الجمعة، 31 مايو 2013

قسم المقالات : من خطبنا الإسلامية فى الديار السورية (2) بقلم محمد رشيد رضا

من خطبنا الإسلامية فى الديار السورية (2)


الإسلام هو الذي هدى المسلمين إلى العلم ، وكانت عنايتهم بالعلوم تنمو بنمو
سلطانهم وقوة شوكتهم ، ثم دالت دولة العلم ، ودولة السيادة والحكم ، وضَعُفَ الدين
مع ضعف العلوم العقلية ، وقام الاستبداد يحارب العلم ويضطهده ، فإن الحاكم
المستبد يرى من مصلحته أن تكون الأمة جاهلة ذليلةً ، إذ الاستبداد في الأمة العالمة
بحقوقها أمر عسير غير يسير . قال حكيمنا السيد جمال الدين : العاقل لا يظلم ولا
سِيَّمَا إذا كان أمة . فهذا سبب ما كنتم تقاسون من محاربة الحكومة التي سقطت منذ
عهد قريب للعلم ، واضطهادها للمتهمين به وهو عندها أشد الجرائم ! ! !
أتى على المسلمين حين من الدهر وهم لا يجارون أحدًا من الأمم في العلوم
والفنون ، وقد ذاقوا مرارة ذلك ورأوا سوء عاقبته في أنفسهم ودولتهم ، فصاروا
يفتنون من كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون ، كما قال تعالى في
المنافقين : تنقص بلادهم من أطرافها وتسقط في أيدي الأجانب ولاية بعد ولاية بل
مملكة بعد مملكة وهم لا يهتدون إلى سبب ذلك ، ولا إلى طريق تلافيه ، بل يعتمدون
ويتكلون على ما لا يتكل عليه من كرامات الأولياء ومدد الأموات ! ولم يجعل الله
ذلك سببًا للنصر ، بل أمر بإعداد ما يستطاع من القوة ، حتى في زمن النبي صلى
الله عليه وسلم المؤيد بالآيات الإلهية .
أذكر لكم من الشواهد على ذلك ما يُؤْثَرُ عن أهل بخارى : فإنهم أُنْذِرُوا هجمة
روسيا عليهم ، فلم يعدوا لها ما يستطيعون من قوة ، بل هزِئوا بذلك وسخروا ،
وقالوا إن بلادنا في حماية شاه نقشبند ! ( هو الولي الذي تعزى إليه الطريقة
النقشبندية ) فلما زحف عليهم جيش الروس ، لم يملكوا من نجدة هذا الولي لهم
شيئًا ، بل انقلبوا على أعقابهم خاسرين ، وخسروا استقلالهم وما كانوا معتبرين .
فيا أيها الناس تأملوا وتدبروا : إذا تركت الأمة أن تعد لأعدائها ما تستطيع من
قوة ، كما أمر الله تعالى وكما تقتضي طبيعة الاجتماع ، واتكلت في حياتها السياسية
والاجتماعية على الأموات ، ألا تكون جديرةً بالموت دون الحياة ؟ بلى ، وهذه هي
حالنا في هذه القرون الأخيرة ، ولكن الله تعالى وعد بأن يظهر هذا الدين ، وأن لا
يذر المؤمنين على ما هم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ، ولذلك سخر لنا من
المجددين من يعلمنا كيف نحفظ شرف الإسلام ، ونكون أعزاءَ بين الأنام .
ظهر بين المسلمين أقوام تعلموا العلوم الأوربية وعرفوا أحوال العالم ، فرأوا
أن جميع الأمم تقوى والمسلمين يضعفون ، ودول النصرانية والوثنية تترقى وتعز ،
ودول الإسلام تتدلى وتذل ، وبحثوا في سبب ذلك فرأوا أن المسلمين مؤلفون من كل
جنس ، ومتبوئون لكل أرض ، فلا يمكن أن يكون سبب ضعفهم في كل قطر عدم
استعداد جنسهم ، ولا شيء يرجع إلى طبيعة أرضهم ، ولم يروا سببًا مشتركًا بينهم
لا يشاركهم فيه غيرهم ، إلا تقاليد دينهم ، فقالوا - كما قال بعض أساتذتهم من
الإفرنج - : إن دين المسلمين هو سبب انحطاطهم ولا مطمع لهم في الارتقاء إلا
بتركه والأخذ بما عليه أوربا ! ! وعلى هذا الرأي الفاسد كثير من نابتة الترك
والهنود والمصريين والتونسيين .
فهذا صنف واقف على طرف مقابل للطرف الذي عليه السواد الأعظم الذي
يمقت العلوم الطبيعية والرياضية والاجتماعية التي عليها مدار العمران ، والصنفان
يتجاذبان سائر المسلمين ، ذاك يدعوهم إلى دنيا بغير دين ، وذاك يمسكهم ليبقوا على
ما هم عليه ، وما هم بباقين .
بين هذين قامت طائفة معتدلة وقفت موقف الوسط بين الفريقين ، فالتفتت إلى
هؤلاء الذين يريدون أن يبقى المسلمون على ما هم عليه حرصًا على دينهم ، وقالت
لهم : إن نيتكم صالحة ولكنكم تنكبتم الطريق لتعليم الدين وحفظه ، حتى صار بين
أمتكم وبين هذه الكتب الكلامية والفقهية مراحل كثيرة ، فلا هم يطلبونها ولا أنتم
قادرون على حملهم على تعلمها والأخذ بما فيها ، فيجب أن تبحثوا معنا عن طريق
آخر لتعليم الدين بسهولة تليق بفطرة الناس في أفرادهم وجمعياتهم ، كما أخطأتم في
ظنكم أن العلوم التي تبنى عليها الأعمال تنافي الدين ، فنفرتم المسلمين عما به قوام
أمتهم ودولتهم .
والتفتت إلى أولئك الذين يريدون الدنيا بترك الدين ، فقالت لهم : إن قصدكم
إلى تقوية الأمة والدولة حسن ولكنكم تبنون من جهة وتهدمون من جهة ، فيقلّ نفعكم
فيما تبنون لعدم الثقة بكم ، ويعظم ضرركم بما تهدمون من أساس التقوى والفضيلة
مع التقاليد والبدع القبيحة .
هذه الطائفة هي التي تدعو إلى حقيقة الإسلام الذي يجمع لأهله بين مصالح
الدنيا والآخرة ومطالب الروح والجسد . وأول من دعا إلى ذلك في بلادنا العربية ،
السيد جمال الدين الأفغاني رحمه الله تعالى . طَرَقَ سمْعَ كثير منكم اسمُ هذا الرجل
الذي هز الآفاق هزًّا ، ولكن يوجد فيكم من لا يعرف شيئًا من أنبائه الصحيحة ،
لكثرة خوض أهل الأهواء فيها ، وقد كان مخاطبكم ممن استقرأ أخباره ، وتتبع آثاره ،
وجمع كثيرًا مما كتبه ، وقد علمت من ذلك أنه دعا إلى حقيقة الإسلام وإحياء
القرآن في قلوب الناس ، ودعوتهم به إلى ما يحييهم ، ويجعلهم أمة عزيزة ، ذات
دولة أو دول قوية ، ولكنه قد أنفق أكثر أيام عمره في السياسة ، لما رأى أن الملوك
يقاومون هذه الدعوة ، لأن البلاد التي تحكم بالاستبداد ، لا مقام فيها للإصلاح
والاستقلال .
بالله عليكم كيف يرضى الحاكم المستبد بالدعوة إلى هداية القرآن الذي يجعل
أمر المسلمين شورى بينهم ، وإنما استبداده عبارة عن جعل أمرهم بيده وحده ،
وجعلهم عبيدًا خاضعين له ؟ كيف يرضى بأن يكون شأنه في سياستهم كشأن النبي
صلى الله عليه وسلم إذ كان لا يبرم أمرًا من الأمور العامة إلا بعد الشورى ، حتى
إنه كان يعمل برأي الجمهور وإن خالف رأيه ورأي بعض كبراء أصحابه ، كما فعل
يوم أُحُد ؟ ! ! ( وذكرنا ملخص الخبر فيها في الخطبة ) ألا إن أولئك المستبدين
يحاولون أن تكون رتبتهم فوق رتبة النبي عليه الصلاة والسلام وهم لا يصلحون أن
يكونوا خَدَمَة له ، بل يحاولون أن يكونوا آلهة تعبد ، يستخفون الأمة ويستعبدونها
بالفعل ، وإن وجدوا مجال القول ذا سَعَة صرحوا بما يودعه الاستبداد في نفوسهم ،
كما فعل الذي قال : ( أنا ربكم الأعلى ) .
لذلك أقول لكم عن خبرة وبصيرة : إن الذي دعا السيد جمال الدين إلى
الاشتغال بالسياسة هو اعتقاده أن الدعوة لا تكون إلا حيث تكون الحرية وحكومة
الشورى ، ولهذا قام في مصر بتأسيس حزب له نفخ فيه روح حب الحكم الذاتي أو
النيابي ، وكان من أعضاء حزبه توفيق باشا ولي العهد للإمارة المصرية يومئذ ، وقد
عاهده على أن يجعل لمصر - إذ يصير الأمر إليه - مجلسًا نيابيًّا ويحول الحكومة
بذلك من النوع الاستبدادي المطلق إلى النوع الشوري المقيد ، ولكنه لم يكد يستقر
على كرسي الأمر حتى نَفَى السيد جمال الدين من مصر حبًّا في الاستبداد ، وتلذذًا
بالاستعباد . ولكن السيد لم يمل ولم ييأس ، بل صبر ينتهز الفرص ، فجذبته الأيام
إلى بلاد الفرس ، فاستأنف فيها العمل لإنشاء حكومة الشورى فنفاه الشاه من البلاد ،
ولقي من البلاء في ذلك ما لم يلقه إلا قليل من العباد ، ثم قذفت به المقادير إلى
الأستانة ، فأحسن السلطان إليه ، حتى طمع فيه ، ولكنه ما عتم أن يئس منه ، حتى
مات هناك غير راض ولا مَرْضِيّ عنه ، هكذا قضى حياته في التطويف في البلاد
ولم يتخذ له زوجة ولا جنح إلى شيء من حظوظ الدنيا .
كان للسيد مريدون كثيرون يَرِدُونَ ينبوع معارفه ، ولكن لم يصدر أحد منهم
ريان من مشربه ، ويثبت على مذهبه ، إلا الشيخ محمد عبده ، فقد كان هذا الإمام
الجليل تربى تربية دينية صحيحة إلا ما كان من غلوه في العبادة ، فقد مكث زمنًا
طويلاً لا يكلم أحدًا ، وزمنًا أطول من ذلك الزمن لا ينظر إلا إلى الأرض ولا يهتم
بغير إصلاح نفسه ، إلا ما كان من درس يقرؤه لإخوانه المجاورين في الأزهر ، ثم
رجع إلى الاعتدال ، ولكن لم يفارقه الخشوع ورقة القلب . ولقد دخلت عليه مرة
بيته فرأيته يطالع في السيرة النبوية ودموعه تجري على لحيته ، خشوعًا واعتبارًا
بما لقيه - صلى الله عليه وسلم - من الأذى في سبيل ربه ، وكان في كل سنة أو
أكثر يعتريه تنبه عصبي من إطالة الفكر في سوء حال المسلمين ، حتى همّ في ليلة
من ليالي رمضان أن يطيع هذا الوجدان فينزل إلى جوار الأزبكية حيثُ مجامعُ اللهو
وينادي : أيها المسلمون , ماذا رأيتم في دينكم من العيب حتى تركتموه ؟ أخبروني
لعلّي أبين لكم خطأكم . وأرسل إلي مرة يخبرني بأن مرضًا ألم به فمنعه النزول من
عين شمس إلى القاهرة ، فجئته فإذا هو في حجرة النوم وإذا بين يديه ثلاثة كتب
مفتوحة ينظر فيها ، فقلت له ما هذه الكتب وما هذا المرض ؟ فقال هذه كتب من
أصول الفقه أشغل نفسي بمباحثها وعباراتها المعقدة عن القرآن ، فقد أطلت الفكر فيه
وفي أحوال المسلمين فحصل لي التنبه العصبي الذي تعرف حتى أثر في ظاهر
جلدي ، فإذا أنا وضعت إصبعي على جبهتي أتألم .
اشتغل الأستاذ الإمام بالسياسة زمنًا مع السيد ثم وجد في أواخر عمره حرية في
مصر فترك السياسة واشتغل بالإصلاح الديني والاجتماعي ، واشتهر أمره بذلك حتى
عرفه الأقارب والأجانب . أليس من العجب أن يوجد في كُتَّاب فرنسا من يشهد بأن
طريقة الأستاذ الإمام هي الطريقة المثلى لإصلاح حال المسلمين ، ويوجد في
المسلمين أنفسهم من يقول بضرر تعاليمه عن جهل وغباوة ، أو تقليد للمرجفين عن
بغي وحسد .
نشرت جريدة الأهرام منذ شهرين مقالة مترجمة عن جريدة الطان الفرنسية
الشهيرة جاء فيها : إن المسلمين في تونس ثلاث طبقات ( الأولى الجامدة ) وهي
التي تحرص على بقاء المسلمين على ما هم عليه ، وتنفر من العلوم العصرية
والمدنية الغربية وأهلها هم الأكثرون .
( الثانية المارقة ) وهي التي تنكر الدين ولا ترى أن تقف عند حدوده في
شيء ، وأهلها هم الأقلون ، وهم يخفون مذهبهم هذا لضعفهم ، ولا يرجى منهم خير
لأمتهم .
( الثالثة المعتدلة ) وهي التي تعمل لترقية المسلمين في العلوم والمدنية مع
المحافظة على دين الإسلام ، وهي التي يُرْجَى منها الخير للبلاد التونسية ، وأهلها
يتبعون التعاليم التي كان يلقيها في مصر الشيخ محمد عبده ، والتي تنشرها بينهم
مجلة المنار . وقد كتب أكثر من واحد من الإفرنج مثل هذا عن مسلمي مصر ، وهو
ما كتبه لورد كرومر في تقاريره وتاريخه لمصر .
فهذه طريقتنا أيها الإخوان في الإصلاح . نريد أن نجمع لأمتنا بين مصالح
الدنيا والآخرة ، وقد عرف هذا كُتَّاب الإفرنج واعترفوا بفائدته فلا ينبغي للمسلمين
أنفسهم أن يجهلوه !
نحن في حاجة عظيمة إلى العلوم والفنون والصناعات العصرية التي تقوى بها
أمتنا وتعتز بها دولتنا . ولا يكون الخير في ذلك تامًّا إلا إذا أقمنا معه أصول ديننا ،
وهي القرآن الحكيم والسنة السنية التي جرى عليها سلفنا الصالح ، ولا تنافي بين
الأمرين ، فنحن إذا لم نجمع بين مصالح الدنيا وهداية الدين لا تقوم لنا قائمة . فهذه
الطريقة الإصلاحية التي دعانا إليها حكيما الإسلام السيد جمال الدين والشيخ محمد
عبده هي التي يدعو إليها المنار ويناضل عنها ، وهو مستعد - بمعونة الله تعالى -
للتوفيق بين العلوم الحقيقية وأصول المدنية الصحيحة ، وبين الكتاب والسنة ، ومَنْ
اشتبه عليه شيء في ذلك فليكتب إليه به ، يفصله له تفصيلاً .
قد انتشرت دعوتنا هذه في جميع الأقطار ، حتى أن جماعة من علماء الترك
أنشأوا مجلة إسلامية في الآستانة سمّوها ( صراط مستقيم ) فكتبوا إلي يطلبون
مجلدات المنار كلها ليستعينوا بها على خدمتهم هذه ، فهم على علم بطريقتنا في
الإصلاح على كون المنار كان ممنوعًا عنهم ، وقلما يصل إلى الأستانة جزء منه ،
فندعو جميع علماء المسلمين هنا وفي كل مكان إلى هذه الطريقة ، بل ندعو إليها كل
مسلم { وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى } ( المائدة : 2 ) ، وينبغي لكل مسلم أن يكون
له حظ من إصلاح حال أمته في دِينها ودُنياها ، فمنهم من يدعو ومنهم من يستجيب
للداعي ومنهم من يساعده بحاله ، ومنهم من يساعده بماله ، والسلام على من اتبع
الهدى ، ورجح العقل على الهوى ، اهـ ما كتبه ذلك الأديب من الخطبة مع تصحيح
وتوضيح وزيادة فاتته .
( استدراك ) بعد النزول عن المنبر تذكرت ما كنت عازمًا عليه من التنويه
بصديقنا عبد الرحمن أفندي الكواكبي ، فذكرت فضله بمساعدة الإصلاح الديني
والاجتماعي بكتابه ( سجل جمعية أم القرى ) والإصلاح السياسي بكتابه ( طبائع
الاستبداد ) رحمه الله تعالى وأحسن جزاءه .
((يتبع بمقال تالٍ))