السنن والأحاديث النبوية ( الجزء الثالث )
كلمات في النسخ والتواتر وأخبار الأحاديث والسنة
رد على الأستاذ الفاضل الشيخ صالح اليافعي [1]
( الكلمة السادسة ) في التواتر .
أهم ما يطعن به في وجوب التواتر فيما يعمل به في الدين ، مسألة إرسال
النبي صلى الله عليه وسلم الآحاد للتعليم وللحكم بين المسلمين وللملوك . فاعلم أن
خبر الواحد - كما قلنا - لا يوجب اليقين ، ولا يجب العمل به إلا إذا أيدته قرائن
أخرى قطعية ، فهؤلاء الآحاد الذين كان يبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجهات للتعليم ما كان يجب على الناس فيها أن يوقنوا بما يخبرونهم به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يجوز عليهم الخطأ والنسيان ، كما أنه يجوز عليهم الكذب أو الارتداد . وإنما هؤلاء الناس الذين كانوا في تلك الجهات تحققوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إليهم هؤلاء الرسل وأوجب عليهم طاعتهم والأخذ عنهم ، وقبل أن يحققوا ذلك لا تجب عليهم طاعتهم ولا الأخذ عنهم ، فهم في طاعتهم لهم وأخذهم عنهم بعد تيقنهم من أنهم مرسلون إليهم من قِبَل النبي صلى الله عليه وسلم إنما هم مطيعون لله ولرسوله ولأولي الأمر ، فإذا قالوا لهم : إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال كذا فاعملوا به ، وجب عليهم أخذ هذا القول عنهم كما أمرهم الرسول
صلى الله عليه وسلم ووجب عليهم العمل به ، لا لأنهم أيقنوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم حقيقة قاله ،ولكن لأنهم أمروا بطاعة أولياء أمورهم فلا يجوز مخالفتهم أو رفض كلامهم إلا إذا علموا بكذبهم ، وحينئذ يرفعون الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم فيحكم بعزلهم عن تولي أمورهم وتسقط عنهم طاعتهم فيما يروونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وعليه فهؤلاء القوم ما كانوا عاملين بالظن ، وإنما هم مطيعون لأمر يسمعونه من أولياء أمورهم بآذانهم ، فيأخذون به ويعملون به كما أمروا ، وسواءٌ في ذلك أيقنوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله أو لم يقله ، فالعهدة فيه على رواته .
فإن قيل : إن لم يكن هؤلاء عاملين بالظن ، فالرسول صلى الله عليه وسلم
نفسه عامل بالظن ؛ وإلا فكيف يوفق بأن هؤلاء القوم لا يبلغون عنه إلا ما يريدون ؟
قلت : إن الرسول صلى الله عليه وسلم إن لم يعلم ذلك بطريق الوحي كما كان
يخبره الوحي بحالات كثيرة مثل هذه عن أصحابه البعيدين عنه كما هو مشهور في
سيرته صلى الله عليه وسلم ، فقد كان صلى الله عليه وسلم يعلم مِن هؤلاء المبعوثين
الصدق والإيمان وقوة العقل والعلم بالدين ، وقد اختبرهم بنفسه زمنًا طويلاً حتى علم
أخلاقهم وأميالهم وأحوالهم وسبر غورهم ، فهو يكاد يجزم بصدقهم وإخلاصهم كما
يجزم أحدنا - وإن كان نظره أضعف من نظر الرسول صلى الله عليه وسلم -
بصدق صاحبه وإخلاصه بعد معاشرته له زمنًا طويلاً في أحوال مختلفة . وإن بقي
في النفس أدنى شكّ في ذلك أو تجويز للخطأ أو النسيان عليهم ، فهؤلاء المبعوثون
ما كانوا يذهبون إلى جهات منقطعة عن المسلمين ، بل كان بينهم وبين المسلمين
صلة وثيقة وعلاقة كبيرة ، فكان يأتي منهم الكثيرون إلى المسلمين مرات عديدة في
السنة للزيارة والتعارف والحج والتجارة وغير ذلك ، ويذهب إليهم المسلمون لمثل
هذه الأغراض ، فإذا حاد المبعوثون عن شيء مما تلقوه عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أو أخطئوا فيه وصل ذلك إلى علم رسول الله صلى الله عليه وسلم في
أقرب وقت ، فيصحح هذا الخطأ أو يعزلهم أو يعاقبهم . فبالوحي وبثقته الأكيدة بمن
أرسله بعد التحقق منه زمنًا طويلاً ، وبإخبار الذاهبين إليهم والآتين مِن عندِهم يكون
الرسول صلى الله عليه وسلم واقفًا على ما يبلغ عنه في تلك الجهات ومهيمنًا عليه ،
فإن حصل خطأ أو كذب في شيء منه فالعاملون به مطيعون لأولياء أمورهم وليسوا
عاملين بالظن ، ولا يلبث هذا الخطأ أو الكذب إلا قليلاً ، فيمنعه رسول الله صلى الله
عليه وسلم في أقرب وقت . وهذه الحالة ضرورية في مبدأ الدعوة حتى يعم الدين
تلك الجهات ، ويكون فيها وفي غيرها مشهورًا مستفيضًا متواترًا ، فلا يتطرق لشيء
منه بعد ذلك ريب أو شك ، وهي تشبه حالة التلاميذ مع معلمي المدارس وتلقيهم
العلم عنهم وعملهم به ، فإن الأمة رقيبة عليهم ، فإن أخطئوا في شيء أو دسوا عليهم
أمرًا ، فسرعان ما يصل إلى علم الأمة وأولياء أمورها ، فيتلافونه في أقرب وقت .
أما أحاديث الآحاد عنه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته ، فهي تختلف عن ذلك
اختلافًا كبيرًا ؛ لأن رواتها ليسوا أولياء أمر المؤمنين حتى تجب طاعتهم من هذه
الوجهة ، ولم يثق بهم الرسول ، ولم يعرفهم ولم يُعيّنهم لهذا الأمر ولم يَقُمْ رقيبًا
عليهم ، لا بالوحي ولا بأخبار الناس عنهم ، فالفرق بين الحالتين عظيم .
أما رسله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك ، فالغرض من ذلك إلفات نظرهم
إليه وتنبيههم للبحث في دعوته وتشويقهم للنظر في أمره وحالته ، وإلا فلا يمكن
الإيمان لأجلها إلا بعد التثبت منها والتحقق من أمر الدعوة والداعي ، فهي كالتمهيد
للدعوة الحقيقية ، بوصول الدين إليهم متواترًا على أيدي الناس كما حصل بعد وفاته .
والخلاصة أن القرآن الشريف يذم العمل بالظن كثيرًا ، فلا يمكن أن الله
سبحانه وتعالى يلزم عباده المؤمنين بالعمل بما لا يوجب عندهم اليقين ، وإلا كان
أمرًا لهم بما يذم به غيرهم ، ويلومهم على اتباعه .
وحيث إن أحاديث الآحاد مِن حيثُ هي لا تفيد اليقين كما بيناه في الكلمة
الرابعة ، فلذا اشترطنا التواتر فيما يجب علينا الأخذ به في الدين ، فدليلنا على ذلك
مبنيّ على حكم العقل وما جاء به الكتاب العزيز .
( الكلمة السابعة ) معنى السنة ، وبيان وُجُوب العمل بها .
السنة في اللغة وفي اصطلاح السلف هي الخطة والطريقة المتبعة ، فسنته
صلى الله عليه وسلم هي طريقته التي جرى عليها في أعماله واقتدى به أصحابه فيها ،
وهي واجبة الاتباع حتمًا على كل مَن آمَنَ به وصدقه صلى الله عليه وسلم ، وهذا
هو المراد بما جاء في الحث على اتباع السنة في أقوال الصحابة والسلف رضوان
الله عليهم جميعًا ، كما لا يخفى على متأمل في أقوالهم ، ومن ذلك حديث : ( عليكم
بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ) أي عليكم بطريقتي وطريقة خلفائي
الراشدين مِن بعدي ، فلا نِزاعَ في أن اتباع طريقة النبي صلى الله عليه وسلم في
الدين هي واجبة على جميع أتباعه المؤمنين ، أما أقواله صلى الله عليه وسلم التي لم تكن طريقة متبعة له ولا لأصحابه ، فهي موضوع بحثنا ، وهي المقصودة
في مقالاتنا الأخيرة ، تلك التي رواها الآحاد وانفردوا بها ، ولو كانت واجبة الاتباع
لعلمها الناس جميعًا في عصره عليه السلام وجروا عليها في أعمالهم ، وهذا هو أدل دليل على أنها لم تكن دينًا عامًّا لجميع البشر ، بل هي خاصّة لمن وجهت
إليهم لأحوال خاصَّة وظروف مخصوصة أو أنها كانت للإرشاد والندب لا
للوجوب ، ولذلك لم يكن اتباعها عامًّا بينهم . فهناك فرق عظيم بين لفظ ( السنة )
ولفظ ( الأحاديث ) ويجب على كل باحث في هذا الموضوع أن يدرك هذا الفرق
جيدًا ، حتى لا يقع في الخلط والخبط . وقد أدرك الإمام مالك هذا الفرق ، فكان
- رضي الله عنه - يقدم عمل أهل المدينة على الأحاديث ، ويرد منها ما خالف
سنتهم التي ورثوها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو صحت أسانيدها ، وقد رد من ذلك مئات كثيرة .
أما تسمية الأحاديث مطلقًا بالسنة ، فهي من اصطلاح المتأخرين ، ولولا هذا
الاصطلاح لما احتجنا في مقالاتنا إلى تقييد لفظ السنة بقولنا ( العمليَّة ) فإن السنة
لا تكون إلا عمليَّة ، وأما القول الذي يقال ولا يكون مبدأً يجري عليه العمل دائمًا فلا
يسمى سنة عند المتقدمين .
فاتّباع سنة أي شخص ، هي الجري على منهجه والتزام طريقته ومبادئه
وأصوله ، وليس معنى ذلك أن يتقيد المتبع بكل جزئية من جزئيات كلام المتبوع ،
مثلاً قد أكون متبعًا لسنة الأستاذ الإمام رضي الله عنه في تفسير القرآن الحكيم ومع
ذلك أرى في بعض الآيات خلافَ ما يرى ، ولا يخرجني ذلك عن كوني متبعًا سنته ،
فإن سنته هي في ترك التقليد واستعمال العقل وعدم القول بالنسخ وتحري الحق
والصواب ، لا في التزام كل قول من أقواله التزامًا أعمى ، فكذلك ترك بعض أقواله
صلى الله عليه وسلم في الأمور الدنيوية المحضة ، وما حكم فيه بالرأي والاجتهاد ،
وما خالف المصلحة في زمننا لا يُخْرِج المسلمَ عن كونه متبعًا سنته صلى الله عليه
وسلم ، فإن سنته هي في اتباع الحق والصواب وتجنب الضار ومراعاة المصالح ،
كما دل عليه الكتاب العزيز ، وترادفت فيه الأخبار المتعددة المصادر المختلفة المبنى
المتحدة المغزى ، وكما جرى عليه عمل كبار المسلمين وعقلائهم في كل زمان
ومكان . فسنته صلى الله عليه وسلم هي في اتباع مبادئه الشريفة والجري على
خطته ومنهجه وإطاعته فيما أوحي به إليه ، أو ما وافق الصواب والمصلحة من
آرائه واجتهاداته ، وليست سنته في الجمود والتقليد والبعد عن العقل والتفكير ، كما
عليه أكثر المسلمين اليوم ، ولذلك كان أصحابه يخالفونه في كثير من المسائل في
حياته وكان عليه السلام يرجع عن رأيه لآرائهم ، ولذلك أمر بمشاورتهم ، وما قال
أحد بأن من خالفه منهم خرج عن سنته ، فإن سنته هي الشورى والتفكير ورعاية
مصالح العباد وتحري العدل والإنصاف وعدم الاستبداد بالرأي . وقد خالف أصحابه
رضوان الله عليهم في حياته وبعد مماته بعض أقواله وبعض ما حكم به مراعاة
للمصلحة ، ولولا خوفُ الإطالة لذكرت شيئًا من ذلك كثيرًا ، وقد وفيت هذا البحث
في رسالة لي طويلة وفقنا الله لطبعها عن قريب .
وسنته صلى الله عليه وسلم في الأمور تعلم من نصوص الكتاب العزيز ومما
تواتر بين المسلمين عنه قولاً وعملاً ومن مجموع ما رُوِي عنه من المصادر المختلفة
في المسائل المتعددة . فسنته معلومة للمسلمين باليقين وواجب اتباعها على جميع
المؤمنين . وهذا هو المراد بما جاء في الكتاب الكريم من الأمر باتباعه والاقتداء به
والجري على منهجه والاهتداء بهديه صلى الله عليه وسلم , وهو أيضًا المراد مما
ورد عن أصحابه وعن سلف المسلمين من القول بوجوب اتباع السنة النبوية .
وأما أخبار الآحاد التي لم يجر عليها العمل بلا انقطاع بين المسلمين فهي
موضوع النزاع في كل عصر وجيل ، كما يتضح لك من الكلمة الآتية :
( الكلمة الثامنة ) آراء أئمة المسلمين في أخبار الآحاد ، وما قالوه فيها ، وكيفية معاملة الصحابة لها .
( 1 ) قال الإمام أحمد بن حنبل ما معناه : إن الأحاديث الواردة في تفسير
عبارات القرآن الشريف لا أصل لها . كما نقله عنه الحافظ السيوطي في الإتقان .
( 2 ) وقال الإمام الشافعي : ( إن نسخ القرآن بالحديث لا يجوز ) .
( 3 ) وقالت الظاهرية : إن تخصيص عموم القرآن بها غير جائز ، وإن
العمل بها غير واجب .
( 4 ) وقال جمهور الأصوليين : ( إنها ظنية ) .
( 5 ) وقال جمهور المسلمين : ( إنه لا يجوز الأخذ بها في العقائد ) .
( 6 ) وقال كثير من الأئمة ، كالقاضي عياض : ( إنه لا يجب الأخذ بها في
المسائل الدنيوية المحضة ، ولو كانت موثوقًا بها ) .
( 7 ) وقال جميع المحدثين : ( إن الموضوع منها كثير ، وتمييزه عسير ،
وفي بعض الأحوال مستحيل ) راجع ما ذكرناه في الكلمة الرابعة .
( 8 ) وقال أبو حنيفة وأضرابه من أهل الرأي والقياس : ( إن الصحيح منها
قليل جدًّا ) حتى إنه لم يأخذ إلا ببضعة عشر حديثًا .
( 9 ) وقال مالك رضي الله عنه : ( إن عمل أهل المدينة مقدم عليها ) ,
وكذلك أهل الرأي والقياس يقدمون القياس الجلي عليها .
( 10 ) أجمع جمهور المسلمين على عدم تكفير من أنكر أي حديث منها .
( 11 ) إن تناقضها كثير ، ومعرفة ناسخها من منسوخها عسير أو مستحيل ،
وكذلك أكثر أسباب قولها .
( 12 ) قام الدليل الحسي على أن الله لم يتكفل بحفظها من التحريف والتبديل
والزيادة والنقصان .
( 13 ) لم يجمعها الصحابة ، ولم يتفقوا عليها .
( 14 ) لم يبلغوها إلى الأمم بالتواتر ، مع علمهم بأن اتباع الظن غير جائز
في الإسلام إلا لضرورة .
( 15 ) إنهم نُهوا عن كتابتها ، وأُمروا بإحراق ما كتبوه منها ، كما في
الروايات التي صحت عندكم .
( 16 ) قد نهى بعضهم عن التحديث وكرهه ، وكذلك علماء التابعين .
( 17 ) كان أفاضلهم أقل الناس حديثًا ويصدفون عنه ، ولو كان واجبًا لَمَا
كان هذا حالهم .
( 18 ) من كان من الصحابة كثير الحديث ملوا منه ونهوه وزجروه ، كما
فعل عمر بأبي هريرة ، وشكوا فيه , وقالوا : إنه يضع الشيء في غير موضعه ،
ونسبوه للجنون ، كما في كتبكم .
( 19 ) إن أئمة المسلمين لم يتفقوا على الصحيح منها ، وما منهم من أحد إلا
خالف في مذهبه كثيرًا منها .
( 20 ) لم يعتن المسلمون بحفظها في صدورهم كما اعتنوا بحفظ القرآن
الشريف .
فإذا كان هذا حال الأحاديث وما قاله المسلمون فيها وما عملوه بها ، فأي فائدة
منها ترجون ؟ وأي ثقة بها تثقون ؟ وأي شيء خالفتُ فيه الإجماع أو ابتدعته حتى
أُرْمَى بالكفر أو المروق ؟ مع أن هذه المطاعن وأمثالها كثير لم يخل منها عصر
من عصور المسلمين ، ولم تصدر إلا منهم . فيجب علينا أن نقدر أخبار الآحاد
قدرها ولا يعمينا الجهل والتعصب عن حقيقة أمرها .
أما قول حضرة الأستاذ الفاضل الشيخ اليافعي في الجواب عن بعض هذه
المطاعن إن الصحابة اختلفوا في جمع القرآن وكتابته ، فهو لا يرد شبهة ولا
يدحض حجة . فإن القرآن الشريف من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
اليوم قد حفظ حفظًا جيدًا في الصدور ، لم يسبق له مثيل ولم يعرف عند أمة أخرى
في كتبها . وكُتِبَ في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبأمر منه عليه السلام
وبإملائه على ما عرفوه إذ ذاك من أنواع القرطاس ( كل ما يكتب عليه ) ولم يختلف
أحد منهم في وجوب كتابته ولم يمت عليه السلام إلا بعد أن كانت جميع سوره مرتبة
الآيات محفوظة في صدور الجماهير مكتوبة في سطورهم المحفوظة عندهم ، وإنما
كان اختلافهم بعد وفاته عليه السلام في كيفية جمعه على طريقة لم يكونوا يعرفونها
من قبل وما كانوا عهدوها ، وهي كتابته على صحف من الكاغد ( كالورق الآن )
مع ضم هذه الصحف بعضها إلى بعض بالطريقة المعروفة اليوم في عمل الكتب ،
فإن الكاغد وعَمَلَ ما نسميه الآن كتابًا ، ما كان معروفًا لهم في زمن النبي صلى الله
عليه وسلم ، وإنما هو رقي في الصناعة التابع لرقيهم في المدنية بعد وفاته عليه
السلام ، ولو كانوا علموه من قبل لعملوا المصاحف في زمنه ، ولما اختلف في ذلك
منهم اثنان ( راجع مقالة تاريخ المصاحف ، المنشورة سابقًا في المنار ) . ولما لم
يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم بتعليم الناس شيئًا من الصناعات وغيرها من
أمورهم الدنيوية التي يمكنهم أن يصلوا إليها بعقولهم وتدرجهم في سلم المدنية
واقتباسهم أشياء من الأمم الأخرى الراقية ، فلذا لم يوح إليه عليه الصلاة والسلام
بتعليمهم صناعة ما نسميه الآن ورقًا وكتبًا ، كما أنه لم يوح إليه بتعليمهم أي صناعة
أخرى ، بل تركوا وشأنهم حتى يصلوا إلى ذلك بمرور الزمان .
والخلاصة أن القرآن محفوظ في الصدور مكتوب في السطور من عهد
الرسول صلى الله عليه وسلم وبأمره ، لم يختلف في ذلك أحد ، وإنما الاختلاف كان
في مجاراة الترقي في الصناعة . وقد ترقت صناعة عمل المصاحف شيئًا فشيئًا ،
كما ترقّى كل شيء آخر حتى وصلت إلى ما وصلت إليه في عصرنا الحالي .
وأما كتابة الأحاديث ، فقد كتبت فيها مرات ، وأفاض القول فيها بعلمه الواسع ،
أستاذ المنار ، فلا حاجة للتكرار .
( الكلمة التاسعة ) أسباب استشهادي بأحاديث الآحاد في مقالاتي .
اعلم بأن من الحجج ما يسمى ( بالإقناعي ) ، وذلك أن تحتج على الخصم بما
هو مسلم عنده ، كأن تحتج على النصراني ببعض ما في الإنجيل الحالي ، وإن كنت
غير معتقد له . فأنا أورد الأحاديث غالبًا لا لأثبت معتقدي لنفسي ، بل لأقنع من لا
يقنع إلا بها ، ولست أعول في براهيني القطعية إلا على ما يفيد اليقين ، فما
أذكره من الأحاديث إما لإقناع المسلمين وإلزامهم بها أو التكثير من الأدلة بضم ضعيفها
إلى قويها ليقوى بها مع استعمال مبدأ الاستنتاج والنقد فيها . وقد اتبعت في ذلك
خطة علماء التاريخ العصريين ، فإنهم يؤيدون آراءهم في التاريخ القديم ببعض ما
يعثرون عليه من الروايات ولو كانت من الأساطير ويستنبطون منها ما لا يستنبطه
الجهلاء من الحقائق بعد أن يستنيروا في دياجير ظلماتها بمصابيح من نور العقل
والعلم ، فإنه جرت عادة الناس بتضمين حكاياتهم شيئًا من حقائق التاريخ فيأتي أهل
النظر والبحث فيعرفونها ويلتقطونها من وسط الخرافات ويتثبتون من صحة ما
التقطوه بالأقيسة المنطقية والقضايا العقلية ، فإذا أراد بعضهم أن يعرف مثلاً أصل
الحجر الأسود عندنا ، عمد إلى رواياتنا فيه وحكها بمحك النقد والعقل ، فإذا سمع
رواية ( إن الله استودع الحجر أبا قبيس حين أغرق الله الأرض زمن نوح عليه السلام
وقال له : إذا رأيت خليلي يبني بيتي فأخرجه له ، فلما انتهى إبراهيم لمحل الحجر ،
نادى أبو قبيس إبراهيم فجاء فحفر عنه فجعله في البيت ) استنتج منها بعد أن يزيل
قشورها وأوهامها حقيقة هذا الحجر ، وهو أن أصله قطعة أخذها إبراهيم عليه
السلام من أحجار جبل أبي قبيس السوداء القريبة من الكعبة ، ووضعها في أحد
أركان الكعبة علامة على الركن الذي يبتدأ منه بالطواف ليعرف الطائف كم
مرة طاف بالبيت ، وليبتدئ الناس بالطواف من نقطة واحدة ، حفظًا للنظام وتسهيلاً
للطائفين[2] ، وكذلك يأخذ علماء التاريخ كثيرًا من حقائق تاريخ اليونان مثلاً مما
يجدونه عندهم من الأشعار والحكايات القديمة ، كإلياذة ( هومير ) ، فإذا كان
هذا ما يفعله العلماء في الأساطير ، فهل يستنكر مني أن أستشهد لقوم بأحاديثهم
الصحيحة المسلمة عندهم وهي التي يعولون عليها في مذاهبهم ؟ وماذا يكون قولهم إذا
لم أؤيد مقالتي بشيء من ذلك ؟ أما كانوا يقولون : إنها محض رأي له غير مؤيد
بشيء من النقول ، ولو كان صحيحًا ما خلت أحاديثنا منه ، إنها تكاد لا تغادر
شيئًا ( إني والله لفي حيرة من أمرهم ! ! ) على أن كثيرًا مما أذكره في مقالاتي مروي
عن كثير من الصحابة بالأسانيد المسماة عندهم صحيحة ، والروايات فيه
مترادفة تكاد توجب اليقين والقول بأنها جميعًا موضوعة لا يكفي عند الباحثين في
نشوء الروايات لإرواء غلتهم وإشباع نَهْمَتهم في العلم ، فلا بُدَّ إذًا من البحث
والتنقيب . ولو رفض المسلمون الآن ما ألزمهم به من الأحاديث بعد تدوينهم لها
في كتبهم واعتبارهم لها صحيحة أفما يكونون متعسفين ؟ وكيف إذًا يكون
التمييز عندهم بين الصحيح والضعيف والموضوع ؟ فاللهم اجعل العقل رائدنا .
وأَنِرْ بصائِرَنا . واجعل كتابك هادينا ومرشدنا . ونبيك إمامنا وقدوتنا ولا تخزنا يوم
يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلى مَن أتى الله بقلب سليم .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) تابع لما نشر في (قسم المقالات) من مقالة الدكتور محمد توفيق أفندي صدقي .
(2) حاشية للكاتب - تقبيل الحجر الأسود هو كتقبيل آثار رجال التاريخ العظام احترامًا لهم وإجلالاً لشأنهم وحبًّا فيهم ، كمن يقبل سيف نابليون أو دواة شكسبير وقلمه إن وجدت ، ولكل أمة آثار موروثة عن رجالهم العظام ويقبلونها ، وهذا الحجر هو من آثار إبراهيم في بنائه الكعبة ، ومحفوظ بالتواتر في الأمة العربية ، فلذا قبله رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قبل غيره من أركان الكعبة واتبعه المسلمون في ذلك إلى اليوم ، وإن لم يقل أحد منهم بوجوب ذلك ، ولم يذكر هذا الحجر في القرآن الشريف ، ومن اعتقد أن شيئًا من هذه الآثار يضر أو ينفع فقد خرج عن عقله وكفر بالله ورسله ، ومن العجيب أن الإفرنج يسمون تقبيلنا لهذا الحجر عبادة - مع أن التقبيل لا يسميه أحد في الدنيا عبادة - ولا يسمون سجودهم لصورهم وصلبانهم وقديسيهم وقديساتهم والخبز في قربانهم ، لا يسمون ذلك عبادة لهذه الأشياء ، مع أنه شتان ما بين السجود والتقبيل ، فانظر وتعجب ! !
رد على الأستاذ الفاضل الشيخ صالح اليافعي [1]
( الكلمة السادسة ) في التواتر .
أهم ما يطعن به في وجوب التواتر فيما يعمل به في الدين ، مسألة إرسال
النبي صلى الله عليه وسلم الآحاد للتعليم وللحكم بين المسلمين وللملوك . فاعلم أن
خبر الواحد - كما قلنا - لا يوجب اليقين ، ولا يجب العمل به إلا إذا أيدته قرائن
أخرى قطعية ، فهؤلاء الآحاد الذين كان يبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجهات للتعليم ما كان يجب على الناس فيها أن يوقنوا بما يخبرونهم به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يجوز عليهم الخطأ والنسيان ، كما أنه يجوز عليهم الكذب أو الارتداد . وإنما هؤلاء الناس الذين كانوا في تلك الجهات تحققوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إليهم هؤلاء الرسل وأوجب عليهم طاعتهم والأخذ عنهم ، وقبل أن يحققوا ذلك لا تجب عليهم طاعتهم ولا الأخذ عنهم ، فهم في طاعتهم لهم وأخذهم عنهم بعد تيقنهم من أنهم مرسلون إليهم من قِبَل النبي صلى الله عليه وسلم إنما هم مطيعون لله ولرسوله ولأولي الأمر ، فإذا قالوا لهم : إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال كذا فاعملوا به ، وجب عليهم أخذ هذا القول عنهم كما أمرهم الرسول
صلى الله عليه وسلم ووجب عليهم العمل به ، لا لأنهم أيقنوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم حقيقة قاله ،ولكن لأنهم أمروا بطاعة أولياء أمورهم فلا يجوز مخالفتهم أو رفض كلامهم إلا إذا علموا بكذبهم ، وحينئذ يرفعون الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم فيحكم بعزلهم عن تولي أمورهم وتسقط عنهم طاعتهم فيما يروونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وعليه فهؤلاء القوم ما كانوا عاملين بالظن ، وإنما هم مطيعون لأمر يسمعونه من أولياء أمورهم بآذانهم ، فيأخذون به ويعملون به كما أمروا ، وسواءٌ في ذلك أيقنوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله أو لم يقله ، فالعهدة فيه على رواته .
فإن قيل : إن لم يكن هؤلاء عاملين بالظن ، فالرسول صلى الله عليه وسلم
نفسه عامل بالظن ؛ وإلا فكيف يوفق بأن هؤلاء القوم لا يبلغون عنه إلا ما يريدون ؟
قلت : إن الرسول صلى الله عليه وسلم إن لم يعلم ذلك بطريق الوحي كما كان
يخبره الوحي بحالات كثيرة مثل هذه عن أصحابه البعيدين عنه كما هو مشهور في
سيرته صلى الله عليه وسلم ، فقد كان صلى الله عليه وسلم يعلم مِن هؤلاء المبعوثين
الصدق والإيمان وقوة العقل والعلم بالدين ، وقد اختبرهم بنفسه زمنًا طويلاً حتى علم
أخلاقهم وأميالهم وأحوالهم وسبر غورهم ، فهو يكاد يجزم بصدقهم وإخلاصهم كما
يجزم أحدنا - وإن كان نظره أضعف من نظر الرسول صلى الله عليه وسلم -
بصدق صاحبه وإخلاصه بعد معاشرته له زمنًا طويلاً في أحوال مختلفة . وإن بقي
في النفس أدنى شكّ في ذلك أو تجويز للخطأ أو النسيان عليهم ، فهؤلاء المبعوثون
ما كانوا يذهبون إلى جهات منقطعة عن المسلمين ، بل كان بينهم وبين المسلمين
صلة وثيقة وعلاقة كبيرة ، فكان يأتي منهم الكثيرون إلى المسلمين مرات عديدة في
السنة للزيارة والتعارف والحج والتجارة وغير ذلك ، ويذهب إليهم المسلمون لمثل
هذه الأغراض ، فإذا حاد المبعوثون عن شيء مما تلقوه عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أو أخطئوا فيه وصل ذلك إلى علم رسول الله صلى الله عليه وسلم في
أقرب وقت ، فيصحح هذا الخطأ أو يعزلهم أو يعاقبهم . فبالوحي وبثقته الأكيدة بمن
أرسله بعد التحقق منه زمنًا طويلاً ، وبإخبار الذاهبين إليهم والآتين مِن عندِهم يكون
الرسول صلى الله عليه وسلم واقفًا على ما يبلغ عنه في تلك الجهات ومهيمنًا عليه ،
فإن حصل خطأ أو كذب في شيء منه فالعاملون به مطيعون لأولياء أمورهم وليسوا
عاملين بالظن ، ولا يلبث هذا الخطأ أو الكذب إلا قليلاً ، فيمنعه رسول الله صلى الله
عليه وسلم في أقرب وقت . وهذه الحالة ضرورية في مبدأ الدعوة حتى يعم الدين
تلك الجهات ، ويكون فيها وفي غيرها مشهورًا مستفيضًا متواترًا ، فلا يتطرق لشيء
منه بعد ذلك ريب أو شك ، وهي تشبه حالة التلاميذ مع معلمي المدارس وتلقيهم
العلم عنهم وعملهم به ، فإن الأمة رقيبة عليهم ، فإن أخطئوا في شيء أو دسوا عليهم
أمرًا ، فسرعان ما يصل إلى علم الأمة وأولياء أمورها ، فيتلافونه في أقرب وقت .
أما أحاديث الآحاد عنه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته ، فهي تختلف عن ذلك
اختلافًا كبيرًا ؛ لأن رواتها ليسوا أولياء أمر المؤمنين حتى تجب طاعتهم من هذه
الوجهة ، ولم يثق بهم الرسول ، ولم يعرفهم ولم يُعيّنهم لهذا الأمر ولم يَقُمْ رقيبًا
عليهم ، لا بالوحي ولا بأخبار الناس عنهم ، فالفرق بين الحالتين عظيم .
أما رسله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك ، فالغرض من ذلك إلفات نظرهم
إليه وتنبيههم للبحث في دعوته وتشويقهم للنظر في أمره وحالته ، وإلا فلا يمكن
الإيمان لأجلها إلا بعد التثبت منها والتحقق من أمر الدعوة والداعي ، فهي كالتمهيد
للدعوة الحقيقية ، بوصول الدين إليهم متواترًا على أيدي الناس كما حصل بعد وفاته .
والخلاصة أن القرآن الشريف يذم العمل بالظن كثيرًا ، فلا يمكن أن الله
سبحانه وتعالى يلزم عباده المؤمنين بالعمل بما لا يوجب عندهم اليقين ، وإلا كان
أمرًا لهم بما يذم به غيرهم ، ويلومهم على اتباعه .
وحيث إن أحاديث الآحاد مِن حيثُ هي لا تفيد اليقين كما بيناه في الكلمة
الرابعة ، فلذا اشترطنا التواتر فيما يجب علينا الأخذ به في الدين ، فدليلنا على ذلك
مبنيّ على حكم العقل وما جاء به الكتاب العزيز .
( الكلمة السابعة ) معنى السنة ، وبيان وُجُوب العمل بها .
السنة في اللغة وفي اصطلاح السلف هي الخطة والطريقة المتبعة ، فسنته
صلى الله عليه وسلم هي طريقته التي جرى عليها في أعماله واقتدى به أصحابه فيها ،
وهي واجبة الاتباع حتمًا على كل مَن آمَنَ به وصدقه صلى الله عليه وسلم ، وهذا
هو المراد بما جاء في الحث على اتباع السنة في أقوال الصحابة والسلف رضوان
الله عليهم جميعًا ، كما لا يخفى على متأمل في أقوالهم ، ومن ذلك حديث : ( عليكم
بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ) أي عليكم بطريقتي وطريقة خلفائي
الراشدين مِن بعدي ، فلا نِزاعَ في أن اتباع طريقة النبي صلى الله عليه وسلم في
الدين هي واجبة على جميع أتباعه المؤمنين ، أما أقواله صلى الله عليه وسلم التي لم تكن طريقة متبعة له ولا لأصحابه ، فهي موضوع بحثنا ، وهي المقصودة
في مقالاتنا الأخيرة ، تلك التي رواها الآحاد وانفردوا بها ، ولو كانت واجبة الاتباع
لعلمها الناس جميعًا في عصره عليه السلام وجروا عليها في أعمالهم ، وهذا هو أدل دليل على أنها لم تكن دينًا عامًّا لجميع البشر ، بل هي خاصّة لمن وجهت
إليهم لأحوال خاصَّة وظروف مخصوصة أو أنها كانت للإرشاد والندب لا
للوجوب ، ولذلك لم يكن اتباعها عامًّا بينهم . فهناك فرق عظيم بين لفظ ( السنة )
ولفظ ( الأحاديث ) ويجب على كل باحث في هذا الموضوع أن يدرك هذا الفرق
جيدًا ، حتى لا يقع في الخلط والخبط . وقد أدرك الإمام مالك هذا الفرق ، فكان
- رضي الله عنه - يقدم عمل أهل المدينة على الأحاديث ، ويرد منها ما خالف
سنتهم التي ورثوها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو صحت أسانيدها ، وقد رد من ذلك مئات كثيرة .
أما تسمية الأحاديث مطلقًا بالسنة ، فهي من اصطلاح المتأخرين ، ولولا هذا
الاصطلاح لما احتجنا في مقالاتنا إلى تقييد لفظ السنة بقولنا ( العمليَّة ) فإن السنة
لا تكون إلا عمليَّة ، وأما القول الذي يقال ولا يكون مبدأً يجري عليه العمل دائمًا فلا
يسمى سنة عند المتقدمين .
فاتّباع سنة أي شخص ، هي الجري على منهجه والتزام طريقته ومبادئه
وأصوله ، وليس معنى ذلك أن يتقيد المتبع بكل جزئية من جزئيات كلام المتبوع ،
مثلاً قد أكون متبعًا لسنة الأستاذ الإمام رضي الله عنه في تفسير القرآن الحكيم ومع
ذلك أرى في بعض الآيات خلافَ ما يرى ، ولا يخرجني ذلك عن كوني متبعًا سنته ،
فإن سنته هي في ترك التقليد واستعمال العقل وعدم القول بالنسخ وتحري الحق
والصواب ، لا في التزام كل قول من أقواله التزامًا أعمى ، فكذلك ترك بعض أقواله
صلى الله عليه وسلم في الأمور الدنيوية المحضة ، وما حكم فيه بالرأي والاجتهاد ،
وما خالف المصلحة في زمننا لا يُخْرِج المسلمَ عن كونه متبعًا سنته صلى الله عليه
وسلم ، فإن سنته هي في اتباع الحق والصواب وتجنب الضار ومراعاة المصالح ،
كما دل عليه الكتاب العزيز ، وترادفت فيه الأخبار المتعددة المصادر المختلفة المبنى
المتحدة المغزى ، وكما جرى عليه عمل كبار المسلمين وعقلائهم في كل زمان
ومكان . فسنته صلى الله عليه وسلم هي في اتباع مبادئه الشريفة والجري على
خطته ومنهجه وإطاعته فيما أوحي به إليه ، أو ما وافق الصواب والمصلحة من
آرائه واجتهاداته ، وليست سنته في الجمود والتقليد والبعد عن العقل والتفكير ، كما
عليه أكثر المسلمين اليوم ، ولذلك كان أصحابه يخالفونه في كثير من المسائل في
حياته وكان عليه السلام يرجع عن رأيه لآرائهم ، ولذلك أمر بمشاورتهم ، وما قال
أحد بأن من خالفه منهم خرج عن سنته ، فإن سنته هي الشورى والتفكير ورعاية
مصالح العباد وتحري العدل والإنصاف وعدم الاستبداد بالرأي . وقد خالف أصحابه
رضوان الله عليهم في حياته وبعد مماته بعض أقواله وبعض ما حكم به مراعاة
للمصلحة ، ولولا خوفُ الإطالة لذكرت شيئًا من ذلك كثيرًا ، وقد وفيت هذا البحث
في رسالة لي طويلة وفقنا الله لطبعها عن قريب .
وسنته صلى الله عليه وسلم في الأمور تعلم من نصوص الكتاب العزيز ومما
تواتر بين المسلمين عنه قولاً وعملاً ومن مجموع ما رُوِي عنه من المصادر المختلفة
في المسائل المتعددة . فسنته معلومة للمسلمين باليقين وواجب اتباعها على جميع
المؤمنين . وهذا هو المراد بما جاء في الكتاب الكريم من الأمر باتباعه والاقتداء به
والجري على منهجه والاهتداء بهديه صلى الله عليه وسلم , وهو أيضًا المراد مما
ورد عن أصحابه وعن سلف المسلمين من القول بوجوب اتباع السنة النبوية .
وأما أخبار الآحاد التي لم يجر عليها العمل بلا انقطاع بين المسلمين فهي
موضوع النزاع في كل عصر وجيل ، كما يتضح لك من الكلمة الآتية :
( الكلمة الثامنة ) آراء أئمة المسلمين في أخبار الآحاد ، وما قالوه فيها ، وكيفية معاملة الصحابة لها .
( 1 ) قال الإمام أحمد بن حنبل ما معناه : إن الأحاديث الواردة في تفسير
عبارات القرآن الشريف لا أصل لها . كما نقله عنه الحافظ السيوطي في الإتقان .
( 2 ) وقال الإمام الشافعي : ( إن نسخ القرآن بالحديث لا يجوز ) .
( 3 ) وقالت الظاهرية : إن تخصيص عموم القرآن بها غير جائز ، وإن
العمل بها غير واجب .
( 4 ) وقال جمهور الأصوليين : ( إنها ظنية ) .
( 5 ) وقال جمهور المسلمين : ( إنه لا يجوز الأخذ بها في العقائد ) .
( 6 ) وقال كثير من الأئمة ، كالقاضي عياض : ( إنه لا يجب الأخذ بها في
المسائل الدنيوية المحضة ، ولو كانت موثوقًا بها ) .
( 7 ) وقال جميع المحدثين : ( إن الموضوع منها كثير ، وتمييزه عسير ،
وفي بعض الأحوال مستحيل ) راجع ما ذكرناه في الكلمة الرابعة .
( 8 ) وقال أبو حنيفة وأضرابه من أهل الرأي والقياس : ( إن الصحيح منها
قليل جدًّا ) حتى إنه لم يأخذ إلا ببضعة عشر حديثًا .
( 9 ) وقال مالك رضي الله عنه : ( إن عمل أهل المدينة مقدم عليها ) ,
وكذلك أهل الرأي والقياس يقدمون القياس الجلي عليها .
( 10 ) أجمع جمهور المسلمين على عدم تكفير من أنكر أي حديث منها .
( 11 ) إن تناقضها كثير ، ومعرفة ناسخها من منسوخها عسير أو مستحيل ،
وكذلك أكثر أسباب قولها .
( 12 ) قام الدليل الحسي على أن الله لم يتكفل بحفظها من التحريف والتبديل
والزيادة والنقصان .
( 13 ) لم يجمعها الصحابة ، ولم يتفقوا عليها .
( 14 ) لم يبلغوها إلى الأمم بالتواتر ، مع علمهم بأن اتباع الظن غير جائز
في الإسلام إلا لضرورة .
( 15 ) إنهم نُهوا عن كتابتها ، وأُمروا بإحراق ما كتبوه منها ، كما في
الروايات التي صحت عندكم .
( 16 ) قد نهى بعضهم عن التحديث وكرهه ، وكذلك علماء التابعين .
( 17 ) كان أفاضلهم أقل الناس حديثًا ويصدفون عنه ، ولو كان واجبًا لَمَا
كان هذا حالهم .
( 18 ) من كان من الصحابة كثير الحديث ملوا منه ونهوه وزجروه ، كما
فعل عمر بأبي هريرة ، وشكوا فيه , وقالوا : إنه يضع الشيء في غير موضعه ،
ونسبوه للجنون ، كما في كتبكم .
( 19 ) إن أئمة المسلمين لم يتفقوا على الصحيح منها ، وما منهم من أحد إلا
خالف في مذهبه كثيرًا منها .
( 20 ) لم يعتن المسلمون بحفظها في صدورهم كما اعتنوا بحفظ القرآن
الشريف .
فإذا كان هذا حال الأحاديث وما قاله المسلمون فيها وما عملوه بها ، فأي فائدة
منها ترجون ؟ وأي ثقة بها تثقون ؟ وأي شيء خالفتُ فيه الإجماع أو ابتدعته حتى
أُرْمَى بالكفر أو المروق ؟ مع أن هذه المطاعن وأمثالها كثير لم يخل منها عصر
من عصور المسلمين ، ولم تصدر إلا منهم . فيجب علينا أن نقدر أخبار الآحاد
قدرها ولا يعمينا الجهل والتعصب عن حقيقة أمرها .
أما قول حضرة الأستاذ الفاضل الشيخ اليافعي في الجواب عن بعض هذه
المطاعن إن الصحابة اختلفوا في جمع القرآن وكتابته ، فهو لا يرد شبهة ولا
يدحض حجة . فإن القرآن الشريف من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
اليوم قد حفظ حفظًا جيدًا في الصدور ، لم يسبق له مثيل ولم يعرف عند أمة أخرى
في كتبها . وكُتِبَ في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبأمر منه عليه السلام
وبإملائه على ما عرفوه إذ ذاك من أنواع القرطاس ( كل ما يكتب عليه ) ولم يختلف
أحد منهم في وجوب كتابته ولم يمت عليه السلام إلا بعد أن كانت جميع سوره مرتبة
الآيات محفوظة في صدور الجماهير مكتوبة في سطورهم المحفوظة عندهم ، وإنما
كان اختلافهم بعد وفاته عليه السلام في كيفية جمعه على طريقة لم يكونوا يعرفونها
من قبل وما كانوا عهدوها ، وهي كتابته على صحف من الكاغد ( كالورق الآن )
مع ضم هذه الصحف بعضها إلى بعض بالطريقة المعروفة اليوم في عمل الكتب ،
فإن الكاغد وعَمَلَ ما نسميه الآن كتابًا ، ما كان معروفًا لهم في زمن النبي صلى الله
عليه وسلم ، وإنما هو رقي في الصناعة التابع لرقيهم في المدنية بعد وفاته عليه
السلام ، ولو كانوا علموه من قبل لعملوا المصاحف في زمنه ، ولما اختلف في ذلك
منهم اثنان ( راجع مقالة تاريخ المصاحف ، المنشورة سابقًا في المنار ) . ولما لم
يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم بتعليم الناس شيئًا من الصناعات وغيرها من
أمورهم الدنيوية التي يمكنهم أن يصلوا إليها بعقولهم وتدرجهم في سلم المدنية
واقتباسهم أشياء من الأمم الأخرى الراقية ، فلذا لم يوح إليه عليه الصلاة والسلام
بتعليمهم صناعة ما نسميه الآن ورقًا وكتبًا ، كما أنه لم يوح إليه بتعليمهم أي صناعة
أخرى ، بل تركوا وشأنهم حتى يصلوا إلى ذلك بمرور الزمان .
والخلاصة أن القرآن محفوظ في الصدور مكتوب في السطور من عهد
الرسول صلى الله عليه وسلم وبأمره ، لم يختلف في ذلك أحد ، وإنما الاختلاف كان
في مجاراة الترقي في الصناعة . وقد ترقت صناعة عمل المصاحف شيئًا فشيئًا ،
كما ترقّى كل شيء آخر حتى وصلت إلى ما وصلت إليه في عصرنا الحالي .
وأما كتابة الأحاديث ، فقد كتبت فيها مرات ، وأفاض القول فيها بعلمه الواسع ،
أستاذ المنار ، فلا حاجة للتكرار .
( الكلمة التاسعة ) أسباب استشهادي بأحاديث الآحاد في مقالاتي .
اعلم بأن من الحجج ما يسمى ( بالإقناعي ) ، وذلك أن تحتج على الخصم بما
هو مسلم عنده ، كأن تحتج على النصراني ببعض ما في الإنجيل الحالي ، وإن كنت
غير معتقد له . فأنا أورد الأحاديث غالبًا لا لأثبت معتقدي لنفسي ، بل لأقنع من لا
يقنع إلا بها ، ولست أعول في براهيني القطعية إلا على ما يفيد اليقين ، فما
أذكره من الأحاديث إما لإقناع المسلمين وإلزامهم بها أو التكثير من الأدلة بضم ضعيفها
إلى قويها ليقوى بها مع استعمال مبدأ الاستنتاج والنقد فيها . وقد اتبعت في ذلك
خطة علماء التاريخ العصريين ، فإنهم يؤيدون آراءهم في التاريخ القديم ببعض ما
يعثرون عليه من الروايات ولو كانت من الأساطير ويستنبطون منها ما لا يستنبطه
الجهلاء من الحقائق بعد أن يستنيروا في دياجير ظلماتها بمصابيح من نور العقل
والعلم ، فإنه جرت عادة الناس بتضمين حكاياتهم شيئًا من حقائق التاريخ فيأتي أهل
النظر والبحث فيعرفونها ويلتقطونها من وسط الخرافات ويتثبتون من صحة ما
التقطوه بالأقيسة المنطقية والقضايا العقلية ، فإذا أراد بعضهم أن يعرف مثلاً أصل
الحجر الأسود عندنا ، عمد إلى رواياتنا فيه وحكها بمحك النقد والعقل ، فإذا سمع
رواية ( إن الله استودع الحجر أبا قبيس حين أغرق الله الأرض زمن نوح عليه السلام
وقال له : إذا رأيت خليلي يبني بيتي فأخرجه له ، فلما انتهى إبراهيم لمحل الحجر ،
نادى أبو قبيس إبراهيم فجاء فحفر عنه فجعله في البيت ) استنتج منها بعد أن يزيل
قشورها وأوهامها حقيقة هذا الحجر ، وهو أن أصله قطعة أخذها إبراهيم عليه
السلام من أحجار جبل أبي قبيس السوداء القريبة من الكعبة ، ووضعها في أحد
أركان الكعبة علامة على الركن الذي يبتدأ منه بالطواف ليعرف الطائف كم
مرة طاف بالبيت ، وليبتدئ الناس بالطواف من نقطة واحدة ، حفظًا للنظام وتسهيلاً
للطائفين[2] ، وكذلك يأخذ علماء التاريخ كثيرًا من حقائق تاريخ اليونان مثلاً مما
يجدونه عندهم من الأشعار والحكايات القديمة ، كإلياذة ( هومير ) ، فإذا كان
هذا ما يفعله العلماء في الأساطير ، فهل يستنكر مني أن أستشهد لقوم بأحاديثهم
الصحيحة المسلمة عندهم وهي التي يعولون عليها في مذاهبهم ؟ وماذا يكون قولهم إذا
لم أؤيد مقالتي بشيء من ذلك ؟ أما كانوا يقولون : إنها محض رأي له غير مؤيد
بشيء من النقول ، ولو كان صحيحًا ما خلت أحاديثنا منه ، إنها تكاد لا تغادر
شيئًا ( إني والله لفي حيرة من أمرهم ! ! ) على أن كثيرًا مما أذكره في مقالاتي مروي
عن كثير من الصحابة بالأسانيد المسماة عندهم صحيحة ، والروايات فيه
مترادفة تكاد توجب اليقين والقول بأنها جميعًا موضوعة لا يكفي عند الباحثين في
نشوء الروايات لإرواء غلتهم وإشباع نَهْمَتهم في العلم ، فلا بُدَّ إذًا من البحث
والتنقيب . ولو رفض المسلمون الآن ما ألزمهم به من الأحاديث بعد تدوينهم لها
في كتبهم واعتبارهم لها صحيحة أفما يكونون متعسفين ؟ وكيف إذًا يكون
التمييز عندهم بين الصحيح والضعيف والموضوع ؟ فاللهم اجعل العقل رائدنا .
وأَنِرْ بصائِرَنا . واجعل كتابك هادينا ومرشدنا . ونبيك إمامنا وقدوتنا ولا تخزنا يوم
يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلى مَن أتى الله بقلب سليم .
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) تابع لما نشر في (قسم المقالات) من مقالة الدكتور محمد توفيق أفندي صدقي .
(2) حاشية للكاتب - تقبيل الحجر الأسود هو كتقبيل آثار رجال التاريخ العظام احترامًا لهم وإجلالاً لشأنهم وحبًّا فيهم ، كمن يقبل سيف نابليون أو دواة شكسبير وقلمه إن وجدت ، ولكل أمة آثار موروثة عن رجالهم العظام ويقبلونها ، وهذا الحجر هو من آثار إبراهيم في بنائه الكعبة ، ومحفوظ بالتواتر في الأمة العربية ، فلذا قبله رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قبل غيره من أركان الكعبة واتبعه المسلمون في ذلك إلى اليوم ، وإن لم يقل أحد منهم بوجوب ذلك ، ولم يذكر هذا الحجر في القرآن الشريف ، ومن اعتقد أن شيئًا من هذه الآثار يضر أو ينفع فقد خرج عن عقله وكفر بالله ورسله ، ومن العجيب أن الإفرنج يسمون تقبيلنا لهذا الحجر عبادة - مع أن التقبيل لا يسميه أحد في الدنيا عبادة - ولا يسمون سجودهم لصورهم وصلبانهم وقديسيهم وقديساتهم والخبز في قربانهم ، لا يسمون ذلك عبادة لهذه الأشياء ، مع أنه شتان ما بين السجود والتقبيل ، فانظر وتعجب ! !