الخميس، 19 يناير 2012

الصحابة : أبو بكر الصديق


أبو بكر الصديق رضى الله عنه

 
(51 ق.هـ -13هـ/573 -634م)
عبد الله بن عثمان المكنى بأبي قحافة بن عامر بن تَيْم بن مُرة من قريش، وأمه أم الخير، سلمى بنت صخر من بني تَيْم بن مُرّة، أول الخلفاء الراشدين، لقب بالعتيق لإكثاره من عتق العبيد، ولأن الرسول e بشره بأنه عتيق الله من النار، وسُمي صِدِّيقاً لأنه صدَّق الـرسول ليلة أُسري به، وكان أبو بكر أعلم قريشٍ بأنسابها، وكان رجلاً تاجراً ذا خلق حميد، أليفاً ودوداً حسن المعاشرة، وكان يتولى في الجاهلية أمر الديات وينوب فيها عن قريش، فما تولاه من هذه الديات صدّقته قريش وقبلته، وما تولاه غيره خذلته وترددت في قبوله وإمضائه، وكان في جاهليته وإسلامه وقوراً يغار على مروءته ويتجنب ما يريب فلم يشرب الخمر قط لأنها مُخِلَّة بوقار مثله، ولما سُئل لمَ كان يتجنبها في الجاهلية قال: «كنت أصون عرضي وأحفظ مروءتي فإن من شرب الخمر كان مضيّعاً في عقله ومروءته»، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لعلمه وتجاربه وحسن مجالسته، فلما أسلم أبو بكر - وكان من أوائل من اعتنقوا الإسلام - أظهر إسلامه، وجعل يدعو إليه من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه، فأسلم على يديه عثمان بن عفان، والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله. وقد بقي أبو بكر في مكة إبان هجرة الكثير من المسلمين إلى الحبشة، وصحب الرسول يوم هاجر إلى المدينة، وآخى الرسول بينه وبين عمر بن الخطاب بعد الهجرة.
شهد أبو بكر بدراً وأُحُداً والمشاهد كلها، وكان فيمن ثبت مع رسول الله في أُحد حين ولّى الناس، ودفع رسول الله  رايته العظمى يوم تبوك إليه. وكانت سوداء، وأمرَه أن يصلي بالناس في أثناء مرضه.
بويع أبو بكر بالخلافة يوم قبض الرسول سنة 11 هـ إِثر جَدَل دار بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة وقد حاول كل فريق إبراز حقه في تولي أمور الجماعة فحسم عمر بن الخطاب الجدل بأن تقدَّم هو وأبو عبيدة بن الجراح وقالا له: «...إنك أفضل المهاجرين وثاني اثنين إذ هما في الغار، وخليفة رسول الله على الصلاة، والصلاة أفضل دين المسلمين، فمن ذا ينبغي أن يتقدمك أو يتولى الأمر عليك أبسط يدك نبايعك». وسبقهما إليه بشير بن سعد الأنصاري فبايعه وقام إليه مبايعاً من كان حاضراً من الأوس والخزرج والمهاجرين وهذا ما تعارف المؤرخون على تسميته باسم البيعة الخاصة التي تلتها في اليوم التالي البيعة العامة في المسجد.
ومع أن بيعة أبي بكر كانت أمراً مفاجئاً لا روية فيه ولم يستشر فيه كل المسلمين الموجودين في المدينة، وإنما بودر بها خوف وقوع الفتنة. فقد قال عمر في تعليل اختيار أبي بكر للخلافة كلمته المأثورة: «ليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر».
     أبو بكر والردة:
     حينما انتشر خبر مرض الرسول إثر عودته من حجة الوداع سنة 10هـ، وهو غير مرض موته، وثب الأسود العنسي باليمن ومسيلمة الكذاب في اليمامة وطليحة في بلاد بني أسد، مرتدين عن الإسلام، وقد تم القضاء على الأسود العنسي قبل وفاة الرسول الكريم واستفحل أمر مسيلمة وطليحة بعد وفاة الرسول، وارتدت قبائل كثيرة من العرب. ومع دقة موقف المسلمين في المدينة، فقد وقف أبو بكر من المرتدين ومدعي النبوة، كما وقف من أولئك الذين امتنعوا عن دفع الزكاة موقفاً واحداً صارماً، ذلك أن مفهوم الإيمان والدولة ووحدة كلمة العرب ومحو العصبية القبلية وإحلال الوحدة الدينية محلها، كانت عند أبي بكر كُلاً لايتجزأ، ومن ثم قرر محاربة المرتدين جميعاً. ولما كان الذين ثبتوا على الإسلام قلة بالقياس إلى من ارتد، فإن الناس نصحوا الخليفة ألا يحارب الممتنعين عن دفع الزكاة «لأن العهد حديث والعرب كثير، وهم شرذمة قليلة ولا طاقة لهم بالعرب كلهم. فكان جواب أبي بكر أنه سمع رسول الله يقول: «أمرت أن أقاتل الناس على ثلاث، شهادة أن لا إله إلا الله، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فوالله الذي لا إله إلا هو لا أقصّر دونهم». وقد حمد له عمر بن الخطاب رأيه فيما بعد قائلاً: «أنا فداؤك لولا أنت لهلكنا».
حاول أبو بكر إقناع المرتدين بالعودة إلى الإسلام الصحيح عن طريق الرسل والكتب كما كان يفعل رسول الله e إلى أن رجع أسامة بن زيد من تخوم الشام، إلا ما كان من أهل ذي حساً وذي القصَّة. إذ إن مجموعة من القبائل اجتمعت على طليحة وأقامت في ذي القصَّة، وبعثوا وفوداً إلى المدينة تعلم لأبي بكر أنهم مقيمون على الصلاة ممتنعون عن دفع الزكاة، فرفض أبو بكر الاستجابة إلى طلبهم، وقد أيقن بأنهم سوف يهاجمون المدينة لأنهم رأوا المسلمين قلة، وكان هذا ما حدث، إذ عمد فريق منهم إلى مهاجمة المدينة ليلاً وبقي فريق بذي حساً.
استطاع من في المدينة أن يردّوا المهاجمين وأن يتتبعوهم إلى ذي حسا، ولكنهم اضطروا إلى الرجوع حينما نفرت إبلهم، فظن القوم بالمسلمين الوهن، وبعثوا إلى القبائل المقيمة بذي القصَّة أن يقدموا عليهم وأدرك أبو بكر حرج موقف المسلمين إذا ما تعرضوا لهجوم القبائل متكاتفة، فبات يتهيأ، ثم خرج إليهم ليلاً، فما طلع الفجر إلا وقد باغت المسلمون المرتدين ووضعوا فيهم السيوف، وما إن بزغت الشمس حتى ولوهم الأدبار واتبعهم أبو بكر حتى نزل بذي القصَّة، وترك بها النعمان بن مقرِّن مع عدد من الرجال ورجع إلى المدينة، فوثب بنو ذبيان وعبس على من فيهم من المسلمين فقتلوهم، وفعلت قبائل أخرى فعل عبس وذبيان، فحلف أبو بكر «ليقتُلَّنَّ في المشركين كل قتلةٍ، وليقتلن في كل قبيلة بمن قتلوا من المسلمين وزيادة». فلما قدم أسامة بن زيد استخلفه أبو بكر على المدينة وخرج إلى الربَذَة ليلقى بني عبس وذبيان وجماعة من بني عبد كنانة فلقيهم بالأبرق، فقاتلهم وهزمهم ثم عاد إلى المدينة، فلما استجم جند أسامة عقد الألوية، فعقد أحد عشر لواء لأحد عشر قائداً، وكتب نسخاً من رسالة واحدة إلى جميع المرتدين، وبعث بها مع الرسل أمام الجنود، وأمر الرسل بقراءة الكتب في كل مجمع لهم والداعية الأذان. فإذا أذن المسلمون فأذنوا فليكفوا عنهم وإن لم يؤذنوا فليعاجلوهم، وإن أذنوا وسألوهم ما عليهم فأبَوا فليعاجلوهم وإن اقرّوا قُبِل منهم.
إن القائد الذي كان له الفضل في القضاء على أخطر حركتين بعد ردة الأسود العنسي هو خالد بن الوليد، الذي انتصر على طليحة ومن اجتمع حوله من أسد وعبس وذبيان وغطفان في البُزاخَةَ، أما مسيلمة الكذاب ومن اتبعه من قومه من بني حنيفة وأهل اليمامة فإن أبا بكر كان قد أرسل إليه عِكْرِمة بن أبي جهل، وأتبعه بشرحبيل بن حسنة، فلما هُزم عكرمة كتب أبو بكر إلى شرحبيل أن يظل في مكانه حتى ياتيه خالد، ولكن شرحبيل لم ينتظر خالداً كما أمره أبو بكر فنُكب مثلما نُكب عكرمة، إذ إن جيش بني حنيفة كان يقدّر بأربعين ألف مقاتل. وازداد قوة بتحالف مسيلمة مع سجاح بنت الحارث بن سويد التميمية التي أقبلت من الجزيرة مدعية النبوة. ولكن فاجأهم قدوم خالد وجرت بين الطرفين معركة ضارية بعقرباء وفي حديقة الموت وانتهى القتال بمصرع مسيلمة وانطفأت الفتنة.
نجح أبو بكر في نحو عام في القضاء على حركة المرتدين فكان نجاحه تنقية للإسلام لأنه خلص الدولة الإسلامية الناشئة من كل الشكوك التي أثارها موت الرسول وجنبها الخوف من أن يتصدع البنيان بموت الباني، كما كان تثبيتاً للإسلام ومداً له إلى الأطراف التي بدا كأنها لم تكن قد لقنت الدين كما لقنته المراكز القريبة من مكة والمدينة، ولكن أبا بكر بقي بعدها وفي كل الغزوات والفتوحات التي تمت في عهده، لايثق بالمرتدين، وكان لايستعين في حروبه بأحد منهم حتى مات.
     الفتوح في خلافة أبي بكر:
إن فكرة الفتح ونشر الإسلام خارج حدود الجزيرة العربية فكرة تتفق وعمومية الدعوة التي تقتضي ألا تقتصر على عرب الجزيرة فحسب بل تتجاوزهم لتشمل العرب كافة، وأمم الأرض جميعاً، وقد سار الرسول في طريق الجهاد داخل أراضي الجزيرة وخارجها، وقام هو نفسه بإرسال البعوث إلى تخوم الشام. فكانت  مؤتة، وتبوك. وبعث أسامة بن زيد الذي جهزه الرسول بنفسه قبل أن يتوفى، وأنفذه أبو بكر فور أن بويع بالخلافة، ولذلك فإنه لم يكن خالد يفرغ من حروب الردة حتى كتب إليه أبو بكر وهو في اليمامة أن يمضي إلى العراق فيدخلها من أسفلها، وكتب كذلك إلى عياض بن غنم أن يأتي المصيَّخ ويدخل العراق من أعلاها وأيهما سبق إلى الحيرة فهو أمير على صاحبه, وقد كان الهدف الأول للجيوش الإسلامية أن تبلغ الحيرة عاصمة عرب الضاحية حتى تنزلها وتنفي الفرس عنها، وتجعل الطريق بينها وبين الحجاز آمنة لاسلطان فيها لأجنبي، ثم تقتحم على أهل فارس دارهم ومستقر عزهم المدائن.
كانت أولى المعارك التي خاضها خالد بن الوليد وانتصر فيها معركة ذات السلاسل في الكاظمية سنة 12 هـ. ثم تلتها معركة المذار، فوقعة الولَجة وفتح ألَّيس وأمغيشيا، ثم سار خالد إلى الحيرة وأرغم أهلها على المفاوضة والصلح ودفع الجزية، واستولى على الأنبار حينما علم أن الفرس يعدون جيوشهم ويرتبونها لوقف زحفه. واضطر شيرزاد صاحب الأنبار عندما وجد أن لاقبل له بالثبات أمام خالد إلى مصالحته على ما أراد على أن يخلي سبيله. وبعد أن فرغ خالد من فتح الأنبار، قصد عين التمر فدانت له ثم كانت معارك دومة الجندل والحُصيد والخنافس والثنيّ والفراض. ثم خرج حاجاً لخمس بقين من ذي القعدة سنة 12 هـ مكتتماً حجه، ووافاه كتاب أبي بكر بالحيرة منصرفه من الحج، يأمره بالتوجه إلى الشام مدداً لجيوشها التي كان أبو بكر قد سيرها إلى هناك، ويمكن أن يميز في الروايات الكثيرة أنها تنتظم مرحلتين: في المرحلة الأولى: تركز نشاط القادة العرب على المناطق التي كانت القبائل العربية تؤلف الكثرة السكانية فيها خاصة، وليس على مدن الشام الرئيسية ورواية ابن أعثم الكوفي تشير إلى أن أبا بكر أمر أبا عبيدة بن الجراح أن يقصر حروبه على مناطق الريف وأن لايهاجم المدن حتى يأتيه أمر أبي بكر «فبث خيلك في القرى والسواد ولاتحاصرن مدينة من مدنهم حتى يأتيك أمري» وهذا يفسر لنا عدم اهتمام المصادر اليونانية والسريانية بذكر منجزات الجيوش الإسلامية في هذه المرحلة، لأن المسلمين في نظرهم لم يكونوا مصدر تهديد لهم، لأنهم لم يقوموا بأي هجوم على المدن الرئيسة كدمشق والقدس وغزة وبصرى أو المدن الساحلية المهمة الكثيرة، أما في المرحلة الثانية: فقد اشتبك الجيش الإسلامي مع القوى البيزنطية في معارك كبيرة، انتهت بتغلبه على بلاد الشام ومطاردة البيزنطيين، وفتحت له في الشمال الطريق إلى الجزيرة وما وراءها وفي الجنوب الطريق إلى مصر وما دونها.
تبدأ المرحلة الثانية مع مجيء خالد وجيشه إلى الشام حيث التقى يزيد بن أبي سفيان وأبا عبيدة بن الجراح وشرحبيل بن حسَنة في بصرى واشترك معهم في فتحها، ثم اتجه الجميع جنوباً لنجدة عمرو بن العاص في وادي عربة، ولما علم البيزنطيون بهذا التجمع العسكري العربي، غيروا خطتهم، وقصدوا أجنادين، ولكن القوات العربية تمكنت من الانتصار عليهم انتصاراً ساحقاً في جمادى الأولى سنة 13 هـ، وتوفي أبو بكر في جمادى الآخرة وهو ابن 63 سنة بعد أن عهد بالخلافة إلى عمر بن الخطاب الذي صلى عليه، ودُفن أبو بكر إلى جانب رسول الله وكان قد أوصى ابنته عائشة أن يدفن إلى جانبه.
مع قصر مدة خلافة أبي بكر (11- 13هـ) فقد كان له فضل ترسيخ أركان الدولة العربية الإسلامية الوليدة، كما قنّن بأقواله وخطبه القواعد التي اعتمدها الفقهاء في وصفهم للخلافة الصحيحة، فقد أوضح أبو بكر أن الخلافة نظام يتولى صاحبه رعاية التراث الديني والمدني حينما قال: «لابد لكم من رجل يلي أمركم ويصلي بكم ويقاتل عدوكم»، كما حدد أبو بكر سلطة الخليفة بالرأي العام مع تقييدها بدستور الإسلام وهو القرآن والسنة عندما خاطب المسلمين في المسجد قائلاً: «.... أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم» وأكد أبو بكر إدراكه لحدود سلطاته في خطاب آخر قال فيه: «... إن الله اصطفى محمداً على العالمين وعصمه من الآفات وإنما أنا متبع ولست بمبتدع فإذا استقمت فأعينوني وإن زغت فقوّموني».
نهض أبو بكر بالتبعات التي ألقتها عليه خلافته لرسول الله e على خير وجه فحرص على إنفاذ ما أمر الرسول به قبل وفاته كما حرص على وحدة المسلمين بعد وفاته، وعلى ما عرف به من لين ورحمة أظهر غاية الحزم والشدة في محاربة المرتدين على الإسلام، فقد أصر على تسيير جيش أسامة لأن النبي ولاه وأمر بتسييره وما يكون له أن ينزع رجلاً استعمله رسول الله «ولو تخطفته السباع ولم يبق في القرى أحد غيره»، وجنح أبو بكر إلى الصرامة في مسألة الردة وأبى أن يترك عقالاً مما كان يأخذه رسول الله من فريضة الزكاة، ورفض أبو بكر عزل خالد بن الوليد عن القيادة حينما اقترح عمر بن الخطاب عزله إثر بنائه بامرأة مالك بن نويرة، والبناء ببنت مجّاعة في حرب بني حنيفة، وتوزيع الأموال وتأخير الحساب، لأن خالداً سيف من سيوف الله ولايعزل أبو بكر من استعمله الرسول وأقر عمر فيما بعد بصواب رأي أبي بكر حينما قال: «يرحم الله أبا بكر، هو كان أعلمَ مني بالرجال».
ويعود إلى أبي بكر الفضل بجمع القرآن في المصحف حين أشار به عمر بعد أن استحرّ القتل بالقرّاء يوم اليمامة، وأسند أبو بكر هذه المهمة الدقيقة إلى زيد بن ثابت، وكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر ثم عند حفصة ابنة عمر.