محمد على باشا
والى مصر ومؤسس الأسرة الملكية الحاكمة فى مصر حتى ثورة يوليو
ولد محمد علي في مدينة قَـوَلة الساحلية في جنوب مقدونيا عام 1769. توفى ابراهيم أغا والد محمد علي ثم عمه طوسون أغا وهو لا يزال قاصرا ولم يتركا له مالا يستحق الذكر، فكفله حاكم قولة صديق أسرتهم، وربى محمد علي فقيرا يتيما، غير أن مضاء عزيمته وسعة حيلته جعلاه منذ حداثته من المتفوقين على أقرانه، كما أن مربيه زوجه من إحدى قريباته، وكانت سيدة ذات يسار فمكنته من الإتجار في الدخان، ولقى في عمله هذا مساعدة من أحد التجار الفرنسيين ربما كان لها شئ من التأثير في ميوله نحو أبناء الشعب الفرنسي. ومما يروى عن فواتح أعماله أن سكان إحدى القرى التابعة لحاكم قولة، رفضوا دفع الأموال الأميرية، فتطوع محمد علي لتحصيل تلك الأموال منهم بقوة من الجند لا تزيد على عشرة رجال، فقبل الحاكم تطوعه شاكرا وأصحبه بالرجال الذين طلبهم، فتوجه بهم الى مسجد البلدة العاصية، ودعا اليه أربعة من وجهائها، فهرولوا الى لقائه وهم لا يعلمون الغرض من هذه الدعوة فقبض عليهم واستاقهم مكتوفي الأيدي إلى مقر الحاكم، وأفهم أهل بلدتهم أنه اذا بدت منهم حركة عدائية أنزل بأعيانهم المأسورين الموت العاجل فلزموا السكينة وبادروا الى دفع المال المطلوب.
وإتفق مرة مع جماعة من زملائه على المسابقة بالقوارب من ميناء قولة إلى جزيرة طشيوز الواقعة قبالتها، ولما أن أوان السباق كان البحر هائجا هياجا شديدا فخارت عزائم مناظريه وعادوا أدراجهم قبل انتهاء السباق، أما هو فثبت على مغالبة الأنواء والأمواج، وبقى مجدا في التجديف إلى أن بلغ جزيرة طشيوز بعد شديد العناء. ومن يتصفح تاريخ هذا الرجل العظيم يرى أن المزايا التي كفلت له النجاح في هذه الأمور الصغرى هي هي نفس المزايا التي مكنته من التغلب على ما اعترضه من العقبات في معترك السياسة، ودفعته الى القيام بجلائل الأعمال.
قدومه إلى مصر
جاء الى مصر ضابطا صغيرا في الحملة العثمانية التي جردتها تركيا لاخراج الفرنسيين من البلاد، وشهد انتهاء عهد الحملة الفرنسية، فلو كان على ذكاء عادي لانتهى امره بما انتهى اليه معظم ضباط الجيش التركي، ولكنه لمح من خلال الافق ما تتمخض عنه الامة المصرية من نزوع الى الحرية، وما يجيش في صدرها من امال كبار، وما تشعر به من سخط على نظام الحكم القديم، فماشاها في ميولها وسايرها في آمالها، ورسم لنفسه خطة الوصول الى عرش مصر عن طريق ارادة الشعب، وهي فكرة مبتكرة بالقياس الى ذلك العصر تدل على ذكاء محمد علي ودهائه وبعد نظره.
نزلت الحملة الفرنسية على مصر بقيادة الجنرال نابليون بونابرت في أول يوليو سنة 1798 قاصدة حسب الظاهر الاقتصاص من المماليك لاعتدائهم المتكرر على التجار الفرنسيين. أما الغرض الحقيقي من إرسال هذه الحملة، فهو إتخاذ القطر المصري قاعدة للتوسع ومزاحمة الإنگليز في آسيا وأفريقيا، ومقاومة نفوذهم الاستعماري، وجعل البحر المتوسط بحيرة فرنسية. فاتفقت الحكومتان الإنگليزية والعثمانية على وجوب اخراج الفرنسيين من مصر، وجهزت كل منهما حملة لهذا الغرض، وكان محمد علي أحد رجال الحملة العثمانية، اذ جاء مع فرقة جندها حاكم قولة وتولى قيادتها ابنه علي أغا، وكان محمد علي وكيلا لذلك القائد، فوصولوا إلى القطر المصري في يوليو سنة 1799، وبعدما اشتركت هذه الفرقة في محاربة الفرنسيين، اضطر قائدها علي أغا الى مغادرة مصر والعودة الى وطنه فخلفه محمد علي في قيادة الفرقة ورقى الى رتبة بكباشي.
واستمر النزاع مع الفرنسويين إلى يونيو سنة 1801 حيث أبرم معهم اتفاق يقضي بجلائهم عن مصر، فانسحبوا منها في شهر سبتمبر من تلك السنة، وعادت السلطة على مصر الى الدولة العثمانية ، فعينت خسروا باشا واليا عليها، فتقرب محمد علي اليه وتولى قيادة فرقة من الألبانيين، عدد رجالها ما بين ثلاثة وأربعة آلاف ، وكانت رتبته حينئذ تضاهي رتبة أمير لواء في أيامنا هذه.
محمد علي والمماليك
عندما تطلع محمد علي لتولي سلطان مصر كان أمامه عدوان يهدف إلى التخلص منهما وهما المماليك حكام البلد الأقدمين، وسلطة الوالي التركي الذي كان يمثل حكومة الاستانة، وكانت هذه الحكومة تعمل على ان تكون لها الكلمة العليا في البلاد بعد ان احتلتها بجيوشها، ثم كانت امامه عقبة اخرى وهي سلطة الجند الارناؤود والدلاة وغيرهم من اخلاط السلطنة العثمانية، فاستطاع محمد علي بدهائة وصبره وذكائه ان يضرب كل سلطة بالاخرى، وان يشق لنفسه طريق النجاح والوصول الى الغاية التي يطمح اليها.
دخلت مصر في حوزة سلاطين آل عثمان سنة 1517 م على يد السلطان سليم الأول، فرأى أن بعدها عن السلطنة يحول دون حكمها كغيرها من الولايات العثمانية، فجعل لها نظاما خاصا ظنه يضمن توطيد سلطة الدولة العثمانية فيها ويمنع اتحاد كلمة الحكام المحليين وخروجهم عن رجال السلطنة، فجعل أحد الباشاوات ممثلا للسلطان في مصر، فتبلغ بواسطته أوامر دار السلطنة لديوان الحكومة، ويرسل المال السنوي المفروض على مصر الى دار السلطنة، ويناط به حماية البلاد من الاعتداء الخارجي، وحفظ التوازن بين أمراء المماليك في الداخل، ووضعت تحت امرته قوة من الجند، كانت في بادئ الرأي مؤلفة من ست فرق، ثم زيدت إلى سبع فرق. وأنشأ مجلسا مؤلفا من ضباط هذه الفرق فوض اليه ادارة أعمال الحكومة وخوله سلطة ايقاف تنفيذ اجراءات الوالي ، واستئنافها الى الآستانة
وقسم البلاد الى أربعة وعشرين سنجقا، ووضع على رأس كل سنجق واحدة من بكوات المماليك. غير أن كرور الأيام أثبت أن هذه التدابير كانت قيمتها نظرية أكثر منها عملية، فلم تمنع ازدياد سلطة المماليك، بل ما لبثوا أن صار لهم القول الفصل في كل أمر وتضاءلت سلطة الوالي حتى غدا بازائهم أضعف من الظل، وكانت الدولة العثمانية تشعر بضعفها عن كبح جماحهم بالقوة، فأقامت تتحين الفرص لالقاء الفتن بينهم، وانتزاع السلطة منهم، على أنها بقيت من الضعف على الحال التي وصفنا الى أن نزلت الحملة الفرنسوية في مصر بقيادة الجنرال بونابرت، فبطش هذا بقوات المماليك بطشا شديدا خصوصا في وقعة الأهرام الشهيرة، فل عددهم وضعفت قوتهم الحربية وانخفضت منزلتهم في عيون خصومهم وعيون أهل البلاد الذين ذاقوا الأمرين من جور أحكامهم.
فلما انجلى الفرنسويون عن مصر أوعزت الحكومة العثمانية الى خسرو باشا أن يعمل على محق ما بقى من سلطة المماليك. أما هؤلاء فأخذوا في لم شعثهم والتحفز للقبض على أزمة الأحكام، كما كان شأنهم قبل الاحتلال الفرنسوي، وكان الانجليزي يؤيدونهم في ذلك. غير أنه وقع التزاحم بين زعيميهم عثمان بك البرديسي ومحمد بك الألفي على الاستئثار بالحكم، لكن رغما عن سوء عقبى هذا التزاحم، بقى المماليك مستولين على أهم موارد البلاد التي لا يستيطع الوالي بدونها فتح باب النزاع بين الوالي والمماليك لطمع كل منهم بالتسلط بينه وبين جنوده بسبب تأخر المرتبات، ثم بينه ايضا وبين الطامعين في الولاية من الباشوات.
طموح محمد علي إلى منصب الولاية
هكذا كانت الحال في مصر حينما اخذ محمد علي يطمح الى منصب الولاية. ولا يستبعد ان تكون تلك الحال نفسها حملته على الطموح الى هذا المنصب بعد اقتناعه بعدم اقتدار احد من كبار الرجال المشتركين في النزاع على التغلب على منازعيه والاستئثار بالحكم وادارة شؤون البلاد بالحكمة والحزم. أما النزاع بين الوالي والمماليك ، فكان لابد من دخوله سريعا في دور حاد لأن الوالي كان مدفعوا الى الاسراع في منازلة المماليك بالأوامر التي وردت عليه من الآستانة، وبشدة حاجته الى المال لدفع مرتبات الجنود. على أنه ما كاد ينازل المماليك حتى تبين له خصم جديد من قواد جيشه، وهو محمد علي الذي كان قبلا من أصدقائه المقربين، لكنه لما اختبر ما عند محمد علي من المقدرة والطموح صار يرى فيه صديقا مخيفا، ولم يكن مخطئا في رأيه كما سنرى.
عندما تسلم خسرو باشا منصب الولاية في القاهرة، كان المماليك مسؤولين عن الوجه القبلي من الديار المصرية وعلى معظم الوجه البحري، فوجه اليهم فرقتين من الجند احداهما بقيادة يوسف بك، والثانية بقيادة محمد علي. فنازل المماليك فرقة يوسف بك وهزموها شر هزيمة قبل أن يصل محمد علي بفرقته الى ساحة القتال، فنسب انكسار فرقة يوسف بك الى تعمد محمد علي التأخر في نجدتها، فاستدعاه خسرو باشا ليلا الى مقره في القلعة زاعما انه يرغب في مفاوضته في أمر هام، وهو انما كان يقصد الايقاع به، فأدرك محمد علي قصد خسرو باشا، وجاوبه انه سيحصر لمقابلته نهارا على رأس فرقته. وعلى أثر ذلك ثار الجنود على الوالي طالبين مرتباتهم المتأخرة، ولم يستطع الوالي دفع المتأخر لهم، فرغب طاهر باشا كبير قواد الجيش التوسط بينه وبين الجنود الثائرين، فرفض خسرو باشا مفاوضته، فانحاز طاهر باشا الى الجند وسار بهم الى القلعة، فألجأ خسرو باشا الى الفرار، وتولى الحكم بعده بالوكالة سنة 1803.
منذ ابتداء الحوادث صار معلوما أن هنالك محركا غير منظور يدير من وراء الستار حركات الجنود والطامعين بالولاية في بحذاقة لاعب الشطرنج البارع وكان ذلك المحرك محمد علي، لكنه رغما عن طموحه الشديد الى منصب الولاية، لم يتعجل الأمر بل اتبع خطة تضمن له الوصول الى الولاية بعد أن تقضي على سائر المرشحين لها والطامعين فيها، وتزيل من طريقه العناصر المعادية. وبمقتضى تلك الخطة أصبح كل من يتولى الحكم عرضة للقتل أو العزل العاجل، بعد أن ينال محمد علي بواسطته بعد مآربه. فعليه بعد أن تولى طاهر باشا اعمال الولاية، حمله محمد علي على مراسلة البرديسي أحد زعيمي المماليك الكبيرين ليتقرب من المماليك، ويأمن شرهم في أثناء العراك القائم بسبب الولاية ، لكن عهد ظاهر باشا بالولاية لم يطل لأن الإنكشارية ثاروا عليهم مطالبين بمرتباتهم، فأدى ذلك الى خصام بين الباش والضباط الذين انتدبهم الإنكشارية لمفاوضته، وانتهى الخصام بقتل طاهر باشا، واغتنم محمد علي الفرصة فاتفق مع المماليك.
وكان في مصر حينئذ أحد وزراء الدولة العثمانية المدعو أحمد باشا قاصدا الى المدينة المنورة التي عين واليا عليها فأراد الإنكشارية إجلاسه على كرسي ولاية مصر، غير أن محمد علي لم يوافقهم على ذلك. وبالاتفاق مع المماليك طردوا أحمد باشا من القاهرة، ثم بطش الألبانيون بالإنكشارية باغراء محمد علي، ولم يبق في مصر من الرجال المنتمين الى حكومة الآستانة الذي يخشى محمد علي شرهم سوى خسرو باشا الوالي السابق الذي كان مقيما في دمياط فهاجمه محمد علي وعثمان بك البرديسي برجالهما وأحضراه الى القاهرة. وهكذا لم يبق لمحمد علي خصم ظاهر من رجال الآستانة، كما أن عثمان بك البرديسي صارت اليه السلطة العليا بين المماليك، لأن مناظره محمد بك الألفي كان قد ذهب الى انجلترا طامعا بالاستقلال بالحكم في مصر بمساعدة انجلترا.
واتصلت بالدولة العثمانية أخبار الحوادث المصرية، فراعها اتحاد المماليك والألبانيين، فوجهت علي باشا الجزائري واليا وأصبحته بألف جندي وبعد مناورات لا محل لذكها، اعترضت الجنود الألبانية علي باشا في طريقه من الاسكندرية الى القاهرة ففتكت بجنوده وقادته أسيرا الى القاهرة ثو وجوه الى سوريا لكنهم قتلوه في الطريق.
وفي أوائل سنة 1804 عاد محمد بك الألفي من انكلترا.، حاملا الكثير من التحف والأموال، وصعد نحو القاهرة في النيل. ولما كان وجوده في مصر يهدد محمد علي وعثمان بك البرديسي على السواء، اتفقا على مقاومته فاعترضه رجالهما في النيل ونهبوا الأموال والتحف التي جاء بها، أما هو فبادر الى النزول الى البر ونجا بنفسه واختبأ عند العرب.
وقد كان محمد علي له نصيب كبير في تدبير جميع الحوادث التي سلف ذكرها، غير أنه مع هذا كان بعيدا عن كل مسئولية تجاه الشعب والجند. فكان اذا تأخر دفع مرتبات الجند وقعت المسئولية على من يتولى ادارة البلاد وثارت الجنود عليه لا على قائد الجند، واذا فرضت الأموال على الأهلين واستثقلوا وطأتها نقموا على الحكام الذين فرضوها. أما محمد علي فكان في تلك الأحوال يشارك الجند والشعب في التوجع لما أصابهم، ويظهر الاهتمام بتحصيل حقوقهم وتخفيف كروبهم، فأصبح صديق الجند والشعب. وهذه أهم النتائج التي يبغي الحصول عليها قبلما يرشح لمنصب الولاية، لأن على الجند والشعب يتوقف تثبيت قدمه في البلاد.
واتفق أن مرتبات الجنود كانت متأخرى فثار الألبانيون على عثمان بك البرديسي وطالبوه بدفعها، ففرض على أهل القاهرة ضرائب فادحة ليتمكن من دفع مرتبات الجنود، فأغضب ذلك الأهالي، ونزعوا الى الثوةر، فتدخل محمد علي في الأمر، وأظهر عطفا شديدا على الأهلين ووعدهم بالمساعدة لرفع هذه المظلمة عنهم، فثابوا الى السكون. وكان المماليك قد أخذوا يشعرون أن محمد علي يبطن لهم العداء، والحقيقة أنه كان حينئذ في غنى عنهم بل صار اضعافهم خيرا له، فبدأ المشادة بين الفريقين.
وتجددت الثورة في القاهرة على المماليك بتفاق الأهالي والألبانيين، وحدث قتال عنيف وبرز محمد علي نفسه الى ميدان القتال، فتغلب على المماليك، وألجأ جميع أمرائهم الى الفرار من القاهرة. فعندئذ أصبح محمد علي صاحب العقد والحل في القاهرة لأن زمام الجند والشعب كان في يده، غير أنه لم يتسرع في طلب الولاية لنفسه، ولعله حاول هذه المرة اثبات اخلاصه للدولة العثمانية حتى لا تناوئه متى آن أون ترشيحه للولاية. وكان لا يزال موجودا في القطر المصري اثنان من الباشوات العثمانيين، أحدهما خسروا باشا والثاني أحمد خورشيد باشا حاكم الاسكندرية.
فدعا محمد علي علماء البلد وأعيانها الى اجتماع أظهر لهم في اثنائه وجوب المبادرة الى تعيين وال على البلد، واقتراح اخراج خسرو باشا من معتقله وتقليده منصب الولاية، فوافق العلماء والأعيان على ذلك. غير أن الزعماء الألبانيين اعترضوا على هذا التعيين وطلبوا من محمد علي اخراج خسروا باشا من البلاد، فأذعن الى طلبهم وأعاد خسرو باشا الى الآستانة. ولا يخفى أن الألبانيين كانوا رجال محمد علي الذين عليهم جل اعتماده ولديهم تودع أسراره، فلا يعقل والحالة هذه انه كان يجهل شعور زعمائهم نحو خشرو باشا عندما اقترح رده الى منصب الولاية، بل يستشف من عمله التواطؤ مع الزعماء الالبانيين على اتخاذ ترشيح خسروا باشا لمنصب الولاية واخراجه من معتقله، كان وسيلة لاخراجه من القطر المصري، فيقرب محمد علي خطوة جديدة من الولاية بدون أن يكون في مظهره ما يغضب الباب العالي. والمشهور أن خسرو باشا كان يعتقد سوء النية في محمد علي، فأظهر نحوه أشد العداء بعد عودته الى الآستانة وتوليه المناصب العالية فيها. وكان للعداء بينهما شأن عظيم في النزاع الذي وقع بعد ذلك بين السلطان محمود ومحمد علي. فبعد اخراج خسرو باشا من القطر المصري، لم يبق فيه من كبار العثمانيين من يصح تعيينه واليا سوى خورشيد باشا، فاتفق العلماء والأعيان وزعماء الجند على تعيينه واليا وتعيين محمد علي قائم مقام له. ووافق الباب العالي على ذلك في سنة 1804 ، أما خورشيد باشا فلقى ما لقى أسلافه من الصعوبات في الحصول على الأموال، وفي دفع مرتبات الجنود، فقرض الأموال الطائلة على أهل القاهرة، وابتز كثيرا منها من بعض الأفراد وخصوصا من المنتسبين الى المماليك، فشمل الاستياء منه جميع الطبقات. وكان في الوقت عينه يشعر بعدم اخلاص محمد علي، وبشدة وطأته، وظن أنه يتخلص منه باشغاله بمحاربة المماليك، غير ان انتصارات محمد علي في تلك المحاربة، وشدة عطفه على الأهلين والجند، زاده رفعة في عيون الجميع، ووطد مكانته في البلد خصوصا لدى العلماء والأعيان.
فرأى الوالي انه لابد له من قوة من رجال الدولة العثمانية تقف بجانبه وتعزز مقامه، والا أضحى بين يدي محمد علي كريشة في مهب الريح، ففاوض رجال الدولة في ذلك، بينما كان محمد علي بعيدا عن القاهرة مشتغلا بمحاربة المماليك، فوجهوا اليه ثلاثة آلاف مقاتل من طائفة الدالاتية، غير أن وجودهم في القاهرة لم يزد موقفه الى ضعفا وارتباكا، لأنهم عمدوا الى السلب والنهب وارتكاب شتى المنكرات والمحرمات، فزاد سخط الأهالي على خورشيد باشا، لأنه لم يشأ أو لم يستطع كف أذى الجند عنهم. كما أن محمد علي لما بلغه قدوم الدالاتية الى القاهرة عاد اليها، وأخذ يدس الدسائس على الوالي ويستميل عنه حتى رجاله الدلاتية. وبما أن تأخر دفع مرتبات الجنود كان من القواعد المطردة في ذلك الزمن، ثار الألبانيون عليه مطالبين بدفع مرتباتهم، فوقف الدالاتية على الحياد، فوجد خورشيد باشا نفسه في موقف حرجا عما كان عليه قبل قدوم الدالاتية.
وفي أثناء ذلك ورد مرسوم من الآستانة بتولية محمد علي باشا على جدة. وانما جرى ذلك بناء على مخابرات سابقة بين الباب العالي وخورشيد باشا درءا للخطر الذي خشيا وقوعه عليهما فيما لو بقى في مصر، فأظهر محمد علي استعداده لتنفيذ مرسوم الآستانة، وأخذ يتأهب للسفر، غير أن الجند والشعب الساخط على الوالي رجوا منه أن يبقى في مصر لاقتناعهم بأنهم لن يجدوا حاكما أرأف من محمد علي بحالتهم أو أقدر منه على انالتهم حقوقهم أو أكثر كفاءة لتولىي الاحكام، فاتفق زعماء الجند والعلماء والأعيان على اسقاط خورشيد باشا من منصب الولاية، وانتخاب محمد علي بدلا منه. وكتبوا الى الآستانة في ذلك، فأجيب ملتمسهم، وتلقى محمد علي مرسوما بذلك في تموز (يوليه) سنة 1805. أما خورشيد باشا فانه قاوم هذا التعيين ، لكنه اضطر اخيرا للتسليم وأعيد الى الآستانة.
وما كاد محمد علي يفرغ من مناهضة الباشوات العثمانيين حتى برز الإنكليز لمقاومته، طالبين من الباب العالي اسقاطه، وتسليم ادارة الأحكام للماليك، بزعامة صديقهم محمد بك الألفي الذي ذكرنا قبلا علاقته بإنكلترا، فأرسل الباب العالي القبطان باشا بأسطوله الى مصر لتنحية محمد علي باشا عن كرسي الحكم، غير أنه وجد الشعب والجند يؤيدانه، ورأى الشقاق سائدا على المماليك، كما أنه أطلع على غرض إنكلترا من عزل محمد علي واعادة حكم المماليك، وبناء على ذلك وعلى ما عرضه المصريون الى الباب العالي بواسطة ابراهيم باشا ابن محمد علي الذي أوفدوه الى الآستانة، صدر مرسوم جديد بتثبيت محمد علي في منصبه، فوصل هذا المرسوم الى مصر في 7 تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1806. وقد كان لمساعي قنصل فرنسا في الاسكندرية لدى القبطان باشا ولسفير فرنسا في الآستانة وللمال والهدايا التي يبعث بها محمد علي الى الآستانة تأثير عظيم على هذا التثبيت.
توليه ولاية مصر
بعد سقوط دولة المماليك عُين خورشيد باشا واليا لمصر، وبقى محمد علي في صف الشعب يدافع عن مطالبه ويتودد الى زعمائه، فلما ساءت سيرة خورشد وكثرة مظالمه ثار عليه الشعب وخلعه، وهناك طلب الزعماء من محمد علي ان يقبل منصب الولاية والحوا عليه في ان يجيب طلبهم، فقبل ما عرضوه عليه وصار الولاي المختار من الشعب
واستطاع بذكائه وصدق نظره في الامور وسعة حيلته ان يذللك العقبات التي اعترضته في السنوات الاولى من حكمه، فتغلب على دسائس الاتراك والانجليز ومساعي المماليك، كما فصلنا ذلك في الفصول الاولى، كل ذلك يدللك على مقدرته بل على عبقريته، وخاصة اذا لاحظت انه الى ذلك الحين كان اميا، اذ من المعروف انه لم يبدأ في تعليم القراءة والكتابة إلا بعد أن تجاوز الاربعين وبعد ان تبوا عرش مصر وتخطى العقبات الاولى في حكمه.
ويتجلى لك بعد نظره ورجاحة عقله واخذه الامور بالاناة والحكمة انه لما اعتزم ادخال النظام الجديد في الجيش المصري لم يغامر بانفاذ عزمه، بل انتظر السنين الطوال يتحين الفرص الملائمة لانفاذ مشروعه، ولو انه استعجل الامر وتسرع لاستهدف لهياج الجنود، ولشهدت البلاد ثورة من ثورات الجند التي تودي بمراكز الولاة بل توردهم موارد الحتف والهلاك. ومن مواهبه التي ذللت العقبات في طريقه وكفلت له الاضطلاع بالمهمات الجسام. الشجاعة وعلو الهمة، ومضاء العزيمة، فهذه الصفات كانت من اكبر مميزاته بعد الذكاء وحسن التدبير.
سياسة محمد علي في مصر
بعد ارتقاء محمد علي الى منصب الولاية، انقضى دور العمل من وراء الستار، حيث كان هو الدافع وغيره العامل، وهو صاحب التدبير وعلى غيره تحمل المسئولية. انقضى ذلك الدور وانحصر في تصريف الأمور وحل المشاكل، ومقاومة الخصوم في الخارج والداخل. فالمماليك ضعفت قوتهم ولانت ملامسهم نوعا ما، لكن نفوسهم ما برح تحدثهم باسترجاع سلطتهم وسابق مجدهم متى سنحت الفرصة.
ومصالح الانگليز في الهند كانت آخذة في النمو، وبنموها ازدادت مصر أهمية في نظرهم، لتسهيل وسائل النقل بين انكلترا والهند بطريق البحر المتوسط ومصر والبحر الأحمر، بدلا من الطريق البحرية الطويلة حول راس الرجاء الصالح. وهذا الذي كان قد دفعهم قبلا الى قماومة حملة بونابرت على مصر وسوريا واجتذاب محمد بك الالفي احد زعماء المماليك الى جانبهم، وبذلك جهد عظيم لتسليمه مقاليد الحكم في البلاد المصرية لقاء امتيازات ينالونها منه، غير أن تفرق كلمة المماليك، وحزم محمد علي، أحبط مساعيهم كما روينا قبل.
ونظرا لاشتباك انگلترا في حرب مع الدولة العثمانية وشدة شكيمة محمد علي وحرصه على ابعاد كل تدخل أجنبي عنه، لم يأمل الإنكليز الاتفاق معه، لاسيما أنه كان شديد الميل الى الفرنسويين اللذين أخذوا بناصره حينما كان الانكليز يدفعون الدولة العثمانية الى عزله. فلذلك عزم هؤلاء على استخدام قوتهم وقوة المماليك لنزع البلاد من يد الدولة العثمانية، وتنحية محم علي عن الولاية، وتسليم زمام الأمور للمماليك.
لكن جرت التقادير ضد التدابير، فان عثمان بك البرديسي توفى في أواخر سنة 1806 وزميله محمد بك الألفي توفى في أوائل سنة 1807، فسادت الفوضى شئون المماليك لفقد زعيمهم الكبيرين، ولم يدرك الانكليز مبلغ الضعف الذي أصاب حلفاءهم وظنوا أنهم ما برحوا يستطيعون الاعتماد على معاونتهم، فوجهوا الى القطر الصمري حملة مؤلفة من نحو خمسة آلاف جندي يقودها الجنرال فريزر، فوصل الى الاسكندرية واحتلها في شهر آذار (مارس) سنة 1807، ثم حاول احتلال رشيد أولا، وثانيا ليفتح طريق المواصلة بينه وبين المماليك، وفي كلتا المرتين اخفق اخفاقا تاما، اذ امعنت الجنود العثمانية في الحملتين قتلا وتشريدا، وأخذت عددا كبيرا من الأسرى نقلوا الى القاهرة. أما المماليك فلزموا السكينة ولم يمدوا لمساعدة الانكليز يدا وأخيرا دارت المفاوضة بين محمد علي والانكليز وانتهت بالاتفاق على أن يخلي محمد علي سبيل الأسرى، وان تتجلى الجنود الانكليزية عن الاسكندرية فغادروها في شهر أيلول (سبتمبر) سنة 1807.
فكان للانتصار الذي أحرزه محمد علي صدى عظيم في مختلف أنحاء البلاد، ونال ارتياح الباب العالي وتأييده. واغتنم المماليك هذه الفرصة للقرب منه، فتوكدت سيادته في القطر المصري، وعظمت هيبته في النفوس، واتخذ محمد علي على الخطر الذي كان يهدد البلاد من الخارج حجة لتحصين الثغور، وشحن الاسكندرية بالمقاتلة، وتولى الدفاع عن الثغور المصرية بنفسه، وقد كان قبل ذلك يقوم بالدفاع عنها قائد البحرية العثمانية (القبطان باشا) وهكذا استقل بادارة الاحكام في القطر المصري وبالدفاع عنه في الداخل والخارج.
ولعلك تذكر حين عودته من الاسكندرية بعد جلاء الحملة الانلجيزي عن البلاد سنة 1807 كيف ثار الجند في القاهرة وعاثوا في اسواقها فسادا، وكيف استعمل الحكمة في اخماد ثورتهم. واعتزم من ذلك الحين ان يتخلص من الجيش القديم ويحل محله جيشا حديثا قوامه النظام والطاعة، ولكنه لم يمض في تحقيق برنامجه الا حوالي سنة 1819 -1820، وما ذلك الا لما آنسه من الخطر اذا هو انفذ مشروعه قبل ذلك الحين، فمثل هذه الاناة والحكمة وسعة الحيلة لا تصدر الا عن دهاتين الساسة ذوي الرءوس الكبيرة، وبهذه الصفات نجح في تاسيس الجيش المصري النظامي، فتامل كيف انتظر اكثر من اثنتي عشرة سنة قبل ان يبدا في انفاذ فكرته، وكيف انه عندما بدا في دور التنفيذ كان شديد الاحتياط بعيد النظر، فاسس المدرسة الحربية الاولى لتخريج الضباط النظاميين في اسوان اي في اقاصي الوجه القبلي، لكي يبدا بمشروعه بعيدا عن الدسائس والفتن التي كانت القاهرة مسرحا لها.
حرب الوهابيين
أما رجال الدولة العثمانية، فرغما عن ارتياحهم لانتصار محمد علي باشا على الانجليز الذين حاولوا الاعتداء على بلاد عثمانية، كانوا ينظرون بعين الحذر والخواف الى نمو قوته وانتشار صيته وسطوته. وكانت في أثناء ذلك قد انتشرت الدعوة الوهابية في البلاد العربية، ثم تحول أصحابها الى جيش، فاتح فغزا الحجاز واستولى على مكة المكرمة والمدينة المنورة، فارتاع لذلك العالم الاسلامي، ولم يستطع الجنود العثمانيون صدهم، بل امتدت غزواتهم الى العراق وسوريا.
فانتدبت الحكومة العثمانية محمد علي لمقابلتهم، وهي تقصد بذلك تشريفه ظاهريا بالدفاع عن الكعبة والمدينة، أما حقيقة الحال فهي أنها كانت في حاجة الى من يرد عن ولاياتها غارات الوهابيي، كما أنها كانت أمل ان المصادمة بين محمد علي والوهابيين، تلقيه في ورطة عظيمة ربما قضت عليه وعلى الوهابيين معا. على أن انتدابه لهذه المهمة الشريفة زاد مكانته رفعة في عيون المسلمين في جميع الأقطار.
فأخذ في تجهيز الجنود واعداد وسائل النقل الى الحجاز بحرا. فكانت هذه أول حركة صناعية كبرى قام بها اذ جمع لها المواد والصناع من جميع أنحاء القطر المصري، وأنشأ المصانع في بولاق، حيث جهزت السفن أجزاء، ونقلت كذلك الى السويس حيث ركبت فكان ما أنشأه بضع عشرة سفينة.
ولما اقترب أوان تسيير الحملة الحجازية، رأى من الحكمة أن يطهر البلاد من المماليك الذين كان قد قاتلهم قتالا شديدا في الأعوام الماضية حتى خضد شوكتهم، وظن أن لن تقوم لهم قائمة بعدها، ثم قرب كبارهم منه، وأقطعهم الاقطاعات، لكن لما شرع في اعداد الحملة على الوهابيين أخذوا يكيدون له ويتآمرون عليه، فعلم بمؤامراتهم لكن تجاهلها.
وعول على نكبتهم ، واختار لذلك أول مارس 1811، وهو اليوم الذي عينه لعقد لواء الحملة الحجازية في قلعة الجبل لولده طوسون باشا. فدعا الى الحفلة كبار رجال حكومته وأمراء المماليك، وبعد انتهاء الحفلة ركب المماليك خيولهم وهموا بالخروج فوجدوا باب القعلة موصدا في وجوههم، وكان الجنود قد أحدقوا بهم وأمطروهم وابلا من الرصاص وأجهزوا على من بقى حيا بالسيوف، فلم ينج منهم أحد من الذين شهدوا حفلة القلعة، فكان في ذلك اليوم القضاء الأخير على قوة المماليك في مصر، ولم يبق في البلاد من العناصر التي اعتادت الكيد للولاة واقلاق راحة العباد سوى طوائف من الجند.
بدأت هذه الحرب في سنة 1811، وانتهت في سنة 1818. قاد حملتها الأولى طوسون باشا من سنة 1811 الى 1815، وأصيبت جنوده في بادئ الأمر بانكسار شنيع، لكن عاد فاستولى على مكة والمدينة وجدة، والطائف بعد متاعب وأخطار جمة، ثم ذهب محمد علي بنفسه الى الحجاز في آب (أغسطس) 1813 ليشرف على الأعمال الحربية فمكث هناك الى شهر حزيران (يونيه) سنة 1815.
ثم تولى قيادة الحملة الوهابية ابراهيم باشا من أواخر سنة 1816 الى أن انتهت في أواخر سنة 1814، فقهر الوهابيين واستولى على مدنهم، وأكره زعيمهم عبد الله بن السعود على التسليم والذهاب الى مصر، ومنها أرسل الى الآستانة فقتلته الحكومة العثمانية على أثر وصوله. فكان للقضاء على الوهابيين فرح عظيم في العالم الاسلامي اقترن به ذكر محمد علي بالاعجاب والتكريم. وظهرت في أثناء هذه الحرب كفاءة ابراهيم باشا وصفاته العسكرية الممتازة، وبها ابتدأت شهرته التي طبقت الآفاق في ما تلاها من الحروب ومكافأة له على انتصاراته الباهرة أنعم عليه السلطان بولاية جدة.
وعدا الشهرة الواسعة التي نالها محمد علي في البلدان الأجنبية لتغلبه على الوهابيين، ازدادت سلطته رسوخا في القطر المصري، وخصوصا على رجال الجيش، لأن محاربة عدو باسل مدة سبع سنين في بلاد مقفرة أهلكت عددا كبيرا من الضباط والجنود المشاغبين، إما قتلا في المحاربة أو موتا بالأمراض، كما أن الانكسارات الأولى التي أصابت الجيش قضت على خيلاء بعض كبار ضباطه، بل أذلتهم ونزعت من الجنود الثقة بهم، فاغتنم محمد علي هذه الفرصة لتمكين قبضته لضباطهم، فكان اذا انتقل الضابط من جهة الى أخرى انتقلت جنوده معه، كأنما هم مماليكه ولا علاقة لهم مباشرة بالقيادة العامة.
تنظيم الجيش الجديد وثورة الجند
ان الجيش هو الدعامة الاولى التي شاد عليها محمد علي كيان مصر المستقلة، ولولاه لما تكونت الدولة المصرية ولا تحقق استقلالها، وهو الذي كفل هذا الاستقلال وصانه نيفا وستين سنة، فلا غرو ان خصه محمد علي باعظم قسط من عنايته ومضاء عزيمته، وليس في منشات محمد علي ما نال عنايته مثل الجيش المصري، ويكفيك دليلا على مبلغ تلك العناية ان منشاته الاخرى متفرعة منه، والفكرة في تاسيسها او استحداثها انما هي استكمال حاجات الجيش، فهو الاصل وهي التبع. فتقرير محمد علي باشا انشاء مدرسة الطب مثلا يرجع في الاصل الى تخريج الاطباء الذين يحتاج اليهم الجيش، وكذلك دور الصناعة ومصانع الغزل والنسيج، كان غرضه الاول منها توفير حاجات الجيش والجنود من السلاح والذخيرة والكساء، واقتضى اعداد الاماكن اللازمة لاقامة الجنود بناء الثكنات والمعسكرات والمستشفيات، واستلزم تخريج الضباط انشاء المدارس الحربية على اختلاف انواعها، وكذلك المدارس الملكية كان الغرض الاول منها تثقيف التلاميذ لاعدادهم على الاخص لان يكونوا ضباطا ومهندسين، وارسال البعثات الى اوروبا كان الغرض الاول منه توفير العدد الكافي من الضباط ومن الاساتذة والعلماء والمهندسين ممن يتصلون عن بعد او قرب بالاداة الحربية، صحيح ان هذه المنشات وغيرها كان لها اغراض عمرانية اخرى، لكن خدمة الجيش كانت اول ما فكر فيه محمد علي.
فالجيش اذن فضلا عن مهمته الاول من الدفاع عن استقلال البلاد كان اداة لتقدم العمران في مصر، فهو من هذه الوجهة من اجل اعمال محمد علي باشا.
وكل ما بذل من الجهود والنفقات في سبيله قد اصاب حقه وموضعه، فلم يكن عبثا ولم يضع سدى، اذ من المحقق انه لولا قوة هذا الجيش لضاع الاستقلال الذي نالته مصر في عهده، ولاستردت تركيا امتيازاتها القديمة في البلاد واتخذتها ولاية تحكمها مباشرة كما تحكم سائر ولايات السلطنة العثمانية، او لاحتلتها انجلترا بجيوشها عندما البت عليها الدول الاوروبية وجردت عليها قواتها البحرية والبرية في سورية وعلى السواحل المصرية ، ولو لم يكن هذا الجيش متاهبا للقتال ذائدا عن الوطن لاستطاعت انجلترا ان ترمي الكنانة بجنودها، ولاحتلتها كما فعلت سنة 1882، حين لم يكن ثمة جيش ولا دفاع، ولا معاقل لحماية الذمار.
في سنة 1815 لما عاد محمد علي من الحجاز اغتنم فرصة غياب أكثر الضباط والجنود المشاغبين في البلاد العربية، وعمد الى تدريب فرقة من الجنود المقيمين في مصر، مهددا كل من يقاومه بالطرد من الجندية ومن القطر المصري، فتمرد الضباط والجنود وتآمروا على قتله، غير أنه أنذر بمكيدتهم فنجا منها، لكنه اضطر الى ارجاء امر التدريب العسكري الى حين، وهدأ خواطر الجنود وضباطهم، وطمأن الأهلين الذين كانوا يخشون شر الجنود المتمردين.
عهد الإصلاح والتوسيع
سياساته
تمكن محمد علي أن يبني في مصر دولة عصرية على النسق الأوروبي، واستعان في مشروعاته الإقتصادية والعلمية بخبراء أوروبيين، ومنهم بصفة خاصة السان سيمونيون الفرنسيون، الذين أمضوا في مصر بضع سنوات في الثلاثينات من القرن التاسع عشر، وكانوا يدعون إلى إقامة مجتمع نموذجي على أساس الصناعة المعتمدة على العلم الحديث. وكانت أهم دعائم دولة محمد علي العصرية: سياسته التعليمية والتثقيفية الحديثة.
فقد آمن محمد علي بأنه لن يستطيع أن ينشئ قوة عسكرية على الطراز الأوروبي المتقدم، ويزودها بكل التقنيات العصرية، وأن يقيم إدارة فعالة، وإقتصاد مزدهر يدعمها ويحميها، إلا بإيجاد تعليم عصري يحل محل التعليم التقليدي. وهذا التعليم العصري يجب أن يقتبس من أوروبا. وبالفعل بإنه طفق منذ 1809 بإرسال بعثات تعليمية إلى مدن إيطالية (ليفورنو ، ميلانو ، فلورنسا ، و روما) لدراسة العلوم العسكرية، وطرق بناء السفن، والطباعة. وأتبعها ببعثات لفرنسا، كان أشهرها بعثة 1826 التي تميز بيها إمامها المفكر والأديب رفاعة رافع الطهطاوي، الذي كان له دوره الكبير في مسيرة الحياة الفكرية والتعليمية في مصر.
ان أظهر صفات محمد علي على بعد النظر والحزم والمرونة السياسية. أدرك برأيه الصائب أن اقتباس الأنظمة الأوروبية ومجاراة الأوروبيين في الأساليب العمرانية أمور لابد منها لرقي بلاده، وتثبيت دعائم حكومته التي كانت حكومة الآستانة تعمل على تقويضها، فلما أخفق في محاولته تنظيم الجيش للمرة الأولى ستر اخفاقه بلباقته السياسية، لكنه بقى مصرا على العودة الى التنظيم عند سنوح أول فرصة، وتمهيدا لذلك استمال اليه بوسائل مختلفة بعض كبار الضباط المعارضين. وجهز حملة لفتح السودان بقيادة ابنه اسماعيل باشا اقصت الباقين من هؤلاء الضباط ومن تابعهم من الجنود.
جعل محمد علي للحملة على السودان ثلاث غايات وهي: التخلص من الضباط والجنود الذين كانوا يقاومون التنظيم العسكري والقضاء على المماليك الذين فروا من القطر المصري الى دنقلة بعد مذبحة القلعة المشهورة، والحصول على مصادر جديدة للثروة والتجنيد. والسودانيون قوم بسل، ظن محمد على أنه يستطيع ان يؤلف منهم جيشا يحل محل الألبانيين وغيرهم. فبلغت الحملة غرضيها الأولين، لكنها لم تأت بالفائدة المادية المرجوة ولا حققت الآمال في التجنيد ، نظرا لعدم مناسبة جو مصر للسودانيين.
فعمد الى تجنيد الفلاحين المصريين وانتدب لتنظيم الجيش ضابطا فرنساويا قديرا وهو الكولونيل ساف Seve المعروف باسم سليمان باشا الفرنساوي، وأنشأ المدارس الحربية وبنى الأسطول. ومع اصلاحاته هذه نمت الصناعة في البلاد، واستعان على القيام بكل ذلك برجال الفنون والصنائع الأوروبيين ، وكان أكثرهم من الفرنسويين لحسن علائقه السياسية بهم واقبالهم على بلاده. واهتم ايضا بنشر المعارف في البلاد وتحسين الأحوال الصحية، فأنشأ المدارس والمستشفيات ، وأرسل البعثات العلمية الى أوروبا، واستقدم منها أرباب الاختصاص.
وتتبين قوة عزيمته من انه انشا من العدم جيشا ضخما على احدث نظام، واسطولا قويا رفع علم مصر فوق ظهر البحار، واوجد حكومة منتظمة حيث كانت الفوضى ضاربة اطنابها ، وانشا المدارس والمعاهد حيث كانت الجهالة فاشية. والمستشفيات حيث كانت الامراض تفتك بالاهلين، وشق الترع واقام الجسور حيث كانت مياه النيل تذهب هدرا دون ان تنتفع منها الاراضي، واسس البعثات العلمية واقام المصانع والمباني العامة، كل ذلك يدل على ما تفعله العزيمة الحديدية، وقد شهد له الجبرتي بقوة العزم والشهامة، فقال عنه لمناسبة اصلاحه سد ابو قير: "فأرسل اليه المباشرين والقومة والرجال والفعلة والنجارين والبنائين والمسامير والات الحديد والاحجار والمؤن والاخشاب العظيمة والسهوم والبراطيم حتى تتمه وكان له مندوحة لم تكن لغيره من ملوك هذه الازمان، ولو وفقه الله من العدالة على ما فيه من العزم والسياسة والشهامة والتدبير والمطاولة لكان اعجوبة زمانه وفريد اقرانه"، وهي شهادة لها قيمتها من مؤرخ عرف عنه باحكامه الشديدة على محمد علي.
وقد ذكر عنه الكونت بنديتي قنصل فرنسا العام في مصر وقتئذ انه لما شرع في اقامة القناطر الخيرية وسمع بالاعتراضات التي ابديت على المشروع من جهة العقبات والمصاعب التي تحول دون نجاحه كان جوابه: "ان هذا صراع بيني وبين النهر العظيم! لكني ساخرج فائزا من هذا الصراع!"، فهذا الجواب يدلك على مبلغ شعوره بقوة ارادته، ولولا تلك الارادة لما اعتزم ان يقهر النيل ويتحكم في جريانه بواسطة مشروعه الكبير.
ومن اصلاحات محمد علي المشهورة وانشاء قوة منظمة من البوليس، واقرار الأمن في جميع انحاء البلاد حتى ضاهت مصر في ذلك البلدان الأوروبية الراقية.
فهو من الوجهة السياسية كان يرمي الى انشاء دولة مصرية مستقلة، قوية الباس عظيمة السلطان، منيعة الجانب، وهي غاية تعد المثل الاعلى للقومية المصرية، ولقد حقق فعلا تلك الغاية وجعل من مصر دولة فتية مستقلة تمتد حدودها من جبال طوروس شمالا إلى أقاصي السودان جنوبا، وتشمل مصر وسورية وبلاد العرب وجزيرة كريت وقسما من الاناضول، ولئن تراجعت حدود مصر طبقا لمعاهدة لندره كما فصلناه في موضعه فقد بقيت حدودها الاصلية سليمة شملت استقلال مصر والسودان وحققت وحدة وادي النيل السياسية والقومية.
وغني عن البيان ان تحقيق هذا المشروع العظيم ليس من الهنات الهينات، ولا ينهض به رجل عادي، بل يحتاج الى سياسي كبير من اعظم الرجال همة ودهاء، فان اي خطأ يبدر منه كان يكفي لاحباط المشروع في خطواته الاولى، او هدمه من اساسه بعد تمامه، ولكن محمد علي احاط مشروعه بالحر وبعد النظر والحكمة، ويكفيك برهانا على بعد نظره في السياسة، أنه لم اعرض عليه مشروع حفر قناة السويس اعرض عنه رغم الحاح بعض الماليين والسياسييين الافرنج، اذ راى انه سيؤدي الى تدخل الدول في شئون مصر واتجاه الاطماع اليها وجعلها هدفا للدسائس الاستعمارية مما يفضي الى ضياع استقلالها، ومما يؤثر عنه انه قال في هذا الصدد: "اذا انا فتحت قناة السويس فسأنشئ بوسفورا ثانيا، والبوسفور سيؤدي الى ضياع السلطنة العثمانية، وبفتح قناة السويس تستهدف مصر للاطماع اكثر مما هي الان، ويحيق الخطر بالعمل الذي قمت به وبخلفائي من بعدي".
ووجه اهتماما عظيما الى الاصلاح الاقتصادي ، لأن جميع مشاريعه لاقوام بها الا بالمال، فنشط الزراعة والتجارة فدرت عليه الخيرات، وبذل الجهد المستطاع في سبيل ترقية الصناعة، لكنها لم تكن رابحة. أما أعماله الزراعية، فأهما زراعة القطن الأمريكي والنيلة، واستيلاؤه على أكثر أملاك القطر المصري بطرق جائرة وتسخيره العمال لاجل القيام بمشاريعه الزراعية التي وضعها تحت مراقبة رجال الحكومة في المديريات، فنجحت أعماله وكثرت أرباحه، لكنه أنزل الضنك بعدد عديد من الملاكين، والعمال باغتصابه الأملاك وتسخير الرجال. وزاد على هذه المظالم استعمال منتهى الشدة في تحصيل الأموال الأميرية وفرض ضريبة جديدة وهي الفردة أو ضريبة الرؤوس، وكانت تجبي من رجال البلاد على اختلاف مذاهبهم.
وقد ذكر عنه الكونت بنديتي قنصل فرنسا العام في مصر وقتئذ انه لما شرع في اقامة القناطر الخيرية وسمع بالاعتراضات التي ابديت على المشروع من جهة العقبات والمصاعب التي تحول دون نجاحه كان جوابه: "ان هذا صراع بيني وبين النهر العظيم! لكني ساخرج فائزا من هذا الصراع!"، فهذا الجواب يدلك على مبلغ شعوره بقوة ارادته، ولولا تلك الارادة لما اعتزم ان يقهر النيل ويتحكم في جريانه بواسطة مشروعه الكبير.
لكن رغما عن هذه المظالم، فان اصلاحاته الجمة وتسامحه الديني جعله محترما في عيون الأوروبيين، فازدادت العلائق بين البلدان الأوروبية والمصرية، وكثر عدد مريديه والمعجبين به من الأوروبيين، نظرا لما كان يبديه من البشاشة في استقبالهم والحذق في أحاديثه الممزوجة بالظرف والفكاهة.
حملاته العسكرية
إخماد ثورة اليونان
ان الاصلاحات والتنظيمات التي قام بها محمد علي كانت خطوات في سبيل الاستقلال، ولم يفت الدولة العثمانية ادراك ذلك، لكنها كانت في شغل شاغل عنه باضطراباتها الداخلية، فلم تكن من مصلحتها مشاكسته أو التعرض لأي عمل من أعماله، بل لم تلبث أن وجدت نفسها في حاجة الى الاستعانة به على محاربة ثوار اليونان. ويقال أنه هو نفسه تطوع لتقديم هذه المعونة ملتمسا اعطاءه الولاية على سوريا واعفاؤه من دفع الجزية السنوية في أثناء المحاربة حتى ينفقها على الجيش المحارب.
اشترك محمد علي بجيشه وأسطوله في اخماد ثورة اليونان في سنة 1824 الى سنة 1827 وانتصرت جنوده على الثوار انتصارات باهرة، غير ان نحياز انكلترا وفرنسا والروسية الى اليونان حال دون الحصول على ما كان يرجوه من وراء هذه الانتصارات، بل ان الأسطولين الإنكليزي والفرنساوي دمرا الأسطولين العثماني والمصري في موقعة نافارين الشهيرة في 20 تشرين أول (أكتوبر) 1827. واضطر الى سحب جنوده من المورة بناء على اتفاق خاص عقده مع دول الحلفاء المتحيزين لليونان.
فحرب المورة كلفت محمد علي خسارة معظم أسطوله غير أنها اكسبته ولاية كريت التي كان قد اخضع ثورتها. ورفعت مكانة الجيش المصري في عيون الأوربيين وزادت شهرة قائده ابراهيم باشا ومكنته من درس حالة الجيش العثماني عن كثب، والوقوف على أسباب الضعف في القواد والجنود، كما أن اتصاله بقواد الجنود الأوروبيين الذين قدموا الى بلاد اليونان زاده خبرة بنظام الجندية الأوربية. وأظهرت هذه الحرب بكل جرء تفوق الجنود المنظمة على غيرها، فضاعف اهتمامه بتنظيم الجيش وخصوصا الخيالة، لأنهم كانوا لا يزالون غير نظاميين. ثم ان انفراده عن السلطان بالاتفاق مع الحلفاء، كان بمثابة اعتراف دول الحلفاء ضمنا بمقامه الممتاز. وكأن تأثيرات حرب المورة بعثت فيه نشاطا جديدا وعلمته أن الحق في أفواه المدافع وشفار اسيوف، فجد في تنظيم جيشه وفي بناء أسطول جديد تأهبا لفتح سوريا التي كان يطمع في ضمها الى مصر من زمن بعيد.
حملاته على سوريا
بعد ما استقر محمد علي في ولاية مصر، وأوقع بالمماليك فأمن شر المزاحمين، ووطد أركان الأمن في البلاد، وعمل على انماء ثروتها الزراعية والتجارية، وأحدث نهضة صناعية، وصار ذا جيش محكم التدريب يتولى ادارته أمهر القواد المعاصرين، أخذ يتأهب لغزو سوريا والاستيلاء عليها.
وسوريا ومصر شقيقتان طالما جمعتهما دائرة حكم واحد، هذا فضلا عما بينهما من روابط المصلحة والجنس واللغة. فلم يكن مستغربا طموح محمد علي الى الاستيلاء عليها، لاسيما وهو الرجل الذي لا يفوته ادراك أهمية موقعها الجغرافي وماله من المزايا الحربية والاقتصادية. وقد شبه أحد الكتاب مصر وسوريا بالنسبة الى ما وراءهما من البلدان الشرقية بشقتي باب واحد. فكل واحد من هذين القطرين متمم للآخر والجمع بينهما فيه الخير كل الخير لهما.
ان الحملة التي وجهت الى سوريا بقيادة ابراهيم باشا بدأت الزحف في خريف سنة 1831. أما طموح محمد علي الى الاستيلاء على سوريا، فظهرت بوادره قبل ذلك بأكثر من عشرين سنة أي في سنة 1810 عندما ألجأ اليه يوسف باشا الكنج والي الشام فورا من وجه سليمان باشا والي صيدا. فسعى محمد علي لدى رجال الحكومة العثمانية لاعادة يوسف باشا الى إيالة الشام، مشترطا عليه أن يكون معينا له على مد رواق سيطرته على سوريا، غير أن رجال الآستانة لم يتلقوا طلبه بالارتياح، ومع هذا لم يقطع الرجاء من تنفيذ مأربه. وقد تبين مرارا من أحاديثه أنه يبغي اعادة يوسف باشا الى منصبه في دمشق، وتولية ولده طوسون باشا على عكا وصرح باكثر جلاء بمطامعه في سوريا وأمله بالحصول عليها في حديث له في سنة 1811. فقد قال المسيو دروفني قنصل فرنسا في مصر حينئذ في رسالة الى حكومته "ان محمد علي طامع في باشاوية سوريا، وقد قال لي في أحد الأيام انه غير مستبعد حصوله عليها بتضحية مبلغ من المال يتراوح ما بين سبعة وثمانية ملايين من القروش، يدفعها الى الخزينة السلطانية، وقد أخذت فكرة الاستقلال تزداد قوة منذ تغلبه على أعدائه وعلى مشاغبات الجنود والارتباكات التي كانت تسود مالية البلاد".
وقد أذاعت في سوريا أخبار مطامعه حتى ان سليمان باشا والي الشام وصيدا بعد ان كان قد اخذ في اعداد حملة لمقاتلة الوهابيين ، عدل عن ذلك وأقام متوقعا هجوم عدونه الجديد من جهة الحدود الجنوبية. كما أن في مصر نفسها رغما عما كان معروفا عن تجهيز حملة طوسون باشا لأجل محاربة الوهابيين، اخذت الشكوك في غرضها تخامر أفكار الأجانب والوطنيين على السواء وقد قال المسيو دروفني عن هذه الحملة في رسالة ثانية الى الحكومة "ان جميع التأهبات التي يقوم بها تدل على انها ستخترق الصحراء وتتجاوزها الى سوريا، وغرضها الحقيقي لا يزال سرا مكنونا في ضمير الباشا، وهو لم يحد في هذه المرة عن خطته المعهودة، وهي التأني ثم التصرف بحسب مقتضيات الأحوال".
فيتضح مما تقدم أن الاستيلاء على سوريا مشروع قديم لم يتمكن محمد علي قبلا من اتخاذ خطة حازمة لتنفيذه، لأنه من سنة 1828 ظل منشغلا بمحاربة الوهابيين ففتح السودان، فالاشتراك في محاربة ثوار اليونان، وبعد ذلك شرع في بناء أسطول جديد كان لابد منه لمعاونة الجيش البري على فتح سوريا. أما الاستيلاء على سوريا فكانت تعترضه ثلاث عقبات. الأولى مقاومة الدولة العثمانية، لأن احتفاظها بسوريا على أعظم جانب من الأهمية نظرا لموقعها بالنسبة الى غيرها من الولايات العثمانية. فسوريا تعترض على ما بين مصر والبلدان العثمانية في آسيا، وهي أيضا مفتاح البلاد العربية التي كان لمحمد علي نفوذ عظيم فيها بعد تغلبه على الوهابيين، بل كانت له عليها سيطرة فعلية، لأن رجاله كانوا يديرون شئونها، وجنوده كانت لا تزال مرابطة فيها، فلو ضمت سوريا الى مصر، لأصبح في حيز الامكان انفراط عقد جزيرة العرب من جيد آل عثمان، وزوال سلطانهم عن مصر وقيام دولة إسلامية جديدة، الى جانب أن الدولة العثمانية تمتاز عليها بتجانس عناصرها وانتظام ادارتها ونظام جنودها، وربما نازعتها الملك والخلافة، اما اعتمادا على حق اكتسبته بما لديها من قوة ومنعة يجعلانها أكثر من آل عثمان اقتدارا على القيام بحماية الحرمين الشريفين، والدفاع عن حوزة الاسلام، أو اندفاعا بعوامل الطموح الى الملك وحب الانتقام من السلطان محمود ووزيره خسروا باشا لأنهما كانا يضمران اشد العداء لمحمد علي وطالما نصب الشراك لاصطياده والايقاع به، فنجا من كيدها بشدة حزمه ودهائه.
والعقبة الثانية أحوال سوريا نفسها التي تجعه مهمة الفاتح والحاكم محفوفة بالمشقات، لاختلاف نزعات السكان وصعوبة مراسهم، ووعورة المسالك، وانتشار النظام الاقطاعي، وكثرة المتغلبين وأصحاب الامتيازات المحلية، والامتيازات المحلية لم تأت أصحابها عفوا بل نشأت في أكثر الأحوال عن أسباب وضرورات كانت مبررة لوجودها عند نشوئها، كقيام أصاحبها بنصرة حزب أو مبدأ أو عجز الدولة عن حماية أرواحهم وأموالهم، واضطرارهم للذود عن حياضهم بسلاهم. وعلى كل حال فان من تمتع بحق ما ردحا من الدهر لا يهون عليه التنازل عنه بدون عوض يسمح بقيام مملكة في وسط مملكة. وثبات الملك وانصاف المحكومين يستوجبان نفوذ سلطة الحاكم ومساواة الرعايا في الغنم، كحماية الأرواح والحقوق، وفي الغرم كالتجند ودفع الضرائب ولا سبيل الى بلوغ هذه الغايات الا اذا كان شعار الحكومة الحكمة والعدل، واهتمامها موجها الى اسعاد الرعية وتوطيد دعائم العمران والأمن وكانت لديها قوة يرهبها ويحترمها المحكومون.
أما وقد كانت أحوال سوريا وأهلمها كما وصفنا، وكان محمد علي شديد الاصرار على نزع الامتيازات المحلية، وفرض التكاليف المادية الثقيلة على شعب فقير، وصوق شبانه الى ساحات القتال لمدد غير محدودة، ومشاركة الأفراد في ثمرات أتعابهم ومزاحمتهم على استثمار الموارد الزراعية والتجارية في بلادهم – لما كانت هذه خطة محمد علي كان لابد من بعد حلول جيشه في سوريا واقامة حكومته فيها من اصطدام مصلحته وسلطته بالمصالح والتقاليد المحلية، وما يرافق ذلك ويعقبه من الاضطرابات وشبوب نار الثورات.
محمد علي باشا في معركة أبو قير البحرية
أما العقبة الثالثة فهي تصادم مصلحة محمد علي والمصالح الأوروبية ، وعلى الأخص الإنكليزية الشرقية. وهذه العقبة كانت عقدة العقد التي تعذر حلها على محمد علي كما تعذر على نابليون من قبله.
ان أهمية هذه العقبات لم تكن خافية على محمد علي، غير أنه لما عول على مهاجمة سوريا في سنة 1831 كانت الأحوال السياسية في أوروبا والبلاد العثمانية مبشرة بنجاح مهمته، فلم يخش مقاومة العثمانيين لعلمه أن حكومتهم كانت منشغلة باخماد ثورة البوسنة، وتسكين الاضطرابات في ألبانيا، كما أن سوريا كانت خالية من قوات تدافع عنها، فحامية حلب كان قد وجهت الى بغداد لمحاربة واليها المتمرد داود باشا، وكانت الفوضى ضاربة أطنابها في دمشق لانتفاق أهلها على الوالي سليم باشا وقتلهم اياه، وكانت أحوال ولاية صيدا مضطربة بسبب حوادث نابلس ومحاصرة قلعة سانور قبل ذلك. هذا فضلا عما أصاب الدولة العثمانية من الضعف لتواصل الثورات الداخلية، واشتباكها في حرب مع الروسية.
أما الدول الأوروبية، فكانت منهمكة في تسكين الاضطرابات واخماد الثورات التي نشأت عن تأثيرات مبادئ الثورة الفرنسوية في نفوس شعوبها. وسوف نرى أنها لم تندفع لمقاومته الا بعد ما فتح جميع البلاد السورية، وأوغل في بلاد الأناضول حتى هدد الآستانة نفسها. وكاد يثير حربا أوروبية بسبب المشاكل الدولية التي كان يخشى حدوثها فيما لو بلغت جنوده عاصمة السلطنة العثمانية.
أما أهل سوريا فيظهر أنه لم يحسب لمقاومتهم حسابا، لأنه كان قد استوثق من ميل حاكم جبل لبنان وأكثرية اللبنانيين الى جانبه، ولم تفته معرفة استياء السوريين كافة من الحكم العثماني، لتوالي انتفاضهم على حكامهم وسيادة الفوضى والظلم في بلادهم.
ونظرا لتأثير جبل لبنان في أعمال حملة ابراهيم باشا، ولعلاقة عبد الله باشا والي صيدا بحوادث الهجوم على سوريا، سنذكر في الفصل التالي بعض التفاصيل عن الأعمال التمهيدية في عكا ولبنان التي سبقت توجيه تلك الحملة.
انجازاته
ابراهيم باشا، مع والده محمد علي باشا، وسليمان باشا إلى اليمين.
لأنه كان طموحا بمصر ومحدثا لها ومحققا لوحدتها الكيانية وجاعلا المصريين بشتي طوائفهم مشاركين في تحديثها والنهوض بها معتمدا علي الخبراء الفرنسيين. وكان واقعيا عندما أرسل البعثات لفرنسا واستعان بها وبخبراتها التي إكتسبتها من حروب نابليون . ولم يغلق أبواب مصر بل فتحها علي مصراعيها لكل وافد. وانفتح علي العالم ليجلب خبراته لتطوير مصر . ولأول مرة يصبح التعليم منهجيا . فأنشأ المدارس التقنية ليلتحق خريجوها بالجيش.
وأوجد زراعات جديدة كالقطن وبني المصانع واعتني بالري وشيد القناطر الخيرية علي النيل عند فمي فرعي دمياط و رشيد .
ولما استطاع محمد علي القضاء علي المماليك ربط القاهرة بالأقاليم ووضع سياسة تصنيعية و زراعية موسعة. وضبط المعاملات المالية والتجارية والادارية والزراعية لأول مرة في تاريخ مصر. وكان جهاز الإدارة أيام محمد علي يهتم أولا بالسخرة وتحصيل الأموال الأميرية وتعقب المتهربين من الضرائب وإلحاق العقاب الرادع بهم. وكانت الأعمال المالية يتولاها الأرمن والصيارفة كانوا من الأقباط والكتبة من الترك .لأن الرسائل كانت بالتركية. وكان حكام الاقاليم واعوانهم يحتكرون حق التزام الاطيان الزراعية وحقوق امتيازات وسائل النقل. فكانوا يمتلكون مراكب النقل الجماعي في النيل والترع يما فيها المعديات. وكان حكام الأقاليم يعيشون في قصور منيفة ولديهم الخدم والحشم والعبيد. وكانوا يتلقون الرشاوي لتعيين المشايخ في البنادر والقري . وكان العبيد الرقيق في قصورهم يعاملون برأفة ورقة . وكانوا يحررونهم من الرق.
ومنهم من أمتلك الأبعاديات وتولي مناصب عليا بالدولة .وكان يطلق عليهم الأغوات المعاتيق. وكانوا بلا عائلات ينتسبون إليها . فكانوا يسمون محمد أغا أو عبد الله أغا. وأصبحوا يشكلون مجتمع الصفوة الأرستقراطية. ويشاركون فيه الأتراك . وفي قصورهم وبيوتهم كانوا يقتنون العبيد والأسلحة . ومنهم من كانوا حكام الأقاليم . وكانوا مع الأعيان المصريين يتقاسمون معهم المنافع المتبادلة ومعظمهم كانوا عاطلين أي بلا عمل. وكثيرون منهم كانوا يتقاضون معاشات من الدولة أو يحصلون علي أموال من اطيان الإلتزام. وكانوا يعيشون عيشة مرفهة وسط أغلبية محدودة أو معدومة الدخل .
كان محمد علي ينظر لمصر علي أنها أبعديته .فلقد أصدر مرسوما لأحد حكام الأقليم جاء فيه : البلاد الحاصل فيها تأخير في دفع ماعليها من البقايا او الاموال يضبط مشايخها ويرسلون للومان (السجن ). والتنبيه علي النظار بذلك . وليكن معلوما لكم ولهم أن مالي لايضيع منه شيء بل آخذه من عيونهم .وكان التجار الأجانب ولاسيما اليونانيين والشوام واليهود يحتكرون المحاصيل ويمارسون التجارة بمصر .وكانوا يشاركون الفلاحين في مواشيهم. وكان مشايخ الناحية يعاونونهم علي عقد مثل هذه الصفقات وضمان الفلاحين . وكانت عقود المشاركة بين التجار والفلاحين توثق في المحاكم الشرعية. وكان الصيارفة في كل ناحية يعملون لحساب هؤلاء التجار لتأمين حقوقهم لدي الفلاحين .
لهذا كان التجار يضمنون الصيارفة عند تعيينهم لدي السلطات. ولا سيما في المناطق التي كانوا يتعاملون فيها مع الفلاحين . وكان التجار يقرضون الفلاحين الأموال قبل جني المحاصيل مقابل إحتكارهم لشراء محاصيلهم. وكان الفلاحون يسددون ديونهم من هذه المحاصيل. وكان التجار ليس لهم حق ممارسة التجارة إلا بإذن من الحكومة للحصول علي حق هذا الإمتياز لمدة عام ، يسدد عنه الأموال التي تقدرها السلطات وتدفع مقدما .
لقاء مع محمد علي في قصر الإسكندرية (1839) رسم داڤيد روبرتس.
لهذا كانت الدولة تحتكر التجارة بشرائها المحاصيل من الفلاجين أو بإعطاء الإمتيازات للتجار .وكان مشايخ أي ناحبة متعهدين بتوريد الغلال والحبوب كالسمن والزيوت والعسل والزبد لشون الحكومة لتصديرها أو إمداد القاهرة والإسكندرية بها أو توريدها للجيش المصري . لهذا كان الفلاحون سجناء قراهم لايغادرونها أو يسافرون إلا بإذن كتابي من الحكومة .وكان الفلاحون يهربون من السخرة في مشروعات محمد علي أو من الضرائب المجحفة او من الجهادية. وكان من بين الفارين المشايخ بالقري . لأنهم كانوا غير قادرين علي تسديد مديونية الحكومة. ورغم وعود محمد علي إلا أن الآلاف فروا للقري المجاورة او لاذوا لدي العربان البدو أوبالمدن الكبري . وهذا ماجعل محمد علي يصدر مرسوما جاء فيه : بأن علي المتسحبين ( الفارين أو المتسربين) العودة لقراهم في شهر رمضان 1251 هـ - 1835 م. وإلا أعدموا بعدها بالصلب كل علي باب داره أو دواره. وفي سنة 1845 أصدر ديوان المالية لائحة الأنفار المتسحبين. هددت فيها مشايخ البلاد بالقري لتهاونهم وأمرت جهات الضبطية بضبطهم ومن يتقاعس عن ضبطهم سيعاقب عقابا جسيما.
وتبني محمد علي السياسة التصنيعية لكثير من الصناعات . فقد أقام مصانع للنسيج ومعاصر الزيوت ومصانع الحصير. وكانت هذه الصناعة منتشرة في القري إلا أن محمد علي إحتكرها وقضي علي هذه الصناعات الصغيرة ضمن سياسة الإحتكار وقتها. وأصبح العمال يعملون في مصانع الباشا. لكن الحكومة كانت تشتري غزل الكتان من الأهالي.
وكانت هذه المصانع الجديدة يتولي إدارتها يهود وأقباط وأرمن. ثم لجأ محمد علي لإعطاء حق إمتياز إدارة هذه المصانع للشوام . لكن كانت المنسوجات تباع في وكالاته ( كالقطاع العام حاليا ). وكان الفلاحون يعملون عنوة وبالسخرة في هذه المصانع. فكانوا يفرون وبقبض عليهم الشرطة ويعيدونهم للمصانع ثانية. وكانوا يحجزونهم في سجون داخل المصانع حتي لايفروا. وكانت أجورهم متدنية للغاية وتخصم منها الضرائب. تجند الفتيات ليعملن في هذه المصانع وكن يهربن أيضا.
وكانت السياسة العامة لحكومة محمد علي تطبيق سياسة الإحتكار وكان علي الفلاحين تقديم محاصيلهم ومصنوعاتهم بالكامل لشون الحكومة بكل ناحية وبالأسعار التي تحددها الحكومة . وكل شونه كان لها ناظر وصراف و قباني ليزن القطن وكيال ليكيل القمح. وكانت تنقل هذه المحاصيل لمينائي الاسكندرية وبولاق بالقاهرة. وكانت الجمال تحملها من الشون للموردات بالنيل لتحملها المراكب لبولاق حيث كانت تنقل لمخازن الجهادية أو للإسكندرية لتصديرها للخارج .وكان يترك جزء منها للتجار والمتسببين (البائعين ) بقدر حاجاتهم. وكانت نظارة الجهادية تحدد حصتها من العدس والفريك والوقود والسمن والزيوت لزوم العساكر في مصر والشام وافريقيا وكانت توضع بالمخازن بالقلعة وكان مخزنجية الشون الجهادية يرسلون الزيت والسمن في بلاليص والقمح في أجولة.
وكان ضمن سياسة محمد علي لاحتكار الزراعة تحديد نوع زراعة المحاصيل والأقاليم التي تزرعها. وكان قد جلب زراعة القطن والسمسم. وكان محمد علي يحدد أسعار شراء المحاصيل التي كان ملتزما بها الفلاحون .وكان التجار ملتزمين أيضا بأسعار بيعها. ومن كان يخالف التسعيرة يسجن مؤبد أو يعدم.
وأرسل لحكام الأقاليم أمرا جاء فيه (من الآن فصاعدا من تجاسر علي زيادة الأسعارعليكم حالا تربطوه وترسلوه لنا لأجل مجازاته بالإعدام لعدم تعطيل أسباب عباد الله). وكانت الدولة تختم الأقمشة حتي لايقوم آخرون بنسجها سرا .وكان البصاصون يجوبون الأسواق للتفتيش وضبط المخالفين. وكان محمد علي يتلاعب في الغلال وكان يصدرها لأوربا لتحقيق دخلا أعلي. وكان يخفض كمياتها في مصر والآستانة رغم الحظر الذي فرضه عليه السلطان بعدم خروج الغلال خارج الإمبراطورية.
عزله ووفاته
ضريح محمد علي في مسجده بالقلعة.
عزله أبناؤه في سبتمبر عام 1848 لأنه قد أصيب بالخرف. ومات بالإسكندرية في أغسطس 1849 ودفن بجامعه بالقلعة بالقاهرة.