الثلاثاء، 9 أبريل 2013

قسم المقالات : حول مسألة التعريب بقلم حفنى ناصف

حول مسألة التعريب
أكثر القائلون بتطبيق ( سياسة الباب المفتوح ) على اللغة العربية من ذكر
جمود أمتنا واشتغالها عن الجواهر بالأعراض , ووقوفها موقف المستضعفين أمام
الأمم الغربية , ونعوا علينا تحرجنا قبول الدخيل في لغتنا ، ورمونا ( بالرجوع إلى
الوراء , والنفور من كل جديد , والوقوف عند حدّ ما أماته الزمان ، ومخالفة سنة
اللغات الحية صاحبة الحركة الدائمة التي قدر أهلها أن ينتفعوا بكل ما خلقه الله ) إلى
آخر ما أتوا به من القضايا الخطابية ؛ بقصد التأثير في أفكار السامعين حتى تخيلوا
أن الكَلِمَ الأعجمية واجبة الاستعمال في اللغة العربية حرصًا على الزمن أن يضيع
في انتقاء ألفاظ عربية تسد مسدها , وأن قواعد الاقتصاد السياسي تقضي بصرفه في
اختراع آله حربية أو معمل صناعي أو مصرف مالي , ولقد كدت من شدة التأثير
أمسك عن الكلام خِيفَة أن أضيع عليكم ساعة يمكنكم فيها اختراع بندقية جديدة , أو
آلة للطيران , أو علاج للسرطان .
مسكينة الأمة المستضعفة , لا تدري من أين تُؤْتَى , ولا تعرف لِتأخّرها عِلّة ,
فتذهب مع كل ذاهب , وتمشي وراء كل حاطب .
ظننا النيل سبب رخاوتها فعدلنا عنه إلى الآبار فما نشطنا ، وخِلْنا الأزياء
الواسعة مانعتنا عن الحركة فاستبدلنا بها أزياءً ضيّقة فما عدونا . وحسبنا اقتعاد
السيارات والدراجات يوصلنا إلى المدنِيَّة فاقتعدنا وما استفدنا ، وزعمنا ملاهي
التمثيل أقرب سبيل فأبعدتنا ، وعددنا النفازج ( الباللو ) معارج فما عرجنا ، وغيرنا
العمائم بالقلانس , والدور بالقصور , وظهور الصافنات ببطون العربات فما أخرجنا
كل ذلك عما نحن فيه من الاستضعاف ولا سَمَا بِنَا إلى راقي الألمان والإنكليز
واليابان .
إن لارتفاع الأمم وانحطاطها أسبابًا خاضَ فيها الحكماء , وأفاض في بيانها
العلماء وليس المقام الآن مقام ذكرها , وإن المسألة التي نحن بصددها مسألة نقلية
يُرجع فيها إلى كتب اللغة والأدب , وليس لأحدٍ أن يأخذ فيها بالهوى , أو يسترسل
مع الوجدان , أو يقتصر فيها على مجرد الاستقباح والاستحسان , فكما لا يجوز في
التاريخ أن تنكروا غلبة اليابان للروس محتجين بأن الصغير لا يغلب الكبير , لا
يجوز في العربية أن تنصبوا الفاعل , وتقدموا خبر إنّ على اسمها احتجاجًا بأن
المعنى لا يتغير , ولا أن تقولوا : ما الفرق بيننا وبين العرب الأولى حتى جاز لهم
وضع ألفاظ مقتضبة , وتعريب كلمات أعجمية , والشذوذ عن القياس وامتنع علينا ,
أليسوا رجالاً ونحن رجال ؟
ليس لأحد أن يقول ذلك إلا خرج من الرِّبْقة , وخلع العذار , ورضي بأن
يكون طليقًا لا يتقيد بشيء . المسألة منصوصة في الأسفار , فمن شاء أن يخرق
الإجماع , ولا يقصر شيئًا على السماع , ويستريح من عناء الدروس فَلْيصنعْ ما شاء
فليس عندنا ما يرغمه على اتباع الجماعة , ولا فائدة في الجدال معه , وإذا شاء أن
يتبع المنصوص فها هو بيانه .
اتفق العلماء على أن اللغة العربية كانت لسان عاد , وثمود , وأميم , وعبيل ,
وطسم , وجديس , وعمليق ، وجُرْهم , ووَبار من أولاد إرم بن سام .
وأول تنقيح دخلها بعمل يعرب بن قحطان رأس العرب العاربة , وجرى أولاده
على لغته في أنحاء اليمن كلها , ثم تفرق جماعة منهم في نجد والحجاز وتِهَامة
والشام والحِيَرة .
ولما أصهر إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام إلى قبيلة جُرْهم أدخل تنقيحًا
ثانيًا في اللغة , وجرى على أثْرِه القبائل من أولاده كربيعة ومُضَر وكنانة ونزار
وخزاعة وقيس وضبة .
والتنقيح الثالث أدخلته قريش بالتدريج انتخابًا من لغات قبائل العرب التي
كانت تفد عليهم في كل عام , وتمكث بين ظهرانيهم نحو خمسين يومًا , منها ثلاثة
أيام بسوق ذي المجاز , وسبعة بسوق مجنة , وثلاثون بسوق عكاظ ، وعشرة في
مناسك الحج .
والتنقيح الرابع هو اختيار علماء المَصْرَيْن البصرة والكوفة ( نقلة اللغة في
عصر الأمويين والعباسيين ) , فقد قصروا اختيارهم على ست قبائل من صميم
العرب لم تختلط بغيرها , وهم : قيس عيلان , وأسد , وهذيل وبعض تميم ,
وبعض كنانة وبعض طَيِّ , ولم يأخذوا عن لخم , وجذام لمخالطتهم القبط أهل مصر ،
ولا عن قضاعة وغسان وإياد لمخالطتهم أهل الشام والروم , وأكثرهم نصارى
يقرءون بالعَبْرانية ، ولا عن تغلب ؛ لأنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان ,
ولا عن بكر ؛ لمجاورتهم النَّبَط والفرس , ولا عن عبد القيس وأَزْد عمان ؛ لأنهم
كانوا بالبحرين مخالطين الهنديين والفرس ، ولا عن أهل اليمن : ( حِمْيَر , وهمدان ,
وخولان والأزد ) ؛ لمخالطتهم الحبشة والزنج والهنديين , ولا عن بني حنيفة وسكان
اليمامة وثقيف والطائف ؛ لمخالطتهم تُجّار اليمن عندهم , ولا عن حاضرة الحجاز
وقت نقل اللغة لفساد لغتها بالاختلاط .
وعدّوا لغة قريش أفصح اللغات العربية ؛ لأنها خالية عن عنعنة تميم , وهي
إبدال الهمزة عَيْنًا نحو : عَنْتَ وعِنّكَ , أي : أنت وإنك ، وعن تَلْتَةِ بَهْرَاءَ , وهي
كسر أول المضارع , نحو : تِلْعَب وتِلْهو ، وعن كَسْكَسَةِ ربيعة ومضر , وهي :
إلحاق سِين بعد كاف المخاطب : رأيتكَسْ ، وعن كَشْكَشَة هوازن , وهي إلحاق شِين
بعد كاف المخاطبة : نحو رأيتكَشْ , وعن فَحْفَحَة هذيل , وهي : قلب الحاء عينًا ؛
نحو : عَتَّى , أي : حَتَّى ، وعن وكم ربيعة , وهي كسر كاف الخطاب بعد الياء
الساكنة , أو الكسرة , نحو : عَلَيْكِمْ وَبِكِمْ ، وعن وهم بني كلب , وهي كسر هاء
الغيبة إذا لم يكن قبلها ياء ساكنة ولا كسرة , نحو : عَنْهِمْ , وبَيْنَهِمْ , وعن جَعْجَعَة
قُضَاعَة , وهي قَلْب الياء الأخيرة جِيمًا ؛ نحو : الساعج يدعج , أي : الساعي يدعي ,
وعن وَتْم أهل اليمن , وهو قَلْب السين المتطرفة تاءً ؛ نحو : النَّات أي : الناس ،
وعن الاستنطاء في لغة سعد و الأزد وقيس , وهو قلب العين الساكنة نُونًا قبل الطاء ,
نحو : أَنْطِي أي أعْطِي ، وعن شَنْشَنَة اليمن , وهي قلب الكاف شِينًا , نحو :
لَبَّيْشَ اللّهم لَبَّيْشَ ، وعن لَخْلَخَانِيّة الشَّحْر وعمان وهي حذف الألف في نحو : مَشَاءَ
اللهُ أي ما شاء ، وعن طُمْطُمَانِيّة حِمْيَر , وهي جَعْل أل ( أم ) نحو : طاب
امْهَوا ؛ أي : الهواء , وعن غَمْغَمَة قُضَاعة , وهي إخفاء الحروف عند الكلام , فلا
تكاد تظهر .
ولم ينظر نقلة اللغة إلى لغة كل قبيلة على حدتها , بل جمعوا الألفاظ التي
يتكلم بها كل القبائل التي عولوا على الأخذ عنها , وجعلوها لغةً واحدةً مقابل اللغة
الأعجمية , لا يخطئ المتكلم إلا إذا خرج عنها كلها , فلفظ المُدْيَة لغة دَوْس ( بطن
من الأزد ) , ولفظ السكين لغة قريش , فنقل الأئمة اللفظين , وأباحوا لكل إنسان أن
يتكلم بأيهما شاء , ولو لم يوجد في العرب من تكَلّم بهما معًا , ومن هنا جاء الترادف
في اللغة والاشتراك اللفظي , ولو جمعوا لغة كل حي من العرب على حدتها لَتكرر
العمل وطال الزمن .
ثم نظروا بعد ذلك إلى المفردات , فما كان منها كثير الدوران على ألسنة
العرب عدوه فصيحًا ، وما كان قليل الدوران على ألسنتهم عدوه غريبًا ووحشيًّا يعدّ
استعماله مُخِلاًّ بالفصاحة , ولو كان معروفًا عند المخاطبين .
واستخرجوا من استعمالات العرب قواعد تتعلق بأحوال أواخر الكلم وقواعد
تتعلق بباقي أحوالها وسموها علم النحو والصرف , وجعلوا لبعض تلك القواعد قيودًا
واستثناآت حتى يكون الاستعمال الكثير مضبوطًا بقوانين تُحْتَذَى عند القياس ,
وما شذّ عن ذلك عن ذلك جعلوه سماعيًّا يقبل من العربي ولا يقبل من المولد .
وكانوا شديدي الحرص على بيان السماعي والقياسي , فإذا لم يكن اللفظ ( مادة
أو هيئة ) قد سمع من العرب منعوه بتاتًا , وشنعوا على مستعمله .
ولأجل أن يعرف السامع مقدارَ عنايتهم بالمسموع من العرب , ومقدار الانحطاط
الذي كان يلحق بمن يخطئ منهم أروي لك قصة وفود سيبويه على يحيى بن خالد
البرمكي ببغداد , فقد عقد يحيى مجلسًا جمع فيه بين سيبويه رئيس نحاة
البصرة وبين الكسائي رئيس الكوفة , فقال له الكسائي : تسألني أو أسألك ؟ فقال
سيبويه : سَلْ أنتَ . فسأله الكسائي عن قول العرب : ( قد كنتُ أظنُّ أن العقربَ أشد
لسعةً من الزُّنْبُور , فإذا هو هي ) أيجوز ( فإذا هو إياها ) ؟ فقال سيبويه : لا
يجوز النصب . فقال الكسائي : العرب ترفع ذلك وتنصبه . فقال يحيى : لقد اختلفتما , وأنتما رئيسا بلديكما , فمن يحكم بينكما ؟ فقال له الكسائي : هذه العرب ببابك قد
سمع منهم أهل البلدين , فيحضرون ويُسألُون . فقال يحيى وجعفر أنصفت . وأمرا
بإحضار أعرابي من أهل البادية وسألوه , فقال : ( القول قول الكسائي ) فقال
سيبويه ليحيى : ( مُرْه أن ينطق بذلك , فإن لسانه لا يطاوعه ) فاكتفى المجلس بحكم
الأعرابي , وخجل سيبويه , وسافر بعد ذلك إلى فارس , فأقام بها حتى مات وكانت
هذه المسألة سبب علته , وكانت وفاته في سنة 180 وعمره 32 , وهكذا كانت
عادة علماء البلدين متى اختلفوا في أمر تلمَّسوه عند البدو وتسمَّعوه منهم .
وعرفوا المعرَّب بأنه الاسم الأعجمي الذي فاهت به العرب الموثوق بعربيتهم
فإذا فَاهَ به غير العربي سمي مولدًا , وقد تبعهم في ذلك كل من كتب في اللغة
كأصحاب الصحاح والقاموس والمحكم والعباب , وأجمع العلماء على أن لا يُسْتَشْهَد
في اللغة والصرف والنحو إلا بكلام العرب , ولا يجوز الاستشهاد بكلام المولدين
إلا في علوم البلاغة .
وأجازوا استعمال الكَلِم في غير ما وضعت له متى وُجِدَت مناسبة بين المعنى
الأصلي والمعنى المراد , وقامت قرينة تمنع إرادة المعنى الأصلي , وحصروا تلك
المناسبات بالاستقراء , وسموها علاقات , وهي :
المشابهة - نحو : فاهَ الخطيب بالدرر ؛ أي : الكلمات الحِسان .
والسببية - نحو : رعينا الغيث ؛ أي : الكلاء .
والمسببية - نحو : أمطرت السماء نباتًا ؛ أي : ماء .
والكلية - نحو : { يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم } ( البقرة : 19 ) .
والجزئية - نحو : بث الأمير العيون ؛ أي : الجواسيس .
والحالية - نحو : { فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } ( آل عمران : 107 )
أي : الجنة .
والمحلية - نحو : سال الوادي , وجرى الميزاب ؛ أي : ماؤه .
واللازمية - كإطلاق الحرارة على النار .
والملزومية - نحو : دخلت الشمس من الكوَّة ؛ أي : ضوءها .
والإطلاق - نحو : ( لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ) أي : لا صلاة
كاملة .
والتقييد كإطلاق المِشْفَر على شفة الإنسان , والمشفر للبعير , كالشفة للإنسان .
والعموم - كإطلاق الأبيض والأسمر على السيف والرمح , والدَّابَّة على ذات
الأربع .
والخصوص - كإطلاق اسم الشخص على القبيلة ؛ نحو : تميم , وقريش ,
وربيعة .
والبدلية - نحو : ( في ملك فلان ألف دينار ) أي : متاع يساوي ألفًا .
والمبدلية - نحو ( أكلت دمًا إن لم أرعك بضرة ) أي : أكلت دية .
واعتبار ما كان - نحو : { وَآتُوا اليَتَامَى أَمْوَالَهُمْ } ( النساء : 2 ) أي :
الذين كانوا يتامى .
واعتبار ما يكون - نحو : { أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا } ( يوسف : 36 ) أي :
عنبًا .
الدالية - نحو : فهمت الكتاب ؛ أي : معناه .
والمدلولية - نحو : ( قرأت معناه مشفوعًا بتقبيل ) أي : قرأت لفظه .
والمجاورة - نحو : شربت من الراوية , أي المَزَادَة المجاورة للجمل , وقد
تكون المجاورة في الذكر فقط , كما في المشاكلة نحو : اطبخوا لي جبة وقميصًا .
والآلية - نحو : { وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ } ( الشعراء : 84 ) , أي : ذِكْرًا
حسنًا صادقًا .
والتعلق - كإطلاق لفظ المصدر على الفاعل أو المفعول , كشاهد عدل { هَذَا
خَلْقُ اللَّهِ } ( لقمان : 11 ) .
والشرطية - نحو : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } ( البقرة : 143 ) , أي :
صلاتكم .
والمصدرية - نحو : { فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ } ( الأنبياء : 64 ) , أي :
آرائهم .
والمظهرية - نحو : { يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } ( الفتح : 10 ) , أي : قدرته .
والتضاد - كإطلاق البصير على الأعمى .
ومتى اشْتُهِر اللفظُ في معناه المجازي صار حقيقةً عُرْفِيّةً له حُكْمُ الحقيقة
الوضعية .
وقد صارت اللغة بهذا التنقيح الأخير لغة العرب عامَّةً لا لغة قبيلة بعينها ,
فأي لفظ نطقتَ به فأنتَ مُصِيب , وأيّ استعمال جربت عليه فَلَسْتَ بمخطئ
ما دُمْتَ لم تخرج عن المنقول , وأية علاقة صادفتك من العلاقات السالفة الذِّكْر
تُوصِلك إلى تسمية ما لم تُسَمِّهِ العربُ فلستَ مُقَيَّدًا بلفظ أعجمي , ولا بلهجة حي
معين , وصِرْتَ بذلك بَعِيدًا عن الخطأ , واسع المجال في النثر والنظم والتقلب في
الأساليب الإنشائية , تصول وتجول , وتتهم وتنجد حسبما يسمو إليه استعدادك ,
وتصل إليه درجتك من الاطلاع وتمكنك منه بضاعتك , فلك أن تقول المُدْيَة كما
تقول دَوْس , وأن تقول السكين كما تقول قريش , وأن تنطق كلمة ( حيث ) بتسع
لغات , ولفظ ( يا ربي ) بست لغات , وتركيب ( بادئ بدء ) بثمانيةَ عَشَرَ وجهًا ,
وأن ترفع الخبر وتنصبه في نحو { مَا هَذَا بَشَرًا } ( يوسف : 31 ) , وأن
تطلق الأسد على السبع والشجاع , والعَيْنَ على الباصرة والذهب والجاسوسِ ,
وتُصَرِّح وتُعَمِّي حيث تحتاج لذلك , وتنقل إلى العربية كل ما فهمته من اللغات
الأخرى .
وقد وقع جاسوس عربي في يد العدوّ , فحبسوه وألزموه أن يكتب كتابًا إلى
ملكه يحمله فيه على مداهمتهم , ويوهمه بقلة عددهم وعُددهم غشًّا وتغريرًا , فكتب
إلى الملك كتابًا قال فيه :
( أمّا بَعْدُ , فقد أحطت علمًا بالقوم ، وأصبحت مستريحًا من السعي في تعرف
أحوالهم ، وإني قد استضعفتهم بالنسبة إليكم , وقد كنت أعهد في أخلاق المَلِك المهلة
بالأمور والنظر في العاقبة , فقد تحققت أنكم الفئة الغالبة بإذن الله ، ولقد رأيت من
أحوال القوم ما يطيب به قلب الملك , نصحتُ فدع ريبك , ودع مهلك , والسلامُ ) .
وَسُلِّمَ الكتابُ إلى العدو , فأرسلوه إلى الملك بعدما اطلعوا عليه , فتفطن الملك
لِمَا أراد الكاتب , وقال لحاشيته : إن الجاسوس وقع في الأسر , فأصبح مستريحًا
من السعي , وإنه رآهم أضعافًا , وإننا قليل بالنسبه لهم ؛ إذ لمح بآية : { كَم مِّن فِئَةٍ
قَلِيلَةٍ } ( البقرة : 249 ) , ولفتني إلى الأناة إذ جعلها عادة لي , وأراد قَلْبَ حروف
الجملة الأخيرة , فتكون : ( كلهم عدوُّ كبير عدٍّ فتحصن ) .
على هذا استقرت اللغة العربية , وتَمّ إحكامها , وحُصِرَتْ مُفْرَدَاتُها الأصلية
وقوانينها , وأُبِيحَ استعمال مفرداتها في غير ما وُضِعَتْ له عند الاحتياج بشرط
العلاقة والقرينة , وانتهت أدوار التنقيح فيها , فلم يَبْقَ إلا استظهارها , والعمل بها .
وقد اغتبطت الأمة العربية بذلك وعكفت على العمل بها قرونًا , قضت فيها لُبَانة
للعلم والسياسة , وتفرغت للفتوح والاستعمار , وملأت طِبَاقَ الأرض بالتصانيف في
الشرائع والحكمة , وكل ما كان على وجه الأرض من العلوم , فأنارت الخافقين
ونشرت المدنية في الدنيا . وَلَمّا ضعف أمْرُهم ورثهم الغربيون في حكمتهم , وأخذوا
عنهم , وأضافوا إليها ما تجدد من الصناعات والفنون , ولا يزال الإفرنج يدأبون في
اقتناء الكتب العربية , ويستخرجون منها من الفوائد ما لم يكن في حسباننا , ولكل
مجتهد نصيب .
هذا ما حضرني من النصوص المحتوية عليها كتب العرب المتضافر عليها
من أئمة الأدب ، فمن شاء فليؤمن بها ومن شاء فليكفر بها ؛ فقد تبين الرُّشْد من
الغَيّ .
ولما قعدت هِمَم الخالفين وانتشر فساد اللغة مادَّةً وقوانينَ رأى فريق من الناس
أن يكفونا مؤنة التحصيل ؛ فهبوا إلى فتح ثغور اللغة العربية للدخيل من الألفاظ ,
وطفقوا يحسنون صنيعهم بأقيسة خطابية وجدلية لا تغني من الحق شيئًا .
فقالوا أولاً : إن العرب أخذوا ألفاظًا من الأعاجم في أطوار تنقيح العربية
واستعملها الفصحاء , وورد منها كثير في القرآن والأحاديث فما لنا لا ننشئ مذهبًا
خامسًا في التنقيح , وفاتهم أن ما أخذه العرب قليل جدًّا بالنسبة إلى ما نبذوه ونادر
بالإضافة إلى مادة لغتهم الأصلية ؛ والقليل النادر لا يُقَاسُ عليه , فإذا فتحنا اليوم
باب القياس في مادة اللغة نفتحه غدًا بالأولى في هيئتها ؛ أي : في الصرف والنحو ,
فنقيس على ما ورد شذوذًا عن العرب ؛ إذ ليست المادة بأقل خطورة من الهيئة , ولا
الجوهر بأدنى احترامًا من العَرَض فننصب خبر المبتدأ وخبر إن ، ونشتق من
الجوامد كلها ، ونميل الألف حيثما وجدت , ونستخرج من كل فعل ثلاثي
مزيدات , ونستعمل الزيادة لكل المعاني , وبالجملة نجعل عالي اللغة العربية سافلها ,
ونحدث فيها الأحداث الهائلة , فَتَتَبَلْبَلُ فيها الألسنة , وتُفْقَد بعد قليل من الزمن مع
أنَّ ( أصحاب اللغات الحية ) الذين يريدون أن يتشبهوا بهم لم يَرْضَوْا أنْ يتركوا
عاداتهم من الكلام والكتابة , ولو كانت خطأً , فلا يزالون يقولون في75 ستون
وخمسةَ عَشَرَ , وفي98 أربع عشرينات وثمانيةَ عَشَرَ , ولا يزالون يكتبون جملة
حروف في الكلمة لا ينطق بشيء منها , ويفوهون بحروف لا يكتب منها شيء .
وقالوا ثانيًا : إنه يجب أن يكون لكل مدلول دالّ خاصّ به لا يدُلّ على غيره
أبدًا , وتكونَ دلالته بنفسه لا بعلاقة أخرى , وإن تسمية المحدثات بلفظ عربي مهما
كانت علاقته يوقع في الاشتراك ويَزِيدنا آلامًا إلى آلامنا , وغرضهم بذلك منع
الاشتراك اللفظي بالمَرَّة , أو عدم زيادته ؛ وفاتهم أن الاشتراك اللفظي واقعٌ لا محالَةَ
في جميع اللغات ؛ لأن ألفاظ كل لغة محصورة , والمعاني غير محصورة , فلو
وُزِّعَت الألفاظ على المعاني وجب المصير إلى الاشتراك حَتْمًا , وإنه لا ضَرَرَ من
استِعماله مع القرينة ، ففي الهندسة مثلاً تُسْتَعْمَل الزاويةُُ والعمود والسطح والهرم
والكرة والضلع , ولا يخطر في البال شيء من معانيها القديمة ، وفي الطبيعة
والكيمياء تُسْتَعْمَل العدسةُ والمِلْح والبلورات , ولا تحسّ بأصل معناها ، وفي
القوانين تستعمل وضْع اليد وسَحْب الورقة وحبس العين والقذف والضبط والربط ,
ولا يجيء في الخاطر معناه الأصلي , والذي يسمع جملة : ( سيارة الأمير سبقت
القطار ) لا يتوهم القافلةَ ولا الجمالَ ؛ فأين هي الآلام التي تخشون من زيادتها ؟
ومَنْ مِنْكم يمكنه أن يتكلم كلامًا خاليًا من المشترك والمجاز ؟ أنا أراهنكم على كتابة
عَشَرَة أسْطُر بأي لغة شئتم في وصف حادثة من الحوادث ذات البال , فمن قدر على
إخلائها من المجاز والمشترك فله مني عَشَرَةُ دنانيرَ وأَمْهَلْتُكُم شهرًا . والحقيقة أن
هذه الآلام آلام وهمية توجد عندما يريد أن يتألم منها .
وقالوا ثالثًا : إن دلالة الكَلِم الأعجمية أصرح ؛ لأنها تدل على صِنْف
مخصوص , بخلاف الكلم العربية ؛ فإنها في الغالب تكون عامةً , وفاتهم أن
الاصطلاح يجعل العام خاصًّا , والمطلق مقيدًا , فالنسافة والبارجة والدارعة
والمُنْطاد لا عموم فيها بعد الاصطلاح عليها وغلبة الاسمية على الوصفية معروفة
في اللغات قديمًا وحديثًا , فيقولون في السيف : أبيض ومرهف وهندي ويماني , وفي
الرمح : أسمر ولَدْن وسَمْهَرِي ورُدَيْنِي , وكلها أوصاف غلبت عليها الاسمية .
وقالوا رابعًا : إن التعريب أسهل من انتقاء اللفظ العربي , واستعمال الأعجمي
أخف على السمع , فإذا قلت للبدال : ( أعطني قدحًا من الجِعَة ) اشمأز منك ,
وسخر السامعون بخلاف ( البيرا ) , وفاتهم أن هذه الصعوبة تزول بعد الاهتداء إلى
الكلمة العربية والاصطلاح عليها , والإلحاح في استعمالها لفظًا وكِتَابَةً, على أن هذه
الصعوبة إنما تكون على الأشخاص المكلفين باستخراج الكلم , بخلاف الذين
يتعلمونها جديدًا , فإنهم يجدونها بدون عناء , كالذي يَلْبَسُ الثوب لا يحس بعناء
حائكه وخائطه , وقارئ الصحيفة لا يحس بعناء مُحررها وجامع حروفها وطابعها .
ولا بد من قوم يعانون الأعمال , وآخرون ينتفعون بها ونحن لا نكلف أفراد الأمة
بالاشتغال معنا في انتقاء الألفاظ , بل يكفي أن يتعب منا فريق في هذا الأمر مقابل
تعب الآخرين في أعمال أخرى على قاعدة التبادل المدني , أمّا استهزاء العامّة فلا
يعوقنا عن العمل ؛ لأنا لا نعمل لهم بل للخاصة والنشء الجديد الذين يتعلمون في
المدارس ، وخالي الذهن يحفظ ما يلقى إليه سواء اللفظ الذي يحفظه عربيًّا أو
أعجميًّا ، وإني أذكركم أننا كنا نستعمل كلمة قومسيون وقوميتيه وجرنال وغازيته
وأفوكاتو وكوليرا ووابور وقنصل وجنرال , ولما ابتدأ الصحافيون يغيرونها بلجنة
وصحيفة ومحامٍ ووباء وقطار ومعتمد كنا نتقززها , فلما ألحوا في استعمالها زال
التقزز شيئًا فشيئًا , حتى عفنا الكلمات الأولى فجازاهم الله عن العرب خيرًا .
فلِمَ لا يعمل المحدثون من الصحافيين مثل ما عمل الأقدمون ؟ ولماذا لا
يحذو مترجمو اليوم حذو مترجمي أمس ؟ ولِمَ لا نساعد هؤلاء وهؤلاء على أداء
ذلك الواجب ؟
وقالوا خامسًا : ليس لنا أن نتمسك بالقديم لمجرد قِدَمِهِ . فنقول لهم : وليس لنا
أن ننبذ القديم لمجرد قدمه ؛ فما كل قديم ينبذ ولا كل جديد يؤخذ , والواجب على مَن
رأى المصلحة في القديم أن لا يتركَه ما لم تقُم الأدلة على أصلحية الجديد , وقد
جربنا القديم مئات من السنين فقام بالكفاية , ولم نَرَ للآن منفعةً في الألفاظ الجديدة بل
الضرر محقق ؛ لأنا لو فتحنا الباب لدخول الجديد لاستعجم على الخالفين فيهم كل
المؤلفات منذ ألف سنة إلى الآن , وانقطع الاتصال بين السابق واللاحق , وضاع
على المتأخرين تراث أسلافهم المتقدمين .
وبعدُ , فإني لم أفهم للآن وجهًا للتشبث بحب الأعجمي , فإما أن نكون مصابين
بمرض الشعوبية , وهو تفضيل العجم على العرب , وإما أن نكون لاستضعافنا
مُقلدين كما قال ابن خلدون ، وإما أن يكون في طباعنا إخلاد إلى الراحة والسكون ؛
فلا نريد أن نعاني أعمالاً جديدة لم نتعودها فتخدعنا هذه الطباع إلى تحسين ما نحن
عليه , ونقول بالتعريب ؛ لأننا يمكننا أن نُعَرِّبَ كل يوم ألف كلمة , ولا نجد في
الشهر عشرين كلمة عربية , فيقرر كل منا أن ما وصل إليه هو منتهى الكمال , وأن
ما يَزِيد عن ذلك يحسب من التقعر والتفيهق , ولا يريد أن يعترف بكمال بعد الحد
الذي وقف عنده , فيسجل على نفسه النقص ، إن لم يكن هذا ولا ذاك فما سبب هذا
التشبث يا تُرَى ؟
لقد وعيت كل ما سبق من الأدلة فلم أجد فيها برهانًا , فلعل جمود قريحتي
ضرب بيني وبين الحقيقة حجابًا مستورًا .
وقد نشأ من التساهل في حياطة اللسان العربي أن تطرق الفساد إلى مادته
وهيئته , وتولد عنه لسان آخر لا هو بالعربي ولا هو بالأعجمي , وسَمّاه الناس
باللغة العامية أو الدارجة , وهو المُسْتَعمَل لهذا العهد في مصر والشام والعراق
وجزيرة العرب والمغرب والسودان لا يتكلمون بغيره , وإن كانوا لا يزالون يكتبون
بالعربية الفصحى أو ما يقرب منها .
وترى الطفل يتعلم العامية في أقلّ من خمس سنين , ولا يتعلم الفصحى في
أقل من عَشْرٍ , والسبب في ذلك ظاهر وهو أنه في أول أمْرِهِ لا يسمع غير العامية
ولا يتكلم بغيرها , فهو أينما سار وحيثما ذهب مُشْتَغِل بها فترسخ في ذهنه رسوخ
الفرنسية في أذهان أطفال الفرنسيس ، والإنكليزية في أذهان أطفال الإنكليز , وليس
الحال كذلك في إبّان تعلّمه لغة الكتابة , ولو فرضنا صبيًّا نشأ في بلد يتكلم أهله
بالعربية الفصحى بالسليقة وبعد سِنّ مخصوص يتعلمون العامية , ويستعملونها في
الكتابة فقط لانعكس معه الحال , وتعلم العامية في أقل من عَشْرٍ ، فليس من طبيعة
اللسان العربي الصحيح شيء من الصعوبة وإنما هي طريقة التلقين وبيئة التعليم .
وعلى كل حالٍ فالجمع بين العامية والفصحى يستنفد خمسَ عَشْرَةَ سنةً كان يغني
عنها خمس لو اقتصر المعلم على إحداهما , ويضيع على كل متعلم عشْر سنين من
عمره , فإذا تحققت الآمال , وصار التعليم إجباريًّا ؛ فكم تخسر الأمة كل سنة من
أعمار أفرادها ؟
فإذا أخذنا المعدل السنوي للمواليد وهو 470000 وطرحنا منه معدل وَفَيَات
الأطفال إلى سِنّ العشرة ( ونفرض أنه النصف ) 235.000 يكون الباقين
235000 نضربه في عَشَرة أعوام , وهي مقدار ما يخسره كل واحد ، فتكون النتيجة
أن الأمة تخسر في كل عام عمل شخص واحد في 2.350.000 سنة , وبعبارة أخرى
يفوتها ربح زراعة 1.275.000 فدان , على فرض أن الفدان يزرعه اثنان , وهي
خسارة لا يحسن السكوت عليها ( فيا ضيعة الأعمار تمشي سَبَهْلَلاً ) .
وقد استنكر الصبر على هذه الخسارة جماعة من الاقتصاديين ؛ فاتفقوا على
وُجوب الاقتصار على تعلم إحدى اللغتين , واختلفوا في تعيينها , فقال فريق منهم :
يقتصر على العامية , ومنهم المهندس الشهير ويلككس ، والقاضي الكبير ويلمور .
وقال الفريق الآخر ومنهم العالم الشهير والمُرَبّي الكبير يعقوب أرتين باشا
بالاقتصار على الفصحى .
وأورد على الأول :
( 1 ) أن لكل قطر عامية مخصوصة , بل لكل مديرية لهجة معينة , فإذا
رجحنا لغة أقليم تحكمًا منا نكون قد ألزمنا سكان الأقاليم الأخرى بتعليم لغة ذلك
الإقليم ؛ وعناؤهم في ذلك لا ينقص عن عناء تعلم العربية الفصحى , بل الفصحى
أسهل ؛ لأن كل شيء فيها قد ضبط ونقح , ووضعت له كتب متعددة .
( 2 ) وأن العامية في البلد الواحد تتبدل بتبدل العصور , فلكل زمان ألفاظ
تدخل مع أصحاب القوة ؛ ولذلك نرى في لغة مصر مفردات من الرومية , والكردية
والتركية والشركسية والفرنسية والإنكليزية .
( 3 ) وأن التزام العامية يحدث حجابًا كثيفًا دون الاستنباط من القرآن
والحديث والمأثور من كلام السلف , فتذهب أعمال الأولين هباءً , وتقع الخسارة
على المسلمين وغيرهم ممن يستخرجون كنوز العلوم من بطون الكتب العربية
القديمة , ولولا كتبُ العرب ما أشرق على أوربا ذلك النور الساطع , وبالجملة
تنقطع الصلة بين الأزمنة والأمكنة العربية , ويُحْرَمُ ابْنُ هذا الزمان من ثمار أفكار
السابقين , وقاطنُ هذا المكان من تبادل آراء المعاصرين من أبناء اللغة الواحدة ؛ فلا
جرمَ كان من المتعين نبذ الرأي الويلككسي والأخذ بالمذهب الأرتيني .
وخلاصة هذا المذهب أن تترك العامة يتكلمون بما يريدون , وتدرب التلاميذ
في المدارس على التكلم بالفصحى , ويحبب إليهم التحاور بها كلما اجتمع لَفِيفٌ
منهم حتى ترسخ فيهم ملكتها وتملك ألسنتهم دُرْبَتها , ويكون أخذهم بالتمرين تدريجيًّا
يطبقونه على ما عرفوه , ويكملون محاورتهم بالعامية فيما لم يعرفوه , وكلما زادت
درجتهم في التعليم زادت قوتهم في التطبيق إلى أن تهجر العامية ، وتحل الفصحى
محلها .
فإذا ضُمّ إلى ذلك مطالعة الصحف والمجلات العربية , وسماع الخطب العلمية
في النوادي العربية , والتردد على معاهد العظات , ومشاهد التمثيلات , ومواقف
المرافعات , وتعليم الفتيات , واحتذاء أساليب المُنْشِئين , وطبع كتب المبرزين فإن
اللغة العامية تنقرض في أقل من عشرين عامًا , وتخلفها اللغة الصحيحة , ويرجع
اللسان العربي إلى عصر مجده وأيام سعده .
ولقد هَمّ ذلك المُرَبّي الكبير منذ عشرين سنة بإلزام تلاميذ المدارس بالتكلم
بالعربية الفصحى ما داموا تحت نظر معلميهم وأخذ يُعد لهذا الأمر عُدَّته وعتاده ,
وسألني رأيي في ذلك وكنت معلمًا في مدرسة الحقوق , فقلت له : إن الأمر ميسور ,
والخطب سهل , فطلب إلىَّ تجربة ذلك قبل أن يصدر الأوامر , فقلت : نعم وكرامة ,
ولم يَمْضِ شهر حتى دعوته لشهود التجربة مع من شاء من المفتشين , فأَسْفرَتِ
التجربة عن نجاح باهر وارتقاء ظاهر , فصمم على إمضاء عزيمته لولا احتجاج
فريق من المعلمين ، بل نفر من العاجزين بأن التطبيق متعذر قبل حفظ اللغة
وإتمام القواعد , ولولا التوكّؤُ على هذه المغالطة لَكانت العامية الآن في خبر كَادَ
إن تكن في خبر كَانَ .
والذي يسمع كلام الباحثين الأصليين والمنتصرين لهما يخال أن بين الفريقين
حربًا عوانًا وخلافًا ما بعده اتفاق . ومنشأ هذا الافتراق الذي حمي وَطِيسه ، واحتدم
أوراه أن أدلة الفريق الأول تنتج أكثر من المدعى ويجر التسليم بها إلى إذهاب اللغة
العربية , والإتيان بخلق جديد ولولا ذلك لَكان الخلاف نظريًّا لا يترتب عليه أثر ,
ويتضح ذلك إذا حددنا موضعَ النزاع , وحصرناه في الدائرة التي يجب حصره فيها ،
وأحسن طريق للتحديد سرْد مواطن الوفاق حتى نتحاماها إذا التقى الجمعان ؛
وإليكم البيان :
( 1 ) نقسم أولاً اللغة العربية إلى لغتين : لغة عامية , ولغة فصحى ,
فالعامية لا يمكن أن تكون مَحلّ نزاع ؛ لأن الباحثَ الأول يقول بصقل اللفظ
الأعجمي , ووضعه في القوالب العربية , والثاني يقول بعدم الخروج عَمَّا ورد ,
فمحل النزاع إذًا اللغة الفصحى .
( 2 ) ثم نقسم اللغة الفصحى إلى أجزائها : حرف , وفِعْل , واسم ؛ فالحرف :
لا يمكن أن يكون محل النزاع ؛ لأن ما وجد منه كافٍ وافٍ بحاجة اللغة , فلا
ضرورة لزيادة نحو : ( ييس ) و ( نو ) و ( آند ) لوجود نَعَم و لا , وحرف
العطف , والفعل كذلك غير محتاج للمزيد , فلا باعث لزيادة نحو : ( جون ) و
( كم ) لوجود ما يماثلها في العربية , وقد وقع في كلام الباحث الأول[1] ما يُفهم منه
رغبته في زيادة أفعال تشتق من الأسماء الأعجمية ؛ كأترم وتمبل وأمبس , ولعلّ ذلك
فرط منه أثناء احتدام الجدال , وإلا فما وجه تفضيل الأعجمي على العربي ؟
ولم يقل أحد بجواز أبغل وأحمر وأفرس ؛ والبغل والحمار والفرس أعرق في العربية
من الترام ؛ اللهم إلا أن يكون وجه التفضيل شدة السرعة , وعندنا قاعدة مذهبة نبني
عليها , وهي أنه لا يُصَار إلى التعريب إلا إذا ألجأت الحاجة إليه , ولا حاجة
إلى أترم كما لا حاجة إلى أبغل , لإمكان التعبير بركب الترام لو سلمنا بقبول كلمة
ترام فمحل النزاع إذًا الاسم .
( 3 ) ثم نُقسّم الاسم إلى ما ينوب عن الفعل : كَشَتَّانَ ووي وصه , وإلى ما لا
ينوب عن الفعل , والأول كالفعل لا حاجة إلى الزيادة فيه , فمحل النزاع إذًا الثاني .
( 4 ) ثم نُقسّم ما لا ينوب عن الفعل إلى : مشتق وجامد , فالمشتقات في
العربية كافية , وهي أصرح من نظائرها في اللغات الأخرى , فالنزاع في الجامد .
( 5 ) ثم نقسم الجامد إلى اسم معنى , واسم ذات ؛ فأسماء المعاني كثيرة جدًّا
في العربية حتى عدها الباحث الأول ثروة واسعة , فالنزاع في اسم الذات .
( 6 ) ثم نقسم اسم الذات إلى : ما وُضِع لمعين بلا واسطة وهو العَلَم , وإلى
ما وضع لمعين بواسطة ملازمة , وهو : الضمير, واسم الإشارة , والاسم
الموصول , وإلى ما وُضِعَ لغير معين , وهو اسم الجنس .
فالعلم يشتمل أسامي الأناسي , والبلاد , والجبال , والأنهار , والبحار , والأمم ,
والأقاليم , وما له شأن خاص من غيرها ، والاتفاق على أنها لا تخص لغة معينة إلا
باعتبار معناها الأصلي قبل العلمية , وإنها تبقى على ما وضعه لها واضعها إلا
لضرورة , والضرورة إما أن تكون بوجود حروف أعجمية لا نظيرَ لها في العربية ,
كالحرف الذي بين الباء والفاء ، والحرف الذي بين الفاء والواو ، والحرف الذي بين
الجيم والقاف , والكاف والغين , وبعبارة أخرى كجيم القاهرة , أو قاف الصعيد
وهي قاف تميم , والحرف الذي بين الجيم العربية والياء ، وبعبارة أخرى كجيم
المغاربة , والحرف الألماني الذي بين الخاء والشين فيبدل الحرف الأعجمي
بحرف يقاربه .
وإما أن تكون بوجود حركات أعجمية لا نظير لها في العربية , كالحركة التي
بين الفتحة والضمة كما تقول أهل القاهرة خوخ , والحركة التي بين الضمة والكسرة
عند الفرنسيس , فتبدل بحركة عربية تقاربها , أما الحركة التي بين الفتحة والكسرة
فلها نظير في العربية في لغة نجد وقيس وأسد , كما تسمع من القراء , فتبقى كما
هي أو تبدل بفتحة خالصة , والمَدّ بعدها بألف خالصة .
وإما باشتمال العلم على ما لا تجيزه أصول العربية كالابتداء بساكن ,
وكالانتهاء بواو ساكنة قبلها ضمة , وكالانتهاء بواو أو ياء بعد حرف مدّ فيحرك
الساكن أو يُتَوَصّل إليه بهمزة وصل , ويحرك أحد الساكنين وتقلب الواو الساكنة ياء
والضمة كسرة , أو تحذف وتقلب الواو أو الياء المتطرفة بعد مدة همزة , وهذا
التغيير هو الذي يسمى صقلاً أو وضعًا في القوالب العربية , فالعلم موضع اتفاق بين
الباحثين أيضًا .
والضمائر وأسماء الإشارات والأسماء الموصولة كافية , بل فيها زيادة عن
نظائرها في اللغات الأخرى , فلا حاجة للزيادة فيها , وإنما النزاع في اسم الجنس
كما صرّحَ الباحث الأول مرارًا .
( 7 ) ثم نقسم اسم الجنس إلى : ما استعملت له العرب لفظًا سواء وضعته له
من عندنا أو عربته من لغة غيرها , وإلى ما لم تستعمل له لفظًا . والأول يقبل ولا
ينظر إلى أصل اللفظ قبل التعريب ؛ لأن التعريب جعله في حُكْم العربي , فليس
موضع نزاع , والنزاع فيما لم تستعمل له العرب لفظًا .
( 8 ) ثم نقسم ما لم تستعمل له العرب لفظًا إلى ما اصطلح المولدون على
إطلاق لفظ عربي عليه بأي مناسبة كانت كنسافة وغواصة ودارعة وقطار , ولا
خلافَ بين الباحثين في قَبُوله ، وإلى ما لم يصطلحوا على إطلاق لفظ عليه للآن ,
ولا خلاف بين الباحثين في قبوله ، وإلى ما لم يصطلحوا على إطلاق لفظ عليه
للآن ، ولا خلاف بين الباحثين في أنه يجب البحث والتنقيب في كتب اللغة عن لفظ عربي يمكن إطلاقه عليه بأي مناسبة من المناسبات الجائزة في اللغة العربية ,
ويصطلح على دلالته عليه كما اصطلح من قبلنا على لفظ نسافة وغواصة .
ولم يقل أحد منهما بتعطيل حركات الخطابة والكتابة , ودواوين الإنشاء ,
وصحف الأخبار في مدة البحث والتنقيب , بل لا بُدَّ من ملء الفراغ بلفظ أعجمي
واستعماله مُوَقَّتًا للضرورة كما يفعل الطالب الذي ينتقل بالتعليم تدريجًا من لغة العامة
إلى اللغة الفصحى .
فإذا انقضى دور البحث ولم يعثر على كلمة عربية يمكن الاصطلاح عليها وهو ما لا يكون إلا نادرًا تصقل الكلمة وتستعمل , وحينئذ يراها الباحث الأول بالمنظار الذي
يرى به المعربات التي صقلتها العرب , ويقول : قد احتطت وما فرطت ؛ فمرحبًا
بالدخيل العتيد ، وبُعْدًا للأصيل الشريد ، وما لي أشغل آمالي بنشد ضالة إن جاءت
فلا كرامة ، وإن ذهبت فلا شيعتها غمامة ، ويراها الباحث الثاني بمنظار آخر غير
ما يرى به المعربات فيحسبها كالرقعة في الثوب والحصاة بين الدُّرِّ , ويقول
للضرورة أحكام ، وحَبَّذَا لو صحت الأحلام ، ووجدت طلبتي في يوم من الأيام .
هذا هو الخلاف الطويل العريض ضيق البحث حلقاته رويدًا حتى تضاءل ,
وانتهى إلى تقدير النظر إلى الكلمة المُجْتَلَبَة واستقبالها إمَّا بالترحيب ، وإما بالتقطيب ،
وهو خلاف غريب .
 حفني ناصف
__________
(1) هو الشيخ محمد الخضري .