الخميس، 2 مايو 2013

قسم المقالات : الصحف في البلاد العثمانية بقلم حسين وصفى رضا

الصحف في البلاد العثمانية



لم تكد الاحتفالات تنتهي في عاصمة السلطنة وسائر بلادها ، حتى طفق أهل
العلم والفضل يمدون الجرائد بآرائهم وأفكارهم ، وانبرى الأديبات في الآستانة خاصة
للكتابة ، بعد أن وقفن ذلك الموقف المشهود في الخطابة ، فأكد لنا الخُبر الخَبر ،
وهو ما كنا نسمعه عن الارتقاء الأدبي العظيم في الآستانة وغيرها من ولايات الدولة ،
ولا مراء في أن هذا الانقلاب الأخير نتيجة ذلك الارتقاء الكبير .
تسابق الناس إلى طلب إنشاء الجرائد والمجلات ، ولا سِيَّمَا في الآستانة ،
حتى بلغ عدد ما أنشئ فيها وحدها حتى الآن مائتين وعشرين ، ما بين جريدة ومجلة ،
وقد صدر في بقية البلاد ما يقارب ذلك ، ومن ذلك ثماني جرائد هزلية مصورة
رأيناها معتصمة بحبوة النزاهة والأدب ، بعيدة عن المجون وسخيف الهزل ، ولا
رَيْبَ في أن أعمال المرء هي مرآة لأخلاقه ، ينطبع فيها ما يحمد وما يذم ، وعسى
أن تكون هذه الجرائد الهزلية في مسلكها الأدبي قدوة لكثير من جرائدنا الكبرى التي
أصبحت مجموعة للشتائم والتفنن في أساليبها ، حتى صار كثير من الأدباء يصدفون
عن قراءة الجرائد العربية .
رأيت في جريدة ( قلم ) إحدى الجرائد التي نوهت بها في صدر هذا المقال
رسمًا أثر فيّ تأثيرَا لم أعرفه منذ وُجدْتُ ، أحدث في فؤادي اضطرابًا ، وفي جسمي
رعدة عظيمة ، وقشعريرة قوية الشكيمة ، حتى كدت لا أملك نفسي على دفع البكاء ،
ثم تلا ذلك انكماش وسكون ، وفتور وذهول .
ذلك الرسم يمثل هيكلاً منتصبًا من العظام ، يحكي رسوم علماء التشريح
( Physiologic ) التي توضع للدلالة على أعضاء الإنسان ، لا لما وضعه
صاحب الجريدة ، وهو تلاوة العفو على هذا الهيكل من السلطان ! يرى الرائي ذلك
الهيكل والأداهم والقيود مطوقة يديه ورجليه ، كأنه من بقايا المغضوب عليهم من
نيرون العاتي الروماني ، وأمامه رجل يتلو عليه نبأ العفو عن السياسيين ! فكأن
الرسم يقول له : اغرب عني ؛ فقد جئت بعد وقتك بزمان طويل ، وما أكثر الذين
ذاقوا من وبال حكومة الظلم السابقة ما يجعل هذا الرسم ينطبق عليهم تمام الانطباق .
ورأيت رسمًا آخر يمثل سجينًا أخنت عليه السنون ، وأذاقه الظُّلاَّم عذاب
الهون ، فتبدلت خلقته ، وتغيرت سحنته ، وانسدل شعره على كتفيه ، وملأت لحيته
صدره ، وطالت أظفاره ، حتى صدق عليه قول عنترة في الأسد : ( له لبد أظفاره لم
تقلم ) وما كانت حياة أبي الأحرار مدحت باشا في منفاه ( قبر الأحياء ) إلا كحياة
هذا السجين .
ظهرت الجرائد في حياتها الجديدة ، فرأينا فيها المباحث المستفيضة في
السياسة والعمران والاجتماع ، وكلها تدل على اختبار منشئيها ، وَسَعَة علم كاتبيها ،
وبُعْد غورهم في السياسة ، وحسن أسلوبهم في استمالة الدول ، ولا سِيَّمَا صديقتَيْ
دولتنا القديمتين ، إنكلترا و فرنسا ، حتى مالتا إلينا وقرظتا أحرارنا أحسن تقريظ ،
وحتى أصبح أحد وزراء فرنسا من قبل يقول في خطبة له : ( إن أحرار تركيا
أعظم من رجال الثورة في فرنسا ) ، وناهيك صدور هذا القول من فرنسي ، دع أنه
من مشهوري رجال السياسة ؛ لأن الفرنسي يملأ ماضِغَيْهِ فخرًا برجال الثورة ،
ويعترف بأنهم فوق كل البشر ، بل أصبح ساسة الإنكليز يكتبون عنا مثل الفقرة
الآتية من مقالة لجريدة الدايلي تلغراف الكبرى : ( وأكبر واجب على إنكلترا في
الحال الحاضرة ، أن تساعد بكل قواها رجال الإصلاح في السلطنة العثمانية ،
وتراقب مراقبة حبية عمل أية دولة تحاول بذر بذور الشقاق في البلقان , أو أي عمل
يراد به مناوأة رجال تركيا الفتاة في شئونهم ) ، وإذا لم تجن من صداقتنا لهاتين
الدولتين الكبريين فائدة إلا صدهما لباقي الدول عن عرقلة مساعينا وإيقاف سير
أعمالنا ، لكانت خير فائدة .
كانت الجرائد قبل هذا الانقلاب تكتب بغير أقلام أصحابها ، وأريد بذلك أنها
كانت تكتب ما يراد منها من إطراء أعمال الحاكمين ، وتقديس البغاة الظالمين ، لا
ما تريد من المباحث التي تعود بالنفع والخير على البلاد والعباد ، على أن كثيرًا من
أصحاب الجرائد كانوا مغبوطين بتلك الحال التي جعلتهم في مصافِّ الأغنياء
والعظماء - عظماءِ ذلك العصر المظلم ، الذي كانت العظمة فيه عبارة عن الخيانة
والجاسوسية والوساطة بين الحاكمين والمحكومين لهم ، بالرشى وأكل أموال الناس
بالباطل .
ولكن جرائد الآستانة كانت على شدة المراقبة والسيطرة عليها تكتب في شئون
الزراعة والصناعة والأدب ، وما في معنى ذلك مما لا علاقة له بالسياسة كل مفيد ،
أما جرائد سوريا وباقي الولايات ، فكانت دون أخواتها في الآستانة في المباحث ،
وأوغل منهن في تقديس السلطة الجائرة ، والفئة الباغية الخاسرة ، ثم لاتزال بعد
التمتع بالحرية متخلفة عنها بمراحل ، فعسى أن تغذّ في سيرها ، وتجتهد في إدراك
شأوها ، فلا تضع نفسها منها موضع الظالع من الضليع ، ورجاؤنا كبير في الذين
عقدوا النية على إنشاء جرائد جديدة في تحقيق الأمل كصديقنا الشيخ أحمد حسن
طبارة ، الذي أصدر جريدته ( الاتحاد العثماني ) , وصديقنا عبد الغني أفندي
العريسي ، فإنه عزم هو و حسن أفندي بيهم الشهير على إصدار جريدة يومية
سمياها ( المفيد ) وأذاع صديقانا جرجي أفندي يني ، وأخوه صموئيل أفندي نشرة
ذكرا فيها أنهما سينشآن مجلة علمية أدبية سياسية ، دَعَوَاها المباحثَ ، فسرنا هذا
النبأ ؛ لأن الكاتبين ضليعان بما انتدبا له .
استغرقت المباحث السياسية أقلام الكتاب ، حتى يكاد من ينظر في جرائد
الآستانة ، في هذه الآونة ، لا يرى فيها مقالة أدبية أو بحثًّا اجتماعيًّا أو أخلاقيًّا إلا
فيما ندر ، وهم لم يتناولوا المرأة في بحثهم ألبتة ، لذلك انبرت عاطفة جلال إحدى
فضليات بنات الآستانة , وكتبت مقالة تستنكر فيها ذلك ، وقد بحثت في شأن المرأة
بحثًا مفيدًا ، ودعت الكتاب إلى مشاركتها في موضوعها ، نشرت المقالة في جريدة
( ثروت فنون ) بعنوان ( أليس لنا نصيب في الرقي ) وترجمتها ( الجريدة ) بالعربية
وإننا ننقلها عنها بنصها ، مع تصحيح قليل ، قالت :
( نقرأ الجرائد ، فلا نراها تكتب في المرأة إلا شذرات قليلة ، وبعض مقالات
يكتبها بعض السيدات ، فنستغرب من كتابنا تركهم للمباحث الجليلة في رقي المرأة ،
على أنهم يكثرون من كتابة المقالات الضافية الذيول ، الكبيرة الحواشي ، في
إصلاح الحيوانات الأهلية ، ونراهم حلقوا بأقلامهم في جو الصين و اليابان ، وما
فكروا قط في إصلاح أحوال المرأة ، كأن المرأة في نظرهم لا تعد من الإنسان ، أو
هي في درجة أقل من درجة الحيوان ، أو كأن المرأة لاتزال في اعتبارهم معدودة
من الزينة غير المفيدة ، أو من متاع البيت .
ترى حضرة المحرر الشهير ، والكاتب البارع ، مشناق بك يملأ أعمدة الجرائد
بالكتابة عن شركة البواخر ، ولم نره يكتب عن إصلاح المرأة ، كأن إصلاح المرأة
في نظره ليس له من الأهمية في الهيئة الاجتماعية ما لشركة السفن .
ينصح لي بعض الأعيان بأن أقرأ ثلاثًا ، وأكتب واحدة ! حبًا وكرامة ، فإني
أقرأ خمسًا ، وأكتب واحدة ، وإذا أرادوا الزيادة ، فلا أكتب شيئًا ، وأقرأ عشرًا ،
ولكن هل لهم أن يتفضلوا هم ويكتبوا فيغنوني عن الكتابة .
نحن نعد أنفسنا من بني الإنسان ، ونطلب أن يكون لنا نصيب في الهيئة
الاجتماعية ، ولقد سكت الكتاب العثمانيون عن البحث عن حقوقنا ، مع أن الإنسانية
تقضي عليهم أن لا يسكتوا ، وأن يطلبوا إصلاحنا قبل أن نطلبه نحن .
نحن نرى مباحث الصحف منحصرة إلى الآن في كيف تكون زينة المرأة ،
كأن المرأة إذا ذكرت ، لا يتبادر من ذكرها إلا أنها ( ألعوبة مزينة ) ولا يخطر على
بال الباحث في هاته الصحف أن المرأة كالرجل لها ما له وعليها ما عليه . فيجب أن
لا يقتصر الباحثون على زينة المرأة كلما أرادوا البحث في شأنها ، ومن يقتصر
على ذلك يهين المرأة ، ويجرح عواطفها . ونحن نريد أن نزين عقولنا قبل أن نزين
أجسادنا ، وهذا لا يكون إلا بالتربية والتعليم ، وفتح أبواب المدارس في وجوه
الفتيات .
اقترحت حضرة فاطمة هانم أفندي في مقالتها التي نشرتها ( ثروت فنون ) أن
تؤخذ سراي رضوان باشا ، وتجعل مدرسة للبنات ، وأما أنا فأرى أن تفتح مدرسة
للبنات حيثما كانت وكيفما وجدت . وقد استحسنت الكاتبة أن يتضمن بروجرام
المدرسة تعليم التطريز والأمور المنزلية ، باللغتين التركية والإنكليزية ، ورأيي أنه
متى كان التدريس جيّدًا مفيدًا ، فليكن بأية لغة كانت . وإذا وفقت فاطمة هانم أفندي
إلى إنشاء هذه المدرسة ، فلتعدني خادمة فيها ، فإن لم أستطع أن أقوم بوظيفة التعليم
والتدريس ، فإنني أكون من جملة المتعلمات ، لأن في التعلم والتعليم خدمة للوطن ،
وأؤكد أن بيننا من النساء من هي واسعة الاطلاع ، عارفة بحاجات الأمة .
المرأة تمثل في الهيئة الاجتماعية نصف أدوار قصة الحياة ، فلو عرف الكتاب
الكرام هذه الحقيقة ، وأعطوها حقها من البحث ، لقاموا بخدمة وطنية عظيمة ،
وأظن أنهم إذا فعلوا ذلك بقيت عظمتهم الكتابية في المنزلة التي لا تمس بسوء ، فهل
يرضى أولئك الكتاب أن يشتغلوا في كثير مما لا فائدة منه ، وأنا وأمثالي من الفتيات
ننادي بإنشاء المدارس ، ونحن لانزال في دور التحصيل ؟ ا هـ
فعسى أن نرى في فتياتنا من ينهجن نهج الكاتبة القويم ، ويذهبن مذهبها في
وجوب التربية والتعليم .

.....................................................
كتب هذا المقال فى مجلة المنار عام 1908 م