الأحد، 31 مارس 2013

قسم المقالات : نهي الصحابة و رغبتهم عن الرواية بقلم الشيخ محمد رشيد رضا

نهي الصحابة و رغبتهم عن الرواية بقلم الشيخ محمد رشيد رضا



روى ابن عساكر عن محمد بن إسحاق قال : أخبرني صالح بن إبراهيم بن
عبد الرحمن بن عوف عن أبيه قال : والله ما مات عمر بن الخطاب حتى بعث إلى
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمعهم من الآفاق - عبد الله بن حذيفة
وأبا الدرداء وأبا ذر وعقبة بن عامر - فقال : ما هذه الأحاديث التي أنشيتم عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآفاق ؟ قالوا : ( تنهانا ؟ ) ( قال : أقيموا
عندي لا والله لا تفارقوني ما عشت , فنحن أعلم ، نأخذ منكم ونرد عليكم ) فما
فارقوه حتى مات ) .
وروي أيضًا عن السائب بن يزيد قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي
هريرة : لتتركن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لألحقنك بأرض
دوس . وقال لكعب ( الأحبار ) : لتتركن الحديث أو لألحقنك بأرض القردة .
وروي عن أبي أوفى قال : كنا إذا أتينا زيد بن أرقم فنقول : حدثنا عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم . فيقول : كبرنا ونسينا , والحديث عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم شديد .
ورُوي عن عبيد الله بن عدي بن الخيار قال : بلغني حديث عن عليّ خفت أن
أصاب أن أجده[1] عند غيره ، فرحلت حتى قدمت عليه العراق ، فسألته عن
الحديث فحدثني وأخذ عليَّ عهدًا أن لا أخبر به أحدًا ، ولوددت لو لم يفعل
فأحدثكموه .
ورُوي عن عمرو بن دينار قال : حدثني بعض ولد صهيب أنهم قالوا لأبيهم :
ما لك لا تحدثنا كما يحدث أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : أما
إني قد سمعت كما سمعوا ولكني يمنعني من الحديث عنه أني سمعته يقول : ( من
كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار ) ولكني سأحدثكم بحديث حفظه قلبي
ووعاه ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( أيّما رجل تزوج امرأة ومن
نيته أن يذهب بصداقها لقي الله فهو زانٍ حتى يموت ، وأيما رجل بايع رجلاً
بيعًا ومن نيته أن يذهب بحقه فهو خائن حتى يموت ) ورواه غيره والحديثان
المرفوعان فيه مشهوران . وصهيب من السابقين الأولين رضي الله عنه .
وروى أحمد وأبو يعلى ( وصحح ) عن عثمان قال : ما يمنعني أن أحدث
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أكون أوعى أصحابه عنه ، ولكني أشهد
أني سمعته يقول : ( من قال علي ما لم أقله فليتبوأ مقعده من النار ) .
وروى ابن سعد وابن عساكر عن محمود بن لبيد ، قال : سمعت عثمان بن
عفان على المنبر يقول : لا يحل لأحد يروي حديثًا لم يسمع به في عهد أبي بكر
ولا عهد عمر ؛ فإني لم يمنعني أن أحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
لا أكون أوعى أصحابه إلا أني سمعته يقول : ( من قال عليَّ ما لم أقل فقد تبوأ
مقعده من النار ) .
وروى أحمد و الدارمي و ابن ماجه وآخرون من حديث أبي قتادة عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يا أيها الناس إياكم وكثرة الحديث عني ، فمن قال
عني فلا يقولن إلا حقًّا وصدقًا ، فمن قال عليَّ ما لم أقل ، فليتبوأ مقعده من النار )
وقد روي عن بعض الصحابة الاعتذار بهذا الحديث المتواتر عن التحديث أو كثرته .
وقد فتح الحافظ ابن عبد البر بابًا في كتاب ( جامع بيان العلم ) لبحث ذم
الإكثار من الحديث ، وقيده بقوله : دون التفهم له والتفقه فيه ، قال - كما في
مختصره :
( عن الشعبي عن قرظة[2] بن كعب قال : خرجنا فشيعنا عمر إلى صرار [3]
ثم دعا بماء فتوضأ ، ثم قال لنا : أتدرون لم خرجت معكم ؟ قلنا : أردت أن
تشيعنا وتكرمنا . قال : ( إن مع ذلك لحاجة خرجت لها ، إنكم لتأتون بلدة لأهلها
دويٌّ بالقرآن كدويِّ النحل ، فلا تصدوهم بالأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأنا شريككم ) قال قرظة : فما حدثت بعده حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم . وعنه أيضًا قال : قال لنا : أقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأنا شريككم . وفي رواية عن قرظة أيضًا ، قال : خرجنا نريد العراق فمشى
معنا عمر إلى صرار فتوضأ فغسل اثنتين ثم قال : أتدرون لما مشيت معكم ؟ قالوا
نعم نحن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مشيت معنا ( لتكرمنا ) فقال :
إنكم تأتون أهل قرية لها دوي بالقرآن كدوي النحل فلا تصدوهم بالأحاديث لتشغلوهم ،
جودوا القرآن وأقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، امضوا وأنا
شريككم . فلما قدم قرظة قالوا : حدثنا ، قال : نهانا عمر بن الخطاب .
وعن عروة بن الزبير عن عائشة قالت : ألا يعجبك أبو هريرة جاء فجلس
على جانب حجرتي يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسمعني ، وكنت
أسبح ( تعني أنها تصلي ) فقام قبل أن أقضي تسبيحي ، ولو أدركته لرددت عليه أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسرد الحديث كسردكم .
( وعن أبي الطفيل قال : سمعت عليًّا على المنبر يقول : أتحبون أن يكذب
الله ورسوله لا تحدثوا الناس إلا بما يعلمون .
وعن أبي هريرة أنه كان يقول : حفظت عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم وعائين : فأما أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثته لقطعتم هذا البلعوم ( والبلعوم :
الحلقوم ) وعنه أنه قال : لقد حثدتكم بأحاديث لو حدثت بها زمن عمر بن الخطاب
لضربني عمر بالدرة اهـ .
أقول : فلو طال عمْر عمر حتى مات أبو هريرة في عصره لما وصلت إلينا
تلك الأحاديث الكثيرة عنه ، ومنها 446 حديثًا في البخاري ما عدا المكرر .
وقد ذكر ابن عبد البر لنهي عمر وهو أمير المؤمنين عن التحديث تأويلات
(منها ) أنه ( إنما كان لقوم لم يكونوا أحصوا القرآن فخشى عليهم الاشتغال بغيره
عنه إذ هو الأصل لكل علم ) وأقول : إن ما رواه في ذلك عن قرظة ينافي ذلك ،
فقد نهاهم عن تحديث قوم يحفظون القرآن ، يفتأون يتلونه لأصواتهم به دوي كدوي
النحل . ولو أراد نهيًا مقيدًا بهذا القيد لقال : لا تحدثوا إلا من حفظ القرآن . وقد
عزا هذا القول لأبي عبيد قال : ( وقال غيره : إنما نهى عمر عن الحديث عما لا يفيد
حكمًا ولا سنة ) وهذا أضعف مما قبله وقد عزاه إلى مجهول ، وماذا يعني قائله
بالحديث الذي لا يفيد حكما ولا سنة ؟ أهي الأحاديث عن شمائله صلى الله عليه
وسلم وأخلاقه ؟ كيف وهي أنفع من أحاديث الأحكام الفقهية ؟
ثم ذكر أن بعضهم رد حديث قرظة هذا ؛ لأن الآثار الثابتة عن عمر خلافه
وذكر من هذه الآثار أمر عمر أن يبلغ عنه أن الرجم مما أنزله الله على نبيه في
الكتاب . أقول : وهذا الأثر لا يصلح دليلاً ؛ لأنه إنما نهى عن اشتغال الناس
بالحديث عن الكتاب الذي هو أصل الدين . فإذا ادعي مدع أن عمر ما كان يريد أن
يجعل الحديث أصلاً من أصول الدين ، يمكنه أن يقول : إن حكم الرجم في رأيه من
أحكام القرآن لا من أحكام الحديث غايته أن آيته نسخت تلاوتها ، فالأمر بتبليغه أمر
بتبليغ حكم قرآني ، فلا يعارض النهي عن التحديث .
ثم ذكر وجهًا آخر لرد حديث قرظة ، وهو معارضة الكتاب والسنن له كقوله
تعالى { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } ( الأحزاب : 21 ) وقوله :
{ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} ( الحشر : 7 ) وقوله : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ
مُّسْتَقِيمٍ} ( الشورى : 52 ) قال : ولا سبيل إلى اتباعه والتأسي به إلا بالخبر عنه .
وقد يجاب عن هذا بأن صراطه المستقيم هو القرآن والسياق يعين ذلك ، وأن
من يعمل بالقرآن يكون متأسيًا به لحديث عائشة في صحيح مسلم وغيره ( كان خلقه
القرآن ) وأن سنته التي يجب أن تكون أصل القدوة ، هي ما كان عليه هو وخاصة
أصحابه عملاً وسيرة ، فلا تتوقف على الأحاديث القولية . وأما الأمر بأخذهم ما
يعطيهم الرسول فهو في قسمة الفيء ونحوه ما في معناه ، والحديث الذي نحن
بصدده لا يعارض ذلك .
وذكر من أمثلة معارضته السنن حديث ( نضّر الله امرءًا سمع مقالتي فوعاها
ثم أداها إلى من لم يسمعها ) بناء على جعلهم الأحاديث القولية من السنن ، وهو
اصطلاح للعلماء توسعوا فيه بمعنى السنة ، فجعلوها أعم مما كان يريده الصحابة
من هذا اللفظ ( السنة ) وهي الطريقة المتبعة التي جرى عليها العمل . والحديث
يصلح معارضًا للنهي عن التحديث وبينهما يطلب الترجيح . ويقول ابن عبد البر : إن
عمر كان يريد النهي عن الإكثار لا عن أصل التحديث ، وهو كما ترى ، وإن الأخذ
بالمرفوع مقدم . أقول : وههنا شيء آخر وهو إقرار الصحابة لعمر على نهيه ، وقد
يعارضه أنهم حدثوا فلم ينتهوا ، وقد مر بك أن أبا هريرة كان يحدث بعده ، فكأن
اجتهادهم اختلف في المسألة .
ومما ذكره ابن عبد البر عن عمر في معارضة حديث النهي قوله : ( تعلموا
الفرائض والسنة كما تتعلمون القرآن ) فسوّى بينهما ، وعن مورق العجلي أنه قال:
كتب عمر : تعلموا السنة والفرائض واللحن كما تتعلمون القرآن ، والجواب عن هذا
يعلم مما قبله ؛ وهو أن تعلم السنة غير التحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ،
فإن السنة سيرته صلى الله عليه وسلم ، وتعرف من الصحابة بالعمل وبالأخبار
كنحو ( من السنة كذا ) كما كانوا يقولون ، والتحديث عنه نقل كلامه كما هو
المتبادر ، وإن اصطلح المحدثون بعد ذلك على تسمية كل كلام فيه ذكر النبي صلى
الله عليه وسلم حديثًا وسنة . ومنه تسمية ابن عبد البر نفسه لرواية قرظة التي هي
موضوع بحثنا حديثًا ، وفسر اللحن في أثر عمر عن مورق فقال : قالوا : اللحن
معرفة وجوه الكلام وتصرفه والحجة به .
ثم قال : وعمر أيضًا هو القائل : ( خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم)
وهو القائل : ( سيأتي قوم يجادلونكم بشبه القرآن فخذوهم بالسنن فإن أصحاب
السنن أعلم بكتاب الله عز وجل ) وأقول : إن هديه صلى الله عليه وسلم ليس
موضع اشتباه ، وأما سنته فلو أريد بها هنا أقواله لكان فيها من الشبهات ما في
القرآن أو أكثر ؛ لأن القرآن أعلى بيانًا وقد نقل بالحرف ، والحديث كثيرًا ما نقل
بالمعنى . فالسنة لا يراد بها إلا السيرة والطريقة المتبعة عنه صلى الله عليه وسلم
بالعمل ، والعمل لا تعترض فيه الشبهات . فلذلك أمر بالاحتجاج عليهم بالسنن . ومثل
هذا أمر علي لابن عباس لما بعثه للاحتجاج على الخوارج ، قال : ( لا تخاصمهم
بالقرآن فإن القرآن حمال ذو وجوه تقول ويقولون ، ولكن حاجهم بالسنة فإنهم لن
يجدوا عنها محيصًا ) . اهـ من نهج البلاغة .
ومن العجائب أن يغبى بعض المحدثين أحيانًا عن الفرق بين السنة والحديث
في عرف الصحابة الموافق لأصل اللغة ، فيحملوا السنة على اصطلاحهم الذي
أحدثوه بعد ذلك ، وليس لنا أن نلوم بعد هذا ذلك العالم الفرنسي المستشرق الذي قال
لي مرة : إن الصحابة كانوا يقدمون الأحاديث على القرآن وذكر لي قول علي لابن
عباس ، فقلت له : إنه لا يعني بالسنة الأحاديث فإنها ذات وجوه تحتمل تأويل
المجادلين كالقرآن ، وإنما هي الطريقة المتبعة بالعمل . مثال ذلك احتجاج علي على
معاوية وأصحابه بحديث عمار ( تقتله الفئة الباغية ) فقد أوله عمرو بن العاص
فقال : إنما قتله من أخرجه . يعني عليًّا ؛ ولكن لا سبيل إلى تأويل كيفية الصلاة
وعددها وكيفية الحج لأنها ثابتة بالسنة . ولا يخفى أن السنة بهذا المعنى تشمل ما
هو مفروض وما هو مندوب وما هو مستحب كما مر جوابه .
هذا ، وإن المبحث كبير ولا سبيل إلى تحريره واستيفاء فروعه في هذا الجزء،
فنكتفي بما تقدّم في الوفاء بما وعدنا به في الجزء الماضي .
وليعلم القارئ أن هذا البحث الأصولي بمعزل عن مسألة اهتداء المسلم بما
يصح عنده من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم ، فتلك الأقوال هي ينابيع الحكم
ومصابيح الظلم ، وجوامع الكلم ، ومفخر للأمة على جميع الأمم ، بل إن في
الأحاديث التي لم تصح أسانيدها من البدائع ، والحكم الروائع ، والكلم الجوامع ، ما
تتقاصر عن مثله أعناق العلماء ، وتكبو في غاياته فرسان الحكماء ، ولا تبلغ بعض
مداه قرائح البلغاء ، ولا غَرْوَ فإن من الأحاديث ما صحت متونه ولم تصح أسانيده
كما إن منها ما أشكلت متونه وإن سلم من الطعن رواته ، وأنى لغيرنا ببعض ما
عندنا من الأسانيد لأقوال حكمائهم ، أو لكتب أنبيائهم ، فنحن يسهل علينا من
التمحيص والتحقيق ما لا يسهل على غيرنا ، فليتدبر المتدبرون ، وليعمل العاملون .
__________
(1) كذا في كنز العمال ولعل الأصل : إن أصيب أن لا أجده إلخ .
(2) قرظة بالتحريك بوزن ( خشبة ) .
(3) صرار بالكسر موضع قرب المدينة .