المتوكل على الله
أبو الفضل جعفر المتوكل على الله، هوأبو الفضل جعفر المتوكل على الله بن المعتصم بن الرشيد بن المهدي. ولد سنة 206هـ . هو الخليفة العباسي العاشر. بنى مدينة المتوكلية وشيد المسجد الجامع ومئذنته الشهيرة الملوية في سامراء التي هي أحد معالم المدينة، وجدد مقياس النيل. أمه تركية واسمها شجاع، بويع له لست بقين من ذى الحجة سنة 232 هـ، وقتل ليلة الأربعاء لثلاث خلون من شوال سنة 247 هـ وله إحدى وأربعون سنة، ودفن فى القصر الجعفري، وهو قصر ابتناه بسر من رأى. وكان مربوعًا أسمر خفيف شعر العارضين، رفع المحنة في الدين، وأخرج أحمد بن حنبل من الحبس وخلع عليه.
يُعَدُّ عهد الخليفة "المتوكل" هو بداية عصر ضعف الدولة العباسية وانحلالها، والذي انتهى بسقوطها على أيدي "التتار" سنة (656هـ = 1258م).
وكان من أهم أسباب ضعف الدولة العباسية اعتماد العباسيين على العناصر الأجنبية في النواحي العسكرية والإدارية في الدولة، وهو ما قوّى شوكتهم ونفوذهم في بلاد الخلافة على حساب العرب الذين ضعفت عصبيتهم، وتدنَّت منزلتهم في الدولة، ولم يَعُد لهم مكان في المناصب العليا فيها.
وقد أدى استبداد تلك العناصر بالحكم إلى إثارة حفيظة العرب عليهم، واشتعال نار الحقد والعداوة في نفوسهم؛ وهو ما أجَّج الصراع والعداء بينهم. وكثرت الفتن والصراعات في المجتمع، وظهر العديد من الفرق والمذاهب التي ساهمت في بثِّ الفرقة والانقسام بين المسلمين وتفتيت وحدة الأمة وتعريضها للخطر؛ فظهر الملاحدة والزنادقة كالخرمية والراوندية، كما ظهرت طوائف المتكلمين كالمعتزلة وغيرهم.
وضع "المتوكل" في خلافة أخيه
وُلِد "أبو الفضل المتوكل على الله جعفر بن المعتصم" بـ"فم الصلح" -على نهر دجلة– في (شوال 206هـ = مارس 822م) لأم خوارزمية الأصل اسمها "شجاع"، وكان له أخوان هما "محمد" و"الواثق" الذي تولى الخلافة بعد وفاة أبيه "المعتصم".
المعتصم -----> الواثق -----------------> المنتصر
ولم يكن "المتوكل" يحظى بثقة أخيه الخليفة "الواثق" حتى إنه وكَّل به رجلين من حاشيته يراقبانه ويسجلان له أخباره في كل حين، وقد جرَّأ هذا المسلك عليه رجال الدولة، فكانوا يعاملونه بجفاء، وكانوا يتعنتون معه في صرف أرزاقه التي كانت تجرى له كغيره من أبناء بيت الخلافة.
الخليفة "الواثق" وولاية العهد
وحينما مرض "الواثق" مرضه الأخير سأل رجال الدولة أن يوصي بالخلافة، وزين له بعضهم أن يعهد بها لابنه "محمد" الذي كان صبيًّا صغيرًا لا يصلح للخلافة، ولكن الواثق أبى أن يوصي بها لأحد، ورأى أن يجعل ذلك الأمر لاختيار أهل الشورى من المسلمين من بعده، مقتديًا في ذلك بالفاروق "عمر بن الخطاب"، وقال كلمته الشهيرة: "لا يراني الله أتقلدها حيًّا وميتًا".
وربما كان "الواثق" لا يجد في أبناء البيت العباسي –في ذلك الوقت– من يصلح لتولي خلافة المسلمين، وتحمل تلك التبعة الخطيرة؛ فربأ بنفسه أن يوليها من لا يستحقها وهو في آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة.
الطريق إلى الخلافة
لما تُوفِّي الواثق اجتمع نفر من كبار رجال الدولة، وتشاوروا فيمن يتولى أمور الخلافة، ووقع اختيارهم في البداية على محمد بن الواثق، وكادوا يولونه ويعلنون البيعة له، فلما أجلسوه وألبسوه ثوب الخلافة وجدوا فيه طفلاً صغيرًا لا يصلح للإمامة في الصلاة، فضلاً عن إمامة دولة وقيادة أمة، فرجعوا عن عزمهم، واختاروا "المتوكل" فبايعوه بالخلافة في (24 ذي الحجة 232هـ = 11 أغسطس 847م)، وهو اليوم نفسه الذي توفِّي فيه "الواثق".
المتوكل وإحياء السنة
كان "المتوكل" يميل إلى أهل السنة، ويعلي من شأنهم، وينتصر لهم، ويُروى أنه ضرب رجلاً بالسياط؛ لأنه سبَّ "أبا بكر" و"عمر" و"عائشة" و"حفصة". كما عمل على إحياء السنة وإظهارها، ودعا إلى نشرها، واهتم بعلمائها، وهو الذي أطلق الإمام "أحمد بن حنبل" من محبسه، وقضى على المعتزلة، ولقي ذلك تقدير الناس؛ فلقي حبهم، وزادت منزلته في قلوبهم، كما عظَّمه بذلك العلماء، بل وبالغوا في الثناء حتى جعلوه في منزلة "أبي بكر الصديق" و"عمر بن عبد العزيز" فقالوا: "الخلفاء ثلاثة: أبو بكر الصديق يوم الردة، وعمر بن عبد العزيز في ردة المظالم، والمتوكل في إحياء السنة".
حدث في خلافته
- في سنة 234هـ أظهر الميل إلى السنة ونصر أهلها ورفع المحنة وكتب بذلك إلى الآفاق واستقدم المحدثين إلى سامرا وأجزل عطاياهم وأكرمهم وأمرهم بأن يحدثوا بأحاديث الصفات والرؤية.
- في سنة 235هـ ألزم المتوكل النصارى بلبس الغل.
- في سنة 236هـ أمر بهدم قبر الحسين وهدم ما حوله من الدور وأن يعمل مزارع في زراعة حديقة ومنع الناس من زيارته وتوعد من يخالفه بالسجن.
- في سنة 237هـ بعث إلى نائب مصر أن يحلق لحية قاضي القضاة بمصر: أبي بكر محمد بن أبي الليث وأن يضربه ويطوف به على حمار ففعل.ونعم ما فعل فإنه كان ظالماً من رؤوس الجهمية وولي القضاء بدله الحارث ابن سكين من أصحاب مالك بعد تمنع وأهان القاضي المعزول بضربه كل يوم عشرين سوطاً ليرد الظلامات إلى أهلها.
- في سنة 238هـ كبست الروم دمياط ونهبوا وأحرقوا وسبوا منها ستمائة امرأة وولوا مسرعين في البحر.
- في سنة 240هـ سمع أهل خلاط صيحة عظيمة من جو السماء فمات منها خلق كثير ووقع برد بالعراق كبيض الدجاج وخسف بثلاث عشرة قرية بالمغرب.
- في سنة 241هـ ماجت النجوم في السماء وتناثرت الكواكب كالجراد أكثر الليل وكان أمراً مزعجاً لم يعهد.
- في سنة 242هـ زلزلت الأرض زلزلة عظيمة بتونس وأعمالها والري و خراسان و نيسابور و طبرستان و أصبهان وتقطعت الجبال وتشققت الأرض بقدر ما يدخل الرجل في الشق ورجمت قرية السويداء بناحية مصر من السماء ووزن حجر من الحجارة فكان عشرة أرطال وسار جبل باليمن عليه مزارع لأهله حتى أتى مزارع آخرين.
- في سنة 243هـ قدم المتوكل دمشق فأعجبته وبنى له قصر بداريا وعزم على سكناها.
- في سنة 244هـ قتل المتوكل يعقوب بن السكيت الإمام في العربية فإنه ندبه إلى تعليم أولاده فنظر المتوكل يوماً إلى ولديه المعتز والمؤيد فقال لابن السكيت من أحب إليك هما أو الحسن والحسين فقال قنبر يعني مولى علي خير منهما فأمر الأتراك فداسوا بطنه حتى مات.
- في سنة 245هـ عمت الزلازل الدنيا فأخرجت المدن والقلاع والقناطر وسقط من إنطاكية جبل في البحر وسمع من السماء أصوات هائلة وزلزلت مصر.
عداء المتوكل للعلويين
إلا أن سياسة الشدة والعنف التي انتهجها المتوكل في معاملة العلويين أثارت ضده حفيظة كثير من المسلمين، خاصة بعدما أمر بهدم قبر "الحسين بن علي" بكربلاء سنة (237هـ = 851م)، وهدم ما حوله من الدور والمنازل، وناصب العلويين العداء وتعقب أئمتهم بإبعادهم والإساءة إليهم، فأثار ذلك ضده العامة وخاصة من العلويين وأشياعهم.
بين المتوكل ووزرائه
كان أول وزير في عهد الخليفة المتوكل هو "محمد بن عبد الملك الزيات" الذي كان وزيرًا لأخيه وأبيه من قبل، ولكن المتوكل كان ناقمًا على هذا الوزير لسوء معاملته له في حياة أخيه، ولم ينسَ له المتوكل أنه هو الذي رشَّح "محمد بن الواثق" للخلافة بعد وفاة أبيه، وسنحت له الفرصة لتصفية حساباته مع الوزير والانتقام منه في (7 صفر 233هـ = 22 سبتمبر 847م)، فقبض عليه وصادر جميع أمواله وممتلكاته، وأنزل به من العذاب والمهانة ما لم تحتمله نفسه وبدنه، حتى مات تحت وطأة العذاب، وهو من هو في المكانة والشهرة وعلو الشأن!!.
ثم استوزر –بعد ذلك– "محمد الفضل الجرجرائي" وكان أديبًا فاضلاً وشاعرًا بليغًا، فاستمر في الوزارة نحو ثلاثة أعوام، حتى غضب عليه المتوكل، واختار من بعده "عبيد الله بن يحيى بن خاقان" وزيرًا له، وكان رجلاً كريمًا حسن الخلق عفيفًا، فأحبته العامة واحترمه الجند، وقد ظلَّ هذا الرجل وزيرًا للمتوكل إلى أن مات.
المتوكل والأتراك
أدرك المتوكل مدى توغل الأتراك في الدولة، وسيطرتهم على جميع المناصب الإدارية والعسكرية، وتدخلهم في أمور الحكم، واستبدادهم بأمور الخلافة وإدارة الجيش، فأراد أن يضعف شوكتهم ويقلل من نفوذهم، ويحجم من سلطانهم الذي يكاد يطغى على سلطان الخليفة وهيبته؛ فاحتال حتى استطاع القبض على "إيتاخ" الذي كان يستأثر بالعديد من المناصب، ويحشد حوله الكثير من الأعوان والأنصار؛ فهو على رأس الجيش والمغاربة والأتراك والموالي والبريد والحجابة... وغيرها، فسجنه هو وابنيه "منصور" و"مظفر" وبعض أعوانه المقربين، ولكنه لم يحتمل وطأة السجن والهوان فتُوفِّي سنة (235هـ = 849م).
الحوادث والاضطرابات في عهد المتوكل
حدثت في عهد المتوكل بعض الحوادث والفتن والاضطرابات التي استطاع إخمادها والقضاء عليها؛ من أشهرها: تمرد "محمد بن البعيث بن حليس" على الخلافة، وتحصنه بمدينة "مرند" في "أذربيجان"، فأرسل المتوكل عدة حملات للقضاء على تمرده والقبض عليه، ولكنها لم تفلح جميعًا حتى أرسل إليه "عمرو بن سيسل بن كال" في عدد من القواد الذين سبقوا إلى الزحف على تلك المدينة، فاستطاعوا أَسْرَه والقضاء على أنصاره، وسيق إلى المتوكل مع مَن تم أَسْرهم من رجاله، فأمر المتوكل بحبسهم جميعًا، ثم أمر بضرب عنق ابن البعيث، ولكنه عفا عنه في اللحظة الأخيرة بعدما سمع حسن استعطافه، ورقة اعتذاره، وتوسله إليه.
كما استطاع أيضًا إخماد حركة التمرد في "أرمينية"، وقضى على الاضطرابات التي قام بها أهلها، بعد أن ثاروا على "يوسف بن محمد" عامل الخليفة عليهم وقتلوه، فبعث المتوكل "بغا الشرابي" إلى "أرمينية"، فقاتلهم حتى انتصر عليهم، وقضى على رؤوس الفتنة والتمرد.
كذلك فقد شهد عهد المتوكل بعض الحوادث والكوارث التي أودت بحياة الكثيرين، فقد وقعت عاصفة شديدة على "بغداد"، و"البصرة"، و"الكوفة"... وغيرها من مدن العراق، فاحترق الزرع، وهلكت الماشية؛ وهو ما أدى إلى حدوث المجاعات، وانتشار الأوبئة، وموت كثير من الناس.
الصراع بين الروم والخلافة العباسية
وقد شجعت الحالة المتردية التي أصابت الدولة في عهد المتوكل الروم على الإغارة على الدولة العباسية، فأغاروا على مصر من جهة دمياط في سنة (238هـ = 852م)، في نحو (300) مركب؛ فدخلوا المدينة، وأفسدوا فيها، وأحرقوا الكثير من الدور والمساجد، وسَبُوا كثيرًا من نساء المسلمين، وسلبوا كل ما استطاعوا الوصول إليه من المغانم.
وفي سنة (242هـ = 856م) أغار الروم على "شمشاط" ونهبوا عدة قرى، وأسروا عددًا كبيرًا من المسلمين. ثم عادوا في سنة (245هـ = 859م) فأغاروا على "سميساط"، وقتلوا وأسروا نحو (500) من المسلمين.
وكان المتوكل يرسل بالصوائف إلى الروم في محاولة للرد على هجماتهم، فيأسرون منهم من يستطيعون أَسْره؛ ليتم بعد ذلك تبادل الأسرى، والفداء بين الفريقين.
مكانة العلماء والأدباء في بلاط المتوكل
وبالرغم من كل ما مرّ بعهد المتوكل من حوادث وفتن واضطرابات، وما ماج به عصره من صراعات ومحن، فقد شهدت الخلافة العباسية في عهد المتوكل –الذي دام نحو خمس عشرة سنة- قدرًا كبيرًا من الرفاهية والأمن والرخاء.
وحظي العلماء والشعراء والأدباء في ظل خلافته بقسط وافر من الرعاية والتكريم؛ فقد كان "المتوكل" محبًّا للعلم والعلماء، شغوفًا بالشعر والأدب، يجزل العطاء للشعراء ويشجع الأدباء، فحفل مجلسه بنوابغ الشعراء والعلماء والأدباء، كما شهد المذهب السني في عهده بعثًا وإحياءً جديدًا لم يشهده على مر سنوات طوال.
مات في عهده
مات في أيام خلافة المتوكل من الأعلام: أبو ثور والإمام أحمد بن حنبل و إبراهيم بن المنذر الخزامي و إسحاق بن راهوية النديم وروح المقرئ و زهير بن حرب و سحنون و سليمان الشاذكوني و أبو مسعود العسكري و أبو جعفر النفيلي و أبو بكر بن أبي شيبة وأخوه و ديك الجن الشاعر و عبد الملك بن حبيب إمام المالكية و عبد العزيز بن يحيى الغول أحد أصحاب الشافعي و عبيد الله بن عمر القواريري و علي بن المديني و محمد بن عبد الله بن نمير و يحيى بن معين و يحيى ابن بكير وغيرهم.
فتنة ولاية العهد
كان المتوكل بايع بولاية العهد في سنة (235هـ = 850م) لابنه المنتصر ثم المعتز ثم المؤيد ثم إنه أراد تقديم المعتز لمحبته لأمه فسأل المنتصر أن ينزل عن العهد فأبى فكان يحضره مجلس العامة ويحط منزلته ويتهدده ويشتمه ويتوعده فاتفق الأتراك مع المنتصر على قتل أبيه فدخل عليه خمسة وهو في جوف الليل في مجلس لهوه فقتلوه هو ووزيره الفتح بن خاقان وذلك في (3 شوال 247هـ = 10 ديسمبر 861م)، وسار المنتصر إلى العرش على دماء أبيه. وقد صوَّر البحتري تلك المأساة تصويرًا رائعًا ينضح بالمرارة والأسى، فقال:
أكان وليُّ العهدِ أضمرَ غدرَهُ فمن عجبٍ أنَّ وليَّ العهد غادرَهُ؟ فلا مَلَكَ الباقي تراثَ الذي مَضى ولا حملَتْ ذاك الدعاء منابـره!
وبرغم تعجل المنتصر الخلافة وغدره بأبيه في سبيل الوثوب إليها والظفر بها، فإنه لم يهنأ بمقعده فيها أكثر من ستة أشهر، حتى أصابته العلة التي قضت عليه سريعًا!!.