من خطبنا الإسلامية فى بيروت ( الخطبة الأولى )
ألقيناها على منبر جامع المجيدية في بيروت بعد صلاة العصر وصلاة جنازة
الغائب على المصلحين الكرام : السيد جمال الدين الأفغاني ، والشيخ محمد عبده
المصري ، وعبد الرحمن أفندي الكواكبي السوري ، وذلك في يوم الخميس 28 من
شهر شعبان ، وقد لخص هذه الخطبة بعض من حضرها من الأدباء بما يأتي مع
تصحيح وتوضيح :
السلام عليكم ورحمة الله .
الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، والصلاة والسلام
على رسول الله ، وآله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
فإن الإسلام دين سهل سائغ موافق للفطرة البشرية ، قام به أهله عند ظهوره
خير قيام ، وليس لهم كتاب غير القرآن ، ولم يكن القرآن في أول الأمر مصحفًا
مجموعًا كما هو الآن ، وإنما كتبت آياته على الجلود والعظام وسعف النخل ، ثم
جمعت في مصحف واحد بإجماع الصحابة ، فالإسلام هو هذا الكتاب الحكيم ، وما
بيَّنه من سنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } ( النحل : 44 ) .
إني سائلكم : أهذا هو الإسلام الذي غير وجه الأرض ، ونقل البشر من طور
إلى طور ؟ نعم ، إنه هو ، ولو أخذته اليوم طائفة من المسلمين بقوة كما أخذه
الأولون لغيرت وجه البسيطة مرة ثانية ، كما غيره سلفها من قبل ، ولست أعلم لماذا
رغب المسلمون عن القرآن وذهبوا يؤلفون الكتب الكثيرة في الدين ، وقد رأينا أن
الاشتغال بهذه الكتب مع الإعراض عن القرآن ما زاد الإسلام إلا ضعفًا ، والمسلمين
إلا خسفًا .
أنزل الله دينه على نبيه - صلى الله عليه وسلم - فعمل به أولئك الأميون من
عرب الجاهلية ، وهم على ما تعلمون من التفرق والتعادي والفساد ، فعلمهم الإسلام
وهذبهم وأخرجهم من الظلمات إلى النور ، كما قال تعالى : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي
الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن
قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } ( الجمعة : 2 ) .
من المعلوم في طبائع البشر أنه لا يتربى ويتزكى بعد الكبر ، إلا أفراد قلائل
من أصحاب الاستعداد العالي ، لأن الأخلاق متى رسخت في النفس قلما تتغير ،
ولكن أولئك الصحابة الذين غيروا وجه الأرض ، قد تربَّوْا بعد الكبر ، تلك التربية
التي كانوا بها أئمة ، وكانوا هم الوارثين .
نشأوا يعبدون الأصنام ، ويئدون البنات ، ويستحلون السلب والنهب ، إلا أنه
كان فيهم استعداد لهذا الإصلاح الذي ساقه الله إليهم : كان فيهم ذكاءُ عقلٍ واستقلالُ
فكر وقوةُ إرادةٍ ، فلما فهموا الإسلام قبلوه وأيدوه ونصروه ، وحملوه إلى غيرهم
ونشروه .
إن الإسلام دين عام لجميع البشر ، ليس خاصًّا بمن ظهر فيهم أولاً من العرب ،
ولكن لماذا ظهر هذا الدين الحكيم في تلك الأمة الجاهلية ، ولم يكن بدء ظهوره في
أمة من أمم المدنية كالمصريين والروم ، واليونانيين والفرس ؟ ! السبب في ذلك
عظيم جِدًّا ، يتعلق بالاستعداد ، وهو ما كانت عليه العرب من سذاجة الفطرة
واستقلال الفكر والإرادة .
كانت الأديان والحكومات بما طرأ عليها من الفساد قبل الإسلام ، قد أضعفت
استعداد تلك الأمم بما طبعتهم على التقليد والخضوع والخنوع لرؤسائهم ، والجمود
على تقاليدهم وعاداتهم ، فإذا دُعِيَ أحدهم إلى إصلاح جديد قال من فوره : إن هذا
يخالف ما وجدنا عليه آباءنا ، فإن لم يمنعه من الاستجابة التقليد لسلفه في الدين ،
منعه ما طُبِع عليه من العبودية لحكامه الظالمين ، وأما العرب فلم يكن لهم من العلوم
والمعارف الدينية وغير الدينية ما يحقر في أنفسهم ما يلقى إليهم من دين أو علم
جديد ، ولم يكن لهم من الحكام المستبدّين من يفسد عليهم بأسهم ، ويذهب بعزيمتهم ،
بل أعدهم لذلك بطبيعة البدواة وسذاجة الفطرة ، فجعلهم من أهل الشجاعة التي هي
مظهر استقلال الإرادة ، والحرية التي هي مظهر استقلال الفكر ، فكان فيهم كثيرون
إذا دُعُوا إلى الحق والخير فقهوا الدعوة ، وإذا اعتقدوا الشيء قاموا ودافعوا عنه
بالقوة ، لذلك أنزل الله عليهم كتابه ، وبعث فيهم رسوله ، فاستجاب له من سمع
ووعى ، وقالوا : إنا نمنعك ( أي نحميك ) مما نمنع منه أنفسنا وأهلنا ، وقام الإسلام
بهم خير قيام ، حتى كان من أمره وأمرهم ما كان .
هذه مقدمة يمكنني أن أبين بعدها ما هي حقيقة الإسلام ، ليعلم غير العالم من
الحاضرين ويتذكر أولو العلم منهم أن المسلمين يسهل عليهم اليوم أن يعرفوا دينهم
ويهتدوا به من غير حاجة إلى مدارس تدرس فيها الكتب الكثيرة .
الإسلام أمر سهل جِدًّا ، وهو عبارة عن الرجوع إلى الفطرة البشرية ، وما هي
الفطرة البشرية ؟ هو ما انطوت عليه نفسك من الإذعان للسلطة الغيبية واختيار ما
تعتقد أنه الخير والمصلحة ، قال تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي
فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } ( الروم : 30 ) إلا أن الفطرة يعرض لها الفساد بالجهل وسوء القدوة ، فإذا ذكر
صاحبها بآيات الله فاهتدى بها رجعت إلى أصلها { لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ
تَقْوِيمٍ } ( التين : 4 ) فحصل مقصد الإسلام ، وحينئذ يجد المسلمون سَعَة في الوقت
لتحصيل ما يحتاجون إليه من العلوم والفنون ، وما يترتب عليها من الأعمال
والصناعات التي تقوى بها أمتهم وتعتز دولتهم .
قلنا : إن الاهتداء بالإسلام لا يتوقف على درس الكتب الكثيرة ، والأعمال
التي تستغرق الأوقات ، وذلك أن الإسلام مبني على ثلاث أسس :
( الأول ) إصلاح العقل بالعقيدة المطهرة للجنان ، المبنية على البرهان .
( الثاني ) إصلاح النفس بتزكيتها وتطهيرها من الرذائل ، وتحليتها بالفضائل .
( الثالث ) إصلاح الأعمال من العبادات والحقوق التي يستقيم بها أمر الأفراد
وترتقي الهيئة الاجتماعية .
الأساس الأول يبنى عليه الإيمان بوجود الله تعالى ، ووحدانيته ، ومعناها أنه
سبحانه وتعالى هو المتفرد بالسلطة الغيبية العليا ، التي تلجأ إليها النفوس عند العجز
عن الأسباب والسنن ، فلا ينفع غيره ولا يضر سواه ، إلا ما يتعامل به الناس
بالأسباب التي سخرها الله لهم بحكمته ، وأَقْدَرَهُمْ عليها بمشيئته ، وأنه منزه عما لا
يليق به من صفات الحوادث ، وما يلمّ بالبشر وغيرهم من النقص ، وأنه هو المتفرد
بشرع الدين والتحليل والتحريم . ويتلو ذلك تصديق الأنبياء فيما جاءوا به من
الوحي ، والإيمان بعالم الغيب من الملائكة ، والجزاء على الأعمال التي تزكي
النفس فترفعها إلى عِلّيين ، أو تدسيها فتلقيها في أسفل سافلين ، فهذه العقيدة تصلح
العقل ، بإطلاقه من العبودية لبعض البشر أو المظاهر الطبيعية ، وهي الوثنية التي
أفسدت عقول الأولين ، والخضوع الأعمى للرؤساء المسيطرين ، وكل ذلك مبين في
القرآن أكمل تبيين ، مؤيد بالدلائل والبراهين .
الأساس الثاني يبنى عليه تزكية النفس من الأخلاق الذميمة ، وتحليتها
بالأخلاق الحسنة ، وإذا تهذبت أخلاق الناس صلح أمرهم ، واستقام نظامهم ، وقد
فصل لنا القرآن ما تحتاج إليه من ذلك تفصيلاً .
الأساس الثالث تبنى عليه العبادات والآداب العملية ، وقد بين القرآن ذلك
بالإجمال ، ووكل بيانه بالتفصيل إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) , فكان يعلمه
الناس بالعمل ، وعبر عن ذلك بقوله : ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) ، وكذلك كان
الصحابة يُعلِّمون من دخلوا في الإسلام على أيديهم ، فلم يقل أحد : إنه كان لهم في
الشام ومصر وفارس كتب يعلمون بها الناس دينهم عندما يدخلون في الإسلام ؛
ولكن المسلمين دونوا عبادتهم في الكتب ، وأكثروا فيها من الأقسام والفروع
والاصطلاحات ، حتى وصلنا إلى أزمنة صارت فيها هذه الكتب صعبة لا يتيسر
للأكثرين درسها وتعلمها ، فتركها السواد الأعظم ، وصارت دراستها محصورة في
فئة تستفيد منها في دنياها ، كمريدي القضاء والفتيا والتدريس . على أنهم على طول
مزاولتها لا يستغنون عن أخذها بالعمل ، فقد حدثني أحد كبار العلماء أنه قرأ كتاب
الحج مرارًا كثيرة ، ولما أراد أن يحج لم يستغن عن المطوفين الذين يعلمون العوامّ
مناسكهم بالعمل . وتعلم العبادات بالعمل سهل جِدًّا ، وما لا بُدّ فيه من القول يمكن أن
يقال في مجلس واحد ، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم الأعرابي دينه
في مجلس واحد ، فإذا عاهده على العمل به رضي منه وقال : ( أفلح الأعرابي إن
صدق ) .
التاريخ يخبرنا بأن الإسلام انتشر في مدة قليلة في ممالك كثيرة لسهولته ، وأية
سهولة على المرء أسهل عليه من مجاراة فطرته ، وتقويم ما يعرض لها من العوج ،
فالإسلام يدعوكم إلى ما في فطرتكم من الميل إلى اختيار ما فيه الخير والمصلحة ،
ولذلك يرشدنا إلى التذكر في مواطن كثيرة من مواطن هدايته , فيقول : { لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ } ( الأنعام : 152 ) - { لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } ( الأنعام : 126 ) - { وَمَا
يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ } ( غافر : 13 ) ، وإنما يتذكر الإنسان ما كان يعلمه ثم نسيه أو
غفل عنه ، فكأنه يرشدنا بذلك إلى أن ما يدعونا إليه من الخير هو مما أودع في
فطرتنا , ثم غلفنا عنه بسوء القدوة وفساد التربية - فدين الإسلام أسهل الأديان ، لا
حرج فيه ولا مشقة { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ
نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ( المائدة : 6 ) - { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ
العُسْرَ } ( البقرة : 185 ) ، فإذا كان على سهولته ويسره كافلاً لسعادة الدنيا
والآخرة ، فأي عذر لنا إذا أهملناه وتركنا هدايته ؟ { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ
إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } ( البقرة : 130 ) ، يرضى بأن يكون كالدواب لا يهمها إلا
علفها ، أو كالكلاب العاقرة ينهش بعضها بعضًا .
ربما يعترض بعض الناس على ما أقول من أن تلقين الدين لا يشغلنا عن تعلم
العلوم والفنون الدنيوية ، التي هي مبادئ الصناعات التي تعتز بها الأمة وتَقْوَى
الدولة ، حتى تكون في مصافّ الدول الكبرى ، لأنهم يزعمون أن الدين ينهانا عن
ذلك ، ولو لم يوجد فينا أمثالُ هؤلاء ، لَمَا وصلنا إلى ما نحن عليه الآن من
الضعف والانحطاط في الثروة والقوة .
نحن اليوم في حالة لا تخفى على أمثالكم : صرنا وراء جميع الأمم ، والذنب
في ذلك علينا لا على الإسلام . فالإسلام لم يجن علينا ، وإنما نحن جنينا عليه وعلى
أنفسنا ؛ إذ جعلنا بيننا وبين القرآن حجبًا كثيفة ، فأعرضنا عنه وعن العلوم التي
تحفظ بها بيضتنا .
كانت العلوم الرياضية والطبيعية عند ظهور الإسلام مندرسة ، ليس لها سوق
نافقة عند أمة من الأمم ، فأحياها المسلمون عندما ظهر الإسلام ونفذت شوكته . ومن
العجب أن الجامدين الذين يحرمونها اليوم يعترفون بأن أولئك الأساطين الذين
درسوها من علمائنا هم خيرة علمائنا !
((يتبع بمقال تالٍ))
الغائب على المصلحين الكرام : السيد جمال الدين الأفغاني ، والشيخ محمد عبده
المصري ، وعبد الرحمن أفندي الكواكبي السوري ، وذلك في يوم الخميس 28 من
شهر شعبان ، وقد لخص هذه الخطبة بعض من حضرها من الأدباء بما يأتي مع
تصحيح وتوضيح :
السلام عليكم ورحمة الله .
الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، والصلاة والسلام
على رسول الله ، وآله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
فإن الإسلام دين سهل سائغ موافق للفطرة البشرية ، قام به أهله عند ظهوره
خير قيام ، وليس لهم كتاب غير القرآن ، ولم يكن القرآن في أول الأمر مصحفًا
مجموعًا كما هو الآن ، وإنما كتبت آياته على الجلود والعظام وسعف النخل ، ثم
جمعت في مصحف واحد بإجماع الصحابة ، فالإسلام هو هذا الكتاب الحكيم ، وما
بيَّنه من سنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } ( النحل : 44 ) .
إني سائلكم : أهذا هو الإسلام الذي غير وجه الأرض ، ونقل البشر من طور
إلى طور ؟ نعم ، إنه هو ، ولو أخذته اليوم طائفة من المسلمين بقوة كما أخذه
الأولون لغيرت وجه البسيطة مرة ثانية ، كما غيره سلفها من قبل ، ولست أعلم لماذا
رغب المسلمون عن القرآن وذهبوا يؤلفون الكتب الكثيرة في الدين ، وقد رأينا أن
الاشتغال بهذه الكتب مع الإعراض عن القرآن ما زاد الإسلام إلا ضعفًا ، والمسلمين
إلا خسفًا .
أنزل الله دينه على نبيه - صلى الله عليه وسلم - فعمل به أولئك الأميون من
عرب الجاهلية ، وهم على ما تعلمون من التفرق والتعادي والفساد ، فعلمهم الإسلام
وهذبهم وأخرجهم من الظلمات إلى النور ، كما قال تعالى : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي
الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن
قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } ( الجمعة : 2 ) .
من المعلوم في طبائع البشر أنه لا يتربى ويتزكى بعد الكبر ، إلا أفراد قلائل
من أصحاب الاستعداد العالي ، لأن الأخلاق متى رسخت في النفس قلما تتغير ،
ولكن أولئك الصحابة الذين غيروا وجه الأرض ، قد تربَّوْا بعد الكبر ، تلك التربية
التي كانوا بها أئمة ، وكانوا هم الوارثين .
نشأوا يعبدون الأصنام ، ويئدون البنات ، ويستحلون السلب والنهب ، إلا أنه
كان فيهم استعداد لهذا الإصلاح الذي ساقه الله إليهم : كان فيهم ذكاءُ عقلٍ واستقلالُ
فكر وقوةُ إرادةٍ ، فلما فهموا الإسلام قبلوه وأيدوه ونصروه ، وحملوه إلى غيرهم
ونشروه .
إن الإسلام دين عام لجميع البشر ، ليس خاصًّا بمن ظهر فيهم أولاً من العرب ،
ولكن لماذا ظهر هذا الدين الحكيم في تلك الأمة الجاهلية ، ولم يكن بدء ظهوره في
أمة من أمم المدنية كالمصريين والروم ، واليونانيين والفرس ؟ ! السبب في ذلك
عظيم جِدًّا ، يتعلق بالاستعداد ، وهو ما كانت عليه العرب من سذاجة الفطرة
واستقلال الفكر والإرادة .
كانت الأديان والحكومات بما طرأ عليها من الفساد قبل الإسلام ، قد أضعفت
استعداد تلك الأمم بما طبعتهم على التقليد والخضوع والخنوع لرؤسائهم ، والجمود
على تقاليدهم وعاداتهم ، فإذا دُعِيَ أحدهم إلى إصلاح جديد قال من فوره : إن هذا
يخالف ما وجدنا عليه آباءنا ، فإن لم يمنعه من الاستجابة التقليد لسلفه في الدين ،
منعه ما طُبِع عليه من العبودية لحكامه الظالمين ، وأما العرب فلم يكن لهم من العلوم
والمعارف الدينية وغير الدينية ما يحقر في أنفسهم ما يلقى إليهم من دين أو علم
جديد ، ولم يكن لهم من الحكام المستبدّين من يفسد عليهم بأسهم ، ويذهب بعزيمتهم ،
بل أعدهم لذلك بطبيعة البدواة وسذاجة الفطرة ، فجعلهم من أهل الشجاعة التي هي
مظهر استقلال الإرادة ، والحرية التي هي مظهر استقلال الفكر ، فكان فيهم كثيرون
إذا دُعُوا إلى الحق والخير فقهوا الدعوة ، وإذا اعتقدوا الشيء قاموا ودافعوا عنه
بالقوة ، لذلك أنزل الله عليهم كتابه ، وبعث فيهم رسوله ، فاستجاب له من سمع
ووعى ، وقالوا : إنا نمنعك ( أي نحميك ) مما نمنع منه أنفسنا وأهلنا ، وقام الإسلام
بهم خير قيام ، حتى كان من أمره وأمرهم ما كان .
هذه مقدمة يمكنني أن أبين بعدها ما هي حقيقة الإسلام ، ليعلم غير العالم من
الحاضرين ويتذكر أولو العلم منهم أن المسلمين يسهل عليهم اليوم أن يعرفوا دينهم
ويهتدوا به من غير حاجة إلى مدارس تدرس فيها الكتب الكثيرة .
الإسلام أمر سهل جِدًّا ، وهو عبارة عن الرجوع إلى الفطرة البشرية ، وما هي
الفطرة البشرية ؟ هو ما انطوت عليه نفسك من الإذعان للسلطة الغيبية واختيار ما
تعتقد أنه الخير والمصلحة ، قال تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي
فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } ( الروم : 30 ) إلا أن الفطرة يعرض لها الفساد بالجهل وسوء القدوة ، فإذا ذكر
صاحبها بآيات الله فاهتدى بها رجعت إلى أصلها { لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ
تَقْوِيمٍ } ( التين : 4 ) فحصل مقصد الإسلام ، وحينئذ يجد المسلمون سَعَة في الوقت
لتحصيل ما يحتاجون إليه من العلوم والفنون ، وما يترتب عليها من الأعمال
والصناعات التي تقوى بها أمتهم وتعتز دولتهم .
قلنا : إن الاهتداء بالإسلام لا يتوقف على درس الكتب الكثيرة ، والأعمال
التي تستغرق الأوقات ، وذلك أن الإسلام مبني على ثلاث أسس :
( الأول ) إصلاح العقل بالعقيدة المطهرة للجنان ، المبنية على البرهان .
( الثاني ) إصلاح النفس بتزكيتها وتطهيرها من الرذائل ، وتحليتها بالفضائل .
( الثالث ) إصلاح الأعمال من العبادات والحقوق التي يستقيم بها أمر الأفراد
وترتقي الهيئة الاجتماعية .
الأساس الأول يبنى عليه الإيمان بوجود الله تعالى ، ووحدانيته ، ومعناها أنه
سبحانه وتعالى هو المتفرد بالسلطة الغيبية العليا ، التي تلجأ إليها النفوس عند العجز
عن الأسباب والسنن ، فلا ينفع غيره ولا يضر سواه ، إلا ما يتعامل به الناس
بالأسباب التي سخرها الله لهم بحكمته ، وأَقْدَرَهُمْ عليها بمشيئته ، وأنه منزه عما لا
يليق به من صفات الحوادث ، وما يلمّ بالبشر وغيرهم من النقص ، وأنه هو المتفرد
بشرع الدين والتحليل والتحريم . ويتلو ذلك تصديق الأنبياء فيما جاءوا به من
الوحي ، والإيمان بعالم الغيب من الملائكة ، والجزاء على الأعمال التي تزكي
النفس فترفعها إلى عِلّيين ، أو تدسيها فتلقيها في أسفل سافلين ، فهذه العقيدة تصلح
العقل ، بإطلاقه من العبودية لبعض البشر أو المظاهر الطبيعية ، وهي الوثنية التي
أفسدت عقول الأولين ، والخضوع الأعمى للرؤساء المسيطرين ، وكل ذلك مبين في
القرآن أكمل تبيين ، مؤيد بالدلائل والبراهين .
الأساس الثاني يبنى عليه تزكية النفس من الأخلاق الذميمة ، وتحليتها
بالأخلاق الحسنة ، وإذا تهذبت أخلاق الناس صلح أمرهم ، واستقام نظامهم ، وقد
فصل لنا القرآن ما تحتاج إليه من ذلك تفصيلاً .
الأساس الثالث تبنى عليه العبادات والآداب العملية ، وقد بين القرآن ذلك
بالإجمال ، ووكل بيانه بالتفصيل إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) , فكان يعلمه
الناس بالعمل ، وعبر عن ذلك بقوله : ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) ، وكذلك كان
الصحابة يُعلِّمون من دخلوا في الإسلام على أيديهم ، فلم يقل أحد : إنه كان لهم في
الشام ومصر وفارس كتب يعلمون بها الناس دينهم عندما يدخلون في الإسلام ؛
ولكن المسلمين دونوا عبادتهم في الكتب ، وأكثروا فيها من الأقسام والفروع
والاصطلاحات ، حتى وصلنا إلى أزمنة صارت فيها هذه الكتب صعبة لا يتيسر
للأكثرين درسها وتعلمها ، فتركها السواد الأعظم ، وصارت دراستها محصورة في
فئة تستفيد منها في دنياها ، كمريدي القضاء والفتيا والتدريس . على أنهم على طول
مزاولتها لا يستغنون عن أخذها بالعمل ، فقد حدثني أحد كبار العلماء أنه قرأ كتاب
الحج مرارًا كثيرة ، ولما أراد أن يحج لم يستغن عن المطوفين الذين يعلمون العوامّ
مناسكهم بالعمل . وتعلم العبادات بالعمل سهل جِدًّا ، وما لا بُدّ فيه من القول يمكن أن
يقال في مجلس واحد ، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم الأعرابي دينه
في مجلس واحد ، فإذا عاهده على العمل به رضي منه وقال : ( أفلح الأعرابي إن
صدق ) .
التاريخ يخبرنا بأن الإسلام انتشر في مدة قليلة في ممالك كثيرة لسهولته ، وأية
سهولة على المرء أسهل عليه من مجاراة فطرته ، وتقويم ما يعرض لها من العوج ،
فالإسلام يدعوكم إلى ما في فطرتكم من الميل إلى اختيار ما فيه الخير والمصلحة ،
ولذلك يرشدنا إلى التذكر في مواطن كثيرة من مواطن هدايته , فيقول : { لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ } ( الأنعام : 152 ) - { لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } ( الأنعام : 126 ) - { وَمَا
يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ } ( غافر : 13 ) ، وإنما يتذكر الإنسان ما كان يعلمه ثم نسيه أو
غفل عنه ، فكأنه يرشدنا بذلك إلى أن ما يدعونا إليه من الخير هو مما أودع في
فطرتنا , ثم غلفنا عنه بسوء القدوة وفساد التربية - فدين الإسلام أسهل الأديان ، لا
حرج فيه ولا مشقة { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ
نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ( المائدة : 6 ) - { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ
العُسْرَ } ( البقرة : 185 ) ، فإذا كان على سهولته ويسره كافلاً لسعادة الدنيا
والآخرة ، فأي عذر لنا إذا أهملناه وتركنا هدايته ؟ { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ
إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } ( البقرة : 130 ) ، يرضى بأن يكون كالدواب لا يهمها إلا
علفها ، أو كالكلاب العاقرة ينهش بعضها بعضًا .
ربما يعترض بعض الناس على ما أقول من أن تلقين الدين لا يشغلنا عن تعلم
العلوم والفنون الدنيوية ، التي هي مبادئ الصناعات التي تعتز بها الأمة وتَقْوَى
الدولة ، حتى تكون في مصافّ الدول الكبرى ، لأنهم يزعمون أن الدين ينهانا عن
ذلك ، ولو لم يوجد فينا أمثالُ هؤلاء ، لَمَا وصلنا إلى ما نحن عليه الآن من
الضعف والانحطاط في الثروة والقوة .
نحن اليوم في حالة لا تخفى على أمثالكم : صرنا وراء جميع الأمم ، والذنب
في ذلك علينا لا على الإسلام . فالإسلام لم يجن علينا ، وإنما نحن جنينا عليه وعلى
أنفسنا ؛ إذ جعلنا بيننا وبين القرآن حجبًا كثيفة ، فأعرضنا عنه وعن العلوم التي
تحفظ بها بيضتنا .
كانت العلوم الرياضية والطبيعية عند ظهور الإسلام مندرسة ، ليس لها سوق
نافقة عند أمة من الأمم ، فأحياها المسلمون عندما ظهر الإسلام ونفذت شوكته . ومن
العجب أن الجامدين الذين يحرمونها اليوم يعترفون بأن أولئك الأساطين الذين
درسوها من علمائنا هم خيرة علمائنا !
((يتبع بمقال تالٍ))