الأحد، 31 مارس 2013

قسم المقالات : حجة الإسلام أبو حامد الغزالى الجزء الأول بقلم الشيخ محمد رشيد رضا

حجة الإسلام أبو حامد الغزالى الجزء الأول بقلم الشيخ محمد رشيد رضا


إن سيرة عظماء الرجال ، أكبر عون على تربية الأجيال ، وقد كان الإمام أبو
حامد محمد الغزالي من علماء الإسلام المصلحين في أصول الإسلام وفروعه وآدابه
اعترف له بذلك العلماء ، وعدوه من المجددين المشار إليهم بحديث : ( إن الله -
تعالى - يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها ) رواه أبو
داود ، والحاكم في المستدرك ، والبيهقي في المعرفة من حديث أبي هريرة ، وعلم
عليه في الجامع الصغير بالصحة . وسيأتي ذكر شيء من أقوال الفقهاء والمؤرخين
والصوفية فيه . لذلك هممت منذ سنين بأن أكتب في المنار شيئًا عن الرجال العظام ،
أبدأ فيه بملخص سيرته في المنار ، ولم أوفق إلى ذلك قبل اليوم . وأرجو أن يكون
فيما أكتبه الآن عبرة لأولي الألباب .

أصله ومنشؤه
هو محمد بن محمد بن محمد بن أحمد ، لم أر أحدًا ذكر له أكثر من ثلاثة آباء
وأسماؤهم عربية . ولكن نسبه لا يعرف منها ، فهو إما من العرب الذين تغلغلوا في
بلاد الفرس من أول الفتح الإسلامي . وإما من الفرس الذين غلبت عليهم الأسماء
العربية ؛ لعراقتهم في الإسلام . وإنك لتجد كثيرًا ممن يتكلمون في التاريخ ،
يجزمون بنسب العلماء الذين نشئوا ببلاد الفرس في الإسلام ، فيقولون : إنهم من
الفرس ، وإن فلانًا فارسي الأصل والمنشأ ، حتى إن منهم من يعد أصحاب الأنساب
العربية المعروفة من الفرس ، كصاحب القاموس وصاحب الأغاني وأضرابهم .
ومن أسباب هذا الغلط فيما أرى ؛ اشتهار قول ابن خلدون : إن أكثر علماء الملة
من العجم ، وهو مخطئ فى هذا الحكم ، ومخطئ فيما علله به . والصواب أن علماء
الإسلام الذين نبغوا في بلاد الفرس وغيرها من بلاد الأعاجم ، منهم العربي كمن
ذكرنا آنفًا ، ومنهم العجمي كسيبويه ، ومنهم المجهول نسبه كأبي حامد الغزالي ,
فيتوقف في مثله حتى يظهر الدليل ، وقد يستدل على أنه من سلالة عربية بما يأتي في
فصل اشتغاله بالعلم من بلاغته ، مع قلة ممارسته للفنون العربية .
أما ما ينسب إليه الغزالي , فقد اختلف فيه وفي ضبطه ، هل هو بالتخفيف أو
التشديد ؟ وقد جاء في ترجمة أبي حامد لشارح الإحياء في ذلك ما نصه :
( قال صاحب تحفة الإرشاد نقلاً عن الإمام النووي في دقائق الروضة : التشديد
في الغزالي ، هو المعروف الذي ذكره ابن الأثير ، وبلغنا أنه قال : منسوب إلى
غزالة - بتخفيف الزاي - قرية من قرى طوس , قلت : وهكذا ذكره النووي
أيضًا في التبيان .
وقال الذهبي في العبر , وابن خلكان في التاريخ : عادة أهل خوارزم وجرجان
يقولون القصاري والحياري بالياء فيهما ، فنسبوه للغزل وقالوا : الغزالي ، ومثل
ذلك الشحامي .
وأشار لذلك ابن السمعاني أيضًا وأنكر التخفيف ، وقال : سألت أهل
طوس عن هذه القرية فأنكروها . وزيادة هذه الياء ، قالوا : للتأكيد . وفي تقرير بعض
شيوخنا : للتمييز بين المنسوب إلى نفس الصنعة , وبين المنسوب إلى من كانت
صنعته كذلك .
وهذا ظاهر في الغزالي فإنه لم يكن ممن يغزل الصوف ويبيعه . وإنما
هي صنعة والده وجده .
ولكن في المصباح للفيومي ما يؤيد التخفيف ، وأَنَّ غزالة قرية بطوس ، وإليها
نسب الإمام أبو حامد . قال : أخبرني بذلك الشيخ مجد الدين بن محمد أبي الطاهر
شروان شاه بن أبي الفضائل فخراور بن عبيد الله بن ست المنا بنت أبي حامد الغزالي
ببغداد سنة عشر وسبعمائة ، وقال لي : أخطأ الناس في تثقيل جدنا ، وإنما هو
مخفف . وقال الشهاب الخفاجي في آخر شرح الشفاء : ويقال : إنه منسوب إلى غزالة
ابنة كعب الأحبار , وهذا إن صح فلا محيد عنه . والمعتمد الآن عند المتأخرين
من أئمة التاريخ والأنساب , أن القول قول ابن الأثير أنه بالتشديد ) .
ولد أبو حامد في مدينة طوس من عمل خراسان سنة 450 قال ابن السبكي في
طبقات الشافعية الكبرى : وكان والده يغزل الصوف ويبيعه في دكانه بطوس ، فلما
حضرته الوفاة وصى به وبأخيه أحمد إلى صديق له متصوف من أهل الخير ، وقال
له : إن لي لتأسفًا عظيمًا على تعلم الخط وأشتهي استدراك ما فاتني في وَلَدَيَّ هذين
فعلمهما ولا عليك أن تنفد في ذلك جميع ما أخلفه لهما .
فلما مات أقبل الصوفي على تعليمهما إلى أن فني ذلك النزر اليسير الذي خلفه
لهما أبوهما ، وتعذر على الصوفي القيام بقوتها ، فقال لهما : اعلما أني قد أنفقت
عليكما ما كان لكما ، وأنا رجل من الفقر والتجريد بحيث لا مال لي ، فأواسيكما به ،
وأصلح ما أرى لكما أن تلجئا إلى مدرسة ، فإنكما من طلبة العلم فيحصل لكما قوت
يعينكما على وقتكما . ففعلا ذلك ، وكان هو السبب في سعادتهما وعلو درجتهما , وكان
الغزالي يحكي ذلك ويقول : ( طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله ) اهـ .
فأنت ترى أن الغزالي نشأ فقيرًا ، وكذلك أكثر النابغين في الأمم والعصور
التي لا إلزام فيها بالتعليم والتربية ، يخرجون من بيوت الفقراء ، أو من هم على
مقربة منهم . والأغنياء يشغلهم الترف والنعيم عن الجد والاجتهاد في العلم ، لا سيما
في تلك الأزمنة التي كان فيها طلب العلم لا يتم إلا بالرحلة إلى العلماء المشهورين ،
كما ترى فيما يلي ، وناهيك بما كان في طي المسافات من المشاق .
طلب الغزالي للعلم
قرأ في صباه طرفًا من فقه الشافعية على أحمد بن محمد الراذكاني في بلده
( طوس ) ثم سافر إلى الإمام أبي نصر الإسماعيلي في جرجان ، وعلق عنه كتاب
التعليقة وعاد إلى طوس . قال الإمام أسعد الميهني : فسمعته يقول : قطعت علينا
الطريق ، وأخذ العيارون جميع ما معي ومضوا ، فتبعتهم فالتفت إليَّ مقدمهم ، وقال:
ارجع ويحك وإلا هلكت ، فقلت له : أسألك بالذي ترجو السلامة منه ، أن ترد
علي تعليقتي فقط ، فما هي بشيء تنتفعون به . فقال لي : وما هي تعليقتك ؟ فقلت
: كتب في تلك المخلاة ، هاجرت لسماعها وكتابتها ومعرفة علمها . فضحك وقال :
كيف تدعي أنك عرفت علمها , وقد أخذناها منك ، فتجردت من معرفتها ، وبقيت
بلا علم ؟ ؟
ثم أمر بعض أصحابه فسلم إليَّ المخلاة ، قال الغزالي : هذا مستنطق أنطقه الله
ليرشدني به في أمري ، فلما وافيت طوس ، أقبلت على الاشتغال ثلاث سنين حتى
حفظت جميع ما علقته , وصرت بحيث لو قطع على الطريق ، لم أتجرد من علمي .
قال التاج السبكي : وقد روى هذه الحكاية عن الغزالي أيضًا الوزير نظام الملك .
أقول : - وفيها من العبرة لمثل طلاب الأزهر- أَنَّ هذا الإمام العظيم ما وصل
إلى ما وصل إليه إلا بعد أن جعل قصده في طلب العلم أن يكون العلم صفة من
صفاته ، لا أن يفهم ما يأخذه عن العلماء إذا هو قرأه فقط ، فينبغي لكل طالب علم
أن يتلقى العلم ؛ لأجل أن يكون له فيه حكم ورأي ، ولا يكتفي بأن يكون راويًا
لأقوال العلماء ولو مع الفهم ؛ لأن من يفهم علم غيره ، لا يعد هو عالمًا إلا إذا هو
أشرب العلم ، وصل له فيه فهم خاص ، يقدر على الاستدلال عليه ، ودفع معارضة
المخالفين عنه ، وصار بحيث لو رجع عنه من نقل عنه لا يرجع هو .
قال السبكي : ثم إن الغزالي قَدِم نيسابور ولازم إمام الحرمين ، وَجَدَّ واجتهد
حتى برع على يديه في مذهب الشافعي ، والخلاف والجدل والأصلين والمنطق ,
وقرأ الحكمة والفلسفة ، وأحكم كل ذلك ، وفهم كلام أرباب هذه العلوم وتصدى للرد
عليهم وإبطال دعاويهم ، وصنف في كل فن من هذه العلوم كتبا أحسن تأليفها ،
وأجاد وضعها وترصيفها ، كذا نقل النقلة عنه وأنا لم أر له مصنفًا في أصول الدين
بعد شدة الفحص ، إلا أن يكون قواعد العقائد وعقائد صغرى ( كذا ) .
أقول : وفاته كتاب الاقتصاد في الاعتقاد . وظاهر قوله : ( وقرأ الحكمة
والفلسفة ) أنه لم يقرأها على إمام الحرمين ، وهو كذلك كما يعلم من كتابه ( المنقذ
من الضلال ) وفيه أنه صنف كتبًا في الكلام ، وستأتي عبارته فيه .
وقال الزبيدي في ترجمته : بعد أن ذكر من مشايخه بطوس أحمد بن محمد
الراذكاني ، وفي جرجان أبا نصر الإسماعيلي ، وفي نيسابور إمام الحرمين وشيخه
في التصوف . ( ومن مشايخه أيضًا يوسف السجاج ، وفي الحديث أبو سهل محمد
ابن أحمد بن عبيد الله الحفصي المروزي ، والحاكم أبو الفتح نصر بن علي بن أحمد
الحاكمي الطوسي ، وأبو محمد عبد الله بن محمد بن أحمد الخواري خوار طبران ،
ومحمد بن يحيى بن محمد السجاعي الزوزني ، والحافظ أبو الفتيان عمر بن أبي
الحسن الرواسي الدهستاني ، ونصر بن إبراهيم المقدسي على قول الذهبي ، وقال
غيره : لم يدركه ، فهؤلاء شيوخه في العلوم الثلاثة : يعني الفقه والتصوف والحديث
أقول : وهؤلاء الكثيرون الذين سمع منهم الحديث ، إنما سمعه منهم في آخر أمره
بعد أن رجع من سياحاته ، ثم قال الزبيدي : ولم أطلع على أسماء شيوخه الذين قرأ
عليهم في الكلام أو الجدل ، فإن عثرت على شيء بعد ذلك ، ألحقت به إن شاء الله
تعالى . وأما علوم الفلسفة : فلا شيخ له فيها ، كما صرح بذلك في كتابه ( المنقذ من
الضلال ) اهـ .
أقول : إنه أخذ الكلام والخلاف عن إمام الحرمين ؛ لأنه كان من المبرزين
فيهما ، وما كان للزبيدي أن يغفل عن ذلك . ولم يذكروا شيوخه في الفنون العربية :
كالنحو والصرف والبيان والأدب ، ويحتمل أنه أخذ عن الراذكاني مع الفقه شيئًا من
مباديها ، واعتمد بعد ذلك فيها على اشتغاله بنفسه ، فقد قال عبد الغافر الفارسي
خطيب نيسابور وكان من معاصريه : إنه كان مما يعترض به عليه وقوع خلل من
جهة النحو ، يقع في أثناء كلامه ، وروجع فيه ، فأنصف من نفسه ، واعترف بأنه
ما مارس ذلك الفن ، واكتفى منه بما يحتاج إليه في كلامه ، مع أنه كان يؤلف
الخطب ، ويشرح الكتب بالعبارات التي تُعجِز الأدباء والفصحاء عن أمثالها ، وأذن
للذين يطالعون كتبه ، فيعثرون على خلل فيها من جهة اللفظ أن يصلحوه ، ويعذروه
فما كان قصده إلا المعاني وتحقيقها ، دون الألفاظ وتلفيقها . اهـ كلام عبد الغافر .
ونحن نرى أن كلامه في كتبه أعلى من كلام أقرانه أسلوبًا ، وأحسن بيانًا ،
وأشد تأثيرًا ، كما نجد فهمه للكلام العربي أدق من أفهامهم ، وذلك منتهى المقصد من
الفنون العربية كلها . فإذا كان الوصول إلى هذا المقصد ممكنًا مع الإقلال من
الاشتغال بالنحو ، فلماذا يضيِّع العاقل الوقت الطويل في قراءة الكفراوي والشيخ
خالد , والأزهرية والقطر والشذور وابن عقيل والأشموني وحواشي هذه الكتب ، على أن كتابًا منها يكفي الطالب ما لا بد منه من النحو .
ولعل من فهم الشذور أو ابن عقيل يكون أعلم من الغزالي بنفس النحو ، فعليه أن
يفكر في الطريقة التي يكون بها مع ذلك مثل الغزالي , أو على مقربة منه في فهم
الكلام العربي ، الذي وضع النحو لضبطه وللإتيان بالكلام البليغ منه قولاً وكتابةً ،
ولذلك طريق غير كثرة مزاولة كتب النحو التي يضعف مثلها ملكة اللسان ، كما قال
ابن خلدون ، فليفكر في ذلك طلاب الأزهر الأذكياء ، لا سيما من كان منهم عربي
اللسان ، يسهل عليه فهم الكتب البليغة في الأدب والتاريخ وغير ذلك بالممارسة قبل
تلقي الفنون ، فإن كاتب هذه السطور ، قرأ كثيرًا من هذه الكتب قبل طلب العلم ،
ومنها كتاب إحياء علوم الدين لصاحب السيرة .
ولكن هذا لا يتيسر للأعاجم . وقد يستدل بهذا على أن الغزالي من عشيرة عربية
بقيت محافظة على أصل لغتها ، إلا ما لا تخلو عنه طبيعة المخالطة للأعاجم من
التحريف والدخيل ؛ إلا أن يقال : لغة الفرس كافة كانت قد تحولت عربية في ذلك
العهد ، وصار العارف بالفارسية يتلقاها بالتعلم ، وهذا ما ينكره كثير من العارفين
منهم صاحبنا الدكتور محمد مهدي خان فإنه يقول : إن لغة العامة هناك في القرن
الرابع والخامس كانت الفارسية .
وقد كان الغزالي يعرف الفارسية وألف فيها ولو كان فارسي الأصل وهو من
العامة ، لكانت لغته الأصلية ومثله ، لا يصير بليغًا بالعربية إلا بعد اشتغال بالفنون
طويل ، فبلاغته وفصاحته وسلامة عبارته من العجمة على كونه مع العامة ، يرجح
كونه عربي الأصل ، فهذا ما رأينا أن نبينه من سيرة حجة الإسلام في تلقي العلم
والعبرة فيها للطالبين .
تخرجه وتصدِّيه للإفادة
قلنا : إنه اشتغل أولاً بطوس وكانت مدينة آهلة بالعلم والعلماء في الجملة ، وكان
يومئذ مراهقًا ، ثم في جرجان وكانت فوق طوس في العلم والعمران ، ثم في
المدرسة النظامية بنيسابور أعظم معاهد العلم في خراسان ، وما زال فيها يختلف إلى
دروس إمام الحرمين علامة ذلك العصر الزاهر ، حتى تخرج به واشتهر ، وقد قيل:
إن شيخه كان يجد منه شيئًا في نفسه ، وإن كان يفتخر به في الملأ كما سيأتي .
ولما توفي إمام الحرمين سنة 478 ، خرج الغزالي إلى العسكر وهي محلة بالقرب من
نيسابور ، كان يقيم فيها نظام الملك الوزير ؛ نصير العلم وكعبة العلماء ، فحل من
مجلس الوزير محل القبول .
قال معاصره أبو الحسن عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي خطيب نيسابور
في ذلك : محمد بن محمد بن محمد أبو حامد الغزالي حجة الإسلام والمسلمين ، إمام
أئمة الدين ، لم تر العيون مثله لسانًا وبيانًا ، ونطقًا وخاطرًا وذكاءً وطبعًا ، أخذ
طرفًا في صباه بطوس من الفقه على الإمام أحمد الراذكاني , ثم قدم نيسابور مختلفًا
إلى درس إمام الحرمين في طائفة من الشبان من طوس ، وجد واجتهد ، حتى تخرج
في مدة قريبة وبز الأقران وحمل القرآن ، وصار أنظر أهل زمانه ، وأوحد أقرانه ،
في أيام إمام الحرمين .
وكان الطلبة يستفيدون منه ، ويدرس لهم ويرشدهم ، ويجتهد في نفسه . وبلغ
الأمر به إلى أن أخذ في التصنيف . وكان الإمام مع علو درجته وسمو عبارته
وسرعة جريه في النطق والكلام ، لا يصغي نظره إلى الغزالي سرًّا ؛ لإربائه عليه
في سرعة العبارة وقوة الطبع ، ولا يطيب له تصديه للتصانيف ، وإن كان متخرجًا به
منتسبًا إليه كما لا يخفى من طبع البشر . ولكنه يظهر التبجح به ، والاعتداد بمكانه
ظاهرًا خلاف ما يضمره .
( ثم بقي كذلك إلى انقضاء أيام الإمام ، فخرج من نيسابور وصار إلى
العسكر , واحتل من مجلس نظام الملك محل القبول ، وأقبل عليه الصاحب ؛ لعلو
درجته ، وظهور اسمه ، وحسن مناظرته ، وجري عبارته ، وكانت تلك الحضرة
محط رحال العلماء ، ومقصد الأئمة والفصحاء ، فوقعت للغزالي اتفاقات حسنة من
الاحتكاك بالأئمة وملاقاة الخصوم اللُّد ، ومناظرة الفحول ، ومناقدة الكبار ، وظهر
اسمه في الآفاق ، وارتفق لذلك أكمل الارتفاق حتى أدت الحال به إلى أن رسم
للمصير إلى بغداد ؛ للقيام بتدريس المدرسة الميمونة النظامية بها ، فصار إليها ،
وأعجب الكل تدريسه ومناظرته ، وما لقي مثل نفسه ، وصار بعد إمامة خراسان إمام
العراق .
ثم نظر في علم الأصول ، وكان قد أحكمها فصنف فيه تصانيف ، وجدد
المذهب في الفقه فصنف فيه تصانيف ، وسبك الخلاف فجدد فيه أيضًا تصانيف ،
وعلت حشمته ودرجته في بغداد ، حتى كانت تغلب حشمة الأكابر والأمراء ودار
الخلافة ، فانقلب الأمر من وجه إلى آخر ) اهـ .
المراد من كلام عبد الغافر هنا ؛ ومنه تعلم أن رياسة العلوم الظاهرة ، قد
انتهت إليه في سن الشباب , حتى كان يوصف بحجة الإسلام وإمام أئمة العصر ،
وهو لم يشتغل بالتلقي عن العلماء إلا بضع سنين .
أقول : إنه تخرج في بضع سنين ، أخذًا مما مرَّ من أنه لم يطلب العلم من أول
سن التمييز ، بل بعد عجز الوصي عليه وعلى أخيه من النفقة عليهما ، ومن قوله
في أول كتابه المنقذ من الضلال : ( ولم أزل منذ راهقت البلوغ قبل بلوغ العشرين
إلى الآن ، وقد أنافت السن على الخمسين ، أقتحم لجة هذا البحر ) ... إلخ ما
سيأتي ، وقد علم من كلام معاصره عبد الغافر ، ومن كلام غيره من المؤرخين ، أنه
تخرج في عهد أستاذه إمام الحرمين في مدة قليلة ، وقد توفي إمام الحرمين سنة
478 ، وكانت سن الغزالي 28 سنة ؛ أي : إنه كان متخرجًا قبل ذلك .
غرضنا من هذا التحقيق ؛ تنبيه طلاب العلم إلى مسألة أرجو انتفاع أذكيائهم
بها ، وهي أن طول مدة الاشتغال بالتلقي والتحصيل قلما تأتي بفائدة ، بل هي
عنوان البلادة ، وخمود الذهن ، وخمول النفس ، ودليل على فساد التعليم ، وأكثر
النابغين من العلماء والحكماء لم يقيموا في معاهد التعليم ، والتلقي زمنًا طويلاً . وقد
قرر هذه الحقيقية الفيلسوف سبنسر وقد كان الأستاذ الإمام بعد سنوات قليلة ، يحضر
دروس بعض العلماء في علم ، وبيده كتاب في علم آخر ، يطالع فيه .
تربية الغزالي لنفسه وتفلسفه وتصوفه
العلوم والفنون في نفسها صناعات وآلات ، يستعان بها على إصلاح اللسان
والعمل والنفس والعقل ، فمن طلب فنًّا منها ، كان له في طلبه ثلاثة مقاصد :
( أحدها ) : أن يعرف الفن بحسب ما قاله الواضعون له ، والمصنفون فيه ،
اتباعًا لهم وتقليدًا .
( ثانيها ) : أن يعرفه كما عرفه الواضعون بمآخذه ودلائله ، بحيث يكون له فيه
رأي وحكم ، لا يبالي فيه وافق الواضعين أو خالفهم ، وإنما يتحرى فيه ما يراه
صوابًا .
( ثالثها ) : أن يعرفه ؛ ليستعمله فيما وضع له ، ويجعله وسيلة للعمل . وهذا
الأخير يجتمع مع كل من الأول والثاني ، وقد يوجدان بدونه ويوجد ألوف من
الصنف المعروف عندنا بصنف العلماء ، قرؤوا الفنون العربية والشرعية وبعض
العقلية بالقصد الأول ، ووجد كثيرون قرؤوها بالقصد الثاني ، وما كان المحصلون
لثمراتها من الآخرين فضلاً عن الأولين إلا الأقلين ، فكم من عالم بمسائل النحو
والبلاغة واسع الاطلاع ، لم يصلح لسانه ولا قلمه فهو عاجز عن الإتيان بالكلام
الصحيح ، بله البليغ الفصيح . وكم من عالم بأحكام الحلال والحرام ، والفضائل
والرذائل ، فاسد الأخلاق ، مرتكب للمحرمات . وكم من عالم بقوانين المنطق بعجز
عن تحديد حقيقية ، وإقامة البرهان على عقيدة . وكم من بارع بصناعة الحجة ،
نحرير في علم الكلام ، وهو فاسد الاعتقاد ، أو منطو على الإلحاد ، وإن لنا في
سيرة حجة الإسلام ، أكبر حجة على هؤلاء الأقوام .
شرع أبو حامد في طلب العلم على طريقة أهل المقصد الأول ؛ أعني
المقلدين ، فأرشده رئيس العيارين الذين نهبوه منصرفه من جرجان إلى الطريقة
الثانية ؛ طريقة الاستقلال ، فلم يلبث أن صار إمامًا في زمن قصير ؛ لأن المستقل
بنظره ، يُحَصِّلُ في سنة ما لا يحصله المقلد الذي يأخذ كل ما يلقى إليه بالتسليم في
سنين كثيرة .
وما كل أحد كالغزالي ترشده كلمة يلفظها قاطع الطريق إلى مثل هذه الحقيقة
التي يجهلها أكثر المشتغلين بالعلم . وإنما يسترشد الناس بالحكمة على قدر استعدادهم
وكان استعداد الغزالي في الذروة العليا ، وقد يقرأ سيرته هذه بطولها وتفاصيلها
كثيرون من طلاب العلم في الأزهر وغيره ، ثم لا يخرجون من ظلمات التقليد إلى
نور الاستقلال لضعف استعدادهم .
لم يرض أبو حامد من العلم بالمقصد الثاني ، الذي لا يعلو به صاحبه عن
مرتبة الصناع ، بل حاول في كل علم قرأه الوصول إلى غايته ، والتحقق بحقيقته ،
فكما كان بالعلوم العربية كاتبًا بليغًا وخطيبًا مفوهًا ، وبعلوم الكلام والفقه والخلاف
حجة على الخصم وركنًا للمذهب ، أراد أن يكون هو في نفسه على يقين من كل ما
يعتقد ، وأن يكون عمله ثمرة علمه ، فربى نفسه لذلك تربية خاصة ، ومثل هذا لا
يأتي بمعرفة المسائل والدلائل فقط ، بل لابد فيه من التربية والمجاهدة ، وهاك ما
كتبه عن نفسه في ذلك ملخصًا من كتابه ( المنقذ من الضلال ) ، قال بعد البسملة
والحمدلة والتصلية .
( أما بعد سألتني أيها الأخ في الدين : أن أبث إليك غاية العلوم وأسرارها ،
وغائلة المذاهب وأغوارها ، وأحكي لك ما قاسيته في استخلاص الحق من بين
اضطراب الفرق مع تباين المذاهب والطرق ، وما استجرأت عليه من الارتفاع عن
حضيض التقليد إلى يفاع الاستبصار ، وما استفدته أولاً من علم الكلام ، وما احتويته
ثانيًا من طرق أهل التعليم القاصرين لدرك الحق على تقليد الإمام ، وما ازدريته ثالثًا
من طرق التفلسف ، وما ارتضيته آخرًا من طريقة التصوف ، وما انجلى لي في
تضاعيف تفتيشي عن أقاويل الخلق ، من لباب الحق ، وما صرفني عن نشر العلم
ببغداد مع كثرة الطلبة ، وما دعاني إلى معاودتي بنيسابور بعد طول المدة ، فابتدرت
لإجابتك إلى مطلبك ، بعد الوقوف على صدق رغبتك ، وقلت مستعينًا بالله ومتوكلاً
عليه ، ومستوفقًا منه ، وملتجئًا إليه .
اعلموا أحسن الله إرشادكم ، وألان للحق قيادكم ، أن اختلاف الخلق في
الأديان والملل ، ثم اختلاف الأمة في المذاهب على كثرة الفرق ، وتباين الطرق ،
بحر عميق غرق فيه الأكثرون ، وما نجا منه إلا الأقلون ، وكل فريق يزعم أنه
الناجي و { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} ( المؤمنون : 53 ) وهو الذي وعدنا به سيد
المرسلين ؛ وهو الصادق المصدوق حيث قال : ( ستفترق أمتي ثلاثًا وسبعين فرقة
الناجية منها واحد )[1] فقد كاد ما وعد أن يكون .
ولم أزل من عنفوان شبابي ، وقد أنافت السن على الخمسين ، أقتحم لجة هذا
البحر العميق اقتحام الجسور ، لا خوض الجبان الحذور ، وأتوغل في كل مظلمة
وأتهجم على كل مشكلة ، وأتقحم كل ورطة ، وأتفحص عن عقيدة كل فرقة ،
وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة ، لأميز بين محق ومبطل ، ومتسنن ومبتدع ، لا
أغادر باطنيًّا إلا وأحب أن أطلع على بطانته ، ولا ظاهريًّا إلا وأريد أن أعلم حاصل
ظهارته ، ولا فلسفيًّا إلا وأقصد الوقوف على كنه فلسفته ، ولا متكلمًا إلا وأجتهد في
الاطلاع على غاية كلامه ومجادلته ، ولا صوفيًّا إلا وأحرص على العثور على سر
صفوته ، ولا متعبدًا إلا وأترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته ولا زنديقًا معطلاً إلا
وأتجسس وراءه للتنبه لأسباب جرأته ، في تعطيله وزندقته .
وقد كان التعطش إلى حقائق الأمور دأبي وديدني ، من أول أمري ، وريعان
عمري ، غريزة وفطرة من الله وضعتا في جبلتي ، لا باختياري وحيلتي حتى
انحلت عني رابطة التقليد ، وانكسرت على ( كذا ) العقائد الموروثة ، على قرب
عهد بسن الصبا ، إذا رأيت صبيان النصارى ، لا يكون لهم نشوء إلا على التنصر
وصبيان اليهود لا نشوء لهم إلا على النهود ، وصبيان المسلمين لا نشوء لهم إلا
على الإسلام ، وسمعت الحديث المروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
حيث قال : ( كل مولود يولد على فطرة الإسلام ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو
يمجسانه) فتحرك باطني إلى طلب حقيقة الفطرة الأصلية وحقيقة العقائد العارضة
بتقليد الوالدين والأستاذين ، والتمييز بين هذه التقليدات ، وأوائلها تلقينات ، وفي
تمييز الحق منها عن الباطل اختلافات .
فقلت في نفسي أولاً : إنما مطلوبي العلم بحقائق الأمور ، فلابد من طلب العلم
بحقائق الأمور ، فلابد من طلب حقيقة العلم ما هي ، فظهر لي أن العلم اليقيني هو
الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافًا لا يبقي معه ريب ، ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم
ولا يتسع القلب لتقدير ذلك ، بل الأمان من الخطأ ينبغي أن يكون مقارنًا لليقين
مقارنة لو تحدى بإظهار بطلانه مثلاً مَنْ يقلب الحجر ذهبًا والحية ثعبانًا لم يورث
ذلك شكًّا وإنكارًا ، فإني إذا علمت أن العشرة أكثر من الثلاثة ، فقال لي قائل :
( لا بل الثلاثة أكثر ؛ بدليل أني أقلب هذه العصا ثعبانًا ) ، وشاهدت ذلك منه ، لم
أشك بسببه في معرفتي ، ولم يحصل لي منه إلا التعجب من كيفية قدرته عليه . فأما
الشك فيما علمته فلا .
ثم علمت أن كل ما لا أعلمه على هذا الوجه ، ولا أتيقنه هذا النوع من اليقين ،
فهو علم لا ثقة به ولا أمان معه ، فليس لعلم يقيني .
القول في مداخل السفسطة وجحد العلوم
( ثم فتشت من علومي ، فوجدت نفسي عاطلاً من علم موصوف بهذه الصفة
إلا في الحسيات والضروريات ، فقلت : الآن بعد حصول اليأس لا مطمع في
اقتباس المشكلات إلا من الجليات ، وهي الحسيات والضروريات ، فلابد من إحكامها
أولاً ؛ لأتبين أن ثقتي بالمحسوسات ، وأماني من الغلط في الضروريات من جنس
أماني الذي كان من قبل في التقليديات ، ومن جنس أمان أكثر الخلق في النظريات ،
أم هو أمان محقق لا غدر فيه ولا غاية له ؟ فأقبلت بجد بليغ ، أتأمل في
المحسوسات والضروريات وأنظر ، هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها ؟ فانتهى بي
طول التشكك إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضًا ، وأخذ
يتسع هذا الشك فيها ، ويقول : من أين الثقة بالمحسوسات ، وأقواها حاسة البصر
وهي تنظر إلى الظل فتراه واقفًا غير متحرك ، ونحكم بنفي الحركة ، ثم بالتجربة
والمشاهدة بعد ساعة تعرف أنه يتحرك ، وأنه لم يتحرك بغتة ودفعة ، بل على
التدريج ذرة ذرة ، حتى لم تكن له حالة وقوف . وتنظر إلى الكوكب فتراه صغيرًا
في مقدار دينار ، ثم الأدلة الهندسية تدل على أنه أكبر من الأرض في المقدار .
هذا وأمثاله من المحسوسات ، يحكم فيها حاكم الحس بأحكامه ، ويكذبه حاكم
العقل ، ويخونه تكذيبًا لا سبيل إلى مدافعته . فقلت : قد بطلت الثقة بالمحسوسات
أيضًا ، فلعله لا ثقة إلا بالعقليات التي هي من الأوليات ، كقولنا : العشرة أكثر من
الثلاثة ، والنفي والإثبات لا يجتمعان في الشيء الواحد ، والشيء الواحد لا يكون
حادثًا وقديمًا ، موجودًا معدومًا ، واجبًا محالاً .
فقالت المحسوسات : بم تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات ،
وقد كنت واثقًا بي ، فجاء حاكم العقل فكذبني ، ولولا حاكم العقل لكنت تستمر على
تصديقي ، فلعل وراء إدراك العقل حاكمًا آخر ، إذا تَجَلَّى كذب العقل في حكمه ،
كما تَجَلَّى حاكم العقل فكذب الحس في حكمه ، وعدم تجلي ذلك الإدراك لا يدل على
استحالته ، فتوقفت النفس في جواب ذلك قليلاً ، وأيدت أشكالها بالمنام ، وقالت : أما
تراك تعتقد في النوم أمورًا ، وتتخيل أحوالاً ، وتعتقد لها ثباتًا واستقرارًا ، ولا تشك
في تلك الحالة فيها ، ثم تستيقظ فتعلم أنه لم يكن لجميع متخيلاتك ومعتقداتك أصل
وطائل ، فبم تأمن أن يكون جميع ما تعتقده في يقظتك بحس أو عقل هو حق
بالإضافة إلى حالتك ؟ لكن يمكن أن تطرأ عليك حالة تكون نسبتها إلى يقظتك ،
كنسبة يقظتك إلى منامك ، وتكون يقظتك نومًا بالإضافة إليها ، فإذا وردت تلك الحالة
تيقنت أن جميع ما توهمت بعقلك خيالات لا حاصل لها ، أو لعل تلك الحالة ما
يدعيها الصوفية أنها حالتهم ؛ إذ يزعمون أنهم يشاهدون في أحوالهم , إذا غاصوا في
أنفسهم وغابوا عن حواسهم أحوالاً لا توافق هذه المعقولات ، ولعل تلك الحالة هي
الموت ؛ إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا )[*]
فلعل الحياة الدنيا نوم بالإضافة إلى الآخرة ، فإذا مات المرء ، ظهرت له الأشياء
على خلاف ما شاهده لآنٍ ، ويقال له عند ذلك : { فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اليَوْمَ
حَدِيدٌ َ} ( ق : 22) .
فلما خطرت هذه الخواطر انقدحت في النفس ، فحاولت لذلك علاجًا فلم
يتيسر ، إذا لم يكن دفعه إلا بالدليل ، ولم يمكن نصب دليل إلا من تركيب العلوم
الأولية ، فإذا لم تكن مُسلَّمة لم يكن تركيب الدليل ، فأعضل هذا الداء ودام قريبًا من
شهرين ، أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال ، لا بحكم النطق والمقال حتى
شفى اللهُ - تعالى - من ذلك المرض ، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال ،
ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقًا بها على أمن ويقين ، ولم يكن ذلك بنظم
دليل وترتيب كلام ، بل بنور قذفه الله - تعالى - في الصدر وذلك النور[2] هو مفتاح
أكثر المعارف ، فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المجردة ، فقد ضيق رحمة الله
الواسعة ، ولما سئل رسول الله - عليه السلام - عن الشرح ومعناه في قوله تعالى :
{ أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلام} ( الزمر : 22 ) قال : ( هو نور يقذفه الله
- تعالى - في القلب ) ، فقيل : وما علامته ؟ فقال : ( التجافي عن دار الغرور ،
والإنابة إلى دار الخلود )[3] وهو الذي قال عليه السلام فيه : ( إن الله تعالى خلق
الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره )[4] فمن ذلك النور ينبجس من الجود
الإلهي في بعض الأحايين ، ويجب الترصد له كما قال عليه السلام : ( إن
لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها )[5] .
( والمقصود من هذه الحكايات أن يعمل كمال الجد في الطلب ، حتى ينتهي إلى
طلب ما لا يطلب ، فإن الأوليات ليست مطلوبة فإنها حاضرة ، والحاضر إذا طلب فُقِد
واختفى ، ومن طلب ما لا يطلب ، فلا يتهم بالتقصير في طلب ما يطلب .
القول في أصناف الطالبين
( ولما شفاني الله - تعالى - من هذا المرض ( أي : مرض السفسطة )
بفضله ، وسعة جوده ، انحصرت أصناف الطالبين ( أي : للحق في الاعتقاد ) في
أربع فرق :
المتكلمون : وهم يدعون أنهم أهل الرأي والنظر .
والباطنية : وهم يزعمون أنهم أصحاب التعليم ، والمخصوصون بالاقتباس من
الإمام المعصوم .
والفلاسفة : وهم يزعمون أنهم أصحاب المنطق والبرهان .
والصوفية : وهم يدعون أنهم خواص الحضرة , وأهل المشاهدة والمكاشفة .
فقلت في نفسي : الحق لا يعدو أصحاب هذه الأصناف الأربعة ، فهؤلاء هم
السالكون سبل طلب الحق ، فإن شاء الحق عنهم فلا يبقى في درك الحق مطمع ؛ إذ
لا مطمع في الرجوع إلى التقليد بعد مفارقته ؛ إذ من شرط المقلد أن لا يعلم أنه مقلد
فإذا علم ذلك انكسرت زجاجة تقليده ، وهو شعب لا يرأب ، وشعث لا يلم بالتلفيق
والتأليف ، إلا أن يذاب بالنار ، ويستأنف لها صيغة أخرى مستجدة . فابتدرت
لسلوك هذه الطرق ، واستقصاء ما عند هذه الفرق ، مبتدئًا بعلم الكلام ، ومثنيًا
بطريق الفلسفة ، ومثلثًا بتعليمات الباطنية ، ومربعًا بطريق الصوفية .
هذا ما كتبه الإمام الغزالي عن نفسه ، بعد أن تلقى ما شاء الله من العلم بطريق
التقليد زمنًا ، وبطريق الاستقلال زمنًا آخر . وقد ذكر بعد ما تقدم فصلاً في مقصود
علم الكلام ، وأنه حصله وعقله ، وطالع كتب المحققين فيه ، وصنف فيه ما شاء أن
يصنف ، قال : فصادفته علمًا وافيًا بمقصوده غير واف بمقصودي ، وبيَّن أن
مقصود علم الكلام حفظ عقيدة أهل السنة ، وحراستها عن تشويش أهل البدعة ، وأن
المتكلمين اعتمدوا على مقدمات تسلموها من خصومهم ، وألجأوهم إلى التسليم بها ،
وهي التقليد أو الإجماع ، أو مجرد القبول من القرآن أو الأخبار . قال : ( وكان أكثر
خوضهم في استخراج مناقضات الخصوم ، ومؤاخذتهم بلوازم مسلماتهم . وهذا قليل
النفع في جنب من لا يسلم سوى الضروريات شيئًا أصلاً ، فلم يكن الكلام في حقي
كافيًا ، ولا لدائي الذي كنت أشكوه شافيًا ، نعم لما نشأت صنعة الكلام ، وكثر
الخوض فيه ، وطالت المدة ، وتشوف المتكلمون إلى مجاوزة الذب عن السنة
بالبحث عن حقائق الأمور ، وخاضوا في البحث عن الجواهر والأعراض وأحكامها.
ولكن لما لم يكن ذلك مقصود علمهم ، لم يبلغ كلامهم فيه الغاية القصوى ، فلم
يحصل منه ما يمحو بالكلية ظلمات الحيرة في اختلافات الخلق ولا أبعد أن يكون
حصل ذلك لغيري ، بل لست أشك في حصول ذلك لطائفة . ولكن حصولاً مشوبًا
بالتقليد في بعض الأمور التي ليست من الأوليات . والغرض الآن حكاية حالي ، لا
الإنكار على من استشفى به ؛ فإن أدوية الشفاء تختلف باختلاف الداء ، وكم من دواء
ينتفع به مريض ويستضر به آخر ؟ ) اهـ .
القول في الفلسفة
ثم تكلم عن الفلسفة وما يذم منها ، ويكفر منتحله ، وما ليس كذلك قال : ( ثم
إني ابتدأت بعد الفراغ من علم الكلام بعلم الفلسفة ، وعلمت يقينًا أنه لا يقف على
فساد نوع من العلوم من لا يقف على منتهى ذلك العلم ، حتى يساوي أعلمهم في أصل
العلم ، ثم يزيد عليه ويجاوز درجته ، فيطلع على ما لم يطلع عليه صاحب العلم من
غور وغائلةٍ . فإذ ذاك يمكن أن يكون ما يدعيه من فساده حقًّا ، ولم أر أحدًا من علماء
الإسلام صرف عنايته وهمته إلى ذلك ، ولم يكن في كتب المتكلمين من كلامهم ، حيث
اشتغلوا بالرد عليهم ، إلا كلمات معقدة مبددة ظاهرة التناقض والفساد لا يظن الاغترار
بها بغافل عامي ، فضلاً عمن يدعي دقائق العلوم ، فعلمت أن رد المذهب قبل فهمه ،
والاطلاع على كنهه رمي في عماية .
فشمرت عن ساق الجد في تحصيل ذلك العلم من الكتب بمجرد المطالعة ،
من غير استعانة بأستاذ ، وأقبلت على ذلك في أوقات فراغي من التصنيف
والتدريس في العلوم الشرعية ، وأنا ممنون بالتدريس والإفادة لثلاث مائة نفر من
الطلبة ببغداد ، فأطلعني الله - سبحانه - بمجرد المطالعة في هذه الأوقات المختلسة
على منتهى علومهم في أقل من سنتين ، ثم لم أزل أواظب على التفكر فيه بعد فهمه
قريبًا من سنة ، أعاوده وأردده وأتفقد غوائله وأغواره حتى اطلعت على ما فيه من
خداع وتلبيس ، وتحقيق وتخييل اطلاعًا لم أشك فيه .
ثم ذكر أصناف الفلاسفة ، وأنواع علومهم من : رياضيات ومنطقيات
وطبيعيات وإلهيات وسياسيات وخلقيات ، وبَيَّنَ رأيه فيها وسنذكره . وانتقل من ذلك
إلى الكلام في مذهب الباطنية .
مذهب التعليم وغائلته
قال : ( ثم إني لما فرغت من علم الفلسفة ، وتحصيله وتفهيمه وتزييف ما
يزيف منه ، علمت أن ذلك أيضًا غير واف بكمال الغرض ، وأن العقل ليس مستقلاًّ
بالإحاطة بجميع المطالع ، ولا كاشفًا للغطاء عن جميع المعضلات ، وكان قد نبتت
نابتة التعليمية ، وشاع بين الخلق تحديهم بمعرفة معنى الأمور من جهة الإمام
المعصوم القائم بالحق ، عَنَّ لي أن أبحث عن مقالتهم ؛ لأطلع على ما في كتبهم . ثم
اتفق أن ورد عليّ أمر جازم من حضرة الخلافة بتصنيف كتاب يكشف عن حقيقة
مذهبهم ، فلم يسعني مدافعته ، وصار ذلك مستحثا من خارج ضميمة للباعث الأصلي
من الباطن .
فابتدأت بطلب كتبهم وجمع مقالاتهم ، وكان قد بلغني كلماتهم المستحدثة التي
ولدتها خواطر أهل العصر ، لا على المنهاج المعهود من سلفهم ، فجمعت تلك
الكلمات ، ورتبتها ترتيبًا محكمًا مقارنًا للتحقيق ، واستوفيت الجواب عنها ، حتى
أنكر بعض أهل الحق مني مبالغتي في تقرير حجتهم ، وقال : هذا سعي لهم فإنهم
كانوا يعجزون عن نصرة مذهبهم ؛ لمثل هذه الشبهات ، لولا تحقيقك لها وترتيبك
إياها . وهذا الإنكار من وجه حق .
فلقد أنكر أحمد بن حنبل على الحارث المحاسبي تصنيفه في الرد على المعتزلة ،
فقال الحارث : الرد على البدعة فرض . فقال أحمد: نعم ، ولكن حكيت شبهتهم أولاً
ثم أجبت عنها ، فلم تأمن أن يطالع الشبهة من تعلق بفهمه ، ولا يلتفت إلى الجواب ،
ولا يفهم كنهه . وما ذكره أحمد حق . ولكن في شبهة لم تنتشر ، ولم تشتهر . أما إذا
انتشرت ، فالجواب عنها واجب ، ولا يمكن الجواب إلا بعد الحكاية . نعم ينبغي أن لا
يتكلف لهم شبهة ، لم تتكلف . ولم أتكلف أنا ذلك ، بل كنت قد سمعت تلك الشبهة من
واحد من أصحابي المختلفين إليَّ بعد أن كان قد التحق بهم ، وانتحل مذهبهم ،
وحكى أنهم يضحكون على تصانيف المصنفين في الرد عليهم ، فإنهم لم يفهموا بُعد
حجتهم فلذلك أوردتها ؛ لئلا يظن بي أني - وإن سمعتها - لم أفهمها ، فلذلك قررتها .
والمقصود أني قررت شبهتهم إلى أقصى الإمكان ، ثم أظهرت فسادها ، ثم
بين ذلك ملخصًا في عدة صفحات ، وليس بيان ذلك من مقصدنا ، إنما المقصد سيرة
هذا الإمام وبيان كيفية تربيته لنفسه وثمرة ذلك فيها ، وفيما قصد إليه من الإصلاح .
القول في طريق الصوفية
( ثم إني لما فرغت من هذه العلوم ، أقبلت بهمتي على طريق الصوفية ،
وعلمت أن طريقتهم ، إنما تتم بعلم وعمل ، وكان حاصل علمهم قطع عقبات النفس
والتنزه عن أخلاقها المذمومة ، وصفاتها الخبيثة ، حتى يتوصل بها إلى تخلية القلب
عن غير الله تعالى ، وتحليته بذكر الله ، وكان العلم أيسر عليَّ من العمل ، فابتدأت
بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم ، مثل قوت القلوب لأبي طالب المكي رحمه الله ،
وكتب الحارث المحاسبي ، والمتفرقات المأثورة عن الجنيد والشبلي وأبي يزيد
البسطامي وغير ذلك من كلام مشايخهم ، حتى اطلعت على كنه مقاصدهم العلمية ،
وحصلت ما يمكن أن يحصل من طريقتهم بالتعلم والسماع ، وظهر لي أن أخص
خواصهم ، ما لم يمكن الوصول إليه بالتعلم ، بل بالذوق والحال وتبدل الصفات ،
فكم من الفرق بين أن يعلم حد الصحة وحد الشبع ، وأسبابهما وشروطهما ، وبين أن
يكون صحيحًا وشبعانًا ، وبين أن يعرف حد السكر ، وأنه عبارة عن حالة تحصل
من استيلاء أبخرة تتصاعد من المعدة على معادن الفكر ، وبين أن يكون سكرانًا ،
بل السكران لا يعرف حد السكر ، وعلمه وهو سكران وما معه من علمه شيء .
والصاحي يعرف حد السكر وأركانه ، وما معه من السكر شيء . والطبيب في
حالة المرض يعرف حد الصحة وأسبابها وأدويتها ، وهو فاقد للصحة . فكذلك فرق
بين أن تعرف حقيقة الزهد وشروطها وأسبابها ، وبين أن يكون حالك الزهد
وعزوف النفس عن الدنيا ، فعلمت يقينًا أنهم أرباب أحوال ، لا أصحاب أقوال ، وأنَّ
ما يمكن تحصيله بطريق العلم قد حصلته ، ولم يبق إلا ما لا سبيل إليه بالسماع
والتعلم ، بل بالذوق والسلوك ، وكان قد حصل معي من العلوم التي مارستها ،
والمسالك التي سلكتها في التفتيش عن صنفي العلوم : الشرعية والعقلية ، إيمان يقيني
بالله وبالنبوة وباليوم الآخر ، فهذه الأصول الثلاثة من الإيمان ، كانت رسخت في
نفسي ، لا بدليل معين مجرد ، بل بأسباب وقرائن وتجاريب ، لا تدخل تحت الحصر
تفاصيلها ، وكان قد ظهر عندي أنه لا مطمع لي في سعادة الآخرة إلا بالتقوى ، وكف
النفس عن الهوى ، وأن رأس ذلك كله قطع علاقة القلب عن الدنيا بالتجافي عن دار
الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى ، وأن ذلك
لا يتم إلا بالإعراض عن الجاه والمال ، والهرب عن الشواغل والعلائق .
ثم لاحظت أحوالي ، فإذا أنا منغمس في العلائق ، وقد أحدقت بي من الجوانب
ولاحظت أعمالي وأحسنها التدريس والتعليم ، فإذا أنا فيها مقبل على علوم غير
مهمة ولا نافعة في طريق الآخرة ، ثم تفكرت في نيتي في التدريس ، فإذا هي غير
خالصة لوجه الله تعالى ، بل باعثها ومحركها طلب الجاه ، وانتشار الصيت ،
فتيقنت أني على شفا جرف هار ، وأني قد أشفيت على النار إن اشتغل بتلافي
الأحوال ، فلم أزل أتفكر فيه مدة ، وأنا بعد على مقام الاختيار أصمم العزم على
الخروج من بغداد ، ومفارقة تلك الأحوال يومًا وأحل العزم يومًا ، وأُقدم فيه رجلاً ،
وأؤخر عنه أخرى .
لا تصفو لي رغبة في طلب الآخرة بكرة ، إلا ويحمل عليها جند الشهوة حملة
فيفترها عشية ، فصارت شهوات الدنيا تجاذبني سلاسلها إلى المقام ومنادي الإيمان
ينادي : الرحيل الرحيل ، فلم يبق من العمر إلا قليل ، وبين يديك السفر الطويل ،
وجميع ما أنت فيه من العمل والعلم رياء وتخييل ، فإن لم تستعد الآن للآخرة فمتى
تستعد ، وإن لم تقطع الآن فمتى تقطع ، فبعد ذلك تنبعث الداعية ، وينجزم العزم على
الهرب والفرار ، ثم يعود الشيطان ، ويقول : هذه حالة عارضة وإياك أن تطاوعها ؛
فإنها سريعة الزوال ، وإن أذعنت لها ، وتركت هذا الجاه العريض والشأن المنظوم
الخالي عن التكدير والتنغيص ، والأمر المسلم الصافي عن منازعة الخصوم ، ربما
ألفت إليه نفسك ، ولا يتيسر لك المعاودة ، فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا ،
ودواعي الآخرة قريبًا من ستة أشهر أولها رجب سنة ثمان وثمانين وأربع مائة , وفي
هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار إذ قفل الله على لساني حتى أعتقل
عن التدريس ، فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يومًا واحدًا ؛ تطييبًا للقلوب المختلفة ،
وكان لا ينطق لساني بكلمة ، ولا أستطيعها ألبتة ، ثم أورثت هذه العقلة في اللسان
حزنًا في القلب ، بطل معه قوة الهضم ، وقرم الطعام والشراب ، فكان لا ينساغ لي
شربة ، ولا تنهضم لقمة ، وتعدى إلى ضعف القوى ، حتى قطع الأطباء طمعهم عن
العلاج ، وقالوا : أمر نزل بالقلب ومنه سرى إلى المزاج ، فلا سبيل إليه بالعلاج ، إلا
بأن يتروح السر عن الهم الملم: ثم لما أحسست بعجزي ، وسقط بالكلية اختياري ،
التجأت إلى الله - تعالى - التجاء المضطر الذي لا حيلة له ، فأجابني الذي { يُجِيبُ
المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهَ } ( النمل: 62 ) وسهل على قلبي الإعراض عن الجاه والمال
والأهل والولد والأصحاب ، وأظهرت عزم الخروج إلى مكة ، وأنا أوري في نفسي
سفر الشام ؛ حذرًا من أن يطلع الخليفة وجملة الأصحاب على عزمي في المقام
بالشام ، فتلطفت بلطائف الحيل في الخروج من بغداد على عزم أن لا أعاودها أبدًا ،
واستهدفت لائمة أهل العراق كافة ؛ إذ لم يكن فيهم من يجوز أن يكون الإعراض
عما كنت فيه سببا دينيًّا ؛ إذ ظنوا أن ذلك هو المنصب الأعلى في الدين وكان ذلك
مبلغهم من العلم ، ثم ارتبك الناس في الاستنباطات ، وظن من بعد عن العراق
أن ذلك كان لاستشعار من جهة الولاة . وأما من قرب من الولاة ، فكان يشاهد
إلحاحهم في التعلق بي ، والإنكار علي ، وإعراضي عنهم وعن الالتفات إلى
قولهم . فيقولون : هذا أمر سماوي ، وليس له سبب إلا عين أصابت أهل الإسلام
وزمرة العلم .
ففارقت بغداد ، وفرقت ما كان معي من المال ، ولم أدخر إلا قدر الكفاف ،
وقوت الأطفال ؛ ترخصًا بأن مال العراق مرصد للمصالح ؛ لكونه وقفًا على
المسلمين ، فلم أر في العالم ما يأخذه العالم لعياله أصلح منه ، ثم دخلت الشام ،
وأقمت به قريبًا من سنتين لا شغل لي إلا العزلة والخلوة والرياضة والمجاهدة ؛
اشتغالاً بتزكية النفس ، وتهذيب الأخلاق ، وتصفية القلب لذكر الله تعالى ، كما كنت
حصلته من علم الصوفية ، فكنت أعتكف مدة في مسجد دمشق أصعد منارة المسجد
طول النهار ، وأغلق بابها على نفسي ، ثم دخلت منها إلى بيت المقدس ، أدخل كل
يوم الصخرة ، وأغلق بابها على نفسي ، ثم تحركت فيَّ داعية فريضة الحج ،
والاستمداد من بركات مكة والمدينة ، وزيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعد
الفراغ من زيارة الخليل - صلوات الله عليه - فسرت إلى الحجاز .
ثم جذبتني الهمم ، ودعوات الأطفال إلى الوطن ، فعاودته بعد أن كنت أبعد
الخلق عن الرجوع إليه ، وآثرت العزلة أيضًا ؛ حرصًا على الخلوة ، وتصفية القلب
للذكر وكانت حوادث الزمان ، ومهمات العيال ، وضرورات المعاش ، تغير في وجه
المراد ، وتشوش صفوة الخلوة ، وكان لا يصفو الحال إلا في أوقات متفرقة . لكني مع
ذلك لا أقطع طمعي منها ، فتدفعني عنها العوائق ، وأعود إليها .
ودمت على ذلك مقدار عشر سنين ، وانكشف لي في أثناء هذه الخلوات أمور
لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها ، والقدر الذي أذكره ؛ لينتفع به أني علمت يقينًا أن
الصوفية هم السالكون لطريق الله - تعالى - خاصة ، وأن سيرتهم أحسن
السير ، وطريقهم أصوب الطرق ، وأخلاقهم أزكى الأخلاق ، بل لو جمع عقل
العقلاء ، وحكم الحكماء ، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء ؛ ليغيروا
شيئًا من سيرهم وأخلاقهم ، ويبدلوه بما هو خير منه لم يجدوا إليه سبيلاً وإن
جميع حركاتهم وسكناتهم في ظاهرهم وباطنهم مقتبسة من نور مشكاة النبوة ، وليس
وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به ، وبالجملة فماذا يقول القائلون
في طريقة طهارتها ، وهي أول شروطها تطهير القلب بالكلية عما سوى الله تعالى .
ومفتاحها الجاري منها مجرى التحريم من الصلاة ، استغراق القلب بالكلية بذكر الله .
وآخرها الفناء بالكلية في الله .
وهذا آخرها بالإضافة إلى ما يكاد يدخل تحت الاختيار والكسب من أوائلها ،
وهي على التحقيق أول الطريقة ، وما قبل ذلك كالدهليز للسالك إليه ، ومن أول
الطريقة تبتدئ المكاشفات والمشاهدات ، حتى إنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة
وأرواح الأنبياء ، ويسمعون منهم أصواتًا ، ويقتبسون منهم فوائد ، ثم يترقى الحال من
مشاهدة الصور والأمثال إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق ، ولا يحاول معبر أن
يعبر عنها إلا اشتمل لفظه على خطأ صريح ، لا يمكنه الاحتراز عنه ، وعلى الجملة
ينتهي الأمر إلى قرب يكاد يتخيل منه طائفة الحلول , وطائفة الاتحاد , وطائفة
الوصول , وكل ذلك أخطاء وقد بينا وجه الخطأ فيه في كتاب المقصد الأقصى ، بل
الذي لابسته تلك الحالة لا ينبغي أن يزيد على أن يقول ( شعر ) :
وكان ما كان مما لست أذكره ... فَظُنَّ خيرًا ولا تسأل عن الخبر
وبالجملة فمن لم يرزق منه شيئًا بالذوق ، فليس يدرك من حقيقة النبوة إلا
الاسم ، وكرامات الأولياء على التحقيق بدايات الأنبياء ، وكان ذلك أول حال رسول
الله - عليه السلام - حين أقبل إلى جبل حراء حين كان يخلو فيه بربه ويتعبد ، حتى
قالت العرب : إن محمداً عشق ربه ، وهذه حالة يتحققها بالذوق من يسلك سبيلها ،
فمن لم يرزق الذوق ، فيتيقنها بالتجربة والتسامع إن أكثر معهم الصحبة ، حتى يفهم
ذلك بقرائن الأحوال يقينًا ، فمن جالسهم استفاد منهم هذا الإيمان ، فهم القوم لا يشقى
جليسهم ، ومن لم يرزق صحبتهم ، فيعلم إمكان ذلك يقينًا بشواهد البراهين على ما
ذكرناه في كتاب عجائب القلب من كتب إحياء علوم الدين ، والتحقيق بالبرهان علم
وملابسة , عين تلك الحالة ذوق ، والقبول من التسامع والتجربة بحسن الظن إيمان
فهذه ثلاث درجات :{ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ } ( المجادلة : 11 ) ، ووراء هؤلاء قوم جهال ، هم المنكرون لأصل ذلك ، المتعجبون
من هذا الكلام ، يستمعون ويسخرون ، ويقولون : العجب إنهم كيف يهذون ، وفيهم قال
الله تعالى : { وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ
مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ } ( محمد :
16 ). اهـ المراد من كلامه .
أقول : هذا ما رأينا أن نبين به كيفية نشأة هذا الإمام ، وطلبه للعلم وتربيته
لنفسه ، وإننا نحكي فيما يلي ذلك أثر هذا التعليم والتربية , وما استقر عليه رأي
الرجل في العلم والدين .
( لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم بألفاظ مختلفة .
(*) قال في الدرر المنتثرة : هو من كلام علي رضي الله عنه .
(2) سنتكلم عن هذا النور في موضع آخر بما يزيده تألقا .
(3) رواه الحاكم والبيهقي في الشعب ، وابن مردويه من حديث ابن مسعود بلفظ آخر في أوله ، وهو أنهم سألوه - صلى الله عليه وسلم - عند تلاوة الآية ، كيف انشراح الصدر؟ فقال : (إذا دخل النور القلب انشرح له وانفسح) ، قالوا : فما علامة ذلك يا رسول الله ؟ فقال : (الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور) ، وهو في الظاهر خلاف الآية فافهم .
(4) رواه أحمد والترمذي والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو ، وعلم له في الجامع الصغير بالصحة وتتمته : (فمن أصابه ذلك النور يومئذٍ اهتدى ، ومن أخطأه ضل) .
(5) رواه الطبراني عن ابن عباس بسند ضعيف .

المصدر : مجلة المنار