الخميس، 2 مايو 2013

قسم المقالات : أبو حامد الغزالى ( الجزء الخامس ) بقلم محمد رشيد رضا

أبو حامد الغزالى ( 5 )

رأيه في حكمة التكليف ورد شبهات الباطنية عليه [1]
جواب المسائل الأربع التي سألها الباطنية بهمدان

من الشيخ الأجلِّ أبي حامد محمد بن محمد الغزالي رضي الله عنه :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين , وصلوات الله على سيدِنا محمدٍ , وعلى آله وصحبه
أجمعين .
سئل : ما قول سيدنا الشيخ الإمام الأجل ، حجة الإسلام ، شرف الشريعة ،
مقتدى الفرق ، إمام الأئمة ، في هذه المسائل الأربع التي لبس ( بها ) هؤلاء القوم
الذين طغوا في البلاد ، فأكثروا فيها الفساد ، وموهوا بها استجلابًا لقلوب الخلق ،
وهي هذه .
( المسألة الأولى ) أليس أهل الإسلام متفقين على أن الباري جل ذكره غَنِيّ
عن كل شيء غير محتاج إلى شيء ما ؟ ثم مع ذلك كلهم معترفون بأنه كلف العباد
العبادة وأقر بها , فكيف تراك نسيت بحجة العقل أن غَنِيًّا عن كل شيء يكلف من لا
يحتاج إليه أن يعمل عملاً هو غني عنه ؟ بَيِّنْ لي كيف ذلك لَعَلِّي أن أكون من
العالمين .
( المسألة الثانية ) إن الله تعالى كلف العباد الطاعة , ونهاهم عن المعصية
ليثيبَ مَن أطاع ويعاقبَ من عصى ، وهذا مستحيل جدًّا في العقول ، فأي حاجة به
إلى معاقبة خلقه حتى يدعوه ذلك إلى أن يكلفهم أمرًا إذا لم يأتوه عاقبهم عليه , وإن
كان لا حاجةَ به إلى ذلك ، فالقول مستحيل جِدًّا ولا توجبه حكمة ، وإن كان تعالى به
إلى ذلك حاجة فما يصنع بالتكليف وهو قادر على أن يثيب من يريد , ويعاقب من
يريد ؟ فالتكاليف أيضًا حشو لا توجبه حكمة والحاجة نقص ، وإنه سبحانه وتعالى لا
ينسب إلى نقص وهو غني غير محتاج .
( المسألة الثالثة ) إن الله تعالى كلَّفَ العبادَ الطاعة لِينفعَهم بها ، أتراه جل
ذكره عجز عن أن ينفعهم بغير التكليف حتى يحتاج أن يكلفهم ثم ينفعهم ؟ إن كان
غرضه نفعهم فالتكليف ساقط وهو حشو , وإن كان يعجز عن ذلك إلا بالتكليف
فالقدرة ساقطة والعجز ثابت وهو محال .
( المسألة الرابعة ) إن الله تعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، وهذا باب
تحير فيه العقول ، هل يجوز أن يَأْمُر حكيم بِأَمْرٍ يخرج عن الحكمة ، وينبو عنه
العقل , ثم يحظر على العاقل البحث عنه ؟ أليس ذلك ضربًا من الجور والظلم ؛
لأنه جعل الحُجّة على هذا الخلق العقل وأمر أهله ونهاهم وخصّ غيرهم من البهائم
على ما خلقوا عليه بالآلات التي خلقت لها , وألهم العقل استعمالها بمثل اللجام الذي
تروض الدّابّة به وغير ذلك من حبالات الصيد والحيل المعروفة التي يطول شرحها ؟
وإذا كانت حجة العقل على المكلفين والمأمورين والمنهيين بأمره , ثم يكلفون أمرًا
ويمنعون من الفحص عنه والتماس سبب يتصور به ما يكلفونه عندهم ويصح في
معقولهم ومعلومهم الذي هو حجة عليهم ، أليس يكون ذلك ظلمًا صريحًا ؟ ووجدنا
المتحلِّين بالعلم من جميع الأصناف يقولون : إن الله جلّ جلاله لا يقبل عملاً إلا على
بصيرة , فإذا منع العاقل من البحث والنظر أين يكون بصيرًا ، وهل يرجى أن
يوحى إليه ؟ هذا مُنْكر من القول لا يعقل ، وما لا يعقل فليس بشيء . ووجدنا هذا
الكتاب الناطق بين الخلق من الحق يخبر في موضع بآية : { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ
يُسْأَلُونَ } ( الأنبياء : 23 ) ويخبر في موضع آخر بأنه يُسْأَلُ , ويقتضي الجواب
في قوله تعالى : { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ
بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنسَى } ( طه : 124-126 ) ,
فأي سؤال أتمّ من هذا السؤال الذي اقتضى هذا الجواب ، وفي القول مثل هذا كثير ،
والتناقض في مثل هذه الآيات ظاهر موجود إذا لم يعبر عنه ببيان يقبله العقل ،
فهذه أعزك الله المسائل الأربع قد شرحت لك بعضها فلا بُدَّ من قول خامس تصح به
التكليفات ، لأن سقوطها أيضًا لا يصح . أَبِنْ لي ذلك فإني أراك من المحسنين ، إلى
هنا كلامهم فإن رأى سيدنا أن يجيب عن هذا ويوضح هذه الإشكالات ويكشف عن
هذه التلبيسات حاز به الأجر الجزيل والثواب الكثير إن شاء الله تعالى .
أجاب , وقال : أما السؤال الأول وهو استبعاد التكليف مع الاستغناء , وتوهم
التناقض بينهما , فمصدره الجهل بحقيقة التكليف ، فكأن السائل لم يسمع قوله تعالى
{ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا } ( فصلت : 46 ) وقوله : { فَلأَنفُسِهِمْ
يَمْهَدُونَ } ( الروم : 44 ) وقوله : { إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } ( الإسراء : 7 ) كأنه ظن أن تكليف الله تعالى عباده يضاهي تكليف الإنسان عبده ،
فإن السيد يكلف عبده الأعمال التي يرتبط بها غرضه , وما لا حظ له فيه ولا يحتاج
إليه فلا يكلفه به ، فكأن هذا السائل ثبت في وهمه قياس فاسد ، وهو تشبيه تكليف
الله تعالى بتكليف عباده ، فجعل نفسه مثالاً لله ، تعالى الله وتقدس عن خياله ومثاله ،
والكشف عن حقيقة التكليف مما يطول ، ومن اقتبس حقائق العلوم عن رأيه السخيف ،
وعقله الضعيف ، وقياسه الفاسد ، كثر تعثره بالضلالات ، بل ينبغي أن يطلب
حقائق العلوم من أهله وهم العلماء الأقوياء القائمون بحقيقة المعقولات ، المطلعون
على أسرار الشرع ، العارفون بشروط الأدلة والبراهين ، المستبصرون بمداخل
الغرور والتلبيس فيها . وإذا كان شرح ذلك مما لا يسمح به عداوة ؟ على مثل هذه
الأسئلة الضعيفة الصادرة عن ضعف البصيرة ، فلا علاج للأفهام الضعيفة أنفع من
ضرب الأمثلة ؛ فلنقتصر على ضرب مثلين .
( المثال الأول ) تكليف الله عباده يجري مجرى ( معالجة ) الطبيب للمريض ،
فإنه إذا غلبت عليه الحرارة مرة يشرب المبردات ، والطبيب غني عن شربه لا
يستضر بمخالفته ولا ينتفع بموافقته ، ولكن الضرر والنفع يرجع إلى المريض ،
وإنما الطبيب هادٍ ومرشد فقط ، فإن وفق المريض حتى وافق الطبيب شفي وتخلص ،
وإن لم يوفق تمادى به المرض وهلك ، وبقاؤه وهلاكه عند الطبيب سِيّان ، فإنه
مستغنٍ عن بقائه ، فكذلك خلق للعبادة الأخروية أسبابًا تفضي إليها إفضاء الدواء إلى
الشفاء ، وهي الطاعات ونهي النفس عن الهوى بالمجاهدة المزكية لها عن رذائل
الأخلاق مشقيات في الآخرة ومهلكات ، كما أن رذائل الأخلاط ممرضات في الدنيا
ومهلكات ، والمعاصي بالإضافة إلى حياة الآخرة كالسموم بالإضافة إلى حياة الدنيا ،
وللنفوس طبّ كما أن للأجساد طبًّا ، فالأنبياء أطباء النفوس يرشدون الخلق إلى
طريق الفلاح لتمهيد طرق التزكية للقلوب ، كما قال تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا *
وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } ( الشمس : 9-10 ) , ثم كما يقال : إن الطبيب أمر
المريض بكذا ونهاه عن كذا ، وإنه زاد مرضه لأنه خالف الطبيب ، وإنه صح لأنه
راعى قانون الطبيب , ولم يقصر في الاحتماء ، وبالحقيقة لم يتماد مرض المريض
بمخالفة الطبيب لعين المخالفة , بل لأنه سلك غير طريق الصحة التي أمره الطبيب
بها , فكذلك ( مداواة ) النفوس هي الاحتماء الذي ينفي عن القلوب أمراضها ،
وأمراض القلوب تفوِّت حياة الآخرة ، كما تفوت أمراض الأجساد حياة الدنيا .
( المثال الثاني ) إن الملك من الآدميين قد يخصّ بعض خدمه وعبيده الغائب
عن مجلسه بمال ومركوب ليتوجه إلى مجلسه تارةً لحظ الملك في استخدامه
والاستعانة على نظام مملكته ومصالحها به ، وهذا القسم ونظيره في حق الله تعالى
محال ، وتارةً ليتوجه العبد إلى مجلسه وينال رتبة القرب منه ويسعد بسببه مع
استغناء الملك عن الاستعانة به , وتصميمه العزم على أن لا يستخدمه أصلاً ، ولكن
ليقربه من نفسه ، لمجرد حظ العبد ، والزيادة في قربه . ثم العبد إن ضيع المركوب ،
وأنفق المال ، لا في الطريق إلى السيد ، عدّ كافرًا للنعمة ، وإن ركب المركوب
وأنفق المال في الطريق متزوّدًا به عدّ شاكرًا للنعمة ، لا بمعنى أنه نال الملك حظًّا
لنفسه ، ولكن أراد سعادة العبد ، فإذا وافق مراد السيد فيه ، كان شاكرًا ، وإن خالف
عدت مخالفته كفرانًا ، والله يستوي عند كفر العباد وإيمانهم ، بالإضافة إلى جلاله
واستغنائه ، ولكن لا يرضى لعباده الكفر ، فإنه لا يصح لعباده ، فإنه يشقيهم ، كما لا
يرضى الملك المستغني لعبده الغائب الشقاوة بالذل والفقر ، ويريد له السعادة بالقرب
منه ، وهو غني عنه ، قرب منه أو بعد . فهكذا ينبغي أن يفهم أمر التكليف ، فإن
الطاعات أدوية ، والمعاصي سموم ، وتأثيرها في القلوب ، ولا ينجو إلا من أتى الله
بقلب سليم ، كما لا يسعد بالصحة إلا من أتى بمزاج معتدل ، وكما يصح قول
الطبيب للمريض قد عَرَّفتك ما يضرك وما ينفعك ، فإن وافقتني فلنفسك ، وإن
خالفت فعليها ، فكذلك قول الله تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا } ( فصلت : 46 ) .
( وأما السؤال الثاني ) فهو فرع من هذا السؤال ، فإن قوله : إن الله مستغنٍ
في إثابة عبده عن الطاعة ، وهو لم يتضرر بها ، يضاهي قول القائل : إن الله
مستغنٍ في إنشاء الإنسان عن الأمر بالوقاع ، وفي إنماء الطفل عن الرضاع ، وفي
إشباعه عن الطعام ، وفي إروائه عن الشراب ، وفي تصحيحه عن الأدوية ، فما باله
عاقب بعقوبة الجوع من ترك الأكل ، وعاقب بالمرض من ترك الأدوية ، وعاقب
بموت الطفل من ترك رضاع ولده ، وهذا خيال من يظن أن الله تعالى يفعل ذلك
غضبًا وانتقامًا ، وليس يدري أن لفظ الغضب والانتقام مستعار ومأوّل ، وإنما
غضب الله عبارة عن إرادته الإيلام ، فكما أن الأسباب والمسببات يتأدى بعضها إلى
بعض في الدنيا بترتيب مسبب الأسباب ، فبعضها يفضي إلى الإيلام ، وبعضها إلى
اللذات ، ولا يعرف عواقبها إلا الأطباء ، فكذلك نسبة الطاعات والمعاصي إلى آلام
الآخرة ولذاتها من غير فرق .
وكذلك ( السؤال الثالث ) ينحل به ، فإن الله تعالى لا يوصف بالعجز عن
الإشباع من غير أكل ، والإرواء من غير شرب ، والإنشاء من غير وقاع ، والإنماء
من غير رضاع ، ولكنه قد رتب الأسباب والمسببات كذلك ، لسر وحكمة لا يعلمها
إلا الله عز وجل ، والراسخون في العلم ، وليس ذلك بعجب ، إنما العجب في
التعجب من هذا التدبير المحكم والنظام المتقن ، وَلَعَمْرِي مَن لا يهتدي إلى سر
الحكمة فيه يتعجب منه لقصور هدايته ، ومثاله في التعجب مثال الأعمى الذي دخل
دارًا فتعثر بالأواني الموضوعة في صحن الدار ، فقال لأهل الدار ما أَرَكَّ عقولَكم ،
لماذا لا تردون هذه الأواني إلى مواضعها ، ولِمَ تركتموها على الطريق ؟ فقيل : إنها
موضوعة في مواضعها ، وإنما الخلل في فقد البصيرة [2] ، والجملة فمن لم يدرك
الفرق بين التعجب وبين البرهان كثر خبطه وضلاله ، وليس في هذا إلا تعجب
محض ، وأن الله تعالى لِمَ رتب الأسباب ؟ ولو رتبها على وجه آخر لتصور أن
يتعجب منه جاهل ويقول لم لم يفعل ضده ، وهذه التعجبات منبعها أوهام العوامّ ، ولا
يلتفت المحصل إليها ، بل إلى مقتضى البراهين .
( وأما السؤال الرابع ) ففي إيراده خبط ، وكأن السائل لم يقدر على أن
يفصح عما في ضميره ، والذي يتحصل منه تعجبات أربع :
( التعجب الأول ) قوله : كيف أمر بالشيء ومنع عن البحث عنه والبصيرة لا
تحصل إلا بالبحث ؟ وهذا تعجب فاسد ، فإن العمل يستدعي اعتقادًا جازمًا أو معرفة
حقيقية ، والاعتقاد الجازم يحصل بالتقليد المجرد عن سبيل التصديق والإيمان ،
والمعرفة تحصل بالبرهان ، والوصول إليها بالبحث ، ولم يُمْنَع عن البحث كل
الخلق ، بل الضعفاء القاصرون عن الاطلاع على عويصات البراهين ومعاصات
البحث ، وإنما مثال ذلك أمر الطبيب المريض ( بالدواء ) وامتناعه عن ذكر العلة
في كون الدواء نافعًا ، ومنعه المريض عن الاشتغال بالبحث عنه ، لعلمه بأنه يقصر
عنه فهمه ، ولو اشتغل بالبحث عن علل الطب لشق عليه ، وعجز عنه ، وزاد
المرض ، واستضر به ، فإن وجد على الندرة مريضًا ذكيًّا آنسًا بمنهاج الطب, وعلل
الأمراض لم يمنعه من البحث ، ولم يمتنع عن ذكر المناسبة بين الدواء وبين علته ،
بل إذا علم أنه ليس يكتفي بمجرد قوله وليس يصدق بمحض التقليد وتفرس فيه من
الذكاء ما يفهم به العلة ، وعلم أنه إذا فهم العلة والمناسبة اشتغل بالعلاج ، وإن لم
يفهم أعرض عن التقليد ، وجب عليه ذكر المناسبة والعلة ، إن كان يريد صلاحه ،
ولم يمنعه عن البحث ، إذا علم اشتغاله له ، إلا أن ذلك نادر في المرضى جدًّا ،
والأكثرون يضعفون عن ذلك ، وكذلك معرفة العلل والأسرار والبحث عنها في
الشرعيات من هذا القبيل .
( التعجب الثاني ) وهو تسخير البهائم للإنسان يضاهي تعجب الإنسان ممن
يمشي خطوات لينظر إلى منتزهات ووجوه حسان ، فيقال كيف أتعب رجله وسخرها
لأجل عينه ، والعين آلته كما أن الرجل آلته ، فما بال إحداهما جعلها خادمة وأتعبها ،
وجعل الأخرى مخدومة وطلب راحتها ، وهذا جهل الأقدار والمراتب ، بل البصير
يعلم أن الكامل يفدى بالناقص ، وأن الناقص يتسخر لأجل الكامل ، وهو عين الحكمة ،
وأما قوله إن ذلك ظلم ، فهو جهل بحد الظلم ، فإن الظلم هو التصرف في ملك
الغير ، والله تعالى لا يصادف لغيره ملكًا ، حتى يكون تصرفه فيه ظلمًا ، فلا
يتصور منه الظلم ، بل له أن يفعل ما يشاء في ملكه ، ويكون عادلاً . [3]
( التعجب الثالث ) أن الشرع كيف يرد بما ينبو عنه العقل ؟ وهو فاسد لأن
قوله : ( ينبو عنه العقل ) لفظ مشترك ، فإن أراد به أن برهان العقل يدل على
استحالته ، كخلق الله مثل نفسه والجمع بين المتضادين ، فهذا مما لا يرد به الشرع ،
ولم يرد ، وإن أراد به ما يقصر العقل عن دركه ولا يستقل بالإحاطة بِكُنْهه ، فهذا
ليس بمحال ، بل مقصود بعثة الأنبياء إرشاد الخلق إلى ما تقصر عقولهم عنه ،
فليس بمحال أن يكون في علم الأطباء مثلاً جذب المغناطيس للحديد ، والمرأة الحامل
لو مشت فوق حبة مخصوصة ألقت الجنين ، وغير ذلك من الخواص ، وهذا مما
ينبو عنه العقل ، بمعنى أنه لا يقف على حقيقته ، ولا يستقل بالاطلاع عليه ، ولا
ينبو عنه ، بمعنى الحكم باستحالته ، وليس كل ما لا يدركه العقل محالاً في نفسه ،
بل لو لم نشاهد النار قط وإحراقها ، فأخبرنا مخبر , وقال : إني أحك حبة بحبة ,
وأستخرج من بينهما سنًا أحمر بمقدار عدسة تأكل هذه البلد وغيرها حتى لا يبقى
فيها شيء من غير أن ينتقل ذلك إلى جوفها ، ومن غير أن يزيد في حجمها ، بل
تأكل البلد ثم تأكل نفسها ، فلا تبقى ، لا هي ولا البلد ، لكنا نقول : هذا شيء ينبو
عنه العقل ، ولا يقبله ، وهذه صورة النار ، والحس قد صدق ذلك ، فكذلك يستعمل
الشرع على مثل هذه العجائب التي ليست مستحيلةً ، وإنما هي مستبعدة , وفرق بين
البعيد والمحال ، فإن البعيد هو الذي ليس بمألوف ، والمحال ما لا يتصور كونه .
وأما ( التعجب الرابع ) وهو أنه لا يسأل عما يفعل وهم يُسْأَلون , ثم سئل ,
وقيل : { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا
فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنسَى } ( طه : 125-126 ) فمصدر هذا السؤال الجهل
بكون ( لفظ ) السؤال مشتركًا ، فإن السؤال قد يطلق ويراد به الإلزام ، كما يقال
ناظر فلان فلانًا ، فتوجه عليه سؤاله[4] وقد يطلق ويراد به الاستخبار ، كما يقال
سئل التلميذ ، والله تعالى لا يتوجه عليه السؤال ، بمعنى الإلزام ، وهو المعني بقوله
( لا يسأل عما يفعل ) إذ لا يقال له : لم ؟ قول إلزام ، فأما أنه لا يستخبر ، ولا
يستفهم ، فليس كذلك ، وهو المراد بقوله : { لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى } ( طه : 125 )
وهذا القدر كافٍ في جواب هذه الأسئلة . ا . هـ . والذي أوصي به هذا السائل أن
ينظر لنفسه ودينه ويتقي ربه , ويطلب عالمًا مَليًّا بعلم العقل والشرع ليهديه إلى
الطريق ، فإن مَن ترقى عن مجرد التقليد بأدنى كياسة , ولم ينتهِ إلى رتبة الاستعلاء
كان من الهالكين ، فنعوذ بالله من فطانة نزالة ، وكياسة ضعيفة ، فإن البلاء منه
أولى إلى النجاة منها ، آمين .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________

(1) عَثَرَ على هذه الرسالة في بعض المجموعات القديمة ببغداد ، عالم العراق السيد محمود شكري أفندي الآلوسي ، فأرسلها إلينا لننشرها في المنار فحمدنا سعيه ، وشكرنا فضله ، ونشرناها بنصها ، إلا كلمات قليلة علمنا باليقين أنها محرفة فرددناها إلى أصلها ، وبقيت فيها وقفات تركناها على حالها.
(2) كذا في الأصل ، ويظهر أن ههنا سقطًا ، وتصحيحه بحسب المعنى أن يقال : وإنما الخلل في فقد البصر ، وكذلك الخلل فيما ضرب له المثل في فقد البصيرة ، والمثل مذكور في الإحياء ، ولا أجد سعة في الوقت لمراجعته .
(3) المنار : فسر الظلم هنا بما جرى عليه الأشعرية ، وفيه نظر ظاهر ، وقد بينا حقيقة الظلم ، وكونه محالاً على الله تعالى في مواضع من التفسير والمنار .
(4) هذا ما يعبر عنه الآن بالمسئولية ، وهي بمعنى التبعة والمؤاخذة ، فمعنى كونه تعالى لا يسئل عما يفعل أنه ليس لأحد سلطة فوق سلطته فيسأله عن فعله سؤال من يلقي عليه التبعة ويؤاخذه على ما عمل