة 141هـ/758م، وادّعوا بأنه ربهم الذي يطعمهم ويسقيهم، وذلك لتشويه الإسلام، ونظر المنصور إليهم أعداء سياسيين، وعلى أنهم زنادقة، فحاربهم وسجن بعضهم، وقتل عدداً آخر منهم بعد أن هاجموا قصره في الهاشمية، فاتخذ منذئذٍ حرساً خاصاً من سلاح الفرسان يتناوبون على حراسة قصره ليلاً ونهاراً خوفاً من هجوم مفاجئ.
حقق الخوارج نجاحاً سياسياً في خلافة المنصور عندما تمكنوا من تأسيس دولتين في شمالي إفريقيا، هما الدولة الرستمية الإباضية [ر] والدولة المدرارية الصفرية  ، وحاول المنصور القضاء عليهما، فنجح نجاحاً مؤقتاً. كما ثار الخوارج الصفرية في منطقة الجزيرة الفراتية سنة 137هـ/754 ـ 755م بقيادة ملبد بن حرملة الشيباني، وتوسعت الثورة في المناطق المحيطة، فأرسل المنصور جيوشاً لقتاله حتى انتصر عليه، كما نشبت ثورة قرب الموصل سنة 148هـ/765م فقضى عليها، وقضى على أخرى في سجستان سنة 151هـ/768م.
بدأ التوتر يسود العلاقات بين العباسيين والشيعة في خلافة المنصور، فقد اهتم منذ أن ولي الخلافة بأمر محمد بن عبد الله النفس الزكية  وأخيه إبراهيم لرفضهما البيعة له، فأخذ بالتنكيل بأسرتهما ليخرجهما من مخبئهما، وتحقق له ذلك في جمادى الآخرة سنة  145هـ/أيلول 762م، إذ خرج محمد وأعلن خلافته ووسع دائرة الثورة بإرسال أخيه إبراهيم إلى البصرة لنشر الدعوة فيها، وجرت بين محمد والمنصور مراسلات تُعد من أهم الوثائق العباسية، فهي تصور الجدل الفكري بين العباسيين والشيعة، ولم يستجب محمد للمنصور؛ مما دعاه إلى إرسال جيش لقتاله، فلقي مصرعه بعد أن ضرب مثلاً في الشجاعة، ثم تمّ النصر على إبراهيم.
اهتم المنصور بأمور دولته، وراقب عماله مراقبة شديدة، واهتم بتنظيم البريد واختيار رجاله، وكان ولاة البريد في الآفاق كلها يكتبون إليه في كل يوم أسعار المواد الاستهلاكية وكل ما يقضي به القاضي، وما يعمل به الوالي، وما يرد إلى بيت المال فيقرر ما يلزم.
كما أحدث المنصور عدة دواوين، منها ديوان الحوائج، وديوان الصدقات، ووضع أساس ديوان المصادرات، وتشدد في جباية الأموال لإدراكه أهميتها، وكان يرى أنه وكيل على الأموال العامة، وهو الذي قال: «إنما أنا سلطان الله في أرضه وخازنه على فيئه، وقد جعلني الله قفلاً، إذا شاء أن يفتحني لأعطياتكم وقسم فيئكم وأرزاقكم فتحني، وإن شاء أن يقفلني قفلني».
عمل المنصور على تحصين منطقة الثغور وتنظيمها سواء البرية أم البحرية، وأعاد تنظيم الصوائف والشواتي، وأعاد بناء المدن والحصون التي خربها البيزنطيون ورد أهلها إليها. فقد أعاد إعمار حصن ملطية سنة 139هـ/756 ـ757م أكثر من مرة، لمحاولة البيزنطيين تخريبه، وأسكن فيه أربعة آلاف من أهل الجزيرة، وزاد في أعطياتهم، وأقطعهم المزارع، وشحن الحصن بالسلاح، وكذلك أعاد بناء المصيصة وسماها «المنصورة» وزاد عدد مقاتليها، وأعطاهم الإقطاعات، وشحنها بالسلاح. كما حصن سميساط، ونقل قسماً من أهلها المتعاونين مع البيزنطيين إلى فلسطين. كما حصن «مرعش»، وأتم بناء «الرافقة» على هيئة بغداد في أبوابها وفصولها ورحابها وشوارعها، وأسكنها جنده من الخراسانية. هذا إضافة إلى زيادة أعداد جيشه وتسليحه، ووقعت بين المنصور والبيزنطيين معركة انتصر بعدها المنصور سنة 139هـ/756م وفدى الأسرى، وعقد معاهدة مع البيزنطيين توقف القتال فيها سبع سنوات، فتوقفت الصوائف والشواتي حتى 146هـ/763م. لم تكن العلاقات بين المنصور والبيزنطيين عسكرية فقط، بل تخلل ذلك فترات سلمية تبادل فيها الطرفان الأسرى والوفود، فقد استقبل المنصور سفيراً بيزنطياً بعد انتقال العاصمة إلى بغداد، وهو الذي أشار عليه بألا يبني السوق داخل سور المدينة حفظاً للأمن، كما كانت التجارة نشطة بين الدولتين براً وبحراً.
قاتل المنصور الميذ الذين كانوا يهاجمون الطرق التجارية البحرية إلى الهند ويعرضونها للخطر، فقد كانوا يهاجمون سواحل الخليج العربي، فكانت اعتداءاتهم أشبه بالقرصنة البحرية. واهتم المنصور من تلك الفترة بتقوية الأسطول البحري في الخليج والمحيط الهندي.
جعل المنصور الحكم مركزياً، ولذلك فإنه لم يعط صلاحيات واسعة لولاته ووزرائه، فبعد أن استوزر خالد بن برمك عرضه للمحاسبة واتهمه باختلاس أموال الدولة، وألزمه برد ثلاثة ملايين درهم. ثم استوزر بعده كلاً من أبي أيوب المورياني وبعده الربيع بن يونس.
خطط المنصور لبناء عاصمة تليق بخلافته، فبدأ ببناء مدينة بغداد  سنة 145هـ/762م، وجعلها دار ملكه بدلاً من الهاشمية التي بناها السفاح، ونقل إلى بغداد كل الدواوين، وبنى لنفسه فيها قصراً عُرف باسم قصر الذهب، ثم بنى ضاحية الكرخ في الغرب ونقل إليها الأسواق سنة 157هـ/774م وكان قد بنى قبلها سنة 151هـ/768م ضاحية الرصافة لابنه المهدي وجيشه الذي جاء به من خراسان. وزاد المنصور بالمسجد الحرام، وقيل إنه عمل أول اسطرلاب في الإسلام صنعه له محمد ابن إبراهيم الفزاري.
عمل المنصور على إبعاد ابن أخيه وولي عهده عيسى بن موسى  عن ولاية العهد، وتولية العهد لابنه المهدي مكانه، وتمكن بوسائل وأساليب متعددة أن يجبر ابن أخيه على الموافقة على أن تكون الخلافة للمهدي أولاً ثم لعيسى بن موسى من بعده.
توفي المنصور ببئر ميمون من أرض مكة محرماً للحج، ودفن في الحجون بمكة بعد خلافة دامت 22 سنة.