كتاب مصر الحديثة للّورد كرومر (1)
( نظرة إجمالية في الكتاب )
أقام لورد كرومر في مصر نحو ربع قرن متصرفًا بنفوذ الحاكم المطلق ,
فعرف من أحوال حكومتها وسيرها الاجتماعي ما يعز على غيره من حكام البلاد أو
نزلائها من الأوربيين أن يعرفوه , ثم أودع زبدة ما عرفه في كتاب يدخل في ثلاثة
مجلدات , طُبع اثنان منها , وأوصى هو بطبع الثالث عقب موته ؛ لأنه خاص بحال
مصر في عهد الأمير الحالّ عباس باشا الثاني , والظاهر أنه أشد الأجزاء وطأً
وأثقل قيلاً على مصر والمصريين على أن الجزء الثاني لا تستخف وطأته ، بل لا
تطاق كلمته ، فهو قد حكم لكل الشعوب التي تتبوأ أرض مصر وعليها , ولكنه حكم
على المصريين لا لهم , ولم يحكم عليهم بالمساواة بل فضل القبط على المسلمين
تفضيلاً من حيث دينهم وما فيه من المرونة التي تساعدهم على مجاراة المدنية ما لا
يساعد الإسلام أهله على زعمه .
ولم يكتف بالحكم في قضايا الشعوب من حيث هو حاكم سياسي اجتماعي , بل
حكم أيضا في قضايا الرجال المشهورين الذين عرفهم من بعض الوجوه , وكان
حكمه عليهم من غير الوجه الذي عرفهم به ؛ إذ حكم على مطويات العقائد ,
ومكنونات الضمائر , وخطرات القلوب .
ولم يرضه هذا حتى رفع نفسه إلى مستوى الحكم على الإسلام من حيث هو
دين , ومن حيث هو شريعة ونظام اجتماعي , فحكم من الحيثية الأولى له وعليه ,
ومن الحيثية الثانية عليه لا له , وانتقل من الحكم عليه إلى الحكم على أهله عامة
حتى في مستقبل أمرهم , فكان حكمه هذا صاخّة تصخّ المسامع , وقارعة تصدع
القلوب , بل هو عِبْرة للمعتبرين , وموعظة للمصريين وسائر المسلمين .
رأيت حديث الناس في هذا الكتاب يدور على قطبين :
( أحدهما ) : الحكم على شعور الكاتب حينما دوَّن حكمه على المصريين ,
وعلى الإسلام والمسلمين , فما رأيت بينهم خلافًا في كونه كتب بمداد الحقد والحنق ,
وقلم الحفيظة والانتقام من المصريين بما فوقوا إليه من سهامهم ، وصوبوا إليه من
أسنة أقلامهم في وقت مفارقته لديارهم ، وهو وقت ضاق فيه ذاك الصدر الواسع عن
احتمال الانتقاد ، بَلْهَ الشماتة والإزراء على أنه قد ظهر ضيق صدر اللورد قبل
ذلك في تقريره الأخير ، ثم في خُطْبته التي خطبها قبيل الرحيل .
هذا , وأما القطب الثاني لحديث الناس في الكتاب فهو غرضه منه , وقد رأيت
أهل الفهم والذكاء يقولون من غير مواطأةٍ ولا تقليدٍ : إن غاية اللورد من هذا الكتاب
هي أن يستل من نفوس أحرار قومه فكرة توقيت الاحتلال ، والخروج من مصر في
يوم من الأيام ، ويقنعهم ويقنع أوربا معهم بأن لا ضمان لحفظ مصالح الأوربيين في
مصر , بل ولا مصالح المصريين إلا بقاء الإنكليز في مصر ؛ لأن المصري شديد
التمسك بدينه الذي لا يتفق مع المدنية فإن هو تركه واتبع هذه المدنية كما يحب
الأوربيون ويبغون كانت مدنيته تقليدية لا حقيقية , وكان بذلك شرًّا من المسلم
المتدين وأشد عداوةً للأوربي وللمسيحي , ولو غير أوربي .
ويرون أن تصريحه بعدم استحسان ضمّ مصر إلى أملاك إنكلترا , وما أظهره
من الميل إلى إعدادهم للاستقلال هو من التمويه , وذرّ الرماد في العيون , وإلهاء
المصريين بالأماني والأحلام , وأصحاب هذا القول غافلون عن طرق الاستعمار
الجديدة , ومنها حكم البلاد باسم أهلها , والرضى بالسلطة الفعلية بديلاً من السلطة
القولية , وقد سبق لنا بيان لهذه الطرق في السَّنَة الأولى من المنار , وفي غيرها
أيضًا .
هذه صفوة الآراء التي دارت بين الناس في شعور مؤلف كتاب مصر الحديثة ,
وفكره المستولي عليه عند الكتابة , وفي غايته منه , وذلك ضرب من ضروب
انتقاد المصنفات مطروق الأبواب معهود عند الكتاب .
ومما ينتقد على هذا الكتاب - وهو من أصول الانتقاد - استنباط القواعد الكلية
من شواذّ الحوادث الجزئية ، ولم يسلم اللورد من ذلك , فإنه في المقابلة بين عقل
الغربي والشرقي أورد الأمثلة لعقل الشرقي الضعيف التنظيم والإدراك ( لاعتقاده
بالقضاء والقدر , ورضوخه لكل سلطة تتولى أموره ) فإنه بعد أن دعم الحكم على
عقل الشرقي بهاتين العِلّتين مثّل للحكم الكلي العامّ بما نصُّ ترجمته :
قال اللورد : ( حدث أكثر من مرة أن( المفتحجي ) في مصلحة الحديد المصرية
حوَّل الخط والقطار عليه ، لم يمر إلا نصفه إلى الخط الآخر ؛ فأدى ذلك إلى انقلاب
القطار , وحدث أيضًا أن سائق قطار نَسِيَ أحيانًا أيّ مفتاح يجب أن يُحَرَّك لكي يوقف
القطار , وحدث مرة أن عمال السكة الحديدية قُتِلوا لأنهم ناموا بعد أن وضعوا
رءوسهم على الخط الحديدي , وإنما فعلوا ذلك ليثقوا بأنهم يستيقظون على أصوات
القطار الآتي ) .
ونقول : إن أمثال هذه الجزئيات تقع في أوربا وفي جميع البلاد من جميع
الشعوب ، وناهيك بالطبقة الدنيا من العمال , فإن ذكي الفطرة عالي النفس لا
يرضى لنفسه بأن يكون من أحقر عمال سكة الحديد ، وناهيك بالمبتدئين من أهل
هذه المهنة بها , والغالب أن يكون أصحاب ذلك الشذوذ الذي ذكره منهم . فحال
أمثال هؤلاء لا يصح أن يكون مناط المقابلة بين الشعوب في ارتقاء العقل وملكة
النظام فيه . وإنما ينظر في حالهم من وجهة النشاط في العمل , والصبر عليه ,
ولعله لو قابل بين فَعلة الأوربيين وفَعلة المصريين في هذه المزايا لَمَا قدر أن يبخس
المصريين حقهم ، وإن ظن أن القضاء والقدر قد فتك باستعدادهم لكل عمل ! !
ونسي أن أكثر المستخدمين في سكة الحديد من القبط الذين هم على شاكلته في عدم
الإيمان بالقضاء والقدر .
وإنني أذكر له شيئًا من بَلادة بعض الأوربيين وغفلتهم وهو أبعد عن العقل
والنظام مما صدر عن صغار فَعلة السكة الحديدية في مصر , ناقلاً إياه عن كتاب
صفوة الاعتبار لصديقه الشيخ محمد بيرم الثقة العدل - رحمه الله تعالى - فإنه كتب
في الفصل الذي عقده لبيان عادات أهل فرنسا وصفاتهم ما نصه :
ومع ذلك - أي انتشار المعارف - فلا يزال في فرنسا خَلْق كثير على
السذاجة والجهل . ودونك حكاية ظريفة تقيس عليها ما يقرب منها :
ففي سنة 1297 هـ 1880م كان أحد أصحاب العمل باليد مشتغلاً جهة باريس
وكان له ابن مشتغل جهة بردو فلم يوفر الابن من كسبه ما يشتري به حذاءً , فأرسل
إلى أبيه يشتكي له القلّ , ويطلب منه شراء حذاءٍ له , فاشتراه له , وحمله في الطريق
وهو مفكر في كيفية إيصاله إليه , فبينما هو ماشٍ إذ مرّ مُحاذيًا للسلك الكهربائي ,
فقال : هذا أيسر طريق ! ! إني أحمله الحذاء وهو يوصله لابني . فجاء إلى عود
السلك وعلّق فيه الحذاء وأسرَّ إلى العود بقوله : ( أوصِلْ هذا لابني فلان في المكان
الفلاني ) وذهب مسرورًا باطلاعه على مسلك سهل بلا مصروف . ثم مرّ من غدٍ
متفقدًا ما فعل السلك بالحذاء , فوجد في ذلك المكان حذاءً عتيقًا أفناه اللُّبْس , ففرح ,
وقال : ( إن ابني لَعاقل حيث أرسل لي القديم لأستعين به على ثمن الجديد ) فانظر
إلى البلاهة التي لو صدرت من أحد المشرقيّين لشنعوا بجميع الجنس بأنه وحشي بعيد
عن المعارف وتهذيب الأخلاق .
وقد صدق ظنّه صديقه لورد كرومر , فإنه شنع على الشرقيين كافّة بما وقع
من بعض فعلة سكة الحديد بمصر .
ثم قال بيرم : ( واعلم أن مثل هذا الرجل كثير سِيَّمَا في القرى الصغيرة
والجبال ، بل وفي أهل المدن كثير ممن يعتقد بالخرافات الباطلة , ويعتقد التأثير
لأشجار وجمادات ، ويتشاءم بالأوقات ، فقد رأيت في كثير من بلدانهم , وبلدان
الطليان , وكذا الإنكليز طاقات في حيطان , فيها منارات توقد ليلاً بالزيت أو بالشمع
العسلي تقربًا إلى بعض أوليائهم أو الجن , معتقدين حلول المتقرب إليه بتلك الطاقة ،
ولا ينورونها بغير ما ذكر من الأنواع ؛ لأن القسوس يقولون لهم : إن شمع الشحم
أو الغاز من البدع التي لا يتقرب بها .
وكذلك يطلبون البخت وقضاء الحاجات من جمادات أو أماكن اعتقاد حلول
أرواح فيها . وقد ذكر من هذا النوع في ( كشف المخبا عن فنون أوربا ) ما يتعجب
منه السامع مما ترى الأورباويين ، ومن تشكل بشكلهم وتباهى بتقليدهم يحملون عبثه
على البلاد الإسلامية وحدها , ويجعلونها سخرية , وينزهون أوربا عن مثلها مع أنها
حاوية لشبهها ولأشد منها ؛ بل ربما أسند ذلك الجاهل أو المتجاهل إلى ديانتنا الشريفة
- وحاشا لله - أن تؤدي أو ترشد لمثل ذلك , بل إنها هي المهذبة , والمنقذة من
غياهب الجهل إلى نور المعارف الحاثة على العلم وفتح البصائر ) . ا . هـ بحروفه .
هذا ما قاله عن أهل فرنسا , وهم أسبق الأوربيين إلى العلم والمدنية , وأذكاهم
أذهانًا على أنه قال : إن الإنكليز كذلك . بل قال في كلامه من عادات الإنكليز
وصفاتهم ما نصه :
( وأما أطوار الطبقة السفلى , فهي أشنع مما مر ذكره في همج الفرانسيس
سواء كان من من جهة الاعتقاد أو من جهة السيرة والحركات فيتطيرون من أشياء
كادت أن لا تحصى , وينقادون إلى السَّحَرة والدّجّالين بما يخرج عن حدّ المعقول
وكاد التعلم أن يكون عندهم مجهول الاسم فضلاً عن المسمى سوى ما يرطن لهم
القسيسون في الكنائس ) إلخ .
أقول : أما خرافات القبور والأولياء التي قال : إنهم يعيبون الإسلام بمثلها , وهو
منها بريء , فقد أخذها المسلمون عنهم وهم أخذوها عن أجدادهم أو مجاوريهم من
الوثنيين , فالإسلام والنصرانية الحقيقية بريئان منها ؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم :
( لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع ) ، قالوا : يا رسول الله , اليهود
والنصارى ؟ قال : فمن ؟ . رواه الشيخان وغيرهما .
وإن تعجب فعجب مقارنته في هذا المقام بين الأوربي مطلقًا والعامي المصري
في الحساب فقد قال بعد ما تقدم ما ترجمته كما في المؤيد :
( وقارن أيضًا بين تقدير الأوربي للحساب وبين المصري العامي الذي يشكل
عليه إشكالاً كاملاً كل أمر يتعلق بالأرقام أو الكمية , فإن عددًا قليلاً من عامة
المصريين يعرفون عمرهم . فإذا سألت المصري عن عمر رجل متقدم في السن يكون
جوابه غالبًا : ( إن عمر الرجل مائة سنة ) ويقول في نفسه : ماذا يهم التدقيق في هذا
الأمر , أو أي أمر آخر علمي ) .
قلت : إن هذا من مواطن العجب ؛ لأن المقارنة فيه بين الأوربي المتعلم
والمصري العامي , ولماذا لم يقارن في الحساب والأرقام بين المتعلم من الفريقين ؟
لعله لأنه يعلم أن المصريين من أقوى الشعوب استعدادًا للبراعة في الحساب وسائر
العلوم الرياضية , وقد أراد الإنكليز منذ بضع سنين أن يجعلوا ترقية المهندسين منهم
على المهندسين من المصريين مبنيًّا على قاعدة عادلة ؛ لظنهم أن الإنكليز أعلم
وأبرع , فامتحنوا الفريقين , فأسفر الامتحان عن فوز المصريين وتخلف الإنكليز
عنهم , وسكت الفريقان على ذلك الامتحان , فلم يُعلموا به الجرائد .
أما الإنكليز فلِمَا هو ظاهر , وأما المصريون فلِخوفهم أن يحنق عليهم
رؤساؤهم , وينتقموا منهم .
ومما تقدم في كتابه تقليده لغير واحد من كتاب الأوربيين في آرائهم في
الإسلام, وكان أجدر من كثير من أولئك الكاتبين بمعرفة حقيقة الإسلام لو أراد أن
يعرفه وينصفه فإنه عاش في مصر عمرًا طويلاً , وعرف أشهر علمائها ن بل أشهر
علماء الإسلام المعروفين في العالم كله الآن , وناهيك بالأستاذ الإمام وطول باعه في
علوم الدين , ورسوخه في فهم القرآن , وهو الذي لم يكن يحتاج في مخاطبته إياه
وفهمه عنه إلى ترجمان كما كان يحتاج في مخاطبة غيره من شيوخ الأزهر . ولكنه
لم يكن يسأله عن أصول الإسلام وحكمه وأحكامه ، ولا الأستاذ الإمام كان يبتدئه بشيء
من ذلك , وإنما كان يقصد إليه ؛ لأجل الكلام في المسائل المصرية , لا سِيَّمَا
المحاكم الشرعية .
ومما ذكر لي عنه أنه كان يذاكره مرة في إصلاح هذه المحاكم , ومعارضة
قاضي مصر وبعض المشايخ , ومقلديهم في ذلك كما حصل في مجلس شورى
القوانين , وذكر اللورد كثرة شكوى الأهالي من الظلم وضياع الحقوق في هذه
المحاكم , ولَمَّا بيَّنَ الأستاذ الإمام أنه ليس في أصل الشرع شيء ينافي الإصلاح
العدل , قال له اللورد : هل تصدق يا أستاذ أنه يخطر في بالي أن شريعة قامت على
أساسها مدنية عظيمة تكون غير عادلة ؟ كلا , إنني أعلم أن كل هذه المفاسد مسائل
( إكليركية ) أي : من تقاليد المشايخ التي تشبه تقاليد رجال ( الإكليروس ) عند
النصارى .
أنقل هذا بالمعنى كما أحفظه عن الأستاذ الإمام , وأستطرد من ذلك إلى انتقاد
ما كتبه اللورد عنه , ثم ألخص كلامه في الإسلام من حيث هو دين , ومن حيث هو
شريعة ، وأبين خطأه وخطله فيه , وأنتقل مِنْ ثَمَّ إلى المقصد الأعظم وهو مستقبل
الإسلام والمسلمين , ومراد اللورد وأمثاله من أساطين السياسة وأمانيهم في ذلك ,
وما يجب علينا من العِبرة والعمل في هذا المقام ، مع تعدد السُّبُل واشتباه الأعلام .
* * *
قول اللورد في الشيخ محمد عبده
لم يسلك اللورد مسلك أصحاب التراجم من المؤرخين فيذكر ما للرجال الذين
ترجمهم من الصفات والمزايا , وما عليهم من التقصير , وإنما ألمَّ بذكر بعض كبار
الرجال المشهورين إلمامًا , ولم ينظر إلى أحد من المسلمين بعين الرضا كما نظر
إلى الشيخ محمد بيرم التونسي على أنه مدحه بشيء يراه هو مدحًا , ويراه جميع
المسلمين ذمًّا ؛ إذ قال فيه : ( علمه ذكاؤه الفطري , إن النظامات التي تعلق بها
أسلافه ( يعني : الشريعة التي جرى عليها المسلمون السابقون ) لا بُدَّ أن تتلاشى إذا
قابلتها المبادئ السامية المرقومة على راية الإنكليزي ! رأى كل هذه الأمور بعين
الناقد البصير ) وقال بعد ذلك : إن مثله إذا ناقش المسيحي في الأمور العامة يكون
من النتيجة المحزنة أنه : ( يكتفي بندب مصير ذلك الدين الذي يحبه , وذلك النظام
المؤذي الذي أوجده دينه ) , ثم ذكر أنه لا يوجد عند أمثال بيرم من خيار المسلمين
طريةً قادرةً على إحياء الإسلام الذي هو حالة الموت السياسي والاجتماعي ! ! ونحن
نعلم فيما رأينا من مؤلفات الشيخ محمد بيرم وما سمعنا عنه ممن لقيه أنه كان متمسكًا
بهذا الفقه ويراه أحسن نظام , ويعتقد أنه مستمد من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله
عليه وسلم - فإذا كان مع ذلك يفضل عليه المبادئ والقوانين الإنكليزية , أو يرى أنه
نظام مؤذٍ ؛ فكيف يكون راسخًا ذلك الرسوخ في الإسلام ؟ أرى أنه على إطرائه
لبيرم في الدين قد ذمه من حيث أراد مدحه , ولم يعرف حقيقته الدينية كما هي ولا
يرضى مريدي الشيخ محمد عبده أن يكون مثله مرضيا للورد في ذلك , وإن كانوا
يعلمون أنه لا يعد جميع هذا الفقه , ولا أكثره من الدين . وإننا نذكر الآن رأي
اللورد في الأستاذ الإمام في تقريره لسنة 1905 , ثم نشفعه برأيه في مصر الحديثة ،
ونبين سبب الاختلاف بينهما .
* * *
( قوله فيه بتقريرسنة1905 )
اختطفت المنية في السنة الماضية رجلاً مشهورًا في الهيئة السياسية
والاجتماعية بمصر , أريد به الشيخ محمد عبده , فأحببت أن أسطر هنا رأيي
الراسخ في ذهني , وهو أن مصر خسرت بموته قبل وقته خسارة عظيمة .
لما أتيت مصر القاهرة سنة 1883 كان الشيخ محمد عبده من المغضوب
عليهم ؛ لأنه كان من كبار الزعماء في الحركة العرابية . غير أن المغفور له
الخديوي السابق صفح عنه طبقًا لما اتصف به من الحلم وكرم الخلق , فعين الشيخ
بعد ذلك قاضيًا في المحاكم الأهلية , حيث قام بحق وظيفة القضاء مع الصدق
والاستقامة , وفي سنة 1899 رقي إلى منصب الإفتاء الخطير الشأن , فأصبحت
مشورته ومعاونته في هذا المنصب ذات قيمة عظيمة ثمينة ؛ لتضلعه من علوم
الشرع الإسلامي مع ما به من سَعَة العقل , واستنارة الذهن , وأذكر مثالاً على نفع
عمله الفتوى التي أفتاها في ما إذا كان يحل للمسلمين تثمير أموالهم في صناديق
التوفير , فقد وجد لهم بابًا به يحل لهم تثمير أموالهم فيها من غير أن يخالفوا الشرع
الإسلامي في شيء .
أما الفئة التي ينتمي الشيخ محمد عبده إليها من رجال الإصلاح في الإسلام
فمعروفة في الهند أكثر مما هي معروفة في مصر , ومنها قام الشيخ الجليل السيد
أحمد الشهير الذي أنشأ مدرسة كلية في عليكره بالهند منذ ثلاثين عامًا . والغاية
العظمى التي يقصدها رجال هذه الفئة هي إصلاح عادات المسلمين القديمة من غير
أن يزعزعوا أركان الدين الإسلامي , أو يتركوا الشعائر التي لا تخلو من أساس
ديني . فعملهم شاقّ وقضاؤه عسير ؛ لأنهم يستهدفون دائمًا لسهام نقد الناقدين ,
وطعن الطاعنين من الذين يخلص بعضهم النية في النقد , ويقصد آخرون قضاء
أغراضهم , وحكّ حزازات في صدورهم , فيتهمونهم بمخالفة الشرع وانتهاك حرمة
الدين .
أما مريدو الشيخ محمد عبده وأتباعه الصادقون فموصوفون بالذكاء والنجابة ,
ولكنهم قليلون , وهم بالنظر إلى النهضة الملية بمنزلة الجيروندست في الثورة
الفرنسوية , فالمسلمون المتنطعون المحافظون على كل أمر قديم يرمونهم بالضلال
والخروج عن الصراط المستقيم , فلا يكاد يؤمل أنهم يستميلون هؤلاء المحافظين
إليهم ويسيرون بهم في سبيلهم .
والمسلمون الذين تفرنجوا ولم يبق فيهم من الإسلام غير الاسم مفصولون عنهم
بهُوَّة عظيمة . فهم وسَط بين طرفين ، وغرض انتقاد الفريقين عن الجانبين ، كما هي
حال كل حزب سياسي متوسط بين حزبين آخرين ، غيرَ أن معارضة المحافظين لهم
أشدّ , وأهم من معارضة المصريين المتفرنجين ؛ إذ هؤلاء لا يكاد يُسمع لهم صوت .
ولا يدري إلا الله ما يكون من أمر هذه الفئة التي كان الشيخ محمد عبده شيخها
وكبيرها , فالزمان هو الذي يظهر ما إذا كانت آراؤها تتخلل الهيئة الاجتماعية
المصرية أو لا . وعسى الهيئة الاجتماعية أن تقبل آراءها على توالي الأيام إذ لا
ريب عندي في أن السبيل القويم الذي أرشد إليه المرحوم الشيخ محمد عبده هو
السبيل الذي يؤمل رجال الإصلاح من المسلمين الخير منه لبني ملتهم إذا ساروا فيه ،
فأتباع الشيخ حقيقون بكل ميل وعطف وتنشيط من الأوربيين . ولعلهم يجدون
بعض التنشيط من نقلي قولاً لرجل من أهل دينهم وصف فيه المعارضة التي لقيتها
مدرسة عليكره المذكورة آنفًا , والطريقة التي تغلبوا بها على تلك المعارضة , وههنا
ذكر عبارة عن كاتب هندي اسمه السيد محمود تضاهي عبارته في المقدار .
ومما كتب في أواخر الفصل الذي يتكلم فيه عن المحاكم الشرعية ما ترجمته :
( هذا , وإني أوافق السر ملكولم مكلريث على ما قال عن الضربة الثقيلة التي
أصابت الإصلاح من هذا القبيل بموت المرحوم الشيخ محمد عبده , فقد أشرت إلى
خدمات ذلك الرجل الجليل في فصل آخر من هذا التقرير , وأعود فأبسط الرجاء
أيضًا أن الذين كانوا يشاركونه في آرائه لا تخور عزائمهم بفقده , بل يظهرون
احترامهم لذكراه أحسن إظهار بترقية المقاصد التي كان يرمي إليها في حياته ) .اهـ
أما ما قاله السر ملكوكم مكلريث , وصرح به اللورد بموافقته عليه فهذا نص
ترجمته :
( قول المستشار القضائي في الشيخ محمد عبده )
ولا يسعني ختم ملاحظاتي على سير المحاكم الشرعية في العام الماضي بغير
أن أتكلم عن وفاة مفتي الديار المصرية الجليل المرحوم الشيخ محمد عبده في شهر
يوليه الفائت , وأن أبدي شديد أسفي على الخسارة العظيمة التي أصابت هذه النظارة
بفقده ؛ فقد كان خير مرشد لنا في كل ما يتعلق بالشريعة الإسلامية والمحاكم الشرعية ,
وكنا نرجع إليه كثيرًا للتزود من صائب آرائه , والاستعانة بمساعدته الثمينة ,
وكانت آراؤه على الدوام في المسائل الدينية أو الشبيهة بالدينية سديدة صادرة عن
سعة في الفكر كثيرًا ما كانت خير معوان لهذه النظارة في عملها .
وفوق ذلك فقد قام لنا بخدم جزيلة لا تقدر في مجلس شورى القوانين في معظم
ما أحدثناه أخيرًا من الإصلاحات المتعلقة بالمواد الجنائية , وغيرها من الإصلاحات
القضائية ؛ إذ كان يشرح للمجلس آراء النظارة ونياتها ويناضل عنها , ويبحث عن
حلّ يرضي الفريقين كلما اقتضى الحال ذلك .
وإنه ليصعب تعويض ما خسرناه بموته نظرًا لسموّ مداركه وسَعَة اطلاعه ,
وميله لكل ضروب الإصلاح والخبرة الخصوصية التي اكتسبها أثناء توظيفه في
محكمة الاستئناف , وسياحاته إلى مدن أوربا , ومعاهد العلم . وكانت النظارة تريد
أن تكل إليه أمر تنظيم مدرسة القضاة الشرعيين المزمع إنشاؤها ومراقبتها مراقبة
فعلية . أمّا الآن , فإنه يتعذر وجود أحد غيره حائز للصفات اللازمة للقيام بهذه
المهمة ولو بدرجة تقرب من درجته , فلكل هذه الأسباب أخشى أن نظارة الحقانية
ستظل زمنًا طويلاً تشعر بخسارتها بفقده . ا هـ كلام المستشار .
* * *
( قول اللورد فيه بكتاب مصر الحديثة )
أما الشيخ محمد عبده , فكان عالمًا من طراز يفضل كثيرًا طراز إخوانه الذين
أشرت إليهم ( كالسادات والبكري ) وكان أحد زعماء الفتنة العرابية , فلما جئت مصر
سنة 1883 كان مغضوبًا عليه , ولكن الخديوي توفيق عفا عنه بما فطر عليه من
مكارم الأخلاق , وانقيادًا لتشديد الإنكليز عليه في ذلك , وعينه قاضيًا , فأحسن العمل ,
وأدى الأمانة حقّها . وكان متوسعًا في آرائه , وعلى علم ونباهة , فلم ينكر المساوئ
الناشئة في الحكومات الشرقية , وعرف أنه لا بد من الاستعانة بالأوربيين للإصلاح
إلا أنه لم يكن من عداد المصريين المتفرنجين , وكان يقول : إنهم لم يحسنوا تقليد ما
حاولوا تقليده من الأخلاق الأوربية , وكان عدوًا للخديويين والباشاوات ؛ وأريد بذلك
أنه لو عثر على باشاوات صالحين لَمَا أعرض عنهم ولا عارضهم , ولكنه لم يوفق إلا
إلى عدد قليل من خيارهم مع اختباره الطويل .
وحقيقة الأمر أن الرجل كان مفطورًا على الخيال , ويرى آراء لا يمكن الجري عليها إلا أنه كان مع ذلك مصريَّا وطنيًّا حقيقيًّا , ومن مصلحة الوطنية المصرية أن يكون أمثاله كثارًا , ولكن إذا نظرنا إلى نسيج محمد عبده والذين يعلمون تعاليمه
من جهة إمكان اتخاذهم ساسة للمستقبل نجد أن هناك بعض أوجه الضعف , وقد قال
المستر ستانلي لاين بول : إن المسلم من الطبقة العليا لا بد أن يكون أحد اثنين :
( إما متعصب أو ملحد في سره) فمثل هذه الحيرة على شكل مختلف قد أوجدت
عقبات في سبيل المسيحيين الذين يؤمنون بحرفية تعاليم المسيح دون معناها أنها عقبات أعظم للمسلم الأصيل الذي يبذل عناية كلية بحرفية تعليم دينه دون معناها , وأخشى أن يكون صديقي محمد عبده في حقيقة أمره ( لا أدريا ) ولو أنه يستاء من هذه النسبة لو نسبت إليه .
وكان معاشروه ومخالطوه يسلمون بمقدرته ولكنهم كانوا يرمقونه شزرًا
ويقولون : إنه ( فيلسوف ) وكل من يدرس الفلسفة ؛ أي : كل من يدرك
الفرق بين القرن السابع والقرن العشرين هو في أعين المتمسكين بالقديم سائر إلى
الهلاك لا محالة . هذا وإن أهمية محمد عبده السياسية هي في أنه أسس مدرسة
فكرية في مصر على مثال ما أسس في الهند سيد أحمد منشئ كلية عليكرة , وغاية
الذين ينتمون إلى تلك المدرسة هي تزكية طرق الإسلام في عين الإنسان أو بالحري
في عين الرجل المسلم , ولكن شدة اشتباه المسلم المحافظ فيهم , واتهامه إياهم
بالمروق من الدين يمنعانه من المسير معهم طويلاً , ونراهم من الجهة الأخرى
غالبًا غير متفرنجين إلى حد أن يجذبوا إليهم المصري المقلد للطرق الأوربية , فهم
أدنى من المسلم المحافظ في إسلامهم وأدنى من المصري المغالي في تفرنجه ؛
ولذلك ترى مهمتهم عسيرة جدًّا , ولكنهم جديرون بكل تشجيع ومساعدة يمكن
إمدادهم بهما ؛ لأنهم حلفاء المصلح الأوربي الطبيعيون وسيري كل مصري محبّ
لوطنه أن في تقدم أتباع محمد عبده خير رجاء له في إنقاذ برجرامه ألا وهو
جعل مصر مستقلة استقلالاً ذاتيًّا حقيقيًّا .
وقد علق اللورد في ذيل هذه الصحيفة قوله : إنني قدمت لمحمد عبده كل
تنشيط استطعته مدة سنين كثيرة , ولكنه عمل شاق , ففضلاً عن العداء الشديد الذي
كان يلاقيه من المسلمين المحافظين كان لسوء الحظ على خلاف كبير مع الخديو ,
ولو يتمكن من البقاء في منصب الإفتاء له أن الإنكليز أيدوه بقوة .
وقد أثنيت عليه في تقاريري السنوية ثناءً عظيمًا , وأنا أعظم الناس أسفًا حقيقيًّا
على وفاته على أنني في الوقت نفسه لا أرى بُدًّا من الاعتراف بما عراني من الدهشة
عندما طالعت بعض الأنباء الجديدة في كتاب المستر ولفرد بلنت فيظهر أن المستر
ولفرد بنى آراءه في المسائل المصرية على ما سمعه من محمد عبده ؛ فقال عنه في
كتابه التاريخ السري : إنه فيلسوف كبير , ووطني عظيم . وقد قرأت بدهشة وأسف
معًا ما يأتي بلسان محمد عبده :
( عرض علي الشيخ جمال الدين الفتك بإسماعيل يومًا عند مروره بعربته
يوميًّا على كوبري قصر النيل , فاستحسنت رأيه , ووافقته ولكن الأمر اقتصر على
الكلام بيننا , ولم نوفق إلى شخص يتولى تنفيذ هذا العمل ) , فكفاني أن أقول بعد
هذا : ( إن العالم المتمدن عمومًا ينظر شزرًا إلى الوطنيين , ويحتقر بالأكثر أولئك
الفلاسفة الذين لا يتأخرون عن تعزيز مقاصدهم السياسية بمثل ارتكاب القتل ) . اهـ
من ترجمة المؤيد .
* * *
المقابلة بين القولين
من قابل بين ما قاله اللورد في تقريره وما كتبه في كتابه ( مصر الحديثة )
يرى فرقًا عظيمًا بين القولين , فإن عبارة التقرير لا ذمَّ فيها ، ولا تعريض وعبارة
التاريخ فيها ذم صريح ، وتعريض ظاهر بل المدح الذي فيها بمعنى ما في التقرير
ضئيل مبهم يحتمل صرفه إلى الذم في بعض المواضع ؛ فإنه لما وصفه بالعلم فضله
على السادات والبكري وهما ليسا من العلماء , ولما ذكر أنه متهم بالفلسفة فسر ذلك
بالتفرقة بين القرن السابع والقرن العشرين . وقد قال المؤيد في هذا التفاوت ما يأتي :
قضى المرحوم الشيخ محمد عبده من عمره بضع عشرة سنة , وهو صديق
مخلص للورد كرومر , وقضى هذا اللورد زمنه الذي صادق فيه هذا الشيخ وهو
يساعده في الوظائف ويدافع عنه فيها . ويقول الآن بصريح العبارة : إنه لولاه ما
بقي في منصب الإفتاء طويلاً .
كان اللورد يطريه مدحًا في حياته كلما ذكر اسمه في مجلسه , وكلما جاءت
مناسبة لذكره في تقاريره , ويخيل لقارئ كتاب مصر الحديثة الآن أن اللورد يحاول أن
يطعن عليه أكثر من كل إنسان في مصر , لولا ما سيق له من المدح فيه . فَلِمَ هذا ؟.
* * *
( رأي المؤيد في صداقة اللورد للشيخ )
( إن جواب هذا السؤال موجود بين سطور اللورد كرومر فيما كتب عن هذا
الرجل في كتابه الأخير ) .
ثم ذكر المؤيد في بيان ذلك أنه كان من زعماء الثورة العرابية , وأوضح ذلك
وأكده وذكر قول اللورد أن الخديوي السابق عفا عنه بتشديد الإنكليز عليه في ذلك ،
وأنه كان على خلاف كبير مع الخديوي , ثم بين صاحب المؤيد رأيه , وأضاف إليه
كلمة طالما حاكت في صدره , ونوّه بها حتى لفظها اليوم , فأراحنا ، وأراح الناس ؛
قال ما نصه :
من خلال هذا الكلام يظهر الجواب الحقيقي , وهو أن اللورد كرومر لم يكن
صديقًا للمرحوم الشيخ محمد عبده كما كان هذا صديقًا مخلصًا له ؛ ولكنه كان متمسكًا
بصداقته الظاهرية ؛ لأنه كان يريد أن يضع في يده رجلاً قويّ العارضة , لدود
الخصام , عدوًّا لتوفيق باشا أولاً , ولخلفه ثانيًا , ولإسماعيل باشا قبل ذلك .
ولا مراء في أن المرحوم الشيخ محمد عبده كان يكره طائفة الباشوات كما يقول
عنه اللورد من جهة , وكان وطنيًّا صادقًا من جهة أخرى . فكان اللورد يحبه من الجهة
الأولى , ولا يستطيع أن يخلص له الحبّ من الجهة الثانية ؛ لذلك كان يطريه وهو
ينتفع بإطرائه . أمّا الآن وقد مات الشيخ محمد عبده , وفارق اللورد كرومر مصر ,
فلم تكن ثَمَّتْ حاجة لأَنْ يداري اللورد فيه كل المداراة , وإنما لاحظ أن يداري نفسه لما
كتب عنه أولاً فيما كتب عنه ثانيًا, فجاءت كتابته هكذا خليطًا من المدح والقدح ,
وثوب الرياء يشف عما تحته .
* * *
( قول المؤيد في الشيخ نفسه )
وعندنا أن المرحوم الشيخ محمد عبده كان رجلاً عالمًا فاضلاً ذا خلال
محمودة كثيرة من صفات النجدة والوفاء والمروءة , ولا نقول كما قال اللورد عنه :
إنه كان ملحدًا , أو لا أدريا , أو ضعيف الإيمان ؛ لأن الإيمان من أعمال القلوب
التي يستأثر الله بعلمها , وأما ظواهره فكانت مجال مقال كثير لأصدقائه من جهة ,
ولأعدائه من جهة أخرى , ولكنه كان على كل حال عالمًا مصلحًا يحاول ما استطاع
إصلاح الفاسد من الشئون التي طرأت على الدين , ويعمل لذلك بغيرة لا تفتر ,
وفي آخر عهده من الدنيا كان يعتقد في نفسه اعتقادًا ملأ جوانحه أنه رسول إصلاح
من عند الله ؛ فكان يجاهد في سبيل ذلك جهادًا حقيقيًّا , وإنْ لم ينل حظّ الثقة العامّة
بذلك .
وأضعف الجوانب في أعمال وآراء الشيخ محمد عبده كان الجانب السياسي
منه , فكان فكره السياسي خياليًّا غالبًا كما قال اللورد ؛ لأنه كان في كثير من
الظروف يخيل له أن يقبض بكلتا يديه على اللورد كرومر من جهة , وعلى الجناب
الخديوي من جهة , فيفشل في الأمرين معًا حتى يقول الجناب الخديوي من جهته ما
يقول فيه ، وحتى يضحك اللورد من هذا الضعف السياسي فيه .
هذه كلمتنا في المرحوم الشيخ محمد عبده , قلناها بحرية تامة في هذه المناسبة ؛
لنقول : إن كان اللورد أصاب في بعض ما قاله عن المرحوم الشيخ محمد عبده فقد
أخطأ في حقه مرتين الأولى في حياته ؛ لأنه لم يكن يعضده ويساعده إلا لغرض
واحد , وهو أن يكون عدوًّا حقيقيًّا دائمًا للخديو , فكان يدفعه دائمًا إلى الأمام في ذلك ،
والثاني أنه تعرض الآن للطعن على عقيدته , والعقيدة مسكنها القلب خصوصًا وأن
الطاعن مسيحي على عالم مسلم فيما هو مسلم به .
( ولكن اللورد أراد من هذا الطعن شيئًا آخر وهو أن المسلم إن صار مصلحًا
يومًا ما لم يستطع أن يكون كذلك إلا وهو مارق من الدين . حتى إنه لما مدح الشيخ
بيرم , وذكر من صفاته أنه كان يطبق أحكام الإسلام على المعلومات العصرية , قال
عنه : إنه كان كمن يحاول أن يربع الدائرة ) .
* * *
( قولنا فيما كتب المؤيد )
إذا تنازع الكاتب فكران أو شعوران عند الكتابة في موضوع هو أصل في
أحدهما والآخر فرع له ؛ فيوشك أن يذهله الفرع عن أهم أركان الأصل كما وقع
للمؤيد , فوجب أن نبين ما غلط به المؤيد هنا حتى خفي عليه به خطأ اللورد
الحقيقي لنفي الموضوع حقه ؛ فنقول .
( 1 ) إن الأساس الذي بنى عليه المؤيد تفرقته بين كلامي اللورد في هذا
المقام غير صحيح , وهو أن اللورد كان يطري الشيخ في حياته ؛ إذ كان ينتفع
بإطرائه في دفعه لعداء الخديو ، ثم ذمه بعد موته , وخروجه هو من مصر لزوال
الحاجة . فإن هذا الثناء العظيم في تقريره الذي ليس عندنا مدح منه سواه قد كتبه
بعد موته , وإذا كان عند صاحب المؤيد رواية لسانية عن اللورد فهي لا تقوم حُجة
عليه , ولا يصح مقابلتها بما كتبه اليوم إلا أن يكون على سبيل التبع .
( 2 ) إن كون الأستاذ الإمام كان من زعماء الثورة العرابية لا يصلح سببًا ,
ولا جزء سبب لمساعدة اللورد إياه , وإلا لساعد سائر زعمائها .
( 3 ) إن اللورد فسر بغض الشيخ محمد عبده للباشوات بأنه قلما وجد فيهم
صالحًا , وأنه متى وجد الصالح لا يعرض عنه , ولا يعارضه لصدق وطنيته ,
فوافقه صاحب المؤيد على كونه كان يكره الباشوات , وعلى كونه كان صادق
الوطنية . ثم مثَّل بغضه للباشوات بعداوة الخديو الحالّ وأبيه وجدّه , ونحن لا نوافقه
على هذا التمثيل الذي يوهم الحصر . أما كرهه لإسماعيل فهو معقول مهما كانت
سنه , ومعارفه السياسية في ذلك العهد , وسنبين ذلك .
وأما توفيق فقد كان هو وأستاذه جمال الدين من حزبه وشيعته على أبيه , وقد
نقم منه إخراج أستاذه من البلاد , ونفيه هو إلى بلده وكان راضيًا منه أتم الرضى
عندما ساعد الوزارة الرياضية على الإصلاح في البلاد . ولما حدثت مبادئ الثورة
العرابية كان الشيخ مقاومًا للعرابيين , ولما استفحل الأمر كان مرشدًا معتدلاً بِحَسَب
علمه , وقد ظهر له في أثناء ذلك استعانة توفيق باشا بالإنكليز على العرابيين ,
فكرهه في أثناء ذلك كراهة شديدة كما يعلم من مذكراته في شأن تلك الحوادث ,
ومنها أن مذبحة الإسكندرية كانت بإيعاز من الخديو ؛ ليثبت لإنكلترا وسائر
الأوربيين عجز عرابي عن حمايتهم , وقد كتب بردولي المحامي عن العرابيين شيئًا
من هذا في كتابه نقلاً عنه .
وأما العباس - أيده الله بتوفيقه وعنايته - فقد كان في أكثر مدة ولايته على مودة مع
المرحوم , وهو الذي اقترح من نفسه جعله مستشارًا في الاستئناف , وهو هو الذي
اختاره بنفسه مفتيًا للديار المصرية , ولم يكن للورد دخل في ترقي الشيخ محمد
عبده في الوظائف إلا عدم المعارضة , والفضل الإيجابي في ذلك للأمير وحده كما
كان يصرح به الشيخ مرارًا .
ولكن حدث في السنين الأخيرة بينهما شيء من سوء التفاهم بسعاية بعض
المفسدين الذين يعرفهم صاحب المؤيد أكثر من غيره إذ كان يقاوم سعايتهم ومفاسدهم
إلى غضب هو أيضًا ، وزاد سوء التفاهم تلك المسألة التي أشار إليها المؤيد في ترجمة
حسن باشا عاصم , فقال ما معناه : إنها مسألة كان يرى نفسه فيها قائمًا بواجب تفرضه
عليه الذمة , وكان يراه مولاه فيها متعنتا . وله أن يقول مثل ذلك في صديقه وشريكه
فيها الشيخ محمد عبده .
فمن هذه الخلاصة الوجيزة يعلم أن إظهار اللورد الصداقة للشيخ بضع عشرة
سنه لا يتأتى أن يكون المراد به دفعه في عداوة الخديو كما قال المؤيد ، على أنه كان
أثبت من أن يندفع بيد اللورد أو غيره , فقد كان في الذروة العليا من الاستقلال
في فكره وإرادته , وناهيك أيضًا بوطنيته وديانته .
حقًّا أقول : إنني كنت أراه حتي في المدة الأخيرة التي قوي فيها سوء التفاهم
بينه وبين الأمير يتمنى لو يكون الأمير موفقًا مؤيدًا في كل شيء يرفع شأن البلاد ،
ويفيدها مصونًا من كل شيء ضار , وإنني سمعته غير مرة يقول : إننا كلنا معلقون
برجليه فإذا أهبطه الإنكليز درجة هبطنا تحته لا معه ، وإننا كنا مرة نتحدث في
استرضائه , فأقسم بأنه لو أمره أن يخرج من البلد لامتثل . ولكنه كان ينكر على
المعية أمورًا كثيرة , ويتمنى الوفاق الممكن الذي لا يصحبه ضرر من جهة أخرى
على أن المؤيد استنبط من عبارة اللورد أنه يحاول أن يطعن على الشيخ أكثر من كل
إنسان في مصر لولا ما سبق من المدح فيه , فهل يكفي أن يكون سبب هذا هو
الاستغناء عنه بموته , وخروجه هو من مصر ؟ .
( 4 ) توجيه المؤيد قول اللورد في الأستاذ الإمام إنه كان خياليًّا غير وجيه ؛
فإنه جعل تأويل ذلك بعد التسليم به أن الأستاذ كان يخيل له أن يقبض بكلتا يديه
على اللورد من جهة وعلى الخديو من جهة , فيفشل في الأمرين . وهذا الاستنباط
من خيال المؤيد ما أظن أنه طاف بخيال اللورد , إذا البعد بين الخيالين شاسع جدًّا .
ولخيال المؤيد وجه ودليل من الخارج , فإن الشيخ رحمه الله كان يتقرب من الأمير
للاستعانة به قبل كل شيء على خدمة دينه في نحو إصلاح الأزهر ، ثم إبداء
النصيحة الواجبة إذا عرض موجبها , وكثيرًا ما كان يعرض ذلك ؛ وقد سمعت من
فم الأمير في قصره بالقبة أنه يستشير الشيخ , ويعجبه رأيه , ويثق به . وكان
أيضًا يختلف إلى اللورد للاستعانة به على خدمة وطنه , وما كان يطلب منهما شيئًا
لنفسه . ومن مصلحة البلاد أن يكون فيها رجال يثق أمير البلاد وعميد الاحتلال معا
بكفاءتهم وصدقهم , وذلك من الحقيقة لا من الخيال .
( 5 ) ذكر المؤيد في موضع أن اللورد طعن في دين الشيخ محمد عبده ,
وجعله لا أدريا أو ملحدًا حتى إن من قرأ عباراته , ولم يكن عارفًا بكلمة اللورد يظن
أنه جزم بهذا الطعن واللورد لم يجزم بذلك , وإنما قال : ( أخشى ) كما في ترجمة
المؤيد نفسه ، أو ( أظن ) كما في ترجمة بعض الجرائد , فوجب علينا أن نبين
ذلك .
( 6 ) قال المؤيد : إنه لا يطعن في إيمان الشيخ ؛ لأن الإيمان محله القلب ,
وإن ظواهره كانت مجال مقال كثير لأصدقائه ولأعدائه ! ! فنقول : إننا نحن نوافق
المؤيد على قوله : إن الإيمان من أعمال القلوب التي يستأثر الله بعلمها , ويؤيد هذا
القول الحديث الصحيح ( هل شققت عن قلبه ) لمن قال : يا رسول الله , أعط فلانًا ؛
فإنه مؤمن . ولكن المؤيد وقع في الحكم على القلب الذي أنكر على اللورد ؛ إذ قال :
( قضى المرحوم الشيخ محمد عبده من عمره بضع عشرة سنة , وهو صديق
مخلص للورد كرومر ) ؛ فالإخلاص كالإيمان محله القلب , ولا يمكن أن يطلع عليه
إلا الله تعالى , فكيف أجاز المؤيد الحكم على القلب مرة ومنعه أخرى ؟
أما الظواهر التي تدل على قوة إيمانه فهي أقوى من الظواهر التي تدل على
إخلاصه في صداقة اللورد مع العلم بأنه كان أبعد الناس عن النفاق والرياء , فإنه
لم يعمل للورد عملاً خاصًّا به أو بدولته , ولكنه وقف حياته على خدمة مصر
والإسلام ابتغاء مرضاة الله . والمؤيد - وإن كان قد أدخل في مسألة الظواهر كلمة
محتملة ككلمة أبي سفيان لهِرَقْل , فقال : إنها كانت مجال مقال كثير - قد قال من
نفسه مقالاً جازمًا هذا نصه :
( ولكنه كان على كل حال عالمًا يحاول ما استطاع إصلاح الفاسد من الشئون
التي طرأت على الدين , ويعمل لذلك بغيرة لا تفتر ، وفي آخر عهده من الدنيا كان
يعتقد في نفسه اعتقادًا ملأ جوانحه أنه رسول إصلاح من عند الله , فكان يجاهد في
سبيل الله جهادًا حقيقيًّا , وإن لم ينل حظ الثقة العامة بذلك ) فالذي يعتقد هذا
الاعتقاد لا يمكن أن يكون مُلحدًا أو لا أدريًا ؛ أي : شاكًّا في وجود الله يقول : لا أدري
أهو موجود أم لا ؟
صدق المؤيد وإنْ كان في تعبيره بلفظ ( رسول إصلاح ) غرابة لما لها من
المعنى الشرعي الذي ليس بمراد هنا . فإن الأستاذ الإمام كان يعتقد أن دين الإسلام
لا بد أن يعود إليه مجده ونوره الذي حال دونه ظلام البِدَع والخرافات والتقاليد
والعادات , وأنه هو عالم بحقيقته وبكيفية تسرب البدع إليه ، وقادر على بيان ذلك
وإزالته بالحُجة , وأن هذا العمل فرض محتّم عليه .
وقد غمر هذا الاعتقاد عقله وقلبه , وملك جنانه ووجدانه , فبذلك كان يرى أنه
كان ملهم ومسخر من الله تعالى لهذا العمل ليس في استطاعته أن يتوانى فيه . وقد
ذكر قاسم بك أمين في تأبينه أن بعض أصدقائه كانوا يلومونه على تفريطه في صحته
وتعبه في بعض الأعمال التي قَلَّما تأتي بما يتوخاه من الفائدة فيها , فيعدهم
بالتخفيف , ولكنه يصبح في الغد أشد اهتمامًا وعنايةً مما كان عليه بالأمس . وصدق
المؤيد في قوله : إنه لم ينل حظ الثقة العامة بإصلاحه , إذ لو نال هذا الحظ لَمَا قال
لورد كرومر في الإسلام ما قاله اليوم ؛ لأن الإصلاح العملي كان يمنعه من ذلك .
* * *
رأينا في سبب اختلاف قولي اللورد
قال المؤيد : إن الجواب عن التفاوت بين كلامَيِ اللورد مذكور في كتابه , وقد
صدق في هذه , ولكن أخطأ اجتهاده فيما بينه به ؛ إذ لا اجتهاد في مورد النص . أما
هذا النص فهو في موضعين , ذكر أحدهما المؤيد فيما ترجمه من كلام اللورد في
الشيخ وأهله في الرد , وأغفل أحدهما في الموضعين . أما الذي ذكره وأهمله فهو
هامش اللورد[1] الذي يذكر فيه دهشته من استمداد مستر بلنت أخبار تاريخه السّرّي
للاحتلال من محمد عبده , وفي هذا الكتاب من التشنيع على اللورد وسياسته ما فيه .
وأما الذي أغفله المؤيد فدونك ترجمته نقلاً عن حاشية ص 524 من المجلد الثاني
في سياق الكلام عن المعارف : لقد دهشت بل اعترتني خيبة أمل عندما قرأت في
كتاب ألفه مسيو جورفيل رسالة للشيخ محمد عبده أعطى فيها ذلك الرجل الشهير
رجاحة اسمه ( أو قوة اسمه ) لِتُهَمٍ أو تعريضات من هذا النوع , ولا بد أنه كان على
يقين من أنها لا أساس لها . وكنت أرجو منه أفضل من هذا . ا هـ علق هذا على
هامش معناه : هل نظر الإنكليز إلى انحطاط المصريين السياسي أو الاجتماعي
نظر المغتبط , فلم يحاولوا ترقيتهم كما يزعم بعض سفلة الناقدين ؟
ونحن نقول : إن الرجل لم يعط اسمه لترويج التهم أو التعريضات كما ظن
اللورد , وإنما أراد الموعظة والتنبيه إلى الصواب الذي يعتقده , ولكن صاحب
الكتاب استخدم اسمه لترويج كتابه , وهو ما كان يقول إلا ما يعلم تمام العلم أنه
صحيح كل الصحة . وإذا كان اللورد يرجو منه يوم كتب تلك الرسالة إلى جورفيل
أمرًا أفضل من هذا فهو أيضًا ربما كان يرجو من اللورد قبيل ذلك أمرًا أفضل مما
رأى منه عند الحاجة إلى مساعدته في أهم وأفضل غرض له من حياته . وإننا نورد
الآن ما جاء في رسالة الأستاذ الإمام عن المعارف وهو :
ما كتبه الأستاذ الإمام
لجرفيل عن المعارف
( التعليم العام ) لا تنفق الحكومة المصرية على التعليم العام إلا مبلغ مائتي
ألف جنيه مع أن في وسعها إنفاق أكثر منه ؛ لأن دخلها قد بلغ في الميزانية اثني
عشر مليونًا من الجنيهات , وهي لا تنفك عن زيادة أجور التعليم التي
تتقاضاها من الناس على تعليم أولادهم من حين إلى حين , وقد بلغت من ذلك إلى
حد أن صارت تربية الأولاد عبأً ثقيلاً حتى على أوساط الناس , وإذا استمر هذا
التزايد أمسى التعليم زخرفًا لا يتسنى التحلي به إلا في بيوت الأغنياء فقط .
ومن المبادئ التي يجري عليها القابضون على أزمة أمورنا أنْ لا حق لأولاد
الفقراء في نوع ما من التعليم , فهم يجاهرون به كل المجاهرة , ويبدو منهم على
الدوام في حديثهم وتقاريرهم وكتبهم .
نعم , إنه من المسلم إلى حد محدود أن الوالد الذي يخصص جزءًا من دخله
لتربية أولاده يهمه أن يحصل من التربية على مقابل هذا الجزء , وأنه يراقب ولده
في التعلم مراقبةً فعليةً ليحمله على الاستفادة من تعليم يكلفه كثيرًا من النفقات , ولكن
الذي لا يسلم به أحد ولا دليل عليه من التجربة هو أن يستنتج من هذا أن كل تعليم
مجاني يكون عقيمًا , فإنه مما تنبغي ملاحظته أن التعليم في المدارس المصرية من
عهد محمد علي باشا إلى سنة 1882 كان مجانيًّا في كل هذه المدة , ولم يمنع هذا أن
تنتج تلك المدارس عددًا من الرجال المتعلمين تعلمًا حقيقيًّا , ومعظمهم من الفقراء ،
ولم يضر أوربا أن التعليم مجاني في كثير من البلدان , ولكن أي فائدة لنا من
الاستشهاد بما غبر من الاختبار في مصر , وما حضر من الاعتبار بأوربا ما دام
الذين بيدهم مقاليد حكومتنا مصممين على أن لا يقبلوا إلا ما يهديهم إليه فكرهم .
يشق على الإنسان أن يرى كل سنة مشهد توارد الآباء والأمهات على نظارة
المعارف يقودون صغارهم إليها , سائلين التصدق عليهم بقبولهم مجانًا في مدارسها
معتذرين بفقرهم ، ومدلين بما يكون بعض أفراد أهلهم قد أدوه إلى الحكومة من الخدم ,
مؤملين على الدوام أن العناية الإلهية والمرحمة القلبية تلين صلابة ذلك المبدأ ولو
مرة واحدة , ولكنهم يضطرون في آخر الأمر إلى الرجوع إلى بيوتهم أو إلى قراهم
خائبين خائري العزائم غير راضين لا يدرون ماذا يفعلون بهؤلاء الأبناء الأعزاء
الذين تمنوا لهم أماني كثيرة ما حيلتنا ؟ يقولون لنا : ( إن بين ظهرانيكم من أبناء
وطنكم أغنياء في وسعهم إنشاء مدارس مجانية للفقراء ) .
آهٍ واأسفاه ! نعم إن أبناء وطننا في وسعهم القيام بهذا العمل وبأحسن منه ,
ولكن مصر لما يوجد فيها محبون للإنسانية , وأخص من بينهم مُحبّي الإنسانية
المستنيرين ، قد يوجد أحيانًا بعض منهم يشيدون مساجد لا حاجة إليها لكثرتها عندنا ,
وبعض آخر يقف جزءًا من عقاره على وليّ , ولكن همة الناس وانبعاثها إلى
العمل لم توجه نحو التعليم فأمتنا أقامت زمنًا طويلاً تعتمد على الجماعة في كل شيء ،
ومن أجل كل شيء .
أما إذا نحن نظرنا إلى هذا التعليم الذي تقوم به الحكومة المصرية من جهة
قيمته , فإننا نضطر إلى القول بأنه قَلَّما يُكَوّن رجلاً في قدرته أن يمارس حرفة تقوم
بمعيشته , ويستحيل أن ينشئ عالمًا أو كاتبًا أو فيلسوفًا , فكيف بالنوابغ في شيء
من هذا .
وليس للتعليم العالي بمصر سوى مدرسة الحقوق ومدرسة الطب ومدرسة
المهندسخانة . أما جميع العلوم الأخرى التي تتألف منها معارف الإنسان فالمصري
قد يأخذ منها بعض معلومات سطحية في المدارس التجهيزية , ولكن يكاد يكون من
المتعذر عليه أن يدرسها دراسة وافية , بل يقضى عليه غالبًا أن يجهلها - فعلم
الاجتماع بفروعه التاريخية والأخلاقية والاقتصادية , وعلم الفلسفة القديمة والحديثة ,
وعلم آداب اللغة العربية واللغات الأوربية , وكذلك الفنون الجميلة لا تعلم بالكلية في
مدرسة ما من المدارس المصرية .
فكان فينا القضاة والمحامون ، والأطباء والمهندسون ، ممن تختلف درجاتهم
في العلم , ولكننا لا نجد في طبقة منهم ذلك الباحث , ولا ذلك المفكر , ولا ذلك
الفيلسوف , ولا ذلك العالِم , ولا ذلك الإنسان الذي يمتاز ببُعد الفكر والنظر ,
وبشهامة الفؤاد , وكرم السجايا الذي أوقف حياته كلها على السعي وراء مطلب من
مطالب الكمال .
وصفوة القول أن خطّة الحكومة التي رسمَتْها لنفسها , ويظهر أنها مصممة
على أن لا تحيد عنها تتلخص في أمور ثلاثة :
( أولها ) : مساعدة التعليم الابتدائي في المدارس الصغيرة المُسمّاة بالكتاتيب ,
حيث تعلمُ الكتابة والقراءة وقواعد الحساب الأربع .
( ثانيها ) : التقليل من نشر التعليم في الأمة ما أمكن .
( ثالثها ) : حصر التعليم الثانوي والتعليم العالي في أضيق الدوائر .
المصريون موقنون بأنّ مَنْ بِيَدِهِم مقاليد أمورهم العمومية لا يعملون كل ما في
وسعهم لترقية الناشئين أخلاقًا وعقولاً , وهذا الرأي مما يدعو إلى الأسف والأسى
من جميع الوجوه , فإنه سيحدث في الرأي العامّ تيارًا من الاستياء إن لم يكن عاجلاً
فآجلاً , وليت شعري ماذا يربح الإنكليز من التمادي في ترك هذا الاعتقاد راسخًا في
النفوس ؟ وإذا كان ثَمَّة أمْر يصحّ أن يتلاقى فيه الطرفان , ويكون قاعدة للاتحاد ,
فإنما هو التعليم العام إذ لا يمكن أن يوجد تناقض بين مصلحة الإنكليز ومصلحة
المصريين في هذا المقصد .
فمن أراد استدرار ما في مصر من المنافع والخيرات فسبيله في ذلك أن يُعْنَى
بتعهد كل ما فيها من موارد الثروة , وأن يبدأ بالإنسان بكل ما فيه من معاني الإنسان ,
فلا بد من امتزاج العنصرين الأوروبي والوطني , وأخذهما على التكاتف في
السير نحو هذه الغاية يدًا بيد .
وَلَعَمْرِي إن الإنكليز لَيسيئون إلى أنفسهم إذا أوهنوا الأهلين , وأرخصوا من
قيمتهم , وصغروا من شأنهم فإنما مصلحتهم في أن يكون أبناء هذا الوطن أعزاء
أغنياء أحرارًا , فإن موارد الثروة والخير للإنكليز منوطة بما يصيبنا من ثراء
ورخاء .
هذا ما جاء في رسالة الشيخ محمد عبده لجورفيل عن المعارف , ويليه كلام
عن الحقانية ومعاملة الإنكليز للموظفين المصريين ملخصه أنهم يلتمسون ضعيف
الإرادة الذي يخضع لهم في كل شيء , ولا يناقشهم في عمل ما , ويقصون
المستقلين في الفكر والإرادة ، وأن كل رئيس منهم يعد نفسه مشرعا , فكلما خطر له
استبدال قانون بقانون وضع قانونًا جديدًا وأنفذه ؛ لأن مجلس النظار لا استقلال له
فيناقش أو يعارض ، ومجلس شورى القوانين ليس له إلا حق بيان الرأي ، والحكومة
غير مكلفة الأخذ بقوله , على أنّ فيه من الضعف ما فيه ؛ لأن الأفراد الذين يصلحون
فيه للبحث قليلون .
فأيّ شيء من هذه الرسالة ينكر اللورد لنثبته له ؟ أما إنه لا ينكر منها شيئًا ,
ولكنه عز عليه أن يرى في كتاب أوربي كلامًا في عيوب إدارة مصر لرجل
معروف بالصدق , وعلوّ المكانة عند الأوربيين ؛ ولذلك قال : إنه أعطى رجاحة
اسمه لجورفيل , إلخ .
إن اللورد نفسه قد اعترف في كتابة بأن المعتدلين الذين سمّاهم حزب أو أتباع
محمد عبده لم يشجعوا كما ينبغي , وقال في تقرير سنة 1905 : إن تعيين سعد باشا
زغلول في الوزارة - وهو أشهرهم - إنما هو تجربة . فهل له أن يقول مع ذلك :
إن ما كتبه الشيخ لموسيو جورفيل : لا أساسَ له في اعتقاده ؟
لقد كان هو وجميع أهل الرأي في مصر يعتقدون حقية ما كتبه , وهذا
الاعتقاد لا يزول إلا بعمل ينقضه , فإذا كانت الحكومة الاحتلالية مخلصة فيما فعلت
وتفعل لمصر , وكان ما ذكره الشيخ من عيوب إدارتها غير متعمد منها فلتتداركه
بمساعدة المستقلين من المصريين , ولا يعسر عليها الاهتداء إليهم .
أما ما قاله الشيخ في رسالة عن المعارف , فمنه ما هو حكاية عن اعتقاد
المصريين واستيائهم , وهو مؤيد بما تذكره جميع الجرائد آنًا بعد آنٍ , وبما ظهر في
مجلس الشورى والجمعية العمومية , فكيف يقول اللورد : إنه لا أساس له ؟ ألم ينبأ
بما جرى في هذا العام - حتى بعد أن قام ناظر المعارف بهذه النهضة الجديدة في
ترقية التعليم من جهات متعددة - من قيام قيامة التلاميذ والجرائد والناس على مستر
دنلوب بما كان قد ازدحم في مراكز الفكر والشعور من سوء حال الماضي . إن لم
يكن قد ظهر به مصداق قول الشيخ : إنه سيحدث في الرأي العام تيار استياء عامّ
من حال التعليم عاجلاً أو آجلاً فإن ما ظهر قريب منه , ولولا هذا الإصلاح الجديد
لظهر أتمّ الظهور .
أما باقي كلام الشيخ فهو حكاية عن سياسة المحتلين في التعليم , وهو مؤيد بما
كتبه اللورد في تقرير تلك السنة ؛ فإنه قال ( كما في ص 133 وما بعدها من
النسخة العربية لتقريره عن سنة 1905 ) :
( يراد بهذه السياسة إبطال التعليم المجاني تدريجًا من المدارس الأميرية التي
هي فوق الكتاتيب , وزيادة الأجور فيها ) ثم احتجّ على ذلك بكون الغرض منها
تعليم التلاميذ تعليمًا أوربيًّا ؛ لكي تعد جمهورًا من الشبّان المصريين لخدمة الحكومة
ولتعاطي بعض الفنون , ثم ذكر أن محمد علي أنشأ هذه المدارس لِفرنجة البلاد ,
وأن عباسًا الأول ألغاها بعد أن خرج منها ما يزيد على الوظائف , وأعادها إسماعيل
لفرنجة البلاد كما كانت , وأنها كانت مجانًا بل كان التلاميذ فيها يأكلون ويأخذون
مرتبات , وأظهر استحسان ذلك من قبلُ , والاستغناء عنه الآن , ثم قال : ( ويجب
على الحكومة أن تتوخى جعل أجرة التعليم في كل مدارسها المتفرنجة مقاربة للنفقات
التي تنفقها عليه . والأموال التي تنفقها على هذه المدارس تصير تنفقها على التعليم
الأهلي الألزم لحاجة الأمة ) , ويعني بالألزم لحاجات الأمة تعليم الكتاتيب والصنائع
فقط , وهذا ما لا يسلم به مصري قط .
ثم ذكر أن الإنكليز لما احتلوا البلاد وجدوا أن كل ما تنفقه المعارف العمومية
( إنما تنفقه على تعليم أولاد فئة صغيرة , أكثرها من أغنى أغنياء السكان , ولا تعلمهم
إلا تعليمًا أوربيًّا فأخذوا في تغيير تلك الحال , وبذلت الهمة منذ سنة 1884 لأخذ
الأجور من التلامذة , ولإبطال التعليم المجاني تدريجيًّا ؛ ولكن بقى النجاح في هذا
السبيل بطيئًا جدًّا إلى عهد قريب ) , ثم استدل بذلك على ( أن إبطال التعليم المجاني ,
وازدياد أجرة التعليم لَيْسَا من دلائل التأخر , ولا هما مضرّان بمصلحة البلاد
الحقيقية , بل هما بمثابة إبطال امتياز ) إلخ .
فكيف يقول اللورد مع هذا : إن الشيخ كتب ما يعلم أنه لا أساس له ؟
سبحان الله ! كأن الشيخ كان يكتب سنة 1905 لجورفيل في الوقت الذي كان
اللورد يكتب فيه لناظر خارجيتهم ما يؤيد قوله ! ألم تر أن الشيخ قد كتب أنهم - يعني
وُلاة الأمور - يقولون لنا : إن فيكم أغنياء يجب أن ينشئوا المدارس المجانية للفقراء .
وأن اللورد كتب في تقريره ( ص135 و 136 ) : ( وإذا أريد تمهيد السبل للتلامذة
الذين تبدو عليهم مخايل النجابة الفائقة لكي يدخلوا المدارس العليا ووسائطهم المالية
لا تكفي لذلك وجب أن يقف المحسنون أموالاً لتلك المدارس التي يعلَّم بها من كان
مثل أولئك التلامذة , ووقف هذه الأموال لتعليم التلامذة الفقراء الذين يستحقون
أن يساعدوا أنفع جدًّا من تكثير المدارس الابتدائية المتفرنجة ) .
( للمقال بقية )
((يتبع بمقال تالٍ))
أقام لورد كرومر في مصر نحو ربع قرن متصرفًا بنفوذ الحاكم المطلق ,
فعرف من أحوال حكومتها وسيرها الاجتماعي ما يعز على غيره من حكام البلاد أو
نزلائها من الأوربيين أن يعرفوه , ثم أودع زبدة ما عرفه في كتاب يدخل في ثلاثة
مجلدات , طُبع اثنان منها , وأوصى هو بطبع الثالث عقب موته ؛ لأنه خاص بحال
مصر في عهد الأمير الحالّ عباس باشا الثاني , والظاهر أنه أشد الأجزاء وطأً
وأثقل قيلاً على مصر والمصريين على أن الجزء الثاني لا تستخف وطأته ، بل لا
تطاق كلمته ، فهو قد حكم لكل الشعوب التي تتبوأ أرض مصر وعليها , ولكنه حكم
على المصريين لا لهم , ولم يحكم عليهم بالمساواة بل فضل القبط على المسلمين
تفضيلاً من حيث دينهم وما فيه من المرونة التي تساعدهم على مجاراة المدنية ما لا
يساعد الإسلام أهله على زعمه .
ولم يكتف بالحكم في قضايا الشعوب من حيث هو حاكم سياسي اجتماعي , بل
حكم أيضا في قضايا الرجال المشهورين الذين عرفهم من بعض الوجوه , وكان
حكمه عليهم من غير الوجه الذي عرفهم به ؛ إذ حكم على مطويات العقائد ,
ومكنونات الضمائر , وخطرات القلوب .
ولم يرضه هذا حتى رفع نفسه إلى مستوى الحكم على الإسلام من حيث هو
دين , ومن حيث هو شريعة ونظام اجتماعي , فحكم من الحيثية الأولى له وعليه ,
ومن الحيثية الثانية عليه لا له , وانتقل من الحكم عليه إلى الحكم على أهله عامة
حتى في مستقبل أمرهم , فكان حكمه هذا صاخّة تصخّ المسامع , وقارعة تصدع
القلوب , بل هو عِبْرة للمعتبرين , وموعظة للمصريين وسائر المسلمين .
رأيت حديث الناس في هذا الكتاب يدور على قطبين :
( أحدهما ) : الحكم على شعور الكاتب حينما دوَّن حكمه على المصريين ,
وعلى الإسلام والمسلمين , فما رأيت بينهم خلافًا في كونه كتب بمداد الحقد والحنق ,
وقلم الحفيظة والانتقام من المصريين بما فوقوا إليه من سهامهم ، وصوبوا إليه من
أسنة أقلامهم في وقت مفارقته لديارهم ، وهو وقت ضاق فيه ذاك الصدر الواسع عن
احتمال الانتقاد ، بَلْهَ الشماتة والإزراء على أنه قد ظهر ضيق صدر اللورد قبل
ذلك في تقريره الأخير ، ثم في خُطْبته التي خطبها قبيل الرحيل .
هذا , وأما القطب الثاني لحديث الناس في الكتاب فهو غرضه منه , وقد رأيت
أهل الفهم والذكاء يقولون من غير مواطأةٍ ولا تقليدٍ : إن غاية اللورد من هذا الكتاب
هي أن يستل من نفوس أحرار قومه فكرة توقيت الاحتلال ، والخروج من مصر في
يوم من الأيام ، ويقنعهم ويقنع أوربا معهم بأن لا ضمان لحفظ مصالح الأوربيين في
مصر , بل ولا مصالح المصريين إلا بقاء الإنكليز في مصر ؛ لأن المصري شديد
التمسك بدينه الذي لا يتفق مع المدنية فإن هو تركه واتبع هذه المدنية كما يحب
الأوربيون ويبغون كانت مدنيته تقليدية لا حقيقية , وكان بذلك شرًّا من المسلم
المتدين وأشد عداوةً للأوربي وللمسيحي , ولو غير أوربي .
ويرون أن تصريحه بعدم استحسان ضمّ مصر إلى أملاك إنكلترا , وما أظهره
من الميل إلى إعدادهم للاستقلال هو من التمويه , وذرّ الرماد في العيون , وإلهاء
المصريين بالأماني والأحلام , وأصحاب هذا القول غافلون عن طرق الاستعمار
الجديدة , ومنها حكم البلاد باسم أهلها , والرضى بالسلطة الفعلية بديلاً من السلطة
القولية , وقد سبق لنا بيان لهذه الطرق في السَّنَة الأولى من المنار , وفي غيرها
أيضًا .
هذه صفوة الآراء التي دارت بين الناس في شعور مؤلف كتاب مصر الحديثة ,
وفكره المستولي عليه عند الكتابة , وفي غايته منه , وذلك ضرب من ضروب
انتقاد المصنفات مطروق الأبواب معهود عند الكتاب .
ومما ينتقد على هذا الكتاب - وهو من أصول الانتقاد - استنباط القواعد الكلية
من شواذّ الحوادث الجزئية ، ولم يسلم اللورد من ذلك , فإنه في المقابلة بين عقل
الغربي والشرقي أورد الأمثلة لعقل الشرقي الضعيف التنظيم والإدراك ( لاعتقاده
بالقضاء والقدر , ورضوخه لكل سلطة تتولى أموره ) فإنه بعد أن دعم الحكم على
عقل الشرقي بهاتين العِلّتين مثّل للحكم الكلي العامّ بما نصُّ ترجمته :
قال اللورد : ( حدث أكثر من مرة أن( المفتحجي ) في مصلحة الحديد المصرية
حوَّل الخط والقطار عليه ، لم يمر إلا نصفه إلى الخط الآخر ؛ فأدى ذلك إلى انقلاب
القطار , وحدث أيضًا أن سائق قطار نَسِيَ أحيانًا أيّ مفتاح يجب أن يُحَرَّك لكي يوقف
القطار , وحدث مرة أن عمال السكة الحديدية قُتِلوا لأنهم ناموا بعد أن وضعوا
رءوسهم على الخط الحديدي , وإنما فعلوا ذلك ليثقوا بأنهم يستيقظون على أصوات
القطار الآتي ) .
ونقول : إن أمثال هذه الجزئيات تقع في أوربا وفي جميع البلاد من جميع
الشعوب ، وناهيك بالطبقة الدنيا من العمال , فإن ذكي الفطرة عالي النفس لا
يرضى لنفسه بأن يكون من أحقر عمال سكة الحديد ، وناهيك بالمبتدئين من أهل
هذه المهنة بها , والغالب أن يكون أصحاب ذلك الشذوذ الذي ذكره منهم . فحال
أمثال هؤلاء لا يصح أن يكون مناط المقابلة بين الشعوب في ارتقاء العقل وملكة
النظام فيه . وإنما ينظر في حالهم من وجهة النشاط في العمل , والصبر عليه ,
ولعله لو قابل بين فَعلة الأوربيين وفَعلة المصريين في هذه المزايا لَمَا قدر أن يبخس
المصريين حقهم ، وإن ظن أن القضاء والقدر قد فتك باستعدادهم لكل عمل ! !
ونسي أن أكثر المستخدمين في سكة الحديد من القبط الذين هم على شاكلته في عدم
الإيمان بالقضاء والقدر .
وإنني أذكر له شيئًا من بَلادة بعض الأوربيين وغفلتهم وهو أبعد عن العقل
والنظام مما صدر عن صغار فَعلة السكة الحديدية في مصر , ناقلاً إياه عن كتاب
صفوة الاعتبار لصديقه الشيخ محمد بيرم الثقة العدل - رحمه الله تعالى - فإنه كتب
في الفصل الذي عقده لبيان عادات أهل فرنسا وصفاتهم ما نصه :
ومع ذلك - أي انتشار المعارف - فلا يزال في فرنسا خَلْق كثير على
السذاجة والجهل . ودونك حكاية ظريفة تقيس عليها ما يقرب منها :
ففي سنة 1297 هـ 1880م كان أحد أصحاب العمل باليد مشتغلاً جهة باريس
وكان له ابن مشتغل جهة بردو فلم يوفر الابن من كسبه ما يشتري به حذاءً , فأرسل
إلى أبيه يشتكي له القلّ , ويطلب منه شراء حذاءٍ له , فاشتراه له , وحمله في الطريق
وهو مفكر في كيفية إيصاله إليه , فبينما هو ماشٍ إذ مرّ مُحاذيًا للسلك الكهربائي ,
فقال : هذا أيسر طريق ! ! إني أحمله الحذاء وهو يوصله لابني . فجاء إلى عود
السلك وعلّق فيه الحذاء وأسرَّ إلى العود بقوله : ( أوصِلْ هذا لابني فلان في المكان
الفلاني ) وذهب مسرورًا باطلاعه على مسلك سهل بلا مصروف . ثم مرّ من غدٍ
متفقدًا ما فعل السلك بالحذاء , فوجد في ذلك المكان حذاءً عتيقًا أفناه اللُّبْس , ففرح ,
وقال : ( إن ابني لَعاقل حيث أرسل لي القديم لأستعين به على ثمن الجديد ) فانظر
إلى البلاهة التي لو صدرت من أحد المشرقيّين لشنعوا بجميع الجنس بأنه وحشي بعيد
عن المعارف وتهذيب الأخلاق .
وقد صدق ظنّه صديقه لورد كرومر , فإنه شنع على الشرقيين كافّة بما وقع
من بعض فعلة سكة الحديد بمصر .
ثم قال بيرم : ( واعلم أن مثل هذا الرجل كثير سِيَّمَا في القرى الصغيرة
والجبال ، بل وفي أهل المدن كثير ممن يعتقد بالخرافات الباطلة , ويعتقد التأثير
لأشجار وجمادات ، ويتشاءم بالأوقات ، فقد رأيت في كثير من بلدانهم , وبلدان
الطليان , وكذا الإنكليز طاقات في حيطان , فيها منارات توقد ليلاً بالزيت أو بالشمع
العسلي تقربًا إلى بعض أوليائهم أو الجن , معتقدين حلول المتقرب إليه بتلك الطاقة ،
ولا ينورونها بغير ما ذكر من الأنواع ؛ لأن القسوس يقولون لهم : إن شمع الشحم
أو الغاز من البدع التي لا يتقرب بها .
وكذلك يطلبون البخت وقضاء الحاجات من جمادات أو أماكن اعتقاد حلول
أرواح فيها . وقد ذكر من هذا النوع في ( كشف المخبا عن فنون أوربا ) ما يتعجب
منه السامع مما ترى الأورباويين ، ومن تشكل بشكلهم وتباهى بتقليدهم يحملون عبثه
على البلاد الإسلامية وحدها , ويجعلونها سخرية , وينزهون أوربا عن مثلها مع أنها
حاوية لشبهها ولأشد منها ؛ بل ربما أسند ذلك الجاهل أو المتجاهل إلى ديانتنا الشريفة
- وحاشا لله - أن تؤدي أو ترشد لمثل ذلك , بل إنها هي المهذبة , والمنقذة من
غياهب الجهل إلى نور المعارف الحاثة على العلم وفتح البصائر ) . ا . هـ بحروفه .
هذا ما قاله عن أهل فرنسا , وهم أسبق الأوربيين إلى العلم والمدنية , وأذكاهم
أذهانًا على أنه قال : إن الإنكليز كذلك . بل قال في كلامه من عادات الإنكليز
وصفاتهم ما نصه :
( وأما أطوار الطبقة السفلى , فهي أشنع مما مر ذكره في همج الفرانسيس
سواء كان من من جهة الاعتقاد أو من جهة السيرة والحركات فيتطيرون من أشياء
كادت أن لا تحصى , وينقادون إلى السَّحَرة والدّجّالين بما يخرج عن حدّ المعقول
وكاد التعلم أن يكون عندهم مجهول الاسم فضلاً عن المسمى سوى ما يرطن لهم
القسيسون في الكنائس ) إلخ .
أقول : أما خرافات القبور والأولياء التي قال : إنهم يعيبون الإسلام بمثلها , وهو
منها بريء , فقد أخذها المسلمون عنهم وهم أخذوها عن أجدادهم أو مجاوريهم من
الوثنيين , فالإسلام والنصرانية الحقيقية بريئان منها ؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم :
( لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع ) ، قالوا : يا رسول الله , اليهود
والنصارى ؟ قال : فمن ؟ . رواه الشيخان وغيرهما .
وإن تعجب فعجب مقارنته في هذا المقام بين الأوربي مطلقًا والعامي المصري
في الحساب فقد قال بعد ما تقدم ما ترجمته كما في المؤيد :
( وقارن أيضًا بين تقدير الأوربي للحساب وبين المصري العامي الذي يشكل
عليه إشكالاً كاملاً كل أمر يتعلق بالأرقام أو الكمية , فإن عددًا قليلاً من عامة
المصريين يعرفون عمرهم . فإذا سألت المصري عن عمر رجل متقدم في السن يكون
جوابه غالبًا : ( إن عمر الرجل مائة سنة ) ويقول في نفسه : ماذا يهم التدقيق في هذا
الأمر , أو أي أمر آخر علمي ) .
قلت : إن هذا من مواطن العجب ؛ لأن المقارنة فيه بين الأوربي المتعلم
والمصري العامي , ولماذا لم يقارن في الحساب والأرقام بين المتعلم من الفريقين ؟
لعله لأنه يعلم أن المصريين من أقوى الشعوب استعدادًا للبراعة في الحساب وسائر
العلوم الرياضية , وقد أراد الإنكليز منذ بضع سنين أن يجعلوا ترقية المهندسين منهم
على المهندسين من المصريين مبنيًّا على قاعدة عادلة ؛ لظنهم أن الإنكليز أعلم
وأبرع , فامتحنوا الفريقين , فأسفر الامتحان عن فوز المصريين وتخلف الإنكليز
عنهم , وسكت الفريقان على ذلك الامتحان , فلم يُعلموا به الجرائد .
أما الإنكليز فلِمَا هو ظاهر , وأما المصريون فلِخوفهم أن يحنق عليهم
رؤساؤهم , وينتقموا منهم .
ومما تقدم في كتابه تقليده لغير واحد من كتاب الأوربيين في آرائهم في
الإسلام, وكان أجدر من كثير من أولئك الكاتبين بمعرفة حقيقة الإسلام لو أراد أن
يعرفه وينصفه فإنه عاش في مصر عمرًا طويلاً , وعرف أشهر علمائها ن بل أشهر
علماء الإسلام المعروفين في العالم كله الآن , وناهيك بالأستاذ الإمام وطول باعه في
علوم الدين , ورسوخه في فهم القرآن , وهو الذي لم يكن يحتاج في مخاطبته إياه
وفهمه عنه إلى ترجمان كما كان يحتاج في مخاطبة غيره من شيوخ الأزهر . ولكنه
لم يكن يسأله عن أصول الإسلام وحكمه وأحكامه ، ولا الأستاذ الإمام كان يبتدئه بشيء
من ذلك , وإنما كان يقصد إليه ؛ لأجل الكلام في المسائل المصرية , لا سِيَّمَا
المحاكم الشرعية .
ومما ذكر لي عنه أنه كان يذاكره مرة في إصلاح هذه المحاكم , ومعارضة
قاضي مصر وبعض المشايخ , ومقلديهم في ذلك كما حصل في مجلس شورى
القوانين , وذكر اللورد كثرة شكوى الأهالي من الظلم وضياع الحقوق في هذه
المحاكم , ولَمَّا بيَّنَ الأستاذ الإمام أنه ليس في أصل الشرع شيء ينافي الإصلاح
العدل , قال له اللورد : هل تصدق يا أستاذ أنه يخطر في بالي أن شريعة قامت على
أساسها مدنية عظيمة تكون غير عادلة ؟ كلا , إنني أعلم أن كل هذه المفاسد مسائل
( إكليركية ) أي : من تقاليد المشايخ التي تشبه تقاليد رجال ( الإكليروس ) عند
النصارى .
أنقل هذا بالمعنى كما أحفظه عن الأستاذ الإمام , وأستطرد من ذلك إلى انتقاد
ما كتبه اللورد عنه , ثم ألخص كلامه في الإسلام من حيث هو دين , ومن حيث هو
شريعة ، وأبين خطأه وخطله فيه , وأنتقل مِنْ ثَمَّ إلى المقصد الأعظم وهو مستقبل
الإسلام والمسلمين , ومراد اللورد وأمثاله من أساطين السياسة وأمانيهم في ذلك ,
وما يجب علينا من العِبرة والعمل في هذا المقام ، مع تعدد السُّبُل واشتباه الأعلام .
* * *
قول اللورد في الشيخ محمد عبده
لم يسلك اللورد مسلك أصحاب التراجم من المؤرخين فيذكر ما للرجال الذين
ترجمهم من الصفات والمزايا , وما عليهم من التقصير , وإنما ألمَّ بذكر بعض كبار
الرجال المشهورين إلمامًا , ولم ينظر إلى أحد من المسلمين بعين الرضا كما نظر
إلى الشيخ محمد بيرم التونسي على أنه مدحه بشيء يراه هو مدحًا , ويراه جميع
المسلمين ذمًّا ؛ إذ قال فيه : ( علمه ذكاؤه الفطري , إن النظامات التي تعلق بها
أسلافه ( يعني : الشريعة التي جرى عليها المسلمون السابقون ) لا بُدَّ أن تتلاشى إذا
قابلتها المبادئ السامية المرقومة على راية الإنكليزي ! رأى كل هذه الأمور بعين
الناقد البصير ) وقال بعد ذلك : إن مثله إذا ناقش المسيحي في الأمور العامة يكون
من النتيجة المحزنة أنه : ( يكتفي بندب مصير ذلك الدين الذي يحبه , وذلك النظام
المؤذي الذي أوجده دينه ) , ثم ذكر أنه لا يوجد عند أمثال بيرم من خيار المسلمين
طريةً قادرةً على إحياء الإسلام الذي هو حالة الموت السياسي والاجتماعي ! ! ونحن
نعلم فيما رأينا من مؤلفات الشيخ محمد بيرم وما سمعنا عنه ممن لقيه أنه كان متمسكًا
بهذا الفقه ويراه أحسن نظام , ويعتقد أنه مستمد من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله
عليه وسلم - فإذا كان مع ذلك يفضل عليه المبادئ والقوانين الإنكليزية , أو يرى أنه
نظام مؤذٍ ؛ فكيف يكون راسخًا ذلك الرسوخ في الإسلام ؟ أرى أنه على إطرائه
لبيرم في الدين قد ذمه من حيث أراد مدحه , ولم يعرف حقيقته الدينية كما هي ولا
يرضى مريدي الشيخ محمد عبده أن يكون مثله مرضيا للورد في ذلك , وإن كانوا
يعلمون أنه لا يعد جميع هذا الفقه , ولا أكثره من الدين . وإننا نذكر الآن رأي
اللورد في الأستاذ الإمام في تقريره لسنة 1905 , ثم نشفعه برأيه في مصر الحديثة ،
ونبين سبب الاختلاف بينهما .
* * *
( قوله فيه بتقريرسنة1905 )
اختطفت المنية في السنة الماضية رجلاً مشهورًا في الهيئة السياسية
والاجتماعية بمصر , أريد به الشيخ محمد عبده , فأحببت أن أسطر هنا رأيي
الراسخ في ذهني , وهو أن مصر خسرت بموته قبل وقته خسارة عظيمة .
لما أتيت مصر القاهرة سنة 1883 كان الشيخ محمد عبده من المغضوب
عليهم ؛ لأنه كان من كبار الزعماء في الحركة العرابية . غير أن المغفور له
الخديوي السابق صفح عنه طبقًا لما اتصف به من الحلم وكرم الخلق , فعين الشيخ
بعد ذلك قاضيًا في المحاكم الأهلية , حيث قام بحق وظيفة القضاء مع الصدق
والاستقامة , وفي سنة 1899 رقي إلى منصب الإفتاء الخطير الشأن , فأصبحت
مشورته ومعاونته في هذا المنصب ذات قيمة عظيمة ثمينة ؛ لتضلعه من علوم
الشرع الإسلامي مع ما به من سَعَة العقل , واستنارة الذهن , وأذكر مثالاً على نفع
عمله الفتوى التي أفتاها في ما إذا كان يحل للمسلمين تثمير أموالهم في صناديق
التوفير , فقد وجد لهم بابًا به يحل لهم تثمير أموالهم فيها من غير أن يخالفوا الشرع
الإسلامي في شيء .
أما الفئة التي ينتمي الشيخ محمد عبده إليها من رجال الإصلاح في الإسلام
فمعروفة في الهند أكثر مما هي معروفة في مصر , ومنها قام الشيخ الجليل السيد
أحمد الشهير الذي أنشأ مدرسة كلية في عليكره بالهند منذ ثلاثين عامًا . والغاية
العظمى التي يقصدها رجال هذه الفئة هي إصلاح عادات المسلمين القديمة من غير
أن يزعزعوا أركان الدين الإسلامي , أو يتركوا الشعائر التي لا تخلو من أساس
ديني . فعملهم شاقّ وقضاؤه عسير ؛ لأنهم يستهدفون دائمًا لسهام نقد الناقدين ,
وطعن الطاعنين من الذين يخلص بعضهم النية في النقد , ويقصد آخرون قضاء
أغراضهم , وحكّ حزازات في صدورهم , فيتهمونهم بمخالفة الشرع وانتهاك حرمة
الدين .
أما مريدو الشيخ محمد عبده وأتباعه الصادقون فموصوفون بالذكاء والنجابة ,
ولكنهم قليلون , وهم بالنظر إلى النهضة الملية بمنزلة الجيروندست في الثورة
الفرنسوية , فالمسلمون المتنطعون المحافظون على كل أمر قديم يرمونهم بالضلال
والخروج عن الصراط المستقيم , فلا يكاد يؤمل أنهم يستميلون هؤلاء المحافظين
إليهم ويسيرون بهم في سبيلهم .
والمسلمون الذين تفرنجوا ولم يبق فيهم من الإسلام غير الاسم مفصولون عنهم
بهُوَّة عظيمة . فهم وسَط بين طرفين ، وغرض انتقاد الفريقين عن الجانبين ، كما هي
حال كل حزب سياسي متوسط بين حزبين آخرين ، غيرَ أن معارضة المحافظين لهم
أشدّ , وأهم من معارضة المصريين المتفرنجين ؛ إذ هؤلاء لا يكاد يُسمع لهم صوت .
ولا يدري إلا الله ما يكون من أمر هذه الفئة التي كان الشيخ محمد عبده شيخها
وكبيرها , فالزمان هو الذي يظهر ما إذا كانت آراؤها تتخلل الهيئة الاجتماعية
المصرية أو لا . وعسى الهيئة الاجتماعية أن تقبل آراءها على توالي الأيام إذ لا
ريب عندي في أن السبيل القويم الذي أرشد إليه المرحوم الشيخ محمد عبده هو
السبيل الذي يؤمل رجال الإصلاح من المسلمين الخير منه لبني ملتهم إذا ساروا فيه ،
فأتباع الشيخ حقيقون بكل ميل وعطف وتنشيط من الأوربيين . ولعلهم يجدون
بعض التنشيط من نقلي قولاً لرجل من أهل دينهم وصف فيه المعارضة التي لقيتها
مدرسة عليكره المذكورة آنفًا , والطريقة التي تغلبوا بها على تلك المعارضة , وههنا
ذكر عبارة عن كاتب هندي اسمه السيد محمود تضاهي عبارته في المقدار .
ومما كتب في أواخر الفصل الذي يتكلم فيه عن المحاكم الشرعية ما ترجمته :
( هذا , وإني أوافق السر ملكولم مكلريث على ما قال عن الضربة الثقيلة التي
أصابت الإصلاح من هذا القبيل بموت المرحوم الشيخ محمد عبده , فقد أشرت إلى
خدمات ذلك الرجل الجليل في فصل آخر من هذا التقرير , وأعود فأبسط الرجاء
أيضًا أن الذين كانوا يشاركونه في آرائه لا تخور عزائمهم بفقده , بل يظهرون
احترامهم لذكراه أحسن إظهار بترقية المقاصد التي كان يرمي إليها في حياته ) .اهـ
أما ما قاله السر ملكوكم مكلريث , وصرح به اللورد بموافقته عليه فهذا نص
ترجمته :
( قول المستشار القضائي في الشيخ محمد عبده )
ولا يسعني ختم ملاحظاتي على سير المحاكم الشرعية في العام الماضي بغير
أن أتكلم عن وفاة مفتي الديار المصرية الجليل المرحوم الشيخ محمد عبده في شهر
يوليه الفائت , وأن أبدي شديد أسفي على الخسارة العظيمة التي أصابت هذه النظارة
بفقده ؛ فقد كان خير مرشد لنا في كل ما يتعلق بالشريعة الإسلامية والمحاكم الشرعية ,
وكنا نرجع إليه كثيرًا للتزود من صائب آرائه , والاستعانة بمساعدته الثمينة ,
وكانت آراؤه على الدوام في المسائل الدينية أو الشبيهة بالدينية سديدة صادرة عن
سعة في الفكر كثيرًا ما كانت خير معوان لهذه النظارة في عملها .
وفوق ذلك فقد قام لنا بخدم جزيلة لا تقدر في مجلس شورى القوانين في معظم
ما أحدثناه أخيرًا من الإصلاحات المتعلقة بالمواد الجنائية , وغيرها من الإصلاحات
القضائية ؛ إذ كان يشرح للمجلس آراء النظارة ونياتها ويناضل عنها , ويبحث عن
حلّ يرضي الفريقين كلما اقتضى الحال ذلك .
وإنه ليصعب تعويض ما خسرناه بموته نظرًا لسموّ مداركه وسَعَة اطلاعه ,
وميله لكل ضروب الإصلاح والخبرة الخصوصية التي اكتسبها أثناء توظيفه في
محكمة الاستئناف , وسياحاته إلى مدن أوربا , ومعاهد العلم . وكانت النظارة تريد
أن تكل إليه أمر تنظيم مدرسة القضاة الشرعيين المزمع إنشاؤها ومراقبتها مراقبة
فعلية . أمّا الآن , فإنه يتعذر وجود أحد غيره حائز للصفات اللازمة للقيام بهذه
المهمة ولو بدرجة تقرب من درجته , فلكل هذه الأسباب أخشى أن نظارة الحقانية
ستظل زمنًا طويلاً تشعر بخسارتها بفقده . ا هـ كلام المستشار .
* * *
( قول اللورد فيه بكتاب مصر الحديثة )
أما الشيخ محمد عبده , فكان عالمًا من طراز يفضل كثيرًا طراز إخوانه الذين
أشرت إليهم ( كالسادات والبكري ) وكان أحد زعماء الفتنة العرابية , فلما جئت مصر
سنة 1883 كان مغضوبًا عليه , ولكن الخديوي توفيق عفا عنه بما فطر عليه من
مكارم الأخلاق , وانقيادًا لتشديد الإنكليز عليه في ذلك , وعينه قاضيًا , فأحسن العمل ,
وأدى الأمانة حقّها . وكان متوسعًا في آرائه , وعلى علم ونباهة , فلم ينكر المساوئ
الناشئة في الحكومات الشرقية , وعرف أنه لا بد من الاستعانة بالأوربيين للإصلاح
إلا أنه لم يكن من عداد المصريين المتفرنجين , وكان يقول : إنهم لم يحسنوا تقليد ما
حاولوا تقليده من الأخلاق الأوربية , وكان عدوًا للخديويين والباشاوات ؛ وأريد بذلك
أنه لو عثر على باشاوات صالحين لَمَا أعرض عنهم ولا عارضهم , ولكنه لم يوفق إلا
إلى عدد قليل من خيارهم مع اختباره الطويل .
وحقيقة الأمر أن الرجل كان مفطورًا على الخيال , ويرى آراء لا يمكن الجري عليها إلا أنه كان مع ذلك مصريَّا وطنيًّا حقيقيًّا , ومن مصلحة الوطنية المصرية أن يكون أمثاله كثارًا , ولكن إذا نظرنا إلى نسيج محمد عبده والذين يعلمون تعاليمه
من جهة إمكان اتخاذهم ساسة للمستقبل نجد أن هناك بعض أوجه الضعف , وقد قال
المستر ستانلي لاين بول : إن المسلم من الطبقة العليا لا بد أن يكون أحد اثنين :
( إما متعصب أو ملحد في سره) فمثل هذه الحيرة على شكل مختلف قد أوجدت
عقبات في سبيل المسيحيين الذين يؤمنون بحرفية تعاليم المسيح دون معناها أنها عقبات أعظم للمسلم الأصيل الذي يبذل عناية كلية بحرفية تعليم دينه دون معناها , وأخشى أن يكون صديقي محمد عبده في حقيقة أمره ( لا أدريا ) ولو أنه يستاء من هذه النسبة لو نسبت إليه .
وكان معاشروه ومخالطوه يسلمون بمقدرته ولكنهم كانوا يرمقونه شزرًا
ويقولون : إنه ( فيلسوف ) وكل من يدرس الفلسفة ؛ أي : كل من يدرك
الفرق بين القرن السابع والقرن العشرين هو في أعين المتمسكين بالقديم سائر إلى
الهلاك لا محالة . هذا وإن أهمية محمد عبده السياسية هي في أنه أسس مدرسة
فكرية في مصر على مثال ما أسس في الهند سيد أحمد منشئ كلية عليكرة , وغاية
الذين ينتمون إلى تلك المدرسة هي تزكية طرق الإسلام في عين الإنسان أو بالحري
في عين الرجل المسلم , ولكن شدة اشتباه المسلم المحافظ فيهم , واتهامه إياهم
بالمروق من الدين يمنعانه من المسير معهم طويلاً , ونراهم من الجهة الأخرى
غالبًا غير متفرنجين إلى حد أن يجذبوا إليهم المصري المقلد للطرق الأوربية , فهم
أدنى من المسلم المحافظ في إسلامهم وأدنى من المصري المغالي في تفرنجه ؛
ولذلك ترى مهمتهم عسيرة جدًّا , ولكنهم جديرون بكل تشجيع ومساعدة يمكن
إمدادهم بهما ؛ لأنهم حلفاء المصلح الأوربي الطبيعيون وسيري كل مصري محبّ
لوطنه أن في تقدم أتباع محمد عبده خير رجاء له في إنقاذ برجرامه ألا وهو
جعل مصر مستقلة استقلالاً ذاتيًّا حقيقيًّا .
وقد علق اللورد في ذيل هذه الصحيفة قوله : إنني قدمت لمحمد عبده كل
تنشيط استطعته مدة سنين كثيرة , ولكنه عمل شاق , ففضلاً عن العداء الشديد الذي
كان يلاقيه من المسلمين المحافظين كان لسوء الحظ على خلاف كبير مع الخديو ,
ولو يتمكن من البقاء في منصب الإفتاء له أن الإنكليز أيدوه بقوة .
وقد أثنيت عليه في تقاريري السنوية ثناءً عظيمًا , وأنا أعظم الناس أسفًا حقيقيًّا
على وفاته على أنني في الوقت نفسه لا أرى بُدًّا من الاعتراف بما عراني من الدهشة
عندما طالعت بعض الأنباء الجديدة في كتاب المستر ولفرد بلنت فيظهر أن المستر
ولفرد بنى آراءه في المسائل المصرية على ما سمعه من محمد عبده ؛ فقال عنه في
كتابه التاريخ السري : إنه فيلسوف كبير , ووطني عظيم . وقد قرأت بدهشة وأسف
معًا ما يأتي بلسان محمد عبده :
( عرض علي الشيخ جمال الدين الفتك بإسماعيل يومًا عند مروره بعربته
يوميًّا على كوبري قصر النيل , فاستحسنت رأيه , ووافقته ولكن الأمر اقتصر على
الكلام بيننا , ولم نوفق إلى شخص يتولى تنفيذ هذا العمل ) , فكفاني أن أقول بعد
هذا : ( إن العالم المتمدن عمومًا ينظر شزرًا إلى الوطنيين , ويحتقر بالأكثر أولئك
الفلاسفة الذين لا يتأخرون عن تعزيز مقاصدهم السياسية بمثل ارتكاب القتل ) . اهـ
من ترجمة المؤيد .
* * *
المقابلة بين القولين
من قابل بين ما قاله اللورد في تقريره وما كتبه في كتابه ( مصر الحديثة )
يرى فرقًا عظيمًا بين القولين , فإن عبارة التقرير لا ذمَّ فيها ، ولا تعريض وعبارة
التاريخ فيها ذم صريح ، وتعريض ظاهر بل المدح الذي فيها بمعنى ما في التقرير
ضئيل مبهم يحتمل صرفه إلى الذم في بعض المواضع ؛ فإنه لما وصفه بالعلم فضله
على السادات والبكري وهما ليسا من العلماء , ولما ذكر أنه متهم بالفلسفة فسر ذلك
بالتفرقة بين القرن السابع والقرن العشرين . وقد قال المؤيد في هذا التفاوت ما يأتي :
قضى المرحوم الشيخ محمد عبده من عمره بضع عشرة سنة , وهو صديق
مخلص للورد كرومر , وقضى هذا اللورد زمنه الذي صادق فيه هذا الشيخ وهو
يساعده في الوظائف ويدافع عنه فيها . ويقول الآن بصريح العبارة : إنه لولاه ما
بقي في منصب الإفتاء طويلاً .
كان اللورد يطريه مدحًا في حياته كلما ذكر اسمه في مجلسه , وكلما جاءت
مناسبة لذكره في تقاريره , ويخيل لقارئ كتاب مصر الحديثة الآن أن اللورد يحاول أن
يطعن عليه أكثر من كل إنسان في مصر , لولا ما سيق له من المدح فيه . فَلِمَ هذا ؟.
* * *
( رأي المؤيد في صداقة اللورد للشيخ )
( إن جواب هذا السؤال موجود بين سطور اللورد كرومر فيما كتب عن هذا
الرجل في كتابه الأخير ) .
ثم ذكر المؤيد في بيان ذلك أنه كان من زعماء الثورة العرابية , وأوضح ذلك
وأكده وذكر قول اللورد أن الخديوي السابق عفا عنه بتشديد الإنكليز عليه في ذلك ،
وأنه كان على خلاف كبير مع الخديوي , ثم بين صاحب المؤيد رأيه , وأضاف إليه
كلمة طالما حاكت في صدره , ونوّه بها حتى لفظها اليوم , فأراحنا ، وأراح الناس ؛
قال ما نصه :
من خلال هذا الكلام يظهر الجواب الحقيقي , وهو أن اللورد كرومر لم يكن
صديقًا للمرحوم الشيخ محمد عبده كما كان هذا صديقًا مخلصًا له ؛ ولكنه كان متمسكًا
بصداقته الظاهرية ؛ لأنه كان يريد أن يضع في يده رجلاً قويّ العارضة , لدود
الخصام , عدوًّا لتوفيق باشا أولاً , ولخلفه ثانيًا , ولإسماعيل باشا قبل ذلك .
ولا مراء في أن المرحوم الشيخ محمد عبده كان يكره طائفة الباشوات كما يقول
عنه اللورد من جهة , وكان وطنيًّا صادقًا من جهة أخرى . فكان اللورد يحبه من الجهة
الأولى , ولا يستطيع أن يخلص له الحبّ من الجهة الثانية ؛ لذلك كان يطريه وهو
ينتفع بإطرائه . أمّا الآن وقد مات الشيخ محمد عبده , وفارق اللورد كرومر مصر ,
فلم تكن ثَمَّتْ حاجة لأَنْ يداري اللورد فيه كل المداراة , وإنما لاحظ أن يداري نفسه لما
كتب عنه أولاً فيما كتب عنه ثانيًا, فجاءت كتابته هكذا خليطًا من المدح والقدح ,
وثوب الرياء يشف عما تحته .
* * *
( قول المؤيد في الشيخ نفسه )
وعندنا أن المرحوم الشيخ محمد عبده كان رجلاً عالمًا فاضلاً ذا خلال
محمودة كثيرة من صفات النجدة والوفاء والمروءة , ولا نقول كما قال اللورد عنه :
إنه كان ملحدًا , أو لا أدريا , أو ضعيف الإيمان ؛ لأن الإيمان من أعمال القلوب
التي يستأثر الله بعلمها , وأما ظواهره فكانت مجال مقال كثير لأصدقائه من جهة ,
ولأعدائه من جهة أخرى , ولكنه كان على كل حال عالمًا مصلحًا يحاول ما استطاع
إصلاح الفاسد من الشئون التي طرأت على الدين , ويعمل لذلك بغيرة لا تفتر ,
وفي آخر عهده من الدنيا كان يعتقد في نفسه اعتقادًا ملأ جوانحه أنه رسول إصلاح
من عند الله ؛ فكان يجاهد في سبيل ذلك جهادًا حقيقيًّا , وإنْ لم ينل حظّ الثقة العامّة
بذلك .
وأضعف الجوانب في أعمال وآراء الشيخ محمد عبده كان الجانب السياسي
منه , فكان فكره السياسي خياليًّا غالبًا كما قال اللورد ؛ لأنه كان في كثير من
الظروف يخيل له أن يقبض بكلتا يديه على اللورد كرومر من جهة , وعلى الجناب
الخديوي من جهة , فيفشل في الأمرين معًا حتى يقول الجناب الخديوي من جهته ما
يقول فيه ، وحتى يضحك اللورد من هذا الضعف السياسي فيه .
هذه كلمتنا في المرحوم الشيخ محمد عبده , قلناها بحرية تامة في هذه المناسبة ؛
لنقول : إن كان اللورد أصاب في بعض ما قاله عن المرحوم الشيخ محمد عبده فقد
أخطأ في حقه مرتين الأولى في حياته ؛ لأنه لم يكن يعضده ويساعده إلا لغرض
واحد , وهو أن يكون عدوًّا حقيقيًّا دائمًا للخديو , فكان يدفعه دائمًا إلى الأمام في ذلك ،
والثاني أنه تعرض الآن للطعن على عقيدته , والعقيدة مسكنها القلب خصوصًا وأن
الطاعن مسيحي على عالم مسلم فيما هو مسلم به .
( ولكن اللورد أراد من هذا الطعن شيئًا آخر وهو أن المسلم إن صار مصلحًا
يومًا ما لم يستطع أن يكون كذلك إلا وهو مارق من الدين . حتى إنه لما مدح الشيخ
بيرم , وذكر من صفاته أنه كان يطبق أحكام الإسلام على المعلومات العصرية , قال
عنه : إنه كان كمن يحاول أن يربع الدائرة ) .
* * *
( قولنا فيما كتب المؤيد )
إذا تنازع الكاتب فكران أو شعوران عند الكتابة في موضوع هو أصل في
أحدهما والآخر فرع له ؛ فيوشك أن يذهله الفرع عن أهم أركان الأصل كما وقع
للمؤيد , فوجب أن نبين ما غلط به المؤيد هنا حتى خفي عليه به خطأ اللورد
الحقيقي لنفي الموضوع حقه ؛ فنقول .
( 1 ) إن الأساس الذي بنى عليه المؤيد تفرقته بين كلامي اللورد في هذا
المقام غير صحيح , وهو أن اللورد كان يطري الشيخ في حياته ؛ إذ كان ينتفع
بإطرائه في دفعه لعداء الخديو ، ثم ذمه بعد موته , وخروجه هو من مصر لزوال
الحاجة . فإن هذا الثناء العظيم في تقريره الذي ليس عندنا مدح منه سواه قد كتبه
بعد موته , وإذا كان عند صاحب المؤيد رواية لسانية عن اللورد فهي لا تقوم حُجة
عليه , ولا يصح مقابلتها بما كتبه اليوم إلا أن يكون على سبيل التبع .
( 2 ) إن كون الأستاذ الإمام كان من زعماء الثورة العرابية لا يصلح سببًا ,
ولا جزء سبب لمساعدة اللورد إياه , وإلا لساعد سائر زعمائها .
( 3 ) إن اللورد فسر بغض الشيخ محمد عبده للباشوات بأنه قلما وجد فيهم
صالحًا , وأنه متى وجد الصالح لا يعرض عنه , ولا يعارضه لصدق وطنيته ,
فوافقه صاحب المؤيد على كونه كان يكره الباشوات , وعلى كونه كان صادق
الوطنية . ثم مثَّل بغضه للباشوات بعداوة الخديو الحالّ وأبيه وجدّه , ونحن لا نوافقه
على هذا التمثيل الذي يوهم الحصر . أما كرهه لإسماعيل فهو معقول مهما كانت
سنه , ومعارفه السياسية في ذلك العهد , وسنبين ذلك .
وأما توفيق فقد كان هو وأستاذه جمال الدين من حزبه وشيعته على أبيه , وقد
نقم منه إخراج أستاذه من البلاد , ونفيه هو إلى بلده وكان راضيًا منه أتم الرضى
عندما ساعد الوزارة الرياضية على الإصلاح في البلاد . ولما حدثت مبادئ الثورة
العرابية كان الشيخ مقاومًا للعرابيين , ولما استفحل الأمر كان مرشدًا معتدلاً بِحَسَب
علمه , وقد ظهر له في أثناء ذلك استعانة توفيق باشا بالإنكليز على العرابيين ,
فكرهه في أثناء ذلك كراهة شديدة كما يعلم من مذكراته في شأن تلك الحوادث ,
ومنها أن مذبحة الإسكندرية كانت بإيعاز من الخديو ؛ ليثبت لإنكلترا وسائر
الأوربيين عجز عرابي عن حمايتهم , وقد كتب بردولي المحامي عن العرابيين شيئًا
من هذا في كتابه نقلاً عنه .
وأما العباس - أيده الله بتوفيقه وعنايته - فقد كان في أكثر مدة ولايته على مودة مع
المرحوم , وهو الذي اقترح من نفسه جعله مستشارًا في الاستئناف , وهو هو الذي
اختاره بنفسه مفتيًا للديار المصرية , ولم يكن للورد دخل في ترقي الشيخ محمد
عبده في الوظائف إلا عدم المعارضة , والفضل الإيجابي في ذلك للأمير وحده كما
كان يصرح به الشيخ مرارًا .
ولكن حدث في السنين الأخيرة بينهما شيء من سوء التفاهم بسعاية بعض
المفسدين الذين يعرفهم صاحب المؤيد أكثر من غيره إذ كان يقاوم سعايتهم ومفاسدهم
إلى غضب هو أيضًا ، وزاد سوء التفاهم تلك المسألة التي أشار إليها المؤيد في ترجمة
حسن باشا عاصم , فقال ما معناه : إنها مسألة كان يرى نفسه فيها قائمًا بواجب تفرضه
عليه الذمة , وكان يراه مولاه فيها متعنتا . وله أن يقول مثل ذلك في صديقه وشريكه
فيها الشيخ محمد عبده .
فمن هذه الخلاصة الوجيزة يعلم أن إظهار اللورد الصداقة للشيخ بضع عشرة
سنه لا يتأتى أن يكون المراد به دفعه في عداوة الخديو كما قال المؤيد ، على أنه كان
أثبت من أن يندفع بيد اللورد أو غيره , فقد كان في الذروة العليا من الاستقلال
في فكره وإرادته , وناهيك أيضًا بوطنيته وديانته .
حقًّا أقول : إنني كنت أراه حتي في المدة الأخيرة التي قوي فيها سوء التفاهم
بينه وبين الأمير يتمنى لو يكون الأمير موفقًا مؤيدًا في كل شيء يرفع شأن البلاد ،
ويفيدها مصونًا من كل شيء ضار , وإنني سمعته غير مرة يقول : إننا كلنا معلقون
برجليه فإذا أهبطه الإنكليز درجة هبطنا تحته لا معه ، وإننا كنا مرة نتحدث في
استرضائه , فأقسم بأنه لو أمره أن يخرج من البلد لامتثل . ولكنه كان ينكر على
المعية أمورًا كثيرة , ويتمنى الوفاق الممكن الذي لا يصحبه ضرر من جهة أخرى
على أن المؤيد استنبط من عبارة اللورد أنه يحاول أن يطعن على الشيخ أكثر من كل
إنسان في مصر لولا ما سبق من المدح فيه , فهل يكفي أن يكون سبب هذا هو
الاستغناء عنه بموته , وخروجه هو من مصر ؟ .
( 4 ) توجيه المؤيد قول اللورد في الأستاذ الإمام إنه كان خياليًّا غير وجيه ؛
فإنه جعل تأويل ذلك بعد التسليم به أن الأستاذ كان يخيل له أن يقبض بكلتا يديه
على اللورد من جهة وعلى الخديو من جهة , فيفشل في الأمرين . وهذا الاستنباط
من خيال المؤيد ما أظن أنه طاف بخيال اللورد , إذا البعد بين الخيالين شاسع جدًّا .
ولخيال المؤيد وجه ودليل من الخارج , فإن الشيخ رحمه الله كان يتقرب من الأمير
للاستعانة به قبل كل شيء على خدمة دينه في نحو إصلاح الأزهر ، ثم إبداء
النصيحة الواجبة إذا عرض موجبها , وكثيرًا ما كان يعرض ذلك ؛ وقد سمعت من
فم الأمير في قصره بالقبة أنه يستشير الشيخ , ويعجبه رأيه , ويثق به . وكان
أيضًا يختلف إلى اللورد للاستعانة به على خدمة وطنه , وما كان يطلب منهما شيئًا
لنفسه . ومن مصلحة البلاد أن يكون فيها رجال يثق أمير البلاد وعميد الاحتلال معا
بكفاءتهم وصدقهم , وذلك من الحقيقة لا من الخيال .
( 5 ) ذكر المؤيد في موضع أن اللورد طعن في دين الشيخ محمد عبده ,
وجعله لا أدريا أو ملحدًا حتى إن من قرأ عباراته , ولم يكن عارفًا بكلمة اللورد يظن
أنه جزم بهذا الطعن واللورد لم يجزم بذلك , وإنما قال : ( أخشى ) كما في ترجمة
المؤيد نفسه ، أو ( أظن ) كما في ترجمة بعض الجرائد , فوجب علينا أن نبين
ذلك .
( 6 ) قال المؤيد : إنه لا يطعن في إيمان الشيخ ؛ لأن الإيمان محله القلب ,
وإن ظواهره كانت مجال مقال كثير لأصدقائه ولأعدائه ! ! فنقول : إننا نحن نوافق
المؤيد على قوله : إن الإيمان من أعمال القلوب التي يستأثر الله بعلمها , ويؤيد هذا
القول الحديث الصحيح ( هل شققت عن قلبه ) لمن قال : يا رسول الله , أعط فلانًا ؛
فإنه مؤمن . ولكن المؤيد وقع في الحكم على القلب الذي أنكر على اللورد ؛ إذ قال :
( قضى المرحوم الشيخ محمد عبده من عمره بضع عشرة سنة , وهو صديق
مخلص للورد كرومر ) ؛ فالإخلاص كالإيمان محله القلب , ولا يمكن أن يطلع عليه
إلا الله تعالى , فكيف أجاز المؤيد الحكم على القلب مرة ومنعه أخرى ؟
أما الظواهر التي تدل على قوة إيمانه فهي أقوى من الظواهر التي تدل على
إخلاصه في صداقة اللورد مع العلم بأنه كان أبعد الناس عن النفاق والرياء , فإنه
لم يعمل للورد عملاً خاصًّا به أو بدولته , ولكنه وقف حياته على خدمة مصر
والإسلام ابتغاء مرضاة الله . والمؤيد - وإن كان قد أدخل في مسألة الظواهر كلمة
محتملة ككلمة أبي سفيان لهِرَقْل , فقال : إنها كانت مجال مقال كثير - قد قال من
نفسه مقالاً جازمًا هذا نصه :
( ولكنه كان على كل حال عالمًا يحاول ما استطاع إصلاح الفاسد من الشئون
التي طرأت على الدين , ويعمل لذلك بغيرة لا تفتر ، وفي آخر عهده من الدنيا كان
يعتقد في نفسه اعتقادًا ملأ جوانحه أنه رسول إصلاح من عند الله , فكان يجاهد في
سبيل الله جهادًا حقيقيًّا , وإن لم ينل حظ الثقة العامة بذلك ) فالذي يعتقد هذا
الاعتقاد لا يمكن أن يكون مُلحدًا أو لا أدريًا ؛ أي : شاكًّا في وجود الله يقول : لا أدري
أهو موجود أم لا ؟
صدق المؤيد وإنْ كان في تعبيره بلفظ ( رسول إصلاح ) غرابة لما لها من
المعنى الشرعي الذي ليس بمراد هنا . فإن الأستاذ الإمام كان يعتقد أن دين الإسلام
لا بد أن يعود إليه مجده ونوره الذي حال دونه ظلام البِدَع والخرافات والتقاليد
والعادات , وأنه هو عالم بحقيقته وبكيفية تسرب البدع إليه ، وقادر على بيان ذلك
وإزالته بالحُجة , وأن هذا العمل فرض محتّم عليه .
وقد غمر هذا الاعتقاد عقله وقلبه , وملك جنانه ووجدانه , فبذلك كان يرى أنه
كان ملهم ومسخر من الله تعالى لهذا العمل ليس في استطاعته أن يتوانى فيه . وقد
ذكر قاسم بك أمين في تأبينه أن بعض أصدقائه كانوا يلومونه على تفريطه في صحته
وتعبه في بعض الأعمال التي قَلَّما تأتي بما يتوخاه من الفائدة فيها , فيعدهم
بالتخفيف , ولكنه يصبح في الغد أشد اهتمامًا وعنايةً مما كان عليه بالأمس . وصدق
المؤيد في قوله : إنه لم ينل حظ الثقة العامة بإصلاحه , إذ لو نال هذا الحظ لَمَا قال
لورد كرومر في الإسلام ما قاله اليوم ؛ لأن الإصلاح العملي كان يمنعه من ذلك .
* * *
رأينا في سبب اختلاف قولي اللورد
قال المؤيد : إن الجواب عن التفاوت بين كلامَيِ اللورد مذكور في كتابه , وقد
صدق في هذه , ولكن أخطأ اجتهاده فيما بينه به ؛ إذ لا اجتهاد في مورد النص . أما
هذا النص فهو في موضعين , ذكر أحدهما المؤيد فيما ترجمه من كلام اللورد في
الشيخ وأهله في الرد , وأغفل أحدهما في الموضعين . أما الذي ذكره وأهمله فهو
هامش اللورد[1] الذي يذكر فيه دهشته من استمداد مستر بلنت أخبار تاريخه السّرّي
للاحتلال من محمد عبده , وفي هذا الكتاب من التشنيع على اللورد وسياسته ما فيه .
وأما الذي أغفله المؤيد فدونك ترجمته نقلاً عن حاشية ص 524 من المجلد الثاني
في سياق الكلام عن المعارف : لقد دهشت بل اعترتني خيبة أمل عندما قرأت في
كتاب ألفه مسيو جورفيل رسالة للشيخ محمد عبده أعطى فيها ذلك الرجل الشهير
رجاحة اسمه ( أو قوة اسمه ) لِتُهَمٍ أو تعريضات من هذا النوع , ولا بد أنه كان على
يقين من أنها لا أساس لها . وكنت أرجو منه أفضل من هذا . ا هـ علق هذا على
هامش معناه : هل نظر الإنكليز إلى انحطاط المصريين السياسي أو الاجتماعي
نظر المغتبط , فلم يحاولوا ترقيتهم كما يزعم بعض سفلة الناقدين ؟
ونحن نقول : إن الرجل لم يعط اسمه لترويج التهم أو التعريضات كما ظن
اللورد , وإنما أراد الموعظة والتنبيه إلى الصواب الذي يعتقده , ولكن صاحب
الكتاب استخدم اسمه لترويج كتابه , وهو ما كان يقول إلا ما يعلم تمام العلم أنه
صحيح كل الصحة . وإذا كان اللورد يرجو منه يوم كتب تلك الرسالة إلى جورفيل
أمرًا أفضل من هذا فهو أيضًا ربما كان يرجو من اللورد قبيل ذلك أمرًا أفضل مما
رأى منه عند الحاجة إلى مساعدته في أهم وأفضل غرض له من حياته . وإننا نورد
الآن ما جاء في رسالة الأستاذ الإمام عن المعارف وهو :
ما كتبه الأستاذ الإمام
لجرفيل عن المعارف
( التعليم العام ) لا تنفق الحكومة المصرية على التعليم العام إلا مبلغ مائتي
ألف جنيه مع أن في وسعها إنفاق أكثر منه ؛ لأن دخلها قد بلغ في الميزانية اثني
عشر مليونًا من الجنيهات , وهي لا تنفك عن زيادة أجور التعليم التي
تتقاضاها من الناس على تعليم أولادهم من حين إلى حين , وقد بلغت من ذلك إلى
حد أن صارت تربية الأولاد عبأً ثقيلاً حتى على أوساط الناس , وإذا استمر هذا
التزايد أمسى التعليم زخرفًا لا يتسنى التحلي به إلا في بيوت الأغنياء فقط .
ومن المبادئ التي يجري عليها القابضون على أزمة أمورنا أنْ لا حق لأولاد
الفقراء في نوع ما من التعليم , فهم يجاهرون به كل المجاهرة , ويبدو منهم على
الدوام في حديثهم وتقاريرهم وكتبهم .
نعم , إنه من المسلم إلى حد محدود أن الوالد الذي يخصص جزءًا من دخله
لتربية أولاده يهمه أن يحصل من التربية على مقابل هذا الجزء , وأنه يراقب ولده
في التعلم مراقبةً فعليةً ليحمله على الاستفادة من تعليم يكلفه كثيرًا من النفقات , ولكن
الذي لا يسلم به أحد ولا دليل عليه من التجربة هو أن يستنتج من هذا أن كل تعليم
مجاني يكون عقيمًا , فإنه مما تنبغي ملاحظته أن التعليم في المدارس المصرية من
عهد محمد علي باشا إلى سنة 1882 كان مجانيًّا في كل هذه المدة , ولم يمنع هذا أن
تنتج تلك المدارس عددًا من الرجال المتعلمين تعلمًا حقيقيًّا , ومعظمهم من الفقراء ،
ولم يضر أوربا أن التعليم مجاني في كثير من البلدان , ولكن أي فائدة لنا من
الاستشهاد بما غبر من الاختبار في مصر , وما حضر من الاعتبار بأوربا ما دام
الذين بيدهم مقاليد حكومتنا مصممين على أن لا يقبلوا إلا ما يهديهم إليه فكرهم .
يشق على الإنسان أن يرى كل سنة مشهد توارد الآباء والأمهات على نظارة
المعارف يقودون صغارهم إليها , سائلين التصدق عليهم بقبولهم مجانًا في مدارسها
معتذرين بفقرهم ، ومدلين بما يكون بعض أفراد أهلهم قد أدوه إلى الحكومة من الخدم ,
مؤملين على الدوام أن العناية الإلهية والمرحمة القلبية تلين صلابة ذلك المبدأ ولو
مرة واحدة , ولكنهم يضطرون في آخر الأمر إلى الرجوع إلى بيوتهم أو إلى قراهم
خائبين خائري العزائم غير راضين لا يدرون ماذا يفعلون بهؤلاء الأبناء الأعزاء
الذين تمنوا لهم أماني كثيرة ما حيلتنا ؟ يقولون لنا : ( إن بين ظهرانيكم من أبناء
وطنكم أغنياء في وسعهم إنشاء مدارس مجانية للفقراء ) .
آهٍ واأسفاه ! نعم إن أبناء وطننا في وسعهم القيام بهذا العمل وبأحسن منه ,
ولكن مصر لما يوجد فيها محبون للإنسانية , وأخص من بينهم مُحبّي الإنسانية
المستنيرين ، قد يوجد أحيانًا بعض منهم يشيدون مساجد لا حاجة إليها لكثرتها عندنا ,
وبعض آخر يقف جزءًا من عقاره على وليّ , ولكن همة الناس وانبعاثها إلى
العمل لم توجه نحو التعليم فأمتنا أقامت زمنًا طويلاً تعتمد على الجماعة في كل شيء ،
ومن أجل كل شيء .
أما إذا نحن نظرنا إلى هذا التعليم الذي تقوم به الحكومة المصرية من جهة
قيمته , فإننا نضطر إلى القول بأنه قَلَّما يُكَوّن رجلاً في قدرته أن يمارس حرفة تقوم
بمعيشته , ويستحيل أن ينشئ عالمًا أو كاتبًا أو فيلسوفًا , فكيف بالنوابغ في شيء
من هذا .
وليس للتعليم العالي بمصر سوى مدرسة الحقوق ومدرسة الطب ومدرسة
المهندسخانة . أما جميع العلوم الأخرى التي تتألف منها معارف الإنسان فالمصري
قد يأخذ منها بعض معلومات سطحية في المدارس التجهيزية , ولكن يكاد يكون من
المتعذر عليه أن يدرسها دراسة وافية , بل يقضى عليه غالبًا أن يجهلها - فعلم
الاجتماع بفروعه التاريخية والأخلاقية والاقتصادية , وعلم الفلسفة القديمة والحديثة ,
وعلم آداب اللغة العربية واللغات الأوربية , وكذلك الفنون الجميلة لا تعلم بالكلية في
مدرسة ما من المدارس المصرية .
فكان فينا القضاة والمحامون ، والأطباء والمهندسون ، ممن تختلف درجاتهم
في العلم , ولكننا لا نجد في طبقة منهم ذلك الباحث , ولا ذلك المفكر , ولا ذلك
الفيلسوف , ولا ذلك العالِم , ولا ذلك الإنسان الذي يمتاز ببُعد الفكر والنظر ,
وبشهامة الفؤاد , وكرم السجايا الذي أوقف حياته كلها على السعي وراء مطلب من
مطالب الكمال .
وصفوة القول أن خطّة الحكومة التي رسمَتْها لنفسها , ويظهر أنها مصممة
على أن لا تحيد عنها تتلخص في أمور ثلاثة :
( أولها ) : مساعدة التعليم الابتدائي في المدارس الصغيرة المُسمّاة بالكتاتيب ,
حيث تعلمُ الكتابة والقراءة وقواعد الحساب الأربع .
( ثانيها ) : التقليل من نشر التعليم في الأمة ما أمكن .
( ثالثها ) : حصر التعليم الثانوي والتعليم العالي في أضيق الدوائر .
المصريون موقنون بأنّ مَنْ بِيَدِهِم مقاليد أمورهم العمومية لا يعملون كل ما في
وسعهم لترقية الناشئين أخلاقًا وعقولاً , وهذا الرأي مما يدعو إلى الأسف والأسى
من جميع الوجوه , فإنه سيحدث في الرأي العامّ تيارًا من الاستياء إن لم يكن عاجلاً
فآجلاً , وليت شعري ماذا يربح الإنكليز من التمادي في ترك هذا الاعتقاد راسخًا في
النفوس ؟ وإذا كان ثَمَّة أمْر يصحّ أن يتلاقى فيه الطرفان , ويكون قاعدة للاتحاد ,
فإنما هو التعليم العام إذ لا يمكن أن يوجد تناقض بين مصلحة الإنكليز ومصلحة
المصريين في هذا المقصد .
فمن أراد استدرار ما في مصر من المنافع والخيرات فسبيله في ذلك أن يُعْنَى
بتعهد كل ما فيها من موارد الثروة , وأن يبدأ بالإنسان بكل ما فيه من معاني الإنسان ,
فلا بد من امتزاج العنصرين الأوروبي والوطني , وأخذهما على التكاتف في
السير نحو هذه الغاية يدًا بيد .
وَلَعَمْرِي إن الإنكليز لَيسيئون إلى أنفسهم إذا أوهنوا الأهلين , وأرخصوا من
قيمتهم , وصغروا من شأنهم فإنما مصلحتهم في أن يكون أبناء هذا الوطن أعزاء
أغنياء أحرارًا , فإن موارد الثروة والخير للإنكليز منوطة بما يصيبنا من ثراء
ورخاء .
هذا ما جاء في رسالة الشيخ محمد عبده لجورفيل عن المعارف , ويليه كلام
عن الحقانية ومعاملة الإنكليز للموظفين المصريين ملخصه أنهم يلتمسون ضعيف
الإرادة الذي يخضع لهم في كل شيء , ولا يناقشهم في عمل ما , ويقصون
المستقلين في الفكر والإرادة ، وأن كل رئيس منهم يعد نفسه مشرعا , فكلما خطر له
استبدال قانون بقانون وضع قانونًا جديدًا وأنفذه ؛ لأن مجلس النظار لا استقلال له
فيناقش أو يعارض ، ومجلس شورى القوانين ليس له إلا حق بيان الرأي ، والحكومة
غير مكلفة الأخذ بقوله , على أنّ فيه من الضعف ما فيه ؛ لأن الأفراد الذين يصلحون
فيه للبحث قليلون .
فأيّ شيء من هذه الرسالة ينكر اللورد لنثبته له ؟ أما إنه لا ينكر منها شيئًا ,
ولكنه عز عليه أن يرى في كتاب أوربي كلامًا في عيوب إدارة مصر لرجل
معروف بالصدق , وعلوّ المكانة عند الأوربيين ؛ ولذلك قال : إنه أعطى رجاحة
اسمه لجورفيل , إلخ .
إن اللورد نفسه قد اعترف في كتابة بأن المعتدلين الذين سمّاهم حزب أو أتباع
محمد عبده لم يشجعوا كما ينبغي , وقال في تقرير سنة 1905 : إن تعيين سعد باشا
زغلول في الوزارة - وهو أشهرهم - إنما هو تجربة . فهل له أن يقول مع ذلك :
إن ما كتبه الشيخ لموسيو جورفيل : لا أساسَ له في اعتقاده ؟
لقد كان هو وجميع أهل الرأي في مصر يعتقدون حقية ما كتبه , وهذا
الاعتقاد لا يزول إلا بعمل ينقضه , فإذا كانت الحكومة الاحتلالية مخلصة فيما فعلت
وتفعل لمصر , وكان ما ذكره الشيخ من عيوب إدارتها غير متعمد منها فلتتداركه
بمساعدة المستقلين من المصريين , ولا يعسر عليها الاهتداء إليهم .
أما ما قاله الشيخ في رسالة عن المعارف , فمنه ما هو حكاية عن اعتقاد
المصريين واستيائهم , وهو مؤيد بما تذكره جميع الجرائد آنًا بعد آنٍ , وبما ظهر في
مجلس الشورى والجمعية العمومية , فكيف يقول اللورد : إنه لا أساس له ؟ ألم ينبأ
بما جرى في هذا العام - حتى بعد أن قام ناظر المعارف بهذه النهضة الجديدة في
ترقية التعليم من جهات متعددة - من قيام قيامة التلاميذ والجرائد والناس على مستر
دنلوب بما كان قد ازدحم في مراكز الفكر والشعور من سوء حال الماضي . إن لم
يكن قد ظهر به مصداق قول الشيخ : إنه سيحدث في الرأي العام تيار استياء عامّ
من حال التعليم عاجلاً أو آجلاً فإن ما ظهر قريب منه , ولولا هذا الإصلاح الجديد
لظهر أتمّ الظهور .
أما باقي كلام الشيخ فهو حكاية عن سياسة المحتلين في التعليم , وهو مؤيد بما
كتبه اللورد في تقرير تلك السنة ؛ فإنه قال ( كما في ص 133 وما بعدها من
النسخة العربية لتقريره عن سنة 1905 ) :
( يراد بهذه السياسة إبطال التعليم المجاني تدريجًا من المدارس الأميرية التي
هي فوق الكتاتيب , وزيادة الأجور فيها ) ثم احتجّ على ذلك بكون الغرض منها
تعليم التلاميذ تعليمًا أوربيًّا ؛ لكي تعد جمهورًا من الشبّان المصريين لخدمة الحكومة
ولتعاطي بعض الفنون , ثم ذكر أن محمد علي أنشأ هذه المدارس لِفرنجة البلاد ,
وأن عباسًا الأول ألغاها بعد أن خرج منها ما يزيد على الوظائف , وأعادها إسماعيل
لفرنجة البلاد كما كانت , وأنها كانت مجانًا بل كان التلاميذ فيها يأكلون ويأخذون
مرتبات , وأظهر استحسان ذلك من قبلُ , والاستغناء عنه الآن , ثم قال : ( ويجب
على الحكومة أن تتوخى جعل أجرة التعليم في كل مدارسها المتفرنجة مقاربة للنفقات
التي تنفقها عليه . والأموال التي تنفقها على هذه المدارس تصير تنفقها على التعليم
الأهلي الألزم لحاجة الأمة ) , ويعني بالألزم لحاجات الأمة تعليم الكتاتيب والصنائع
فقط , وهذا ما لا يسلم به مصري قط .
ثم ذكر أن الإنكليز لما احتلوا البلاد وجدوا أن كل ما تنفقه المعارف العمومية
( إنما تنفقه على تعليم أولاد فئة صغيرة , أكثرها من أغنى أغنياء السكان , ولا تعلمهم
إلا تعليمًا أوربيًّا فأخذوا في تغيير تلك الحال , وبذلت الهمة منذ سنة 1884 لأخذ
الأجور من التلامذة , ولإبطال التعليم المجاني تدريجيًّا ؛ ولكن بقى النجاح في هذا
السبيل بطيئًا جدًّا إلى عهد قريب ) , ثم استدل بذلك على ( أن إبطال التعليم المجاني ,
وازدياد أجرة التعليم لَيْسَا من دلائل التأخر , ولا هما مضرّان بمصلحة البلاد
الحقيقية , بل هما بمثابة إبطال امتياز ) إلخ .
فكيف يقول اللورد مع هذا : إن الشيخ كتب ما يعلم أنه لا أساس له ؟
سبحان الله ! كأن الشيخ كان يكتب سنة 1905 لجورفيل في الوقت الذي كان
اللورد يكتب فيه لناظر خارجيتهم ما يؤيد قوله ! ألم تر أن الشيخ قد كتب أنهم - يعني
وُلاة الأمور - يقولون لنا : إن فيكم أغنياء يجب أن ينشئوا المدارس المجانية للفقراء .
وأن اللورد كتب في تقريره ( ص135 و 136 ) : ( وإذا أريد تمهيد السبل للتلامذة
الذين تبدو عليهم مخايل النجابة الفائقة لكي يدخلوا المدارس العليا ووسائطهم المالية
لا تكفي لذلك وجب أن يقف المحسنون أموالاً لتلك المدارس التي يعلَّم بها من كان
مثل أولئك التلامذة , ووقف هذه الأموال لتعليم التلامذة الفقراء الذين يستحقون
أن يساعدوا أنفع جدًّا من تكثير المدارس الابتدائية المتفرنجة ) .
( للمقال بقية )
((يتبع بمقال تالٍ))