الأحد، 7 أبريل 2013

قسم المقالات : خديجة أم المؤمنين ( مقدمة ) بقلم عبد الحميد الزهراوى

خديجة أم المؤمنين ( مقدمة )


 الرواية الأولى ( خديجة أم المؤمنين )
وسننشرها بالتدريج ، وهاك مقدمتها في هذا الجزء :
خديجة أم المؤمنين
( 1 )
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
قبل ثلاثة عشر قرنًا على الحساب القمري حدث في الكون حادث عظيم جدًّا
لم يحدث بعده مثله إلى الآن ، وقد كان له دويّ قويّ وأثر كبير في آسيا وأوربا
وأفريقيا ، وخلفه انقلاب عظيم في ممالك الأرض ، وتغير جسيم في أحوال الأمم
والشعوب . ذلك الحادث هو قيام العرب بعقيدة جديدة وانضمامهم جميعًا إلى كلمة
النبي الذي قام فيهم منهم وهو محمد عليه الصلاة والسلام , وشروعهم جميعًا بالهجوم
على الممالك ، وفوزهم بهذا الهجوم ، وانتصارهم وغلبتهم على الأمم , وانضمام أمم
كثيرة إلى عقيدتهم وتكوّن ملكهم العظيم من حدود الهند إلى البحر الأطلانتيكي شرقًا
وغربًا , ومن سواحل البحر الأحمر إلى سواحل بحر قزوين شمالاً وجنوبًا في أسرع
ما عرف في التاريخ كله من الفتوحات الكبيرة السريعة .
هذا الحادث العظيم يتلقاه بعض الناس بغير تفكر , كأنه معتاد الحدوث كثيرًا
فلا يبحث هؤلاء عن سر حدوثه , ولا يريدون أن يستفيدوا من التدبر والتفكر بسر
ذلك النجاح العظيم الذي أوتيه أولئك القوم بسرعة جديرة أن نشبهها بلمح البصر .
وبعضهم يتلقاه كما هو , أي : يفهم أنه حادث من أكبر الأحداث التي حدثت في الدنيا ,
ويراه جديرًا بالبحث والتأمل وإمعان النظر , ولدى التأمل نجد هناك جزئين تمَّ
بهما هذا الحادث العظيم ؛ الأول : النبي محمد عليه الصلاة والسلام , والثاني :
الذين آمنوا به ونصروه من العرب ، وبديهي أن أول مؤمن به هو صاحب الفضل
الأول بعد النبي في إقامة هذا الصرح العظيم .
ومن الأمور التي يحق أن يفخر بها جنس النساء أن هذا الفضل الأول - أي :
السبق بالإيمان به والموافقة له - كان نصيب سيدة من أشراف قومه هي زوجته السيدة
خديجة بنت خويلد من قريش ، ولما كانت سيرة هذه السيدة الشريفة المساعدة في وضع
الأحجار الأولى من هذا الحادث العظيم لا تخلو بالبداهة من فوائد جسيمة أزمعت أن
أقدم في هذه الأوراق لمحبي الفوائد الأدبية والاجتماعية والسياسية والتاريخية أعظم
هدية مقتطفًا هذه الثمرات من دوحة حياة هذه السيدة الجليلة , ولكن رأيت من اللازم
جدًّا قبل دخولي بالقارئ على سيرتها أن أمر به مرة على قومها العرب عامة ، ثم
قريش خاصة ؛ فإن تعرفه بهم يساعده على معرفة هذه السيدة الجليلة .
* * *
العرب
العرب كسائر الأمم : أوائلهم مجهولة ، وأحوالهم منذ عرفوا معروفة . نقف
الآن عند هاتين الكلمتين ونلتفت قليلاً إلى مبحث لطيف نختصر فيه الكلام , ثم
نعود إلى سياق حديثنا .
يزعم كثير من الأقوام أنهم يعرفون أصول أمتهم إلى أبي البشر الأول , ومن
الأقوام من يزعمون أنهم يعرفون سلاسل أصول الأمم كلها حتى يصلوا بها إلى
ذلك الأصل الأول .
ومن التزم التحقيق لا يستطيع أن يجزم بشيء مما يذكر عن تلك الأصول
والأوائل ، ومن تسامح بتصديق ما يُرْوَى يتشابه عليه الأمْر , فَيَحَارُ في تصديق
المتناقضات ، والترجيح بين المختلفات ، ومهما جنح الحريص على المعرفة إلى
الاستئناس بما يمكن قَبوله من الحكايات في هذا الباب لا يستغني عن طرح كثير
منها مما تقوم الأدلة على بطلانه .
لماذا حرص كل الشعوب على معرفة أسلافهم إلى أول أصل ؟ لا ندري ,
ولكن يلوح لنا أنه لذَّت للأكثرين دعوى هذه المعرفة ؛ فابتدع كل قوم أسطورة في
بيان أصلهم , ينقلها الآباء للأبناء , ويسطرونها في كتبهم تسطيرًا .
أما الباحثون عن أنساب الشعوب فلما يئسوا من هذه المعرفة قنعوا بأن
تكون لهم معرفة ما بأصول الشعوب التي وجدوها متقاربة في اللغات وغيرها من
المميزات , وقد آنسوا من كثرة البحث والاستئناس بالمنقول أن البشر المعروفين
اليوم هم من ثلاث سلالات :
( 1 ) السامية و ( 2 ) الإريانية و ( 3 ) التورانية .
وظاهر من هذا أنهم لما أرادوا وضع أسماء للأصول القليلة التي تفرعت منها
هذه الشعوب المعروفة تساهلوا بقبول بعض ما لفق في حكاية البشر مما قبل التاريخ ,
ولكن هذا لا يروي في الحقيقة غليل المحققين , ولا غليل الخياليين ؛ فسيظل
المحققون صابرين على جهل مثل هذا ، ويبقى الخياليون مستمسكين بما قد حُكي لهم
من قبلُ , وربما تسلى محب الحقيقة عن احتجابها برؤية تماثيلها , وما تماثيلها إلا
أساطير الأولين .
أما نحن , فنرى أنه لا حاجة للتسلي بتلك الأساطير ؛ لأننا إذا اشتهينا المعرفة
فأمامنا - مما قد نستطيع معرفته - ما ننفذ مراحل أعمارنا من غير أن نقطع في
ميدانه شوطًا بعيدًا ، وما الوصول إلى غاية في هذا الميدان مما يجوز أن نطمع
فيه .
فإذا أردنا الآن أن نعرف العرب فعلينا قبل كل شيء أن نريح أنفسنا من الطمع
بمعرفة سلسلتهم الآدمية إلى آدم , أو إلى نوح بالتفصيل , كما قطعنا طمعها من
معرفة ذلك في سائر الأمم ؛ فلهذا لا حاجة إلى ما يذكره علماء الأنساب من كون هذا
الجيل من الأجيال السامية إذ يقال : أَنَّى لهم العلم بسام أبي الشعوب السامية ؟ وكيف
يبني أهل الفن مبادئ على شيء غير معروف بالطرق التي تفيد العلم اليقيني ؟ وما
أغنى من يريد أن يعرف جيلاً كالعرب عن الاستعانة بأساطير الأولين .
يقول المؤرخون : إن العرب ثلاثة أقسام : ( 1 ) بائدة , و ( 2 ) عاربة ,
و ( 3 ) مستعربة . أما البائدة : فهم العرب الأُول الذين ذهبت عنا تفاصيل
أخبارهم ؛ لتقادم عهدهم وهم : عاد ، وثمود ، وطسم ، وجديس ، وجرهم الأولى ، وأما العرب العاربة فهم عرب اليمن من ولد قحطان ، والعرب المستعربة هم ولد إسماعيل بن إبراهيم .
هذا قولهم , وهو لا يعجبني ؛ لأن البائدة ليست موجودة حتى تعدّ , وإن كانوا
يعدونها ؛ لأن منها اشتق غيرها فهذه شهادة بأنها لم تَبِدْ . وقد ذكروا في هذا التقسيم
عرب اليمن من ولد قحطان قسمًا مستقلاًّ , ولم يذكروا لنا من هو قحطان هذا .
وذكروا أولاد إسماعيل بن إبراهيم قسمًا مستقلاًّ , ولم يأتوا بدليل قويم على أنه
تفرع من إسماعيل ذرية مستقلة هم العرب المستعربة . وَجُلّ ما ذكروه أن إسماعيل
الذي كان غريبًا في جوار مكة المكرمة تزوج بامرأة عربية من تلك القبائل التي كانت
حولها . فهل انقطع نسل تلك القبائل حتى أصبح لا يذكر إذا ذكر العرب , ثم تبارك
نسل إسماعيل الغريب وحده حتى صار قسمًا مستقلاًّ هو ثالث ثلاثة أو ثاني اثنين إذا
ذكر العرب ؟ لسنا ندري ولكننا نعرف أن هذا من جملة الأقوال التي تكتسب بكثرة
الموافقة في مرور القرون صبغة لا تزول , فتغر الأكثرين وهي في الحقيقة لا تصبر
على النقد والحك , فليت أولي الألباب يكثرون من حك هذه المشهورات .
وإنما يعجبني جدًّا في هذا الباب ما روي من أن النبي العربي - عليه السلام -
كان إذا انتسب يقف عند عدنان ولا يتجاوزه ؛ ويقول : ( كذب النسابون ) [1] ,
ويعني بذلك الذين يزعمون معرفة الأنساب إلى آدم أو إلى نوح .
أما الذي لا يغير النقد من سطوع جوهره شيئًا , فهو أن العرب يوم ظهر فيهم
النبي الذي أعلى شأنهم كانوا متفرقين في أقطار جزيرة العرب ومنقسمين قبائل
كل قبيلة تذكر لنفسها نسبًا فيه عند رجل معروف لديها ، وتمسك عما وراءه .
والمشهور أنَّ لقبائل الحجاز أصلاً ، ولقبائل اليمن أصلاً آخر ، وللقبائل بعد ذلك
أصول متفرعة من أحد الأصلين . وعرب العراق والشام ترجع إلى أحد هذين
الأصلين أيضًا ، فعدنان هو أبو عرب الحجاز غالبًا ، وقحطان هو أبو عرب اليمن
والعراق والشام غالبًا .
وإن قال قائل : كيف عرف هذا عن العرب وهم أهل بادية متشتتون متفرقون ،
متقاتلون متذابحون ، لا ملك لهم جامع ، ولا شرع فيهم وازع ، ولا يد لهم في
الأعمال الاجتماعية ، ولا نصيب لهم في الشئون السياسية ، وليس لهم قبل الإسلام
كتاب معروف تدون فيه أخبارهم ، وتذكر فيه مآثرهم وآثارهم ، فمن أجل ذلك لا
يجوز الثقة بما ينقل ويحكى عنهم ولسنا نعرفهم إلا بالإسلام ، فالإسلام قد جمع
الأوزاع من أهل هذه اللغة الواحدة على كلمة الغزو ، وهذا لا يثبت أن العرب كانوا
يعرفون لقبائلهم أصولاً , وأنهم كانوا يتعارفون بأنسابهم ؟ ؟
نقول لصاحب هذا القول : إن العرب لم يكونوا مجهولين ولا مجهولة أخبارهم .
فإذا قلنا : إنهم لم يكونوا أهل كتابة وتاريخ , فأشعارهم المحفوظة المنقولة هي
ديوان سيرهم ، وإذا لم نثق بنقل أشعارهم استطعنا أن نعرف العرب من تاريخ الأمم
المجاورة لهم . فالفرس قد سبروهم ؛ لأن من العرب ملوكًا كانوا لهم خاضعين ،
وقوادًا كانوا بأمرهم عاملين . والروم قد خبروهم ؛ لأن مملكتهم ملوكًا وقوادًا وولاة
من العرب ، والديانة المجوسية تعرفهم ؛ لأن منهم من كان على دين ملوك فارس ،
والكنائس تعرفت بهم ؛ لأن منهم نصارى بل قسيسين ورهبانًا ، وبيع اليهود ما
جهلتهم ، والفلسفة ما أنكرتهم ، والحضارة قد ألمت بمساكنهم ( في اليمن والعراق
والشام ) ومخالطة الأمم أخذوا بقسط منها وأخذت بقسط منهم ، فكيف يكون هذا
الجيل مجهولاً بعد كل هذا ؟
إن العرب كانوا معروفين . ومما عرفوا واشتهروا به الحرص على وحدتهم
القومية , فكانوا أمام الغريب أمة واحدة لها وحدة باللغة والنسب واتصال الديار
والعصبية عند التناصر , فإذا رجعوا إلى ما بينهم كانوا قبائل شتى تنتمي كل قبيلة
إلى أب لها , ثم يجمع قبائل كثيرة منهم أب واحد وهكذا .
ولا يستبعد من أمة محتاجة إلى التناصر وليس لها كسائر الأمم كتاب يجمع
أخبارهم وسير أبطالها أن يُعْنَى كثير من أفرادها بحفظ ذلك في أذهانهم , وأية أمة ممن
نرى يتناسى أفرادها سيرة أبطالهم .
وقد كان الرجل من العرب إذا عظم أمره أو كثر ماله انفرد بأهله , وانتمت
إليه الذرية , ووضعوا لأنفسهم نسبة جديدة من غير أن يضيعوا حظهم من
الارتباط بالنسبة الأولى ؛ لأن لهم عند التناصر حظًّا منها عظيمًا .
يذكر أحد علماء هذا الشأن أن العرب كانت قبائلهم أرحاء وجماجم ,
فالأرحاء هي القبائل التي أحرزت دورًا ومياهًا لم يكن للعرب مثلها , ولم تبرح من
وطانها , ودارت في دورها كالأرحاء على أقطابها إلا أن ينتجع بعضها في البرحاء
وعام الجدب . والجماجم هي القبائل التي يتفرع من كل واحدة منها قبائل اكتفت
بأسمائها , دون الانتساب إليها , فصارت كأنها جسد قائم , وكل عضو منها مكتف
باسم معروف بموضعه .
وكان علم النسب من جملة علوم العرب قد أثره عنهم أهل الرواية أول كل
شيء . ونقلوا فيه حكايات كثيرة منها ما ذكروه عن يزيد بن شيبان بن علقمة بن
زرارة بن عدس وذلك أنه رأى في مِنى رجلاً على راحلة , ومعه عشرة شباب ,
بأيديهم المحاجن , ينحون الناس عنه , ويوسعون له , فدنا منه , وقال له : ممن
الرجل ؟ فقال : ( إني رجل من مَهْرَة ممن يسكن الشجر ) قال يزيد : فكرهته ,
ووليت عنه . فناداني من ورائي : ما لك ؟ قلت : ( لست من قومي , ولست تعرفني
ولا أعرفك ) . قال : ( إن كنت من كرام العرب فسأعرفك ) قال يزيد : فكررت
عليه راحلتي . وقلت : ( إني من كرام العرب ) . قال : ( فممن أنت ؟ ) قلت :
( مِن مُضَر ) قال : ( فمن الفرسان أنت , أم من الأرحاء ؟ ) , فعلمت أنه أراد
بالفرسان قيسًا وبالأرحاء خندفًا . فقلت : ( بل من الأرحاء ) قال : ( أنت امرؤ من
خندف ؟ ) قلت : ( نعم ) . قال : ( من الأرومة أنت , أم من الجماجم ؟ ) , فعلمت
أنه أراد بالأرومة خزيمة وبالجماجم بني أدّ بن طابخة قلت : ( بل من الجماجم ) .
قال : ( فأنت امرؤ من بني أدّ بن طابخة ) قلت : ( أجل ) قال : ( فمن الدواني أنت ,
أم من الصميم ؟ ) فعلمت أنه أراد بالدواني الرباب ومُزَيْنة وبالصميم بني تميم . قلت :
( من الصميم ) . قال : ( فأنت إذًا من بني تميم ) . قلت : ( أجل ) . قال : ( فمِن
الأكثرين , أم من الأقلين , أو من إخوانهم الآخرين ؟ ) فعلمت أنه أراد بالأكثرين
ولد زيد , وبالأقلين ولد الحارث , وبإخوانهم الآخرين بني عمر وبني تميم . قلت :
( من الأكثرين ) قال : ( فأنت إذًا من ولد زيد ) . قلت : ( أجل ) قال : ( فمن
البحور أنت , أم الذرا , أم من الثماد ؟ ) فعلمت أنه أراد بالبحور بني سعد ,
وبالذرا بني مالك بن حنظلة ، وبالثماد امرأ القيس بن زيد . قلت : ( بل من الذرا )
قال : ( فأنت رجل من بني مالك بن حنظلة ) قلت : ( أجل ) قال : ( فمن السحاب
أنت , أم من الشهاب , أم من اللباب ؟ ) فعلمت أنه أراد بالسحاب : طهية ،
وبالشهاب : نهئلاً ، وباللباب : بني عبد الله بن دارم . فقلت له : ( من اللباب ) قال :
( فأنت من بني عبد الله بن دارم ) قلت : ( أجل ) قال : ( فمن البيوت أنت , أم من
الدوائر ؟ ) فعلمت أنه أراد بالبيوت : ولد زرارة , وبالدوائر : الأحلاف . قلت ( من
البيوت ) قال : ( فأنت يزيد بن شيبان بن علقمة بن زرارة بن عدس , وقد كان لأبيك
امرأتان فأيهما أمك ؟ ) .
ولقد غلط من ظنوا أن العرب لم يكن لهم من حضارة , ولم يكونوا على شيء
مما عليه الأمم من الروابط ؛ كلاّ بل لهم حضارات وملوكهم التبابعة في اليمن معروف
أمرهم عند المشتغلين بالتاريخ . وملوك الحيرة ( في العراق ) مشهورون , مَن
عرف تاريخ الفرس عرفهم وإن جهل تاريخ العرب أولهم مالك بن فهم بن غنم بن
دوس من سلالة الأزد من ولد كهلان بن سبأ بن يشحب بن يعرب بن قحطان , وكان
ملكه في أيام ملوك الطوائف الفارسيين , وملك بعده أخوه عمرو بن فهم ، ثم ملك بعد
عمرو ابن أخيه جذيمة الأبرش بن مالك بن فهم ، وجذيمة هذا هو صاحب الحديث
المشهور مع الزباء ( زنوبيا ) صاحبة تدمر , وخلاصة الحديث فيما يروي مؤرخو
العرب أن جذبمة قتل أباها , فاحتالت عليه الزباء , وأطمعته في نفسها حتى اغتر
وقدم إليها , فقتلته وأخذت بثأر أبيها . وبعد قتله انتقل الملك إلى يد ابن أخته عمرو
اللخمي جد الملوك المناذرة اللخميين .
والملوك الغسانيون في الشام مشهورون أيضًا , لا يجهلهم من عرف تاريخ
الرومان إذا جهل تاريخ العرب . وأصل غسان من اليمن من بني الأزد ابن الغوث
تفرقوا من اليمن بسيل العَرِم ، ونزلوا على ماء بالشام يقال له : غسان ، فنسبوا إليه
وكان قبلهم بالشام عرب يقال لهم الضجاعمة من سليح ، فأخرجتهم غسان من ديارهم ,
وقتلوا ملوكهم وصاروا موضعهم .
وأول من ملك من غسان جفنة بن عمرو بن ثعلبة ، وكان ابتداء ملكهم قبل
الإسلام بأربع مائة سنة , وقيل أكثر من ذلك ، ولما ملك جفنة وقتل ملوك سليح
دانت له قضاعة ومن بالشام من الروم ، وبنى بالشام عدة مصانع , ولما مات ملك
بعده ابنه عمرو بن جفنة ، وبنى بالشام عدة ديور منها دير حلي ودير أيوب ودير
هند ، ثم ملك بعده ابنه ثعلبة بن عمرو وبنى صرح الغرير في أطراف حوران مما
يلي البلقاء .
ثم ملك الحارث بن ثعلبة ، ثم ملك بعده ابنه جبلة بن الحارث وبنى القناطر ,
وأدرح والقسطل ، ثم ملك بعده ابنه الحارث بن جبلة , وكان مسكنه بالبلقاء , فبنى بها
الحفير ومصنعه ، ثم ملك بعده المنذر الأكبر بن الحارث بن جبلة بن الحارث بن ثعلبة
بن عمرو بن جفنة الأول ، ثم ملك بعده أخوه النعمان بن الحارث وبنى دير ضخم
ودير النبوة ، ثم ملك أخوهم عمرو بن الحارث ثم ملك بعده أخوه جبلة بن الحارث ,
ثم ملك بعدهم أخوهم الأيهم بن الحارث , ثم ملك جفنة الأصغر بن المنذر الأكبر ،
وهو الذي أحرق الحيرة ، وبذلك سموا ولده آل محرق ، ثم ملك بعده أخوه النعمان
الأصغر بن المنذر الأكبر ، ثم ملك النعمان بن عمرو بن المنذر ، وبنى قصر
السويدا , ولم يكن عمرو أبو النعمان المذكور ملكًا , وفي عمرو المذكور يقول
النابغة الذبياني :
عليّ لعمرو نعمة بعد نعمة ... لوالده ليست بذات عقارب
ثم ملك بعد النعمان المذكور ابنه جبلة بن النعمان ، وهو الذي قابل المنذر
اللخمي بن ماء السماء ، ثم ملك بعده النعمان بن الأيهم بن الحارث بن ثعلبة ، ثم
ملك أخوه الحارث بن الأيهم ، ثم ملك بعده ابنه النعمان بن الحارث ، وهو الذي
أصلح صهاريج الرصافة , وكان قد خربها بعض ملوك الحيرة اللخميين ، ثم ملك
بعده المنذر بن النعمان ، ثم ملك بعده أخوه عمرو بن النعمان ، ثم ملك أخوهما حجر
بن النعمان ، ثم ملك ابنه الحارث بن حجر ، ثم ملك ابنه جبلة بن الحارث ، ثم ملك
ابنه الحارث بن جبلة ، ثم ملك ابنه النعمان بن الحارث ، ثم ملك بعده الأيهم بن
جبلة بن الحارث وهو صاحب تدمر , وكان عامله يقال له : القين بن خسر . وبنى له
قصرًا بالبرية عظيمًا ومصانع .
ثم ملك بعده أخوه المنذر بن جبلة , ثم ملك بعده أخوهما شراحيل بن جبلة , ثم
ملك أخوهم عمرو بن جبلة ، ثم ملك بعده ابن أخيه جبلة بن الحارث بن جبلة ثم ملك
بعدهم جبلة بن الأيهم بن جبلة ، وهو آخر ملوك بني غسان ، وهو الذي أسلم في
خلافة عمر ، ثم عاد إلى الروم .
ومن ملوك العرب ملوك كندة الذين من سلالتهم امرؤ القيس الشاعر المشهور
أولهم حُجْر آكل المرار بن عمرو ، وخلف على الملك ابنه عمرو المقصور سُمي
بالمقصور ؛ لأنه اقتصر على ملك أبيه , ثم ملك بعده ابنه الحارث بن عمرو ,
وقوي ملك الحارث المذكور ؛ لأنه وافق كِسْرى قباذ بن فيروز على الزندقة والدخول
في مذهب مزدك , فطرد قباذ المنذر بن ماء السماء اللخمي عن ملك الحيرة , وملّك
الحارث المذكور موضعه , فعظم شأن الحارث المذكور , فلما ملك أنوشَرْوان أعاد
المنذر وطرد الحارث المذكور , فهرب وتبعته تغلب وعدة قبائل , فظفروا بأمواله
وبأربعين نفسًا من ذوي قرباه , فقتلهم المنذر في ديار بني مرين ، وهرب الحارث إلى
ديار كلب ، وبقي بها حتى مات . ومن أولاد الحارث هذا حجر أبو امرئ القيس
الشاعر , وكان حجر قد ملكه أبوه على بني أسد بن خزيمة فبقي أمره متماسكًا
فيهم مدة بعد ذلك , ثم تنكروا عليه , فقاتلهم وقهرهم , ودخلوا في طاعته , ثم جموا
عليه بَغْتة , وقتلوه غِيلة , وفي ذلك يقول ابنه امرؤ القيس أبياتًا منها :
بنو أسد قتلوا ربهم ... ألا كل شيء سواه خلل
وطالب امرؤ القيس بهذا الملك بعد أبيه , فاستنجد ببكر وتغلب على بني أسد ,
فأنجدوه , وهربت منهم بنو أسد , وتبعهم فلم يظفر بهم , ثم تخاذلت عنه بكر وتغلب
وتطلبه المنذر بن السماء , فتفرقت جموع امرئ القيس خوفًا من المنذر ، وخاف
امرؤ القيس منه أيضًا , فصار يدخل على قبائل العرب ، وينتقل من أناس إلى أناس
حتى قصد السموأل بن عاديًا اليهودي , فأكرمه ، وأنزله , وأقام عنده , ثم سار إلى
ملك الروم مستنجدًا به , وأودع أدراعه عند السموأل , وكانت مائةً وفي مسيره إلى
ملك الروم قال قصيدةً تُشعر بلسان حاله , ومنها قوله :
تقطع أسباب اللبابة والهوى ... عشية جاوزنا حماة وشيزرا
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ... و أيقن أنا لاحِقَان بقيصرا
فقلت له : لا تبك عينك إنما ... نحاول ملكًا أو نموت فتعذرا
وقد مات في هذا السفر بعد عودته من عند قيصر .
فبالله كيف تكون مجهولة الأمة التي فيها الملوك والأقيال ، وقد وقفت أمام الأمم
والأجيال ، سنين من الدهر ، لا يعرف لها حصر . لعمرك إن القول بأن هؤلاء
القوم كانوا مجهولين , وأنهم كانوا متشتتين من غير ملك جامع ، ولا شرع وازع
هو قول يرسله صاحبه من غير أن يكلف نفسه بحثًا , وهو لمّا يُحط بذلك خبرًا .
ومتى كان العرب معروفين عند غيرهم كما أوضحنا - ولدينا مزيد - كانوا هم
أحق بمعرفة أنفسهم ، وحفظ مفاخرهم وعصبياتهم . وما نقل إلينا عنهم من ذلك ليس
منه شيء فوق العقل , ولا وراء الحس ؛ بل القرائن له شاهدة ، وأمثاله أمام أعيننا
مشاهدة ، وإذا لم تجز الثقة بما ينقل من هذه الأخبار لم يكن غيرها أحق بالثقة لعمر
الحق , فإن تزوير الأساطير لا يستبعد وقوعه في كل أمة من الأمم ذوات الزبر
والأسفار , وليست الكتب أحق بالصدق من القرائن الشاهدة والنظائر الناطقة .
فمن شاء أن لا يثق بمنقول ألبتة لا يضرني ولا يضر التاريخ والمنقول , ولا
يضر العلماء الذين يحترمون التاريخ كثيرًا وإنما يضره وحده . يقلل استفادته من
المنقول ، ويكثر وساوسه وغروره ، ثم يصل إلى درجة لا يثق معها أحد بمعقوله .
ومن شاء أن يثق بالمنقول عن الأمم دون العرب لا أناقشه ؛ لأنه شهد لي على
نفسه شهادة كافية .
ولا أزيده شيئًا على ما أوضحت به أن العرب تجوز الثقة ببعض ما ينقل عنهم ,
كما تجوز الثقة ببعض ما ينقل عن غيرهم .
* * *
من أجل هذا نؤمن بما نقل إلينا من نسب سيدتنا التي نروي هنا سيرتها ,
وهي خديجة القرشية فإن هذا النقل من النقول التي لا تجد النفس حاجة للتردد في
قبولها .
وقد قلنا آنفًا إنَّ لهؤلاء العرب المعروفين أصلين معروفين عندهم , ومجهول ما
وراءهما , وهما : عدنان وقحطان ، فأما قحطان فقد أخذت ذُرِّيَّته بحظها من
الملك ؛ لأن كل ملوك العرب المشهورين كانوا من ذريته , وأما عدنان فإن حظ
ذريته تأخر قليلاً , ولكنه كان لعظمه متجاوز النسبة ؛ أي إنه لا نسبة بين حظ
القحطانيين الذين كان يقوم منهم ملوك ، ثم ينطفئ مجدهم وحظ إخوانهم
العدنانيين الذين أشرق منهم نور مبين بهر العالمين أجمعين .
فلذلك نَلُمُّ هنا بذكر الذرية العدنانية دون الذرية القحطانية ؛ لأننا نريد أن
يتعرف القارئ بقوم خديجة الخصوصيين . ( فعدنان ) ولد له ( معد ) ومعد ولد له
( نزار ) وأولاد نزار أربعة : ( مضر ) وإياد وربيعة وأنمار , وقد فارق إياد
الحجاز , وسار بأهله إلى أطراف العراق .
ومن ذريته كعب بن مامة الإيادي المشهور بالجود , و قُسّ بن ساعدة الأيادي
المشهور بالفصاحة . ومن ذرية ربيعة بن نزار قبائل : عنزة , وبكر , ووائل ,
وتغلب ، ومن تغلب كليب ملك بني وائل الذي قتله جساس ، فهاجت لقتله الحرب بين
بني وائل وبين بني بكر وبين بني تغلب . ومن بني بكر بن وائل بنو شيبان ومن
مشهوريهم مرة وابنه جساس قاتل كليب وطرفة بن العبد الشاعر , ومن بني بكر
بنو حنيفة ، ومن مشهوريهم مسيلمة الكذاب .
وولد لمضر بن نزار ( إلياس ) وقيس عيلان , وكثرت ذرية قيس هذا , فمن
ذريته قبائل هوازن , ومن هوازن بنو سعد بن بكر الذين منهم مُرضعة النبي صلى الله
عليه وسلم , ومن ذريته بنو كلاب وقبائل عقيل وبنو عامر , وصعصعة , وخفاجة ,
وبنو هلال , وثقيف , وبنو نمير ، وباهلة , ومازن , وغطفان , وبنو عبس الذين منهم عنترة المشهور , وقبائل سليم ، وبنو ذبيان , وبنو فزارة , وكان بين عبس
وبني ذبيان حرب داحس التي ظلت أربعين عامًا . ومن بني ذبيان النابغة الذبياني
الشاعر المشهور .
وولد لإلياس بن مضر ( مدركة ) وطابخة , ومن ذرية طابخة بنو تميم
والرباب وبنو ضبة وبنو مزينة .
وولد لمدركة بن إلياس ( خزيمة ) , وهذيل وإلى هذيل هذا تنتسب جميع قبائل الهذليين , ومنهم : أبو ذؤيب الهذلي الشاعر المشهور .
وولد لخزيمة بن مدركة ( كنانة ) , و أسد , و الهون , وولد لكنانة بن خزيمة
( النضر ) , وملكان , وعبد مناة , وعمرو , وعامر , و مالك فمِن ملكان بنو
ملكان , ومن بني عبد مناة بنو غِفار , ومن مشهوريهم أبو ذر ، وبنو بكر . ومن
بني بكر هؤلاء الدِّئَل . ومن مشهوريهم : أبو الأسود الدؤلي ، وبنو ليث ، وبنو مدلج ،
وبنو ضمرة .
وولد للنضر بن كنانة ( مالك ) , ولم يعرف له ولد سواه , وولد لمالك هذا
( فهر ) وفهر هذا الذي سمي قريشًا , ولم يولد لمالك غير فهر , وولد لفهر ( غالب )
ومحارب , والحارث , فمن محارب بنو محارب ومن الحارث بنو الخلج , ومن
مشهوريهم : أبو عبيدة بن الجراح , وجميع ذراري فهر يقال لهم قرشيون .
وولد لغالب بن فهر ( لؤي ) , و تيم الأدرم , ومن تيم المذكور بنو الأدرم ,
ومعنى الأدرم : ناقص الذقن .
وولد للؤي بن غالب ( كعب ) وسعد وخزيمة والحارث وعامر و أسامة . ومن
ذرية عامر بن كعب عمرو بن ودّ فارس العرب الذي قتله علي بن أبي طالب .
وولد لكعب بن لؤي ( مُرّة ) وهصيص , وعديّ فمن هصيص بنو جُمَح
ومن مشهوريهم : أمية بن خلف , وأخوه أُبَيّ بن خَلَف , وكلاهما كانا عدوين
عظيمين للنبي صلى الله عليه وسلم , ومن هصيص أيضًا بنو سهم , ومن عدي
بنو عدي , ومن مشهوريهم عمر بن الخطاب , وسعيد بن زيد .
وولد لمرة بن كعب ( كلاب ) وتيم ويقظة , فمن تيم ومن مشهوريهم أبو بكر
الصديق , وطلحة ، ومن يقظة بنو مخزوم , ومن مشهوريهم خالد بن الوليد ,
وأبو جهل عمرو بن هشام .
وولد لكلاب بن مرة ( قصي ) , وزهرة , ومن ذرية زهرة سعد بن أبي
وقاص وآمنة أم النبي صلى الله علية وسلم , وعبد الرحمن بن عوف , وقد كان
قصي هذا عظيمًا في قريش , وهو الذي ارتجع مفاتيح الكعبة من بني خزاعة ، وهو
الذي أثل مجدهم .
وولد لقصي بن كلاب ( عبد مناف ) , وعبد الدار , وعبد العزى , فمن بني
عبد الدار بنو شيبة حجاب الكعبة , ومن مشهوريهم النضر بن الحارث كان من
أشداء أعداء النبي ، ومن عبد العزى أيضًا سيدتنا خديجة بنت خويلد التي نروي
سيرتها .
وولد لعبد مناف بن قصي ( هاشم ) و عبد شمس , و المطلب , و نوفل , فمن
عبد شمس أمية , ومنه بنو أمية , ومنهم : عثمان بن عفان , و معاوية بن أبي سفيان
مؤسس الملك الأموي . ومن المطلب ابن عبد مناف المطلبيون , ومن ذريتهم الإمام
الشافعي , ومن نوفل النوفليون .
وولد لهاشم ( عبد المطلب ) , ولم يعلم له ولد سواه . وولد لعبد المطلب ( عبد
الله ) , وحمزة , والعباس جد الملوك العباسيين .
وولد لعبد الله بن عبد المطلب ( محمد ) النبي عليه الصلاة والسلام .
((يتبع بمقال تالٍ))
_______________________
(1)رواه ابن سعد وابن عساكر عن ابن عباس وتتمته : قال الله تعالى ( وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا )